أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-9-2016
499
التاريخ: 18-9-2016
392
|
[ والكلام في القاعدة يكون فيما يأتي ] :
- مدركها من السنة .
- مدركها من السيرة المستمرة .
- الفرق بين قاعدة السبق، والحيازة والاحياء .
- من شرائط السبق قصد الانتفاع .
- حدود الأولوية .
- هل الأولوية هنا حكم وضعي أو تكليفي .
- تعارض شخصين في السبق إلى شيء .
- موارد جريان القاعدة :
- المساجد .
- الطرق والشوارع .
- المدارس والخانات والربط .
قاعدة السبق ومن القواعد المشهورة في ألسنة الفقهاء قاعدة السبق ، استدلوا بها في أبواب مختلفة ، في أبواب حيازة المباحات، وأحكام المساجد، وآداب التجارة، وفي كتاب احياء الموات، وما يلحق بها من التحجير وغير ذلك.
وهذه القاعدة كأغلب القواعد الفقهية من القواعد المعروفة بين العقلاء التي تدور عليها نظام معاشهم، وأمضاها الشارع المقدس بما قرر لها من الشرائط.
وحاصل القاعدة ان من سبق إلى شيء من المباحات الأصلية - لا يقصد التملك حتى يكون ملكا له - أو سبق إلى شيء من المنافع المشتركة، كالطرق والمساجد والوقوف العامة ، والمساكن كذلك ، أو غيرها من أشباهها، فهو أحق به من غيره إجمالا، ولا يجوز مزاحمته في ذلك إلا إذا أعرض عنه، أو حصلت فترة تزيل حقه بما سنشير اليه ان شاء اللّه.
دلائل إثباتها :
ويدل عليها مضافا الى الإجماع المدعى في كلمات الأصحاب ، الروايات العامة ، والخاصة ، واستقراء سيرة العقلاء وأهل الشرع عليها.
الأول : السنة :
منها روايات عامة ومنها خاصة فمن الاولى :
1- ما عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام :
سوق المسلمين كمسجدهم، فمن سبق الى مكان فهو أحق به الى الليل، وكان لا يأخذ على بيوت السوق كراء «1».
وإطلاق قوله: «فمن سبق الى مكان فهو أحق به الى الليل» يجعلها من الأحاديث العامة الدالة على المطلوب في أبواب الأمكنة مطلقا، اللهم الا ان يقال كون صدرها في بيان حكم المسجد يجعلها خاصة بهما.
وعلى كل حال، الحديث ناظر الى ما كان متعارفا في تلك الأعصار من عدم اختصاص امكنة السوق ودكاكينها بالأشخاص، وعدم دخولها في ملك، بل كانت الأسواق كالمساجد وسائر الأمكنة العامة ملكا لجميع المسلمين، ومباحا لهم، وكان المتعارف عرض المتاع من البائعين كل يوم الى الليل، ثمَّ كانوا يجمعون أمتعتهم وينشرونها غدا، فكان كل احد من البيّاعين أحق بمكانه الى تلك الليلة.
2- ما عن محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له: نكون بمكة أو بالمدينة أو الحيرة أو المواضع التي يرجى فيها الفضل، فربما خرج الرجل يتوضأ فيجيء آخر فيصير مكانه، فقال عليه السّلام : من سبق الى موضع فهو أحق به يومه وليلته «2».
والكلام فيه هو الكلام في سابقة من حيث احتمال العموم والخصوص فيها وان كان العموم أقوى.
3- ومن طرق الجمهور ما رواه أسمر بن مضرس، قال أتيت النبي صلّى اللّه عليه وآله فبايعته فقال: من سبق الى ما لم يسبقه اليه مسلم فهو له «3».
وهذه الرواية أوسع نطاقا من الجميع، وهي التي استند إليها الأصحاب في مختلف الأبواب، فهل هو كاف لجبر سندها، أو لم تبلغ هذا المبلغ؟ لا يخلو عن اشكال.
هذا ولكن لا يبعد إلغاء الخصوصية مما سبق من روايات الأصحاب وما ورد في منابع حديثنا.
وهناك روايات أخرى واردة في موارد خاصة لا يبعد اصطياد العموم منها وإلغاء الخصوصية عنها مثل ما يلي:
4- ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سوق المسلمين كمسجدهم يعني إذا سبق الى السوق كان له، مثل المسجد «4».
و قوله (يعني إلخ) الظاهر انه من كلام الراوي، فلا يمكن الاستناد إليه كرواية.
5- ومن طرق العامة في هذا المعنى ما عن أصبغ بن نباتة، قال ان عليا عليه السّلام خرج الى السوق فاذا دكاكين قد بنيت بالسوق، فأمر بها فخربت فسويت، قال ومر بدور بني البكاء، فقال هذه من سوق المسلمين، قال فأمرهم أن يتحولوا وهدمها قال وقال علي عليه السّلام من سبق الى مكان في السوق فهو أحق به، قال فلقد رأيتنا (رأينا) يبايع الرجل اليوم هاهنا، وغدا من ناحية أخرى «5».
وذيل الرواية يؤكد ما ذكرنا في أمر السوق في تلك الأعصار.
6- وما رواه أبو صالح عن أبي هريرة عنه صلّى اللّه عليه وآله إذا قام الرجل من مجلسه ثمَّ عاد اليه فهو أحق به، فقام رجل من مجلسه فجلست فيه ثمَّ عاد فأقامني أبو صالح عنه «6» .
7- وما رواه نافع عن ابن عمر ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثمَّ يجلس فيه «7».
وليس ذلك الا لسبقه الى ذاك المكان.
ويؤيد ما ذكرنا ما ورد في أبواب إحياء الموات، والتحجير، وغير ذلك مما يكون من قبيل السبق الى ما لم يسبق إليه أحد، فإنها وان لم يدل على المطلوب فان الكلام في قاعدة السبق انما هو من جهة إيجاد الحق، بمجرد السبق من دون حاجة الى التحجير والاحياء، وإخراج المعدن وحفر البئر وغير ذلك من أشباهه، الا انها مؤكدة له.
الثاني : هو السيرة المستمرة :
من أهل الشرع بل من العقلاء أجمع، فإنه لا يشك أحد في بنائهم على كون السابق إلى شيء من المباحات أحق من غيره سواء كان من المباحات الأصلية، أو من المنافع العامة، كالانتفاع بالمساجد والبراري والمفاوز والجبال والمياه، إذا لم يقصد ملكيتها، بل أراد الانتفاع بها، فلا يشك أحد في كون السابق أحق، وإذا زاحمه غيره يعد ظلما وتعديا قبيحا.
بل المعلوم استقرار سيرتهم على هذا حتى قبل ورود الشرع.
ومما يؤيد كونها قاعدة عقلائية قبل أن تكون شرعية انها مشهورة معروفة بين من لا يعتقد بشيء من المذاهب، ولم يقبل أي قانون ديني الهي، فهو أيضا يرى السبق إلى شيء من المباحات أو المنافع العامة، من الطرق والقناطر والخانات وغيرها، موجبا لاستحقاق صاحبه، وعدم جواز مزاحمته، ولكن لها حدود وقيود عندهم سيأتي الإشارة إليها ان شاء اللّه.
ومن هنا يظهر ان «إجماع الفقهاء على ذلك قديما وحديثا» لا يكشف عن تعبد خاص في المسألة، وصل إليهم ولم يصل إلينا، بل هو اما مستند الى ما عرفت من روايات الباب، العامة والخاصة، أو الى بناء العقلاء الذي أمضاه الشرع، فإنه لم يزل بمرءاه ومنظره، بل قد عرفت ان هذا البناء منهم كان قبل ورود الشرع أيضا.
«بقي هنا أمور» :
الأول: الفرق بين قاعدة «السبق»، و«الحيازة» و«الاحياء» :
قد يختلط الأمر بين قاعدة السبق، وقاعدتي الحيازة والاحياء على بعض، مع ان مواردها مختلفة لا ربط لواحد منها بالآخر فنقول:
اما قاعدة الحيازة تختص بالمباحات، وتوجب ملكها بمجرد الحيازة مع قصده، ولا يحتاج الى الاحياء والتحجير وغيرها، وان كان قد تطلق الحيازة على الأعم مما يشمل قاعدة الإحياء أيضا كما عرفت سابقا.
واما الاحياء فهو أيضا يوجب الملك لكن لا بمجرد القصد، بل بعد الاحياء وتختص بالأرض وما أشبهها.
واما قاعدة السبق فهي لا توجب الملك، بل مفادها هو الأولوية، وموردها أعم من المباحات الأصلية أو المنافع العامة كالمدارس والخانات والمساجد والشوارع وغيرها.
فتحصل من جميع ذلك ان قاعدتي الحيازة والاحياء لا تغنيان عن قاعدة السبق شيئا لأن مفادها متباينة، وبين مواردها ومصاديقها العموم والخصوص من وجه أو المطلق.
ففي مثل المساجد والشوارع والقناطر لا تجري قاعدتا الحيازة والاحياء، ولكن تجري قاعدة السبق فقط، وفي مثل المباحات الأصلية كالأراضي الخارجة عن حريم البلاد يتصور فيها الاحياء والسبق فمن أحياها ملك، واما من سبق إليها كما إذا نصب فسطاطا وخياما لتوقف ساعة أو أيام من غير قصد الحيازة والاحياء فلا يجوز مزاحمته لقاعدة السبق فقط، وفي غير الأراضي كالسمك والطير والوحش والحطب وغيرها من المباحات الأصلية فإن قصد الملكية بالحيازة كان مصداقا لهذه القاعدة، وان نوى مجرد الانتفاع منها من غير قصد تملكها دخل في قاعدة السبق فقط فتدبر تعرف.
الثاني: من شرائطه قصد الانتفاع :
قد عرفت مما ذكرنا ان «السبق» يوجب الأولوية لمن سبق بشرط قصد الانتفاع فلو لم ينوي الانتفاع بما سبق اليه لا دليل على أولويته وكونه أحق به من غيره، ولو شك في ذلك يؤخذ بظاهر الحال ولو ادعي نية الانتفاع يقبل قوله لأنه مما لا يعلم الا من قبله.
الثالث : حدود الأولوية :
قد عرفت ان هذه القاعدة مأخوذة من سيرة أهل الشرع والسنة وبناء العقلاء والأولوية الحاصلة منها تختلف باختلاف الموارد حسب اختلاف بنائهم، ففي مثل المساجد يكون أولوية السابق بمقدار يأتي الإشارة اليه ان شاء اللّه تفصيلا، وفي مثل المدارس بمقدار آخر، ويختلف السبق الى الخانات معهما، والى الشوارع والأراضي الموات بمقدار يختص به، سيأتي تفاصيلها ان شاء اللّه، كل ذلك لتفاوت التعارف في ذلك واختلاف قضاء الحاجة في هذه المقامات جدا فلا يمكن تعيين ضابطة كلية لجميع ما ذكر، بل لكل منها ضابطة خاصة به.
والدليل على ذلك كله ما عرفت من بناء أهل العرف وإمضاء الشرع له مع إشارات نافعة إليها في روايات الباب.
الرابع : هل الأولوية هنا حكم وضعي أو تكليفي ؟
في ان السبق هل يوجب مجرد الأولوية تكليفا بحيث لو زاحمه غيره عصى، ولكن يصح تصرفه في المسبوق اليه شرعا، أو انه يوجب حقا ويكون من قبيل الأحكام الوضعية؟
ومما يتفرع على ذلك ما ذكره الفقهاء في باب المسجد بأنه لو سبق إنسان إلى موضع منه، ثمَّ دفعه آخر قهرا وعدوانا، فلا شك في عصيانه وحرمة عمله، انما الكلام في انه بعد الدفع هل يصح صلاته في مكانه، أو يكون كالمكان المغصوب يحرم الصلاة فيه على المشهور وتكون باطلة؟! فيه كلام بينهم.
ظاهر «التذكرة» هو الأول، حيث قال: لو دفعه عن مكانه أثم، وحل له مكثه فيه، وصار أحق من غيره به.
ولكن المحكى عن المشهور هو الثاني وانه يكون كالمغصوب.
وذكر في الجواهر في باب بطلان الصلاة في مكان المغصوب: اما حق السبق في المشتركات كالمسجد ونحوه ففي بطلان الصلاة بغصبه وعدمه وجهان، بل قولان اقويهما الثاني وفاقا للعلامة الطباطبائي في منظومته.
لأصالة عدم تعلق السبق للسابق على وجه يمنع الغير بعد فرض دفعه عنه، سواء كان هو الدافع أو غيره، وان أثم بالدفع المزبور، لأولويته، إذا هي أعم من ذلك قطعا.
وربما يؤيده عدم جواز نقله بعقد من عقود المعاوضة.
مضافا الى ما دل على الاشتراك الذي لم يثبت ارتفاعه بالسبق المزبور، إذ عدم جواز المزاحمة أعم من ذلك فتأمل (انتهى) «8».
ولكن التحقيق هو ما ذكره المشهور، وذلك لارتكاز أهل العرف الذي هو الأصل في هذه المسألة، بعد عدم ردع الشرع عنه، فإنهم يرون للسابق حقا في المكان قطعا بحيث يجوز له الدفاع عن حقه والعود اليه بعد دفعه منه، ولا يرون له أي اثم في هذا، بل يعد الدافع غاصبا بل لا ينبغي الشك فيه.
وأما ما أفاده في الجواهر من الأدلة الثلاث فهي ممنوعة جدا.
أما الأصل فهو ممنوع بعد ما عرفت.
وأما عدم جواز نقله بعقد من العقود فهو أول الكلام، وعلى تقدير القول به فعدم النقل لا يدل على عدم وجود حق، فرب حق لا يجوز نقله وان كان يجوز إسقاطه.
وأما الدليل الثالث الراجع الى الاستصحاب فهو أيضا ممنوع بعد وجود الدليل.
ويؤيد ما ذكرنا أيضا مرسل محمد بن إسماعيل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قلت له نكون بمكة أو بالمدينة أو الحيرة، أو المواضع التي يرجى فيها الفضل، وربما خرج الرجل يتوضأ فيجيء آخر فيصير مكانه، قال من سبق الى موضع فهو أحق به يومه وليلته «9».
والتعبير بكونه أحق له دلالة واضحة على ما ذكرنا، بل قد يتصدى لدفع ضعف السنة بنقل احمد بن محمد الذي هو ابن عيسى الثقة المشهور الذي لا يروي من الضعفاء، وغير ذلك من القرائن فتأمل.
والإيراد على الحديث بان التحديد باليوم والليلة غير ثابت لا يمنع عن الاستدلال به بعد كون التفكيك في مفاد الأحاديث دارجا بينهم فتأمل.
الخامس : تعارض شخصين في السبق إلى شيء :
إذا تعارض اثنان وردا على شيء من المنافع المشتركة في زمان واحد وتوافيا اليه على حد سواء، فإن أمكن اجتماعهما فيه كدكة في سوق عام يحتملهما، فحق السبق ثابت لهما.
وان لم يحتملهما كمكان واحد لمصل واحد ورد اثنان عليه، فهل يبطل حقهما ويجوز لثالث الورود عليه، أو تجري فيه القرعة؟
الظاهر انه لا مجال لإبطال حقهما لشمول العمومات لكل واحد منهما مع قطع النظر عن مزاحمة، وحيث ان ملاك السبق في كليهما موجود يكون من قبيل تزاحم الحقين لا تعارض الدليلين وحيث ان المفروض عدم إمكان الجمع بينهما لا بد من القرعة لأنها لكل أمر مشتبه، ولا خفاء في شمول أدلتها للمقام.
وقد ذكرنا في مباحث القرعة من هذا الكتاب، ان موارد القرعة مختلفة، فقد يكون فيها واقع مجهول لا طريق لكشفه إلا القرعة، كما في الغنم الموطوء، وقد لا يكون فيه واقع مجهول، بل وقع التزاحم بين مقتضيين، ولا طريق الى التخلص إلا بالقرعة، كما في موارد افراز الأموال المشاعة، وتقسيمها، وكلاهما داخلان تحت أدلة القرعة والمقام من هذا القبيل.
السادس: موارد جريان القاعدة
وإذ قد عرفت ما ذكرنا فلنرجع إلى جزئيات موارد السبق وأحكامها الخاصة فنقول ومن اللّه التوفيق: ان السبق قد يكون الى المسجد، واخرى إلى الطريق أو الى السوق، أو المدارس، والقناطر، والمعادن، وأماكن النزهة، والميادين لتوقف السيارات وغيرها أو غير ذلك.
أما المساجد :
فلا شك ان من سبق الى مكان منه فهو أحق به ما دام باقيا فيه.
ويدل عليه الروايات العامة والخاصة مضافا الى الإجماع والسيرة وعدم الخلاف فيه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون للصلاة أو قراءة القرآن والدعاء وغيرها من الأذكار، وتحصيل العلم وغير ذلك مما هو مطلوب في المسجد، بل ومن المباح المتعارف كالجلوس لرفع التعب ومثل ذلك.
انما الكلام في أمور:
1- لو قام عن محله مفارقا هل يبطل حقه مطلقا، أو إذا لم ينو العود، أو إذا وضع رحله ناويا خاصة؟ فيه كلام بينهم.
اختار الأخير المحقق في الشرائع والعلامة والشهيدان، والمحقق الكركي، بل عن جامع المقاصد انه المشهور، وعن المبسوط نفي الخلاف فيه، بل ادعى فيه ان في المسألة نص عن الأئمة.
هذا ولكن لا دليل عليه يعتدّ به مما وصل إلينا الا سيرة العقلاء وأهل الشرع وغيره يعود اليه.
والانصاف ان سيرة أهل الشرع وبناء العقلاء مع بقاء الرحل ثابت إلا إذا خرج عن المتعارف، كمن القى رحله في المسجد طول الأسبوع أو الشهر أو السنة، فان الاعتبار ببقاء رحله في كونه أحق مشكل جدا، فيجوز أخذ الرحل حينئذ والجلوس مكانه، نعم بالنسبة إلى أوقات قريبة جرت السيرة عليه هو أحق به.
أما لو قام لتجديد طهارة أو ازالة نجاسة وما أشبه ولم يكن هناك رحل فيشكل بقاء حقه، الا إذا أوصى الى إنسان ليحتفظ بمكانه في غيبته، فمجرد النية غير كافية كما ان مجرد وضع الرحل بلا نية غير كاف.
هذا، وقد عرفت التصريح في غير واحد من روايات الباب لبقاء حقه الى الليل ففي رواية محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام الواردة في حكم مكة والمدينة والمواضع التي يرجى فيها الفضل، ان من سبق الى موضع فهو أحق به يومه وليلته.
وفي رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عن أمير المؤمنين عليهما السّلام سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق الى مكان فهو أحق به الى الليل، وقد مر في ذكر الأدلة.
ولكن الأول ضعيف بالإرسال ورواية أحمد بن محمد الذي هو ابن عيسى كرواية محمد بن إسماعيل الذي هو ابن بزيع غير كاف في جبران ضعفها وان كان مؤيدا وكذا رواية «طلحة بن زيد» لا تخلو عن إشكال في سندها، لعدم توثيق أكثر الأصحاب من علماء الرجال له. نعم ذكر في الفهرست ان كتابه معتمد والاكتفاء به في توثيق الرجل أو روايته لا يخلو عن اشكال.
هذا، ويمكن حمله على موارد يكون المتعارف فيها البقاء في المسجد أو السوق الى الليل كحال الزوار في مكة أو المدينة في سابق الأيام، واما في الأزمنة أو الأمكنة التي ليس المتعارف فيها البقاء في المسجد الى الليل فالعمل بعموم الروايتين في غيرها مشكل جدا.
ولذا أعرض الأصحاب عن العمل بهما في هذا التحديد، وان كان الظاهر انهم لا ينكرون بقاء الحق الى هذه المدة في أماكن يتعارف فيها ذلك.
وبالجملة ليس لنا أوثق وأتم من الأخذ بالسيرة المذكورة فإنها المعيار الوحيد في المسألة.
2- إذا زاحم حق المصلين مع غيرهم فهل يقدم الصلاة على غيرها، ولا سيما الجماعة، أو هل تقدم الجماعة على الفرادى، أو تقدم الصلاة على غيرها، إذا لم تكن راجحا كالجلوس لا للعبادة وتحصيل علم شرعي، أو لأمر مرجوح كالنوم؟
لم يدل على شيء من هذه الأمور دليل خاص، وان كان قد يتمسك بظاهر ما دل على اقامة صفوف الجماعة وسد فرجها على تقديمها على غيرها من الفرادى، وما أشبهها، ولكن الإنصاف أن روايات اقامة الصفوف وسد الفرج غير ناظرة الى هذا المعنى، ولا تكون في مقام البيان من هذه الجهة، واللازم الرجوع الى ما جرت عليه سيرة أهل الشرع واستقر عليه بناء العقلاء، والظاهر ان الصلاة، لا سيما الجماعة مقدمة على غيرها إذا وقع التزاحم بين الأمرين، لأن المسجد أولا وبالذات للصلاة فلا يزاحمها شيء.
نعم إذا وقع التزاحم بين غيرها فيشكل تقديم بعضها على بعض، كما إذا وقع التزاحم بين تحصيل العلم وقراءة القرآن وأشباهها، فيشكل دفع الجالس عن مكانه وقيام غيره مقامه.
اما إذا زاحم العبادة مع شيء مباح كما إذا لم يجد مكانا لقراءة القرآن وتحصيل العلم الواجب وكان المسجد مشغولا بالجالسين لمجرد رفع التعب أو للأكل والشرب أو بالنائمين، فلا يبعد جواز دفعهم لما ذكر من الأمور، فهم أحق به من غيرهم والدليل عليه ما عرفت.
الطرق والشوارع العامة :
وهي من كثير من الجهات كالمساجد وان كانت تختلف معها من بعض الجهات.
وحيث لم يرد دليل خاص في هذه المسألة فمقتضى العمل بالعمومات وسيرة العقلاء وأهل الشرع منهم يقتضي هنا أمورا:
1- الأصل في الطرق هو الانتفاع بها على وجه الاستطراق، فكل ما زاحم هذا المقصد فهو منفي بما ذكر، ويحرم بحكم الشرع، وعلى آحاد المسلمين النهي من هذا المنكر، وللحكومة الإسلامية الأخذ بالعنف في هذا المقام إذا لم يفد غيره فاذا كان البيع والشراء والجلوس وإيقاف السيارات، ووضع الأحجار وغيرها من أدوات البناء، مانعا عن المرور بالكلية، أو موجبا للضرر والزحمة لضيق الطريق منع منه قطعا، والدليل عليه جميع ما عرفت آنفا.
2- يجوز الانتفاع بالطرق العامة والشوارع بغير الاستطراق، كالجلوس لرفع التعب ووضع الأحمال، أو الجلوس لمجرد النزهة إذا لم يكن مانعا عن الاستطراق فإنه من المنافع المشتركة، والأصل فيها الجواز ما لم يمنع منه مانع، وقد جرت السيرة على ما ذكرنا، نعم إذا كان مانعا عن الغرض الأصلي فهو حرام ويجوز دفع المانع عنها.
3- هل يجوز الجلوس فيها لعمل الحرفة والبيع والشراء؟ فيه خلاف منعه بعضهم مطلقا، لأنه انتفاع بالبقعة في غير ما أعدت له، فكان كالانتفاع بالمسجد ونحوه من الموقوفات الخاصة في غير ما عين له من الجهة.
وذكر ثاني الشهيدين في المسالك بعد ما ذكرنا: ان الأشهر التفصيل، وهو المنع من ذلك في الطريق المسلوك الذي لا يؤمن تأذي المارة به غالبا، وجوازه في الرحبات المتسعة في خلاله بحيث يؤمن تأذي المارة، نظرا الى اطراد العادة بذلك في الأعصار، وذلك هو المسوغ لغيره من وجوه الانتفاع. (انتهى) ولقد أجاد فيما أفاد ولكن لا يختص ما ذكره بالرحبات، بل بما جرت عليه السيرة كما نراها في بعض الطرق غير المتسعة التي يستفاد منها لبيع بعض الأشياء مما لا يشغل مكانا واسعا.
وبالجملة المعيار الوحيد هو عدم الإضرار بالمارة، وعدم الإيذاء بهم والمنع من استطراقهم .
ومع الأسف ان كثيرا من المسلمين لا يبالون بهذه الأمور، ويرتكبون من هذه الجهة ما قد يوجب اشتغال ذمتهم بخسارات مالية مضافة إلى الأحكام التكليفية، ومن الواجب على المؤمنين نهيهم، وعلى الحكومة الإسلامية منعهم وزجرهم.
ومما ذكرنا يظهر حال نشر البساط أو أخذ العربات أو التسقيف للبيع في الشوارع والطرق، وانها محرمة قطعا إذا منع الاستطراق أو صار سببا للزحمة، أو ضيقا في الطريق، أو ضررا على المستطرق. نعم إذا لم يكن فيه شيء من ذلك فهو جائز ولكن الغالب من قبيل الأول.
4- في الموارد التي يجوز البيع والشراء أو الجلوس وغيرها فهل يبقى هذا الحق ما دام هو جالس في المكان، ويبطل إذا ذهب ولو كان ناويا للرجوع، أو فيه تفصيل بين بقاء رحله وعدمه، أو له حق الى الليل، أو الى أن يبيع متاعه ويراجع من يشتريه ولا يفوته؟
الظاهر انه يختلف ذلك باختلاف المتعارف في الأعصار والأمصار، فقد يكون في بعض الأمكنة، أو بعض الأعصار البقاء الى الليل بحسب العادة، وقد يكون أقل وأكثر من ذلك، فيؤخذ بمقتضاه في جميع ذلك، نعم الغالب انه يجوز له العود ما دام رحله باقيا وإذا قام بنية العود من دون وضع رحل فيها يبطل حقه.
والانصاف أن السبق في الطريق أيضا مما يوجب الحق لا الأولوية المجردة فلو دفعه إنسان عما سبق اليه لا يزول حقه، ويجوز عوده ودفع المانع والمزاحم، وقد مر دليله آنفا في أحكام المسجد.
5- هل يجوز جعل الرواشن في الطريق أم لا؟
قد عرفت ان الأصل في الطريق هو الاستطراق، وأما المنافع الأخر فهو تابعة له، وتجوز بحسب ما جرت به العادة والسيرة التي هي منصرف عمومات السبق في المقام، والانصاف ان العادة هنا أيضا تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة، ففي سابق الزمان كان المتعارف الاستفادة من الطرق بجميع أنحائها، حتى ببناء الساباط والرواشن، فلو كان طرفا الطريق العام ملكا لواحد، كان يبني على الطريق ما يريد، مما لا يزاحم المارة، بل قد كان هذا الأمر مصلحة للعابرين، واما الان فهو أمر منكر في كثير من البلاد، ولا يقبله العرف والعادة ويعد من المزاحمة وحينئذ لا شك في عدم جوازه لا لتبدل الحكم، بل لتغيّر الموضوع.
وأما الرواشن فاذا لم تتعدد الى فضاء الطرق كثيرا فهو أمر رائج حتى في زماننا هذا، واما إذا تعدت كثيرا بحيث بلغت الى الجدار المقابل أو نحو ذلك فهذا أيضا غير متعارف في هذه الأزمنة ويعد من الأمور المزاحمة غالبا، وبالجملة المدار على ما عرفت ولا يجوز التعدي عنه.
أما حكم السوق :
فالتحقيق ان السوق على قسمين: سوق عام، الذي هو وقف على جميع المسلمين، لأنواع التجارات والحرف، أو لنوع خاص منها، وكذا ما بني من بيت المال أو الزكاة فيكون كالوقف أيضا وسوق خاص الذي هو ملك لفرد أو افراد معلومين.
أما الأول فهو من المشتركات، ومن سبق اليه كان أحق به ولكن لا بد من رعاية شرائط الوقف، أو ما أشبهه، ولا يجوز التعدي عن طورها، ولو لم يكن هناك شرائط خاصة فاللازم الأخذ بما هو المتعارف في العرف والعادة.
والظاهر ان السوق في سابق الأيام كان من القسم الأول ولم يكن هناك دكاكين والحجرات، بل كان المتداول نشر البساط صباحا، وجمعه مساء، فما ورد في روايات السوق من ان من سبق اليه كان أحق به الى الليل، ناظر الى هذا المعنى كما ان ما ورد ان أمير المؤمنين عليه السّلام هدم دورا بنيت في مكان الأسواق أيضا ناظر اليه فلا تشمل الأسواق التي هي ملك خاص لفرد أو أفراد لأن العادة تغيرت في عصرنا وقل ما يوجد سوق يكون بتلك المكانة، ولذا تباع دكاكين السوق وتشترى، وتستأجر، وتوهب، وتورث، ولا مانع من شيء من ذلك، ولا ينافي ما مر من الروايات الناظرة الى غيرها كما عرفت.
وما حكاه العلامة في التذكرة عن الجويني من العامة فيمن جلس للبيع أو الشراء في الطريق في المواضع المتسعة كالرحاب، يجري في الأسواق العامة، فقد حكى منه: انه ان مضى زمان ينقطع فيه الذين ألفوا المعاملة معه، ويستفتحون المعاملة مع غيره، بطل حقه، وان كان دونه لم يبطل، لان الغرض من تعيين الموضع ان يعرف فيعامل- انتهى موضع الحاجة.
وما ذكره هو مبنى استقرار العرف والعادة الذي هو موضوع حكم الشرع هنا فليس مبنيا على الاستحسان ونحوه كما توهمه في الجواهر.
وهناك أسواق اسبوعية، أو شهرية، أو سنوية، تقام في أماكن معلومة، وأسواق خاصة تقام في الموسم في مكة والمدينة، وفي جميع ذلك إذا كانت من الأسواق العامة فحق السبق فيها ثابت، وفي مقدار بقاء هذا الحق من حيث الزمان يتبع عرف الزمان والمكان.
والحاصل انه لا يمكن الحكم على جميع أنواع السوق بحكم واحد، ولا تجري في جميعها أحكام السبق، بل المدار على التفصيل الذي ذكرناه، والمعيار في الجميع هو الأخذ بعمومات السبق مع قيود قد عرفتها.
اما المدارس والخانات والربط :
فهي أيضا على قسمين: وقف عام، ووقف خاص (أو ما يشبه الوقف مما بنيت من الزكاة من سهم سبيل اللّه أو من سائر وجوه بيت المال) وقلما يوجد فيها ملك خاص لفرد أو افراد معلومين.
وحينئذ اللازم قبل كل شيء ملاحظة شرائط الواقف، فان كان هناك شرط فيتبع، والا فلا شك في ان الحق لمن سبق إذا كان تحت عنوان الموقوف عليهم. أما مقدار المكث فيها فهو تابع للحاجة والعادة، أو اشتراط الواقف وهو مقدم على الجميع.
فلو شرط الواقف عدم المكث لطالب العلم في المدرسة أكثر من سنة فلا بد من رعايته وان لم تتم حاجته، واما ان لم يشترط فما دام يحتاج اليه يستحق البقاء إلا إذا خرج عن حد المعروف والمعتاد.
وإذا انقضت حاجته فلا بد من إزعاجه من المدرسة ولا يجوز له المكث فيها أو إغلاق باب حجرتها أو غير ذلك مما يزاحم المستحقين لها.
وكذا من سكن الخان أو الرباط يجوز له البقاء فيه، بمقدار ما يتخذه المسافر مكانا فلا يجوز له جعله مسكنا دائميا أو رباطا كذلك.
وإذا قام من المدرسة أو انجلى من الخان والرباط سقط حقه، ولو نوى العود إليها، الا أن يكون هناك اشتراط من ناحية الواقف، أو بقي رحله فيه ولكن لا بد له من الرجوع إليها في زمان جرت العادة عليه، فلو مضى ذاك الزمان سقط حقه، ويجوز جمع رحله واخلاء المكان عنه.
وهناك كلام لجامع المقاصد وحاصله: «انه لو ادى طول المكث في هذه الموقوفات الى التباس الحال بحيث أمكن دعوى الملكية لمن سكنها يحتمل جواز إزعاجه لأنه مضر بالوقف» وما ذكره حسن لو وجد له موضوع.
وقد تعرض بعض الأصحاب هنا لأمور يشبه مصاديق قاعدة السبق، ولكن ليس منها في الواقع، كأحكام امام الراتب في المسجد، أو السابق في الكلام عند القاضي، أو السبق في الخف والحافر والنصل، أو السبق إلى معاملة أو سوم، أو السبق الى التقاط شيء من اللقطة، ومجهول المالك، وغير ذلك.
وحيث ان لها أحكام خاصة مبنية على مبان أخر غير قاعدة السبق مذكورة في محالها فالأحسن إيكال أمرها إلى مظانها في الفقه، الى هنا تمَّ الكلام في قاعدة السبق والحمد للّه أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
________________
(1) الوسائل ج 3 كتاب الصلاة أبواب أحكام المساجد الباب 56 الحديث 2.
(2) الوسائل ج 3 كتاب الصلاة أبواب أحكام المساجد الباب 56 الحديث 1.
(3) السنن للبيهقي ج 6 ص 142 (باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد).
(4) الوسائل ج 12 أبواب آداب التجارة الباب 17 الحديث 2.
(5) السنن للبيهقي ج 6 ص 151.
(6) السنن للبيهقي ج 6 ص 151.
(7) السنن للبيهقي ج 6 ص 150.
(8) جواهر الكلام ج 8 ص 286.
(9) الوسائل ج 3 كتاب الصلاة أبواب أحكام المساجد الباب 56 الحديث 1.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
قسم التربية والتعليم يكرّم الطلبة الأوائل في المراحل المنتهية
|
|
|