أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-10-2014
1019
التاريخ: 24-10-2014
913
التاريخ: 5-4-2018
885
التاريخ: 24-10-2014
1576
|
وهذه مسألة هامّة جداً ، وقد أصبحت من أهم معارك الآراء الفلسفية والأنظار الكلامية ، والتضارب فيها شديد جداً بحيث نسبت طائفة إلى الجهل والضلال ، وابتليت فرقة بالتكفير والتفسيق .
وتصوير النزاع في هذه المسألة :
أنّ الواجب الوجود هل يتمكن من ترك الفعل أو لا ؟ وإن شئت فقل : إنّ ما يصدر عنه هل هو واجب منه أم لا ؟ بل يمكنه الترك والفعل معاً ، فلا وجوب للفعل منه ، وإنّما الوجوب بعد تعلّق إرادته ، فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد .
وبكلمة أوضح بياناً : لا شك عند الموحّدين أنّ الله مختار في خلقه وفعله ، لكن هل اختياره من سنخ اختيار الحيوان ، الذي هو بمعنى له أن يفعل وله أن لا يفعل ، أم لا بل هو من سنخ آخر ؟
المتكلّمون على الأَوّل ، والفلاسفة على الثاني ، وحيث إنّ البحث عنه مهم جداً ، نبدأ بنقل ما أفاده الباحثون من الطرفين فيها ؛ حتى تتّضح المسألة المذكورة حقّ وضوحها ، ولنكن حين الاستدلال والاختيار على بصيرة تامّة من أمرنا .
فنقول : قال الفيلسوف الشهير في أسفاره (1) : إنّ للقدرة تعرفينِ مشهورين :
أحدهما : صحّة الفعل ومقابله أعني الترك .
وثانيهما : كون الفاعل في ذاته ، بحيث إنّ شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل .
والتفسير الأَوّل للمتكلمين والثاني للفلاسفة ، ومن المتأخّرين من ذهب إلى أنّ المعنيين متلازمان بحسب المفهوم والتحقّق ، وأنّ مَن أثبت المعنى الثاني يلزمه المعنى الأَوّل قطعاً؛ وذلك لأنّ الفاعل إذا كان بحسب ذاته بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، كان لا محالة من حيث ذاته ـ مع عزل النظر عن المشيّة واللامشيّة ـ يصح منه الفعل والترك ، وإن كان يجب منه الفعل إذا وجب المشية ، والترك إذا وجب اللامشيّة ، فلزوم الفعل ووجوبه من تلقاء دوام المشية ووجوبها، لا ينافي صحّة الترك على تقدير اللامشيّة، وكذلك قياس مقابله في الاعتبارين.
أقول : ما ذكره غلط وخبط ، فإنّ الصحة والجواز في الفعل ومقابله ، مرجعهما الإمكان الذاتي، وتحقّقه مستحيل فيه تعالى ؛ فإنّه وجوب بلا إمكان ، وإنّما يجوز تلك النقائص عند مَن يجعل صفاته زائدةً على ذاته كالأشاعرة ، أو يجعل الداعي على صنعه وإيجاده أمراً مبايناً ، فيكون ذاته بذاته مع قطع النظر عن هذه الزوائد ؛ صفةً كانت أو داعياً ، جائز المشيئة واللامشيئة صحيح الفاعلية واللافاعلية ، وأمّا عند مَن وحّده وقدّسه عن شوائب الكثرة والإمكان ، فالمشية المتعلّقة بالجود والإفاضة عين ذاته بذاته ، بلا تغاير بين الذات والمشيئة خارجاً وذهناً ، بلا اختلاف حيثية تقييدية وتعليلية ، فصدق القضية الشرطية القائلة : إن شاء فعل ، لا ينافي وجوب المقدّم ، وضرورة العقد الحملي له ضرورة أزلية دائمة ، وكذا الشرطية القائلة : إن لم يشأ لم يفعل ، لا ينافي استحالة المقدّم امتناعاً ذاتياً ، وضرورة نقيضه ضرورة أزلية ، فعلم أنّ التفسير الثاني صادق عند الحكماء دون الأَوّل ، ولا تلازم بينهما إلاّ في القادر الذي يكون إرادته زائدةً على ذاته ، وأمّا الواجب فلكونه فوق التمام ، وبذاته البسيطة الحقة يفعل ما يفعل ، لا بمشيئة زائدة ، ولا بهمة عارضة ، لازمة أو مفارقة ، فهو بمشيئته وعلمه ورضائه وحكمته ، التي هي عين ذاته يفيض الخير ويجود النظام ، وهذا أتم أنحاء القدرة ، وأفضل ضروب الصنع ، ولا يلزم من ذلك جبر كفعل الماء في تبريده ... إلخ انتهى كلامه مع تغيير ما .
وقال الحكيم السبزواري : لا يلزمنها ـ أي القدرة ـ حدوث ما انفعل ، أي الحدوث الزماني في المقدور القابل للأثر ، خلافاً للمتكلّمين ، فاعتبروا في مفهوم القدرة انفكاك متعلّقها وقتاً ما عن الذات ـ ( وبعضهم اعتبروا في القدرة إمكان الترك إمكاناً ذاتياً ، وبعضهم إمكانه إمكاناً وقوعياً، والإمكان الوقوعي ما لا يلزم من فرض وقوعه محال ، والحال أنّ فيه محالاً كلّ المحال ؛ لأنّ عدم المعلول كاشف عن عدم علّته ، كعدم العقل الأَوّل أو عدم الفعل مطلقاً ؛ وبعضهم اعتبروا الوقوع في الترك ، وفيه : أنّه تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ) (2) ـ وقد عرّفوا قدرته بصحّة الفعل والترك ، وهو باطل ؛ إذ الصحّة هي الإمكان، وواجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات ، فالقدرة كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ... فالحق تعالى موجِب ـ بسكر الجيم ـ أي فاعل يجب فعله بقدرته وأخياره ، وهذا على مذهب الحكيم حيث يقول : الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وليس موجَباً ـ بفتح الجيم ـ أي فاعلاً يجب فعله لا بقدرته واختياره كالمضطر ، تعريض إلى مَن نسب إلى الحكماء إطلاقهم الموجب عليه بهذا المعنى ، بأنّه حرّف الكلمة عن موضعها (3) ... إلخ .
وقال المحقّق الطوسي قدّس سره في قواعد العقائد : والقادر هو الذي يصحّ منه أن يفعل الفعل ولا يجب ، وإذا فعل فعلاً باعتبار ( اختيار ظ ) وإرادة لداع يدعوه إلى أن يفعل ، ويقابله الموجب ، وهو الذي يجب أن يصدر عنه الفعل ويجب أن يقارنه فعله ؛ لأنّه لو تأخّر الفعل عنه لَما كان صدور الفعل عنه واجباً ؛ إذ لم يصدر عنه في الحال المتقدّم على الصدور .
والمتكلّمون يقولون بأنّ الباري تعالى قادر ، إذا كان فعله حادثاً غير صادر عنه في الأزل، ويلزم القائل بالقِدم كون فاعله موجباً .
والحكماء يقولون : كل فاعل فَعل بإرادةٍ مختارٌ ، سواء قارنه الفعل في زمانه أو تأخّر عنه، وموضع الخلاف في الداعي ، فإنّ المتكلّمين يقولون : إنّه لا يدعو الداعي إلاّ إلى معدوم ليصدر عن الفاعل وجوده ، بعد الداعي بالزمان ، أو تقدير الزمان ، ويقولون : إنّ هذا الحكم ضروري والحكماء ينكرونه (4) انتهى .
قال الحكيم اللاهيجي في شوارقه : إنّه تعالى قادر مختار ، بمعنى أنّه يتمكّن من الفعل والترك ، بمعنى أنّه تعالى بحيث قد يتخلّف عنه الفعل ، فإنّ القدرة بهذا المعنى هو المتنازع فيه بين المتكلمين والحكماء ، وأمّا القدرة بمعنى كونه بحيث يصحّ منه فعل العالم وتركه بالنظر إلى ذاته تعالى ، أو بمعنى كونه بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، فمتفق عليه بين الفريقين... إلى أن قال : فالنزاع إذن ليس في معنى القدرة ، الذي هو المفهوم الشرطي ، بل في وجوب وقوع مفهوم المقدّم وعدم وجوبه (5) .
قال العلاّمة الحلي قدّس سره في ضمن كلام له : لزم خروج الواجب تعالى عن كونه قادراً، ويكون موجباً ، وهذا هو الكفر الصريح ؛ إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة إنّما هو هذه المسألة (6) !
قال في شرح المواقف : أي يصح منه إيجاد العالم وتركه ، فليس شيء منهما لازماً لذاته بحيث يستحيل انفكاكه عنه ، وإلى هذا ذهب الملّيون كلّهم ، وأمّا الفلاسفة فإنّهم قالوا : إيجاده للعالم على النظام الواقع من لوازم ذاته ، فأنكروا القدرة بالمعنى المذكور ... وأمّا كونه تعالى قادراً بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، فهو متّفق عليه بين الفريقين ... (7) إلخ .
قال القوشجي في شرح التجريد : ذهب الملّيون قاطبةً إلى أنّ تأثير الواجب في العالم بالقدرة والاختيار ، على معنى أنّه يصح منه فعل العالم وتركه ، وذهب الفلاسفة إلى أنّ تأثيره فيه بالإيجاب (8) انتهى .
وكذا الإصبهاني في شرحه مطالع الأنظار على طوالع الأنوار .
وقال بعض الفضلاء السادة في شرحه على نهج البلاغة : وقيل : هو ( أي القادر ) كون ذاته بذاته في الأزل ، بحيث يصحّ منه خلق الأشياء فيما لا يزال على وِفق علمه بها ، وهي عين ذاته ، وقيل : هي ـ القدرة ـ علمه بالنظام الأكمل من حيث أنّه يصحّ صدور الفعل عنه ، وقيل : هي عبارة عن نفي العجز عنه ، وقيل : هي فيض الأشياء عنه بمشيئته التي لا تزيد على ذاته ، وهي العناية الأزلية (9) انتهى .
تعقيب تحصيلي :
هذه نبذة من كلماتهم في المسألة ، وهي تدلّك على حقيقة القولين المذكورين دلالةً واضحة ، ولمزيد تنقيح البحث نذكر ما يستفاد من هذه التعابير ، وهو أُمور :
الأَوّل : إنّ البحث ليس بلفظي كما توهم ، ولا ملازمة بين القولين أصلاً كما زعم ، فإن المتكلّمين يعتبرون الصحّة التي هي الإمكان في تعريف القدرة ، والفلاسفة ينكرونها أشدّ الإنكار.
فالتعريف الأَوّل ـ وهو صحّة الفعل والترك ـ صحيح عند أصحاب الكلام ، وباطل بزعم أرباب الفلسفة ، وأمّا التعريف الثاني ـ وهو إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ـ فهو ينطبق على كلا المسلكين ، فإنّ صحّة الشرطية لا تنافي ضرورة المقدّم وامتناع التالي ولا إمكانهما ، فالمتكلّم على الثاني والفلسفي على الأوّل .
الثاني : اعتراف الحكماء بصحة تعريف المتكلّمين ، في الذي كان إرادته زائدةً على ذاته ، وكان داعيه أمراً مبايناً ، فإنّ الفعل بالنظر إلى ذاته من حيث هي ممكن الصدور والترك ، والخلاف فيمَن كان إرادته وداعيه عين ذاته بلا فرق أبداً .
الثالث : ضرورة العالم بالنسبة إلى ذاته تعالى من حيث هي ذاته ، وعدم إمكان تخلّفه عنها ـ
سواء كان إمكاناً ذاتياً أو وقوعياً ـ فضلاً عن وقوع الترك ، كما ظهر من كلام الأسفار وشرح المنظومة ، فما تقدّم من الشوارق من أنّ القدرة ، بمعنى كونه بحيث يصحّ منه فعل العالَم وتركه بالنظر إلى ذاته ، أو بمعنى كونه بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، فمتفق عليه بين الفريقين ، ساقط جداً فإنّ فعل العالَم بالنسبة إلى ذاته تعالى ضروري عند الحكماء ، فأين الاتفاق؟ نعم التعريف الثاني متّفق عليه بينهما ...
الرابع : معنى اختيار الواجب عند الحكماء ، هو صدور الفعل عنه مقارناً للعلم والرضاء فقط ، ولا يعتبرون إمكان التخلّف فيه ولو إمكاناً ذاتياً ، بل يرون امتناعه كما مرّ ، وهذا بخلاف المتكلّمين ، فإنّهم يرون وقوع التخلّف شرطاً في مفهوم الاختيار ، كما يظهر من عبارة المحقّق الطوسي ، أو إمكان التخلّف إمّا ذاتياً أو وقوعياً ، كما نقله السبزواري عن بعضهم .
أقول : فالإيجاب عند الأَوّلين هو صدور الفعل من غير العلم والرضاء به ، وعند الآخرين صدوره بلا جواز تخلّفه ، فالحكيم إذا ادّعى أنّ الواجب القديم مختار يعني به : أنّه عالم بصدور فعله عنه ، وليس كالشمس في إشراقها والنار في إحراقها .
قال خاتم الفلاسفة في أسفاره : فإذن ما يقال من أنّ الفرق بين الموجب والمختار : أنّ المختار ما يمكنه أن يفعل وألاّ يفعل ، والموجب ما لا يمكنه أن لا يفعل ، كلام باطل ؛ لأنّك قد علمت أنّ الإرادة متى كانت متساويةً لم تكن جازمةً ، وهناك يمتنع حدوث المراد إلاّ عند مَن نفى العلّية والمعلولية بين الأشياء كالأشاعرة ، ومتى ترجّح أحد طرفيها على الآخر صارت موجبةً للفعل ، ولا يبقى حينئذٍ بينها وبين سائر الموجبات فرق من هذه الجهة ، بل الفرق ما ذكرنا ، من أنّ المريد هو الذي يكون عالماً بصدور الفعل الغير المنافي عنه ، وغير المريد هو الذي لا يكون عالماً بما يصدر عنه ـ كالقوى الطبيعية ـ وإن كان الشعور حاصلاً ، لكن الفعل لا يكون ملائماً ، بل منافراً ، مثل المُلجَأ على الفعل فإنّ الفعل لا يكون مراداً له ... إلخ .
الخامس : محور النزاع ومناط البحث في المقام هو الداعي ، فإنّه إن ثبت زيادته على ذاته تعالى تمّ قول المتكلّمين ؛ إذ الفعل حينئذٍ بالنسبة إلى الذات من حيث هي ممكن الصدور واللاصدور ، كما ذكره في الأسفار وهو واضح ، أو لأنّ الداعي لا يدعو إلى المعدوم بالضرورة ، كما نقله العلاّمة الطوسي عن المتكلّمين ، بل ... عن التفتازاني (10) أنّه متّفق عليه بين الفلاسفة والمتكلّمين ، وعليه فإنكار الحكماء في قول المحقّق الطوسي المتقدّم ـ حيث قال : والحكماء ينكرونه ـ راجع إلى الداعي نفسه ، لا إلى عدم داعويته إلى المعدوم فتأمّل .
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المراد بالداعي ـ كما يظهر من مسفوراتهم ـ هو إرادته التابعة للأغراض الزائدة على ذات الواجب ، كما عن الإمامية والمعتزلة ، والحكماء ينكرونه جداً ويقولون : إنّ الغرض من فعله ، نفس ذاته المقدّسة . والأشعريون ينكرون الغرض من أصله في أفعاله تعالى ، ولكنّهم يجعلون صفاته زائدةً على ذاته ، فيصح لهم إثبات اختياره من هذه الناحية ، كما اعترف به كلام الأسفار المتقدّم .
ومسألة تعلّل أفعاله بالأغراض الزائدة ، مسألة مهمة عويصة طويلة الذيل جداً ، ومع ذلك أُهملت في الكتب الكلامية ... لكنّ الشأن في الابتناء المذكور ، فإنّ الفعل ـ بناءً على زيادة الداعي على الذات ـ وإن كان ممكناً بالنسبة إلى الذات المذكورة ، من حيث الصدور واللاصدور ، كما ذكره في الأسفار ، وهو يبطل مذهب الفلاسفة من نفي إمكان الفعل بالنسبة إلى الذات ، لكنّه لا يثبت مذهب المتكلّمين ، ما لم يتحقّق مقدورية الداعي المذكور ، فإنّا لو فرضنا أنّ الداعي غير مقدور كان الفعل الصادر عنه ـ صدور المعلول عن علّته التامة ـ أيضاً غير مقدور ، فأين الاختيار ؟
وقد ذهب جمع كثير إلى إرجاع إرادته تعالى إلى العلم بالمنفعة والمصلحة ، ولعلّه المشهور بين العدلية ، ومن الواضح أنّ العلم ـ سواء كان عين ذاته ، أو زائداً عليها وقائماً بها من الأزل ـ غير مقدور للواجب .
وخلاصة المقال : أنّ مجرّد إمكان الفعل صدوراً وتركاً ، بلحاظ ذاته تعالى من حيث هي ، لا يفي بإثبات اختيار الواجب ، الذي يصرّ عليه المتكلّمون ، فإنّه بمعنى له أن يفعل وله أن لا يفعل، وهذا إنّما يتحقّق في فرض مقدورية الدّاعي ، وأمّا ما ادّعاه شركاء الفن وغيرهم ، من الضرورة على أنّ الدّاعي لا يدعو إلاّ إلى معدوم ، فهو ممّا لا سبيل لنا إلى تصديقه ؛ إذ يمكن الالتزام بهذا الداعي ـ وهو علمه بما في الفعل من المصلحة ـ والقول مع ذلك بضرورة صدور الفعل عنه من جهة أدلة الحكماء الآتية ، فإنّ الله قديم الذات وقديم العلم ، فهو عالم أزلاً بأنّ الشيء الفلاني فيه مصلحة مثلاً ، فهذا العلم القديم بما أنه علّة يستلزم قِدم المعلول . نعم لو بنينا على قول الفلاسفة من نفي الداعي ، فلا يمكن أن نذهب إلى اختياره تعالى في أفعاله ، كما يرومه الكلاميون ...
السادس : الظاهر من كلام المحقّق الطوسي قدّس سره ، أنّ وقوع تخلّف الفعل عن الفاعل معتبر في مفهوم الاختيار ، لكنّه غير مدلّل ، بل الملاك هو إمكانه إمكاناً وقوعياً ، وأمّا نفس التخلّف خارجاً فهو غير معتبر ، نعم هنا شيء آخر وهو أنّ الممكن الوجود هل يمتنع قِدمه أو لا ؟ و... بحثه في مسألة حدوث العالم ، لكن القول بامتناعه لا يشهد على اعتبار التخلّف في الاختيار ؛ إذ استحالة قِدم الممكن في نفسه شيء ، ومنافاته لمفهوم الاختيار شيء آخر ، ولا ربط بينهما أصلاً.
هذا ما يتعلّق بجهات البحث وتصوير المدّعى ، ولنرجع الآن إلى بيان أدلّتهم فنقول : استدل الفلاسفة على دعواهم بوجوه ، وإليك بيانها وتوضيحها :
الأَوّل : إنّ الواجب كما تجب ذاته تجب صفاته ، فهو واجب في ذاته وصفاته ، وحيث إنّ القدرة من أوصافه تعالى ، فلا يعقل تفسيرها بالإمكان والصحّة .
أقول : هذه عمدة ما ينهدم به بناء المتكلّمين ، نعم الأشعري يعتذر بإمكان الصفات القديمة، القائمة بذاته تعالى ، الزائدة عليها ، وعدم وجوبها ، فهذا الوجه لا يهمّه كما هو واضح ، إلاّ أنّ الكلام في صحّة هذا الاعتذار ، و... أنّ لبّ القول بإمكان الصفات ، ليس إلاّ التزاماً بمذهب الماديين ، وأمّا الاعتزالي فيمكنه التخلّص من هذه العويصة ، بما يقول في غير هذا المقام ، أو يُنسب إليه من إنكار الصفات رأساً ، ونيابة الذات منابها في آثارها ، فمعنى كونه تعالى قادراً ، أنّ ذاته تفعل وتترك بلا إيجاب ذاتي .
أقول : ويرد عليه أنّ النيابة المذكورة عين قول الدهريين ... ، فالشبهة باقية على حالها ، ولا وزن لهذين الجوابين المذكورين ، فلابدّ الالتزام إمّا بإيجابه ونفي الإمكان عن قدرته ، أو بعدم وجوب قدرته .
والفلسفي يستريح بقبول الشقّ الأَوّل ، كما أنّ الأشعري والاعتزالي يبنيان على الثاني ؛ وحيث إنّ الإمامي يرى بطلان الشقّين معاً ، فيحتاج إلى طريق ثالث ، لكنّني لم أرَ ذكراً له في كتبهم الموجودة عندي ، بل هذه الشبهة قد أُهملت في الكتب الكلامية رأساً ، مع أنّها ذات أهمّية جداً ، ومغزاها أنّ القول بالاختيار المختار عند المتكلمين ، لا يجامع القول بعينية الصفات ، كما عليها الإمامية والحكماء .
والتحقيق في الجواب : أنّ القدرة ليست هي نفس صحّة الصدور واللاصدور كما في الحيوان ، فإنّ القدرة فيه من الكيفيات النفسانية ؛ لأنّها صفة قائمة بذوات الأنفس ، فكذا في الواجب ؛ وحيث إنّ كنه الواجب وذاته يمتنع الاكتناه والإحاطة بها ، استحال معرفة قدرته أيضاً، لكن يلزمها صحّة الفعل والترك ، فالقدرة ليست نفس الصحّة المذكورة ، لا في المخلوق ولا في الخالق ، بل هي صفة تستوجب الصحة المذكورة (11) .
فنقول : إنّ الله تعالى قادر لِما استخدمناه من الدلائل ، و... أنّ قدرته عين ذاته ؛ وحيث اتّفق الباحثون من المتكلّمين والحكماء ـ كاتّفاق العقل والنقل ـ على امتناع إدراك حقيقته وعرفان ذاته ، امتنع الإحاطة بحقيقة قدرته ، لكن نعلم أنّ الصحّة المذكورة من لوازم قدرته وشؤون سلطانه ، فإذن لا منافاة بين القول باختياره والقول بعينية صفاته ، فإذن لا يكون مانع من الالتزام بها . هذا ، وللمتكلم أن يرجع ويقول على سبيل النقض : إنّ تفسير القدرة بأن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، لا يجامع القول بعينية الصفات كما عليه الفلاسفة ؛ إذ مرجعها حينئذٍ إلى ضرورة المشيّة واللامشيّة ، وليست المشيّة عندهم إلاّ العلم بالعناية ، ولا نتعقّل من مفهوم العلم إلاّ الانكشاف والإراءة ، ولا يلتزم عاقل بأنّ الانكشاف نفس ذاته الواجبة ، وأنّ حقيقة الواجب هو الكشف ! فلابدّ أن يقولوا : إنّ الكشف لازم علمه تعالى .
لثاني : إنّ إرادته عين ذاته الواجبة فهي أيضاً واجبة ، وعليه فالفعل أيضاً واجب بالنسبة إلى ذاته ، ولا يمكن التخلّف أصلاً ؛ لأنّه من تخلّف المعلول عن علّته التامّة ، يظهر ذلك من الأسفار وحواشيها للسبزواري .
أقول : المنقول من معظم متكلّمي الإمامية ورؤساء المعتزلة ، أنّ إرادته تعالى هو علمه بما في الفعل من المصلحة والمنفعة ، ويعبّرون عنه بالداعي ، وعليه فيتوجّه عليهم أنّ علمه عين ذاته تعالى ، وتعلّقه بالأشياء ضروري ، فيكون تحقّق الفعل أيضاً ضرورياً ؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة .
وهذا هو الإيجاب الذي يدّعيه الفلاسفة ، وأمّا الأشاعرة فهم وإن يروا زيادة إرادته على ذاته ، لكنّهم يقولون بتعلّقها بأحد طرفي الفعل لذاتها ، فلا يتحقّق اختياره تعالى على مذهبهم أيضاً ، فالإرادة لازمة لذاته تعالى صادرة عنه بالإيجاب ، وهي لذاتها متعلّقة بأحد طرفي الفعل ، وهذا عين الإيجاب ، وما أجاب في المواقف (12) بأنّ الوجوب بالاختيار ، لا ينافي الاختيار ، فهو مزيّف بعدم تعقّل الاختيار له تعالى على هذا المسلك .
والإنصاف أنّ ما قاله المتكلّمون في إرادته تعالى ، يصام اختياره المفسّر بالصحّة المذكورة .
ثمّ إنّ عينية الإرادة مع الذات وإن توجب ضرورة الفعل وبطلان الصحّة المذكورة ، إلاّ أنّها لا تثبت قِدم العالم ؛ لأنّها ليست هي العلم فقط ، بل العلم بالمصلحة ، ولعلّها غير متحقّقة في الأزل، أو إنّ قِدم الممكن غير ممكن ، فإثبات قِدم العالَم موقوف على إمكان قِدم الممكن وتحقّق المصلحة ، كما لا يخفى .
لكن الذي يبطل هذا الوجه ، هو ما ذهبنا إليه من حدوث إرادته تعالى ، وعدم قِدمها ، ووجوبها، وعينيتها ، مع الذات الأحدية الواجبة ، فهذه العويصة المهمّة منحلة على أُصولنا بلا تكلف .
الثالث : إنّ الواجب الوجود واجب من جميع جهاته ، فكيف يعقل الصحّة في حقه ؟ ذكره صاحب الأسفار والسبزواري وغيرهما ممّن تقدّمهما .
أقول : إن أرادوا بذلك وجوب القدرة له تعالى ، وعدم إمكان انفكاكها عن الذات ، فهو ممّا لا خلاف فيه لأحد ، حتى من الأشعري القائل بإمكان صفاته ، فإنّه يرى ضرورة ثبوت القدرة الممكنة له تعالى ، وإن أرادوا بذلك إثبات وجوب القدرة في نفسها وأنّها واجبة ، فهذا وإن كان حقاً متيناً وبه اعتقد الإمامية ، إلاّ أنّ القاعدة المستدلّ بها لا تفي بإثبات ذلك ، كما يظهر لمَن لاحظها ، وإن أرادوا بذلك نفي إمكان أفعاله بالنسبة إليه تعالى ، وأنّها تصدر عنه تعالى ضرورةً ووجوباً ، ولا يعقل الإمكان في حقه مطلقاً سواء في أفعاله وأوصافه ، فهذا وإن كان هو مفاد القاعدة ، لكنّنا نردّه بأنّ القاعدة المذكورة باطلة لا أساس لها أبداً ...
الرابع : ما سلف في عبارة الأسفار وإليك بيانه الآخر ، قال : ثمّ إنّك إذا حقّقت حكمت بأنّ الفرق بين المريد وغير المريد ـ سواء كان في حقّنا أو في حقّ الباري تعالى ـ ... فإنّ إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد وعدمه ، لم تكن صالحةً لرجحان أحد ذينك الطرفين على الآخر ، وإذا صارت إلى حد الوجوب لزم منه الوقوع ، فإذن الإرادة الجازمة حقّاً يتحقّق عند الله ... إلخ .
أقول : هذا مأخوذ من كلام الرازي في محكي المباحث المشرقية ، كما نقله هو في بعض فصول بحث إرادة الله تعالى ، واللاهيجي أيضاً في مبحث إرادته تعالى من شوارقه ، وجوابه : أنّ الوجوب الناشئ من قِبل الإرادة والاختيار ، لا ينافي الاختيار بل يؤكّده ، وهذا خارج عن محل الكلام كما هو واضح للمبتدئين ، وأمّا وجوب الإرادة نفسها ...
الخامس : ما ذكره أيضاً صاحب الأسفار بقوله : وممّا يدلّ على ما ذكرنا ـ من أنّه ليس مَن شرط كون الذات مريداً وقادراً إمكان أن لا يفعل ـ أنّ الله تعالى إذا علم أنّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني ، فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلاً ، وذلك محال ، والمؤدّي إلى المحال محال ، فعدم وقوع ذلك الفعل محال فوقوعه واجب ... مع أنّ الله مريد وقادر عليه .
أقول : وهذا التلفيق من مثله عجيب جداً ، أَلم يعلم أنّ هذا الدليل لو تمّت دلالته على مرامه ، لعمّ جميع الفاعلين من الحيوان وغيره ؟ فيبطل الاختيار رأساً ، ولا يصحّ تفسير القدرة بصحّة الصدور واللاصدور حتى في القادر ، الذي يفعل بداع زائد على ذاته ، وقدرة زائدة على ذاته ، مع أنّه صرّح ـ في غير مورد ـ بصحّة التفسير المذكور في غير الواجب .
وحلّ هذه الشبهة ، أنّ الله كما يعلم بصدور الفعل عن نفسه أو عن غيره ، كذلك يعلم بصدوره عنه اختياراً ، وأنّ تركه ممكن له ذاتاً ووقوعاً ، فلو فرضا عدم إمكان الترك للزم جهله تعالى وهو محال ، والمستلزم للمحال محال .
ثمّ إنّ هذه الشبهة مشهورة ذكرها الجبريون في قِبال العدلية ...
السادس : ما ذكره هو أيضاً ، من أنّ الفاعل قادراً ، إنّما يكون فاعلاً بالفعل حال صدور الفعل عنه ، وفي تلك الحال يستحيل أن يصدق عليه أنّه شاء أن لا يفعل فلم يفعل ... إلخ .
أقول : وهذا منه غريب وخبط عظيم ، فقد خُلط عليه محلّ البحث ؛ ولذا أصرّ على أنّ هذا الوجه يثبت مرامه ، ولا يدري أنّ الوجوب الناشئ عن الإرادة بعد تحقّقها اختياراً ، غير وجوب الفعل بالنسبة إلى ذات الفاعل ، كيف والأَوّل عامّ يشمل جميع الفاعلين ، والثاني خاصّ بمَن كان فعله لا لصفة زائدة ولا لداعٍ زائد ، كما صرّح به مراراً ؟ وإنْ كان اكتفى في بعض كلماته ، بصدور الفعل عن علم وإرادة في صدق المختار ، ولو في غير الله تعالى ، بل ادّعى أنّه لا يقال مثل هذا الفاعل في العرف العامّي ولا الخاصّي : إنّه فاعل غير مختار .
أقول : بطلانه واضح ؛ لأنّ إطلاق المختار على مثله اصطلاح فلسفي ، والعرف لا يقول له المختار قطعاً ، كما اعترف به ابن سينا وغيره أيضاً .
السابع : قد ثبت قِدم العالَم في طبيعيات الفلسفة ، وهو لا يمكن إلاّ عن مُفيض تام الفاعلية . نقله المحقّق الطوسي عن الحكماء في محكي شرحه على الإشارات ردّاً على الرازي .
أقول : هذا الوجه باطل صغرى وكبرى ...
الثامن : الاختيار بالمعنى الذي يعتقده المتكلّمون ، يستدعي زيادة الداعي الذي يفعل بوجوده ولا يفعل بعدمه ، وليكون الفعل بالنسبة إلى ذات الفاعل ممكن الصدور واللاصدور ، وهي ـ أي زيادة الداعي على ذاته ـ تستلزم الاستكمال المحال في حقّه تعالى . يستفاد من الأسفار والشوارق .
أقول : استلزام الاستكمال باطل جداً ...
وأعجب من ذلك ما ذكره ابن سينا على ما في الأسفار : عند المعتزلة أنّ الاختيار يكون بداعٍ أو بسبب ، والاختيار بالداعي يكون اضطراراً ، واختيار الباري وفعله ليس بداعٍ ، انتهى . وقَبِله صاحب الأسفار أيضاً فكرّره في كتابه .
أقول : وهذا الكلام عندي لا يستحقّ ردّاً ولا جواباً ؛ لأنّه مثل أن يقال : إذا كانت الشمس طالعة فالليل موجود !
التاسع : إنّ تعلّق القدرة بأحد الضدّين ، إمّا لذاتها بلا مرجّح فيستغني الممكن عن المرجّح ، فإنّ نسبة ذات القدرة إلى الضدّين على السوية ، فيلزم سدّ باب إثبات الصانع ؛ لجواز ترجّح وجود الممكن حينئذٍ على عدمه ، وأيضاً يلزم قِدم الأثر ؛ لأنّ الواجب وقدرته وتعلّقها أزلي مع أنّ أثر المختار حادث ، وإمّا لا لذاتها بل بمرجّح خارجي ، ولا يجب الفعل مع ذلك المرجّح وإلاّ لزم الإيجاب ، بل كان جائزاً هو وضدّه ، فيحتاج إلى مرجّح آخر ويلزم التسلسل في المرجّحات .
العاشر : إنّ إرادة الله وقدرته ، متعلقتان من الأزل إلى الأبد ، بترجّح الحادث المعين ، وإيجاده في وقت معيّن ، والتغيّر في صفاته محال ، فوجود ذلك الحادث في ذلك الوقت واجب ، فهو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار . نقلهما بعضهم عن الفلاسفة (13) .
الحادي عشر : إنّ ما لم يجب لم يوجد ، فلابدّ من أن يكون الله تعالى موجباً ـ بكسر الجيم ـ فإنّه موجِد ، وليس موجَباً ـ بفتح الجيم ـ كما زعم المتكلمون وينسبونه إلى الحكماء . يظهر ذلك من كلام السبزواري...
أقول : أمّا الوجه التاسع فنختار وجوب الفعل ، ولكن ليس هذا من الإيجاب المتنازع فيه ... ضرورة جريان هذا الوجوب في جميع الفاعلين ، بخلاف الثاني ، فإنّه لا يشمل الفاعل من الحيوان .
وبالجملة : الكلام في وجوب الفعل عليه من جهة وجوب إرادته له وجوباً ذاتياً ، لا في وجوبه الناشئ من تعلّق إرادته ، وإن كانت غير ذاته بل كانت ممكنةً أو حادثة ، وهذا ظاهر لا ستر عليه . وأجاب الناقل ومَن تبعه عنه بشيء أسخف من أصل الشبهة ، ولا يليق بنا أن نتعرّض له، ومنه ظهر بطلان الوجه الأخير أيضاً ، وأنّ الله تعالى على مذهبهم فاعل موجَب ـ بفتح الجيم ـ ولا يُستشم منه رائحة الاختيار له تعالى لا عقلاً ولا عرفاً ، فإصرار السبزواري وغيره على أنّه موجِب ـ بالكسر ـ لا موجَب ـ بالفتح ـ واستيحاشهم من التصريح بما هو صميم مذهبهم من إيجابه وعدم اختياره ، شيء عجيب جداً ، لا ندري ما الذي دعاهم إلى إخفاء مسلكهم في هذا المقام ؟
هذا كلّه بناءً على تمامية القاعدة القائلة : إنّ ما لم يجب لم يوجد في الأفعال الاختيارية المباشرية، وأمّا بناءً على عدم تماميتها فالأمر واضح ، وأمّا حديث لزوم التسلسل في المرجّحات ، فليس إلاّ دليلاً آخر على تلك القاعدة ونفي الأولوية ...
وأمّا الوجه العاشر فجوابه : أنّ قدرته متعلّقة بجميع التروك والأضداد ، فليس الترجّح مستند إليها ، وإلاّ لزم التناقض والجمع بين الضدين ، بل هو مستند إلى إرادته ، التي ليست هي إلاّ إحداثه ، وتعلّق الإرادة بهذا المعنى من الأزل محال ، بل تعلّق القدرة بالفعل قديم غير مستلزم للوقوع ، وتعلّق الإرادة حادث وموجب للوقوع لكنّها قابلة للتغيّر ، فافهم جيداً .
... وتعلّل أفعال الله بالأغراض ؛ إذ هذه المباحث لها اشتراك وارتباط شديد كما يعرفه الراسخون .
هذا ما استدلّ به أصحاب الفلسفة لإثبات مرامهم ، ولم ندع شيئاً منه مهملاً ، وقد دريتَ أنّ الإنصاف العقلي يحكم بعدم تمامية دلالة دلائلهم ، بل وبعضها خارج عن محلّ النزاع رأساً ، فحينئذٍ إن تمّ أدلة المتكلّمين على مذهبهم لَما كان بأساً ومانعاً من الالتزام به ، وكذا لو ثبت من الشرع ما يدلّ عليه ؛ إذ المسألة قابلة للتعبّد الشرعي ولا محذور فيه أصلاً ، فإنّ الاختيار وهو كيفية القدرة ، ممّا لا يتوقّف عليه حجّية كلام الشارع حتى يلزم الدور ونحوه ، فالآن نرجع إلى أدلّتهم ، فقد استدلّوا على مذهبهم بوجوه :
الأَوّل : لو لم يكن مختاراً للزم إمّا قِدم العالَم أو حدوث القديم ، وكلا الأمرين محال ، فيمتنع المقدّم المذكور بامتناع التالي .
بيان الملازمة : أنّ أثر الموجب لا ينفكّ عنه ، فهو وأثره مقارنان في الخارج ، فإذا لم يكن الواجب مختاراً جاز تأخّر فعله عنه ، ولوجب تحقّقهما ـ أي الله والعالَم ـ إمّا في الأزل أو في الحدوث ، وأمّا بطلان التالي فامتناع حدوث الواجب واضح ، كما أنّ حدوث العالم مبيّن ... وبالجملة : أنّ حدوث العالم دليل على اختيار خالقه .
الثاني : إنّ الإيجاب الذي اصطلح عليه الحكماء باسم الاختيار نقص ؛ لعدم تمكّنه حينئذٍ من الترك أو الفعل ، بل صدور أحد الطرفين واجب عليه ، والنقص عليه محال اتّفاقاً وعقلاً ...
الثالث : إنّه لو لم يكن مختاراً للزم أحد الأمور الأربعة : إمّا نفي الحادث بالكلّية ، أو عدم استناده إلى المؤثّر ، أو التسلسل ، أو تخلّف الأثر عن المؤثّر الموجب التام ، وبطلان اللوازم دليل بطلان الملزوم .
بيان الملازمة : أنّه إمّا أن لا يوجد حادث أو يوجد ، فإن لم يوجد فهو الأمر الأَوّل ، وإن وجد فإمّا أن لا يستند إلى موجد أو يستند ، فإن لم يستند فهو الثاني ، وإن استند فإمّا أن لا ينتهي إلى قديم أو ينتهي ، فإن لم ينتهِ فهو الثالث أي التسلسل ؛ وذلك لأنّه إذا استند إلى مؤثّر غير قديم ولا منتهٍ إليه ، فلابدّ هناك من مؤثّرات حادثة غير متناهية مع كونها مترتّبةً مجتمعة ، وهو تسلسل محال اتّفاقاً ؛ وإن انتهى فلابدّ قديم يوجب حادثاً بلا واسطة من الحوادث ؛ دفعاً للتسلسل فيها ، سواء كانت مجتمعةً أو متعاقبة ، فيلزم الرابع .
الرابع : إنّه تعالى لو لم يكن مختاراً لاستحال تغيّر الموجودات ، وتبدّل الكائنات بالمرة ، فإنّه يتبع تغيّر العلّة وتبدّلها ، وهو في حقّ الواجب مستحيل ، فثبت أنّه مختار .
الخامس : إنّه لو كان موجِباً لوجب تحقّق جميع الموجودات الممكنة ، في درجة واحدة ، بلا تقدّم وتأخر بينها ، فإنّها متساوية النسبة إلى العلّة ، أعني بها ذاته المقدسة ، والتخصيص الواقع يكون ترجيحاً بلا مرجّح ، بل ترجّحاً من دون مرجّح .
السادس : الآيات القرآنية الدالة على ذلك ، مثل قوله تعالى : {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19]، وقوله : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [الحج: 14]، وقوله : {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]وأمثالها من الآيات الصريحة في المدعى .
السابع : الأخبار المتواترة عن النبي الأعظم وآله الكرام ( صلى الله عليه وعليهم أجمعين ) ، مثل ما ورد في أنّه يمحو ويثبت ، ويقدّم ويؤخّر وله البداء ، ونحو ذلك .
الثامن : الضرورة الدينية على اختياره ، بل تقدّم عن العلاّمة الحلي قدّس سره أنّه الفارق بين الإسلام والفلسفة ، بل ادّعى الجرجاني والقوشجي والأصبهاني اتّفاق المليّين قاطبةً على ذلك ...
هذا ما وقفنا عليه في كتبهم من الأدلّة على اختياره تعالى .
أقول : أمّا الوجه الأَوّل ، فهو موقوف على ثبوت أمرين ، الأَوّل : حدوث العالم كما هو ظاهر ، الثاني : إمكان أزلية الممكن ؛ إذ لو استحال وجود الممكن في الأزل ، وتحتّم مسبوقية الممكن بالعدم ، لَما كشف حدوث العالم عن الاختيار .
وبالجملة : حدوث العالم بمجرّده ، وإن كان يبطل قول الفلاسفة بقِدمه ، إلاّ أنّه لا ينفع المتكلّمين ما لم يحرز إمكان أزليته ، حتى يكون عدم تحقّقه مستنداً إلى إرادة الفاعل دون المانع في نفس المفعول ... ، فهذا الدليل ـ بما له من الاشتهار ـ غير تام ، وأنّ الحدوث لا يثبت الاختيار ، كما أنّ الاختيار أيضاً لا يدلّ على الحدوث ، خلافاً لِما توهّمه الرازي في محكي شرح الإشارات ...
وأمّا الوجه الثاني ، فأجاب عنه الفلاسفة بمنع عقد الوضع ، وأنّ صدور الفعل مع العلم والإرادة ليس بإيجاب ، وإن لم يكن هناك التمكّن من تركه ، بل ذكروا أنّه كمال الاختيار وأفضل أنحاء الصنع ، بل لا اختيار إلاّ لمَن يفعل لذاته بذاته ، وأمّا مَن يفعل لداعٍ زائد فهو مضطرّ في صورة الاختيار ، فالواجب ـ عزّ مجده ـ موجب بكسر الجيم لا بفتحه .
أقول : إنكار الإيجاب مع نفي التمكّن تناقض بحت وتهافت واضح ، ومهما قالوا في توجيهه وتصحيحه ، فلا يخلو هو من جهالة أو تجاهل أو إغفال ، ولا يكون الواجب على مذهبهم ، إلاّ موجَباً بفتح الجيم لا بكسره ، وتحريف الكلم عن مواضعه غير نافع ، فالصحيح أن يمنع عقد الحمل ، وأنّ الإيجاب المذكور ليس بنقص ، بل هو ممّا أثبته الأدلة العقلية...
وأمّا الوجه الثالث ، فإتمام شقّه الرابع موقوف على حدوث العالم بشراشره ، وإلاّ أمكن ردّه بوجود ممكن قديم مختار يؤثّر في الحوادث ، وهو معلول الواجب الموجب ، أو الالتزام بوجود حوادث غير متناهية على ما ذكره أرباب الفلسفة .
وبالجملة : هذا الوجه راجع إلى الوجه الأَوّل ولا مزية له غير الزيادة في العبارة .
وأمّا الوجه الرابع والخامس ، فصحّتهما موقوفة على بطلان ما ذكره الفلاسفة ، في ارتباط الحادث بالقديم ؛ إذ لو صحّ ما ذكروه لا يبقى مجال لهما ، على أنّ القابل في نفسه أيضاً قاصر عن التحقّق في مرتبة واحدة .
وأمّا الوجه السادس ، فيمكن أن يجاب عنه بأنّ مفاد الآيات المذكورة وقوع الفعل عند إرادته ، وهذا ممّا لا خلاف فيه لأحد ، وإنّما الكلام في تحديد إرادته وأنّها واجبة أو لا ، وهل للواجب قبل وجود الفعل تمكّن من تركه أو لا ؟ لكن الإنصاف أنّ القرآن ـ بظواهره لا بنصوصه ـ يدلّ على اختياره تعالى ، فإنّ مَن أُلقي عليهم خطابات القرآن ـ وهم عامّة الناس ـ لا يفهمون من بعض الآيات المذكورة وأمثاله إلاّ التمكّن المذكور ، لكن لا حجّية للظهور في قبال الأدلة العقلية، فهذا الوجه موقوف على عدم تمامية شيء من دلائل الفلاسفة .
وأمّا الثامن فالإنصاف أنّه غير بعيد ، فإنّ اختياره تعالى ـ بنحو يدعيه المتكلّمون ـ ممّا ارتكز في أذهان المسلمين ، رجالهم ونسائهم ، جاهلهم وعالمهم ، صغيرهم وكبيرهم ، وهذا الارتكاز لا يكون مستنداً إلاّ إلى الدين وطريقة الشارع ، فالثابت من الدين هو ذلك ، ... وأنّ ما قيل في امتناعه وبطلانه كان مزيّفاً ضعيفاً ، فإذن يتعيّن تعييناً تعبّدياً لا عقلياً التديّن والاعتقاد بهذا المسلك ؛ لِما مرّ في فوائد المدخل من إقرار العقل بتصديق قول المعصوم .
خلاصة المقال في تنقيح المقام :
قد استبان ممّا ذُكر أنّ النظرية الفلسفة المذكورة لا تتمّ إلاّ بأُمور :
1 ـ كون إرادته عين ذاته ، وإلاّ كان الفعل بالنظر إلى ذاته المقدّسة ممكن الصدور واللاصدور.
2ـ كون الغرض من فعله نفس ذاته ، وإلاّ لكان وجوب الفعل بلحاظ ذلك الغرض دون ذاته .
3 ـ قِدم العالم إذا أمكن أزلية الممكن .
فإذا لم يثبت واحد من هذه الأُمور فقد انهدم بناؤهم من أساسه ، ولكن لا يلزم منه صحّة قول المتكلّمين ، كما يظهر من مراجعة ما سبق ، نعم إذا ثبت حدوث العالم وأزلية الممكن ، ثبت اختياره تعالى ؛ إذ عدمه في الأزل مستند حينئذٍ إلى إرادته تعالى ، فيكون الواجب متمكّناً من الفعل والترك ، فتأمل .
فمجرّد بطلان قول الفلاسفة لا يكشف عن صحّة قول المتكلّمين ، فإنّها موقوفة على إمكان صدور الفعل وعدمه بالنسبة إلى ذاته تعالى ، وإلى داعيه ، وعدم كون الإرادة واجبة ، نعم الوجوب الناشئ من الإرادة ـ المسمّى بالوجوب السابق ـ لا ينافي الاختيار ، فإذن اختياره تعالى وإن كان ثابتاً من جهة الشرع ... ، إلاّ أنّه غير ثابت من جهة العقل ...
هذا ، والذي يدلّ على احقية مذهبهم هو قاعدة الملازمة ... ، فإنّ القدرة الواجبة ـ التي تستلزم التمكّن وصحّة الصدور واللاصدور ـ ممكنة الثبوت للواجب ؛ لبطلان دلائل الفلاسفة ، فهي إذن ثابتة له ، فهو قادر مختار أي له أن يفعل وله أن لا يفعل .
ويمكن أن يستدلّ أيضاً ، بأنّ الاختيار بهذا المعنى كمال للقادر بلا شك ، وأنّ ما يزعمه أهل الفلسفة نقص له ، وحيث إنّه جامع لجميع الكمالات ، بل لا كمال إلاّ وهو معطيه ولا سبيل للنقص إليه ، فهو مختار بالمعنى الذي أثبته الكلاميون لا غير ، والله الهادي .
تنبيه :
اختياره بهذا المعنى وإن ادّعاه المتكلّمين بأجمعهم ، بل ... أنّه ضروري من دين الإسلام ، لكنّه لم يتديّن به ـ حقّ التديّن ـ إلاّ الطائفة الإمامية ، الذين أخذوا أُصولهم وفروعهم من آل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين ) ، فإنّ الاعتزاليين قالوا بالثابتات الأزلية ، والأشعريين بالقدماء الثمانية ، ولا شك أنّ الواجب بالنسبة إليها موجَب ، كما صرّح به أنفسهم ، فتأمل .
فأعظم الله جزاء الإمام الصادق من أئمة أهل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ؛ حيث أدّب أتباعه على سلوك صراط الحق ونهج الصدق .
____________________
(1) الأسفار ، المجلد الثاني ، الفصل الأَوّل من الموقف الرابع ، ( الطبعة القديمة ) .
(2) هذه الجملة مذكورة في حاشية شرح المنظومة ، ونحن أدرجناها في المتن ، بين قوسين .
(3) شرح المنظومة / 172.
(4) شرح قواعد العقائد / 39.
(5) الشوارق 2 / 210 ـ 211.
(6) إحقاق الحق 2 / 116.
(7) شرح المواقف 3 / 41.
(8) شرح التجريد / 348.
(9) منهاج البراعة 1 / 309.
(10) تقدّم في الصفحة 81 من هذا الجزء .
(11) نقل العلاّمة قدّس سره في شرح قواعد العقائد / 40 : أنّ القادر عند أوائل المعتزلة مَن كان على صفة لأجله عليها يصح منه الفعل . ونفاة الأحوال قالوا : هو الذي يصحّ منه أن يفعل وأن لا يفعل .
أقول : الثاني باطل كما عرفت ، والأَوّل صحيح لكنّ الصفة نفس ذاته .
(12) شرح المواقف 3 / 69.
(13) شرح المواقف 3 / 44، 46.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|