أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-4-2016
5841
التاريخ: 25-4-2016
1299
التاريخ: 25-4-2016
1541
التاريخ: 25-4-2016
1935
|
إن المناداة باستحضار الممارسة الإدارية التراثية وقواعدها أساساً للممارسة الإدارية العربية المعاصرة، أو أساساً للبرادايم الإداري المنشود بناؤه دون تكييف وتطويع وتوليف يتجاوز اعتبارات المواكبة والمعاصرة والقائمة على التحديث الثقافي والتجدد الفكري التي يفرضها التطور. كما تتجاوز اعتبارات المؤسسة وشروطها التي تقتضي تجذير قيم الممارسة المعنية في وجدان الناس ووعيهم حتى يكتب لها البقاء والاستمرارية، ولكن على أساس ديناميكي متجدد. فمن أجل تبني الممارسة الإدارية التراثية لا بد من أن تسود التصورات والقيم العربية الإسلامية التراثية التي كانت موجودة في الفترة الإسلامية الأولى.
وهذا بدوره يتطلب تشريعات ونظماً تعليمية، وبنى اجتماعية، ونظماً سياسية واقتصادية تلتقي مع هذه القيم، ومنسجمة معها. ولكن الواقع لا يُمكّن من تبني نظم بمرجعيات سلفية وغير محدّثة. لأن هذا الواقع تحوّل بحكم التطور الذاتي وبحكم التفاعل والتمازج مع ثقافات الغير ونظمهم الفكرية المعاصرة -وبخاصة الغربية منها- إلى واقع جديد مفارق بدرجة كبيرة عن الواقع السابق. وأصبح هذا الواقع مكوناً من مزيج من التيارات الثقافية الفكرية المتعاقبة والمتفاعلة مع السياق الثقافي الفكري العربي الإسلامي الأولي الذي انطلق منه أساساً.
وعلى أية حال، فإن هذا التحليل لا يحول دون أخذ المبادئ والتوجيهات والإرشادات التي ارتبطت بالممارسة الإدارية التراثية في أية محاولة ترمي إلى بناء البرادايم الإداري العربي المعاصر المنشود، المستند إلى السياق الاجتماعي الاقتصادي السياسي الثقافي الملائم، عن طريق دمج تلك المبادئ والتوجيهات والإرشادات بالواقع الجديد، ووضعها في سياقه الثقافي المحدّث على أساس إبداعي واجتهادي، من خلال ما يتطلبه ذلك من تصورات ومفاهيم وقواعد ومعايير متجددة.
اليابان-نموذجاً- للاستجابة الثقافية المُعمّقة
تُثار مسألة نجاح اليابان ذات البرادايم الإداري والتنظيمي، والسياق الثقافي المتمايزين عن البرادايم الإداري والتنظيمي الغربي، وسياقه الثقافي في تحقيقها سبقاً اقتصادياً وتكنولوجياً وإدارياً ملحوظاً، بالرغم من خسارتها الحرب العالمية قبل أكثر من نصف قرن. وتُثار هذه المسألة على أساس أن اليابان قد حققت هذا السبق من خلال احتضانها المعرفة والتقانة الغربية المعاصرة، والتي تركت آثارها على كل مجالات الحياة اليابانية بما فيها المجال الإداري والتنظيمي، مع محافظتها على خصوصيتها الثقافية. أي دون تأثير عميق للعلم والمعرفة الغربية في نظم حياتها الفكرية والاجتماعية. وتتم المقارنة في الدراسات الإدارية ذات العلاقة (على سبيل المثال، رفاعي رفاعي، سعد ياسين، ومحمود الفالح) (1 ) باليابان باعتبارها مثالاً يحتذى ويفترض الاقتداء به من أجل تحقيق السبق التكنولوجي والاقتصادي والإداري العربي.
ويتم التركيز في الدراسات الإدارية ذات العلاقة على إنجازات اليابان التقنية، وعلى برادايمها الإداري، ومقارنته بالمنجز الثقافي الغربي وبرادايمه الإداري. ويتم إبراز خصائص البرادايم الإداري الياباني المتميز عن البرادايم الإداري الغربي مثل الوظائف الدائمة، وأهمية الأقدمية في العمل، والقرار الجماعي، وتشجيع اقتراحات العاملين، والرقابة على الجودة، وغيرها. كما يتم إبراز خصائص مجتمعية معينة تميز اليابان كمجتمع شرقي عن المجتمعات الغربية، مثل بروز مكانة الرجل عن مكانة المرأة، واللحمة التي تجمع أفراد المجتمع, والتي تمتد إلى منظمات الأعمال، واحترام كبار السن، وغيرها. ويتم أيضاً إبراز بعض السياسات الاقتصادية مثل دعم الحكومة للصناعات والبحث العلمي، والادخار العالي كعوامل مفسرة للبرادايم الإداري الياباني المتمايز. أي تتم المقارنة مع البرادايم الإداري الياباني دون سبر غور التحولات الثقافية والفكرية العميقة، التي رافقت التطور الياباني المعاصر، ورافقت تشكيل برادايمه الإداري المتمايز.
والواقع خلاف ذلك، فالبرادايم الإداري الياباني المعاصر ما كان ليصل إلى ما وصل إليه لولا توفر جملة ظروف وشروط صبغت السياق الثقافي والمجتمعي الياباني عبر قرون طويلة بطريقة مشابهة للتجربة الغربية المعاصرة، وساهمت في تشكيل ركائز للبرادايم الإداري الياباني. ولولا التحولات العميقة التي حدثت في السياق الثقافي الياباني بفعل تثاقفه مع الغرب، وتفاعله معه على امتداد فترات زمنية ممتدة اثرت على أنماط تفكير اليابانيين وتصوراتهم.
فكما جاء في دراسة روبرت أوزاكي المعنونة "اليابانيون: بورتريه ثقافي"، والمنشورة عام
( 2)1978، على سبيل المثال، اتسمت الحقبة التي سبقت نهوض اليابان المعاصر بوجود الجماعات الحرفية (Guilds) التي شكلت نواة الصناعات اليابانية الحديثة بطريقة مشابهة للغرب. وتفاعل اليابان مع الغرب وتثاقف معه لمدة طويلة، لما قبل فترة انعزال اليابان التي دامت قرابة ثلاثة قرون حتى منتصف القرن التاسع عشر( 3)، على أساس ندي في المعرفة والقدرات. وضاهت الأدوات والمنتجات والآلات الحربية اليابانية مثيلتها الغربية في تلك الفترة. إذ كان المستوى الحرفي الياباني مضاهياً للمستوى الحرفي الغربي أيضاً. وساد التعليم الديني البوذي في اليابان الذي يعتبر موازياً للتعليم الذي كان سائداً في الغرب في ذلك الوقت. واتسم المجتمع الياباني بالتلاحم والتماسك من خلال نموذج الوطن العائلة (family nation) الذي كان سائداً، والذي يصور اليابان كوطن مكون من حلقات من العائلات وربه هو الامبراطور. وتعوّد اليابانيون على النظام والقانون الذي كان مطبقاً منذ القرن السادس عشر. مثل هذه الركائز التي هيأت لانبثاق البرادايم الإداري الياباني المعاصر لم تكن متوفرة في السياق العربي في ذلك الحين. بل العكس من ذلك هو الذي كان سائداً (انظر الجزء المتعلق بتشخيص الممارسة الإدارية العربية المعاصرة وتفسيرها في هذه الدراسة لمزيد من التوضيحات).
واستناداً إلى دراسة ماسايو واتانابي المعنونة "اليابانيون والعلم الغربي" المنشورة عام ( 4)1976، على سبيل المثال، فلقد حدثت تحولات ثقافية وفكرية عميقة في المجتمع الياباني تركت أثراً بارزاً على نجاح اليابان في تبني العلوم والثقافة الغربية المعاصرة. فنتيجة للبعثات العلمية اليابانية في عهد الامبراطور ميجي (Meiji) التي بدأت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر واستمرت بعد ذلك، وعبر سلسلة طويلة من المناظرات الفكرية والأكاديمية المؤطرة التي انعقدت في المعاهد والمنتديات والجامعات اليابانية في أرجاء اليابان كلها واستمرت عدة عقود، ساد الفكر النسبي والدار ويني بمدلوله التطوري والتنافسي والتكيفي(5 ) في اليابان، وحلّ محل الفكر الياباني المطلق والنخبوي الذي كان سائداً قبل ذلك. هذان البعدان اللذان تركا أثرهما في جميع مجالات الحياة اليابانية. ودفعا اليابان إلى إعادة النظر بالعديد من المسلمات العقائدية والفكرية التي كانت سائدة على امتداد قرون طويلة.
ونتيجة لذلك، وكما ورد في دراستي أوزاكي وواتانابي المشار إليهما، استبدل اليابانيون العديد من نظمهم الأساسية بالنظم الغربية مثل نظام التأريخ، ونظام المقاييس والموازين، وطريقة الحساب والأرقام- التي هي أساساً عربية- وطرق الرسم. وانعكس ذلك على توظيف العلم والتقانه المعاصرين في الصناعة والإنتاج وفي المجالات المعرفية والتعليمية. وكما ورد في الدارستين أيضاً قاد الفكر النسبي والفكر التطوري اليابانيين إلى مزيد من الانفتاح والتثاقف مع الغرب. وتبنى اليابانيون مبدأ التنافس والبقاء للأكثر قدرة وتمكّناً ومنعةً من المجتمعات على أساس فكري قاعدي.
مثل هذه التحولات العميقة التي عاشتها اليابان كان من الممكن أن تحدث في السياق العربي، وفي مصر تحديداً. إذ تزامنت البعثات العلمية اليابانية في عهد الامبراطور ميجي (Meiji)مع البعثات العلمية في عهد الزعيم محمد علي الكبير. ولكن- وللأسف- لم تقد المحاولة العربية إلى تحقيق نتائج مشابهة للنتائج اليابانية. إذ لم يترك التنوير والتنظير الفكري الذي مارسه المفكرون العرب الأوائل الذين حصّلوا علومهم في البلاد الغربية الأثر الذي تركه المفكرون اليابانيون في بلدهم. فبعد أكثر من قرن من الزمن تُعاد الطروحات الفكرية نفسها التي بدأها المفكرون الأوائل والمتمثلة بثنائيات التراث والمعاصرة والتقليد والتحديث والأصالة والتغريب، وما شابه.
وقد يُعزى السبب في ذلك إلى عدد من العوامل تتمثل في عدم وجود ركائز بُنية تحتية للتقدم والنهوض، مثل تلك التي كانت في اليابان كالتعليم والحرفية والنظام والتكاتف، وغيرها، وفي الاستعمار الأوروبي، وفي التخلف الذي رافق فترة الحكم العثماني، وفي إنشاء دولة "اسرائيل"، وفي النفط العربي وما جلبه من أطماع.
لقد لعبت خصائص ثقافية وفكرية أخرى دوراً في تطوير البرادايم الإداري الياباني المعاصر، مثل المرونة الفكرية التي يتمتع بها اليابانيون، والتي انعكست على قدرتهم في الوصول إلى الأسواق العالمية المتنوعة خلال فترات قياسية. إذ إنهم الوحيدون الذين لديهم تعدد ديني. فهم يجمعون بين الشنتوية والبوذية. ومثل مزايا المذهب الكونفوشوسي المؤثر في عقائدهم، والذي يركز على البعد الدنيوي في الحياة، والذي أوجد أنماطاً ثقافية وسلوكية مواتية للتقدم الاقتصادي، وللتطور الإداري كالتقشف والزهد والمثابرة والتكيف الاجتماعي. ولقد عزت بعض الدراسات الإدارية ذات العلاقة، مثل دراسة هوفستد وبوند المنشورة عام (6 )1988، سبب التقدم الياباني الاقتصادي والتقني والإداري الذي تجسّد في بروز اليابان كدولة صناعية متقدمة في الستينيات، وما بعد، إلى هذه المزايا الثقافية، والتي تخص الشعوب الشرق أسيوية دون غيرها، بعد أن كانت التنبؤات الاقتصادية التي اجراها البنك الدولي عن اليابان للعقود الثلاث اللاحقة للستينيات متواضعة جداً، وغير متفائلة، وفق ما جاء في دراسة هوفستد وبوند المشار إليها.
علاوة على ما سبق، فلقد ساهم النظام الديمقراطي الذي فرضته الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على اليابان في جعل السياق الثقافي الياباني مؤهلاً لاحتضان البرادايم الإداري الياباني المعاصر.
وعليه، فإن البرادايم الإداري الياباني المعاصر ما كان ليصل إلى ما وصل إليه لو أن اليابان بقيت محافظة على خصوصيتها الثقافية.
وباختصار، فالحالة اليابانية لا تجسد نموذجاً يحتذى به في تطوير البرادايم الإداري بمعزل عن تغيير السياق، كما توصلت إليه العديد من الدراسات، بل على العكس من ذلك، فهي تمثل نموذجاً صارخاً على ضرورة توفر ركائز مجتمعية وثقافية عميقة ذات خصائص معينة ومواتية من أجل احتضان البرادايم الإداري المعاصر. كما تمثل نموذجاً صارخاً على ضرورة التحولات الثقافية العميقة في حال تخلف السياق الثقافي عن البرادايم الإداري المنشود بناؤه حتى تتحقق المواءمة بين البرادايم والسياق.
________________________________________
1- (Weber, 1930)، مرجع سبق ذكره.
64- (Hickson and Pugh, 1995)، مرجع سبق ذكره.
65- Wren, D. (1994), The Evolution of Management Thought, Fourth Edition, John Wiley & Sons, Inc. USA.
2- فهمي الفهداوي (2001)، الإدارة في الاسلام: المنهجية والتطبيق والقواعد، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، عمان - الاردن.
تجدر الإشارة إلى أن الفهداوي - وكما ذكر في كتابه- قد توفر على إعداد هذه الدراسة لمدة تزيد عن عشر سنوات. كما تجدر الإشارة إلى أن الدراسات المنهجية الشمولية الشبيهة بدراسة الفهداوي والمعدة من قبل متخصصين في العلوم الإدارية الحديثة ومُلمين بمدارسها ونماذجها ومنهاجياتها الرئيسية ولهم اهتمامات بالإدارة العربية الاسلامية التراثية تعتبر قليلة.
3- محمد مهدي شمس الدين (1995)، نظام الحكم والإدارة في الاسلام، الطبعة الرابعة، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، بيروت، الكتاب الثاني، الإدارة في الاسلام، ص 421-599.
4- تجدر الإشارة أيضاً، وبخلاف الحقول الاجتماعية والانسانية الأخرى مثل الاقتصاد والاجتماع والفلسفة والسياسة والأدب والتاريخ التي بحثت موضوع التراث العربي الاسلامي واصبح لها مدارس واتجاهات، إلى أن الدراسات الإدارية المعالجة لموضوع التراث الإداري، وبخاصة تلك التي تنظر للموضوع بمنظور معاصر، ما زالت في بداياتها.
5- رفاعي رفاعي، فلسفة الإدارة اليابانية في إدارة الموارد الإنسانية: ما الذي يمكن أن تتعلمه الإدارة العربية منها، مجلة العلوم الاجتماعية، مجلد 12، عدد 4، 1984، ص 79-112.
سعد ياسين، العرب والإدارة اليابانية: ماذا يمكن أن نتعلم من اليابان؟ مجلة المستقبل العربي، العدد 265، آذار 2001، ص 51-65.
Al- Faleh, M., The Japanese Management: Lessons For Arab Business Managers, Dirasat, University of Jordan, 1990, Vol. 17, No. 3, p 7-36.
6- - Ozaki, R. S. (1978) , The Japanese: A Cultural Portrait, Charles E. Tuttle Co. Inc., Tokyo, Japan.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|