المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17808 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
تـشكيـل اتـجاهات المـستـهلك والعوامـل المؤثـرة عليـها
2024-11-27
النـماذج النـظريـة لاتـجاهـات المـستـهلـك
2024-11-27
{اصبروا وصابروا ورابطوا }
2024-11-27
الله لا يضيع اجر عامل
2024-11-27
ذكر الله
2024-11-27
الاختبار في ذبل الأموال والأنفس
2024-11-27

تقييم جودة الخدمات- مؤشرات تقييم جودة الخدمات – الملموسية
2023-02-09
Generating Ionic Bonds
5-7-2020
استراتيجية العمليات
1-6-2016
Linda Goldway Keen
25-3-2018
الخمس وموارده
2024-10-06
ليونة الرئة Compliance
16-6-2016


بُرهَان النظم‏ : بحث في اثبات معرفة الله.  
  
5681   09:41 صباحاً   التاريخ: 11-12-2015
المؤلف : الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : نفحات القران
الجزء والصفحة : ج2 , ص 39- 44.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / العقائد في القرآن / أصول / التوحيد /

إنّ أوسع برهان اعتمد عليه القرآن الكريم في آياته وسوره في إثبات «معرفة اللَّه» هو «برهان النظم» بشكل غطى‏ هذا البرهان على كافة البراهين التي وردت في القرآن الكريم.

وهذا يدل على‏ أنّ أفضل وأوضح طريق لمعرفة اللَّه وتنزيهه من كافة ألوان الشرك من وجهة نظر هذا الكتاب السماوي العظيم هو البحث في نظام الخلقة وأسرار الوجود وآيات الآفاق والأنفس.

مميزات برهان النظم :

لهذا البرهان خصائص من أجلها اعتمد وأكد عليه القرآن الكريم إلى هذا الحد.

1- إنّ برهان النظم يقنع العلماء كما يقنع عامة الناس ، أي أنّ كل فئة تستطيع الاستفادة والانتفاع منه حسب قابليتها ، وذلك لأنَّ الناس مختلفون في إدراك أسرار الخلقة.

2- ليس في برهان النظم الجفاف الموجود في الاستدلالات الفلسفية ، بل على‏ العكس فيه لطف خاص يمنح الإنسان حبّ الاطلاع على‏ ذلك المُبدى‏ء الكبير ، ويوجد فيه نوعاً من الاندفاع والشوق نحوه ، ويخلق لديه حالة من الخضوع الممزوج بالحبّ ومعرفة اللَّه ، وبتعبير آخر فهو يروي عقل الإنسان كما يروي عواطفه وأخلاقه.

وأخيراً فإنّ برهان النظم وبسبب دراسته لأنواع النعم الإلهيّة ضمن دراسة نظم هذا العالم فهو يؤكد على مسألة شكر المنعم ، وهذا بحدّ ذاته حافز آخر من حوافز التوحيد.

3- إنّ برهان النظم برهان في حال تطور (متجدد) ، وبتعبير آخر هو برهان لا متناه ، المقدّمة الكبرى‏ وإن كانت ثابتة ، لكن صغراها تمثل أعصانا متفرعة ومورقة وذات برأعم نامية لهذا البرهان ، لأنّ أي اكتشاف من الاكتشافات العلمية حول أسرار الخلقة إنما يشكل مصداقاً وصغرى‏ جديدة لهذا البرهان ، فهو لهذا جديد دائماً ، وفي كل يوم يأخذ شكلًا آخراً ، وهو متطور ومتقدم إلى‏ جانب تطور العلم والمعارف البشرية.

4- إنّ برهان النظم يدعو الإنسان إلى سلوك الآفاق والأنفس ، وهذا السلوك المملوء بالبركة يزيد من مستوى‏ معرفة الإنسان في كل يوم ويجعل تفكيره مزدهراً ، خاصة وأنّ أسس برهان النظم مختلطة بحياة الإنسان وهو يواجهها في كل خطوة من خطواته ، وليس كالبعض الآخر من البراهين التوحيدية التي تقع على هامش قضايا الحياة وخارجها.

5- برهان النظم هو البرهان الوحيد الذي يستطيع إخضاع الفلاسفة التجريبيين الذين ينكرون الاستدلالات العقلية المحضة ، ويستخدم حربة العلم التي يستخدمونها في إثبات‏ «المادية» ضدهم ، وهو بهذا اللحاظ ذو فاعلية عالية.

ولهذا ليس من العجيب أن يضع القران الكريم الغالبية العظمى‏ من مباحثه التوحيدية على‏ أساسه ، لكن من العجيب أنّ بعض المحققين المتأثرين بشدة ببراهين أخرى‏ (البراهين الفلسفية المحضة) يتجاهلون الأهميّة القصوى‏ لهذا البرهان وكأنّهم لا علم لهم بمميزاته وآثاره العميقة.

أسس برهان النظم :

يرتكز هذا البرهان في شكله الأول على‏ ركيزتين أساسيتين ، بحسب ما هو مصطلح يشكل صغرى‏ وكبرى‏.

1- هنالك نظام دقيق ومحسوب يحكم عالم الوجود.

2- أينما وجدنا نظاماً دقيقاً ومحسوباً فمن غير الممكن أن يكون وليد الحوادث التصادفية ، بل لابدّ أن يصدر عن علم وقدرة عظيمين.

والنتيجة هي أنّ هناك مبدأ علم وقدرة عظيم وراء نظام عالم الخلقة (سواء أطلقنا عليه اسم اللَّه أو وضعنا له إسما آخر) لأنّ التسمية لا تؤثر في مثل هذه البحوث.

العلاقة بين النظام والعلم :

قبل كل شي‏ء يجب إثبات المقدمة الثانية المسماة بكبرى‏ القياس ، ومن أجل هذا لابدّ من تعريف مختصر ل «النظام».

يمكن القول : أن أي منظمة أو موجود يعمل وفق برنامج معين ويعطي نتائج معينة ، هو موجود منظم ، وعلى‏ هذا الأساس فإنّ‏ «الحساب» و«البرنامج» و«الهدف» تشكل العناصر الأصلية الثلاثة للنظام ، فمثلًا الساعة نموذج ل «الموجود المنظم» ، ذلك أنّ أجزاءها مصنوعة وفق حساب دقيق ، ثم هنالك برنامج لتركيبها ، والهدف منها هو التشخيص الدقيق للوقت.

ولأجل التوصل إلى‏ هذه العلاقة (علاقة النظام والعلم) يمكن الاستعانة بعدّة أدلة :

1- الوجدان : مع أننا لم نر أبداً الكثير من العلماء الكبار والمخترعين والفنانين المهرة ، ولم يبق منهم سوى‏ الآثار ، إلّا أنّنا حين ننظر إلى‏ تلك الآثار والكتب والصناعات واللوحات النفيسة والأبنية البديعة ، نعترف بدون الحاجة إلى دليل بعقلهم وذوقهم وعلمهم ومهارتهم الصناعية والفنية.

2- من أجل إثبات هذه العلاقة يمكن- بالإضافة إلى الوجدان- الاستعانة بالدليل المنطقي ، فمن أجل أحداث بناية منظمة واظهارها إلى‏ الوجود يجب أن يكون هناك اختيار في سبع مراحل على‏ الأقل.

فلو تصورنا بناية عظيمة وجميلة ومحكمة ، وجب أن نمارس عملية الاختيار والانتخاب بشكل محسوب على‏ عدة أصعدة «اولها» نوعية المواد المستخدمة ، و«ثانيها» مقدار وكميَّة المواد ، و«ثالثها» جودة المواد ، و«رابعها» الأشكال والأحجام المختلفة ، و«خامسها» إيجاد الانسجام بين الأجزاء ، و«سادسها» إيجاد التناسب بينها ، و«سابعها»

من حيث وضع كل من الأجزاء في مكانه المناسب.

وهذه الاختيارات السبعة يجب أن تتمّ كل واحدة منها وفقاً للعلم والاطلاع والحساب ، وأحياناً الحسابات الدقيقة جدّاً ، ومن هنا عندما نرى‏ مثل هذه البناية نتيقن أن صانعها بلا شك كان يملك العلم والمعرفة والاطلاع الواسع.

3- يمكن إثبات هذه العلاقة (علاقة النظام والعلم) عن طريق آخر (عن طريق البرهان الرياضي).

إنّ‏ «حساب الاحتمالات» الذي اصبح اليوم فرعاً علمياً مستقلًا في الجامعات ذو فاعلية جيدة جدّاً في مجال العلاقة بين النظام والعلم ، وهو نفس الشي‏ء الذي ندركه بصورة إجمالية في حياتنا ، لكن حساب الاحتمالات يعكسه في شكلٍ رياضي واضح.

إنّنا لا نصدق أبداً أنّ إنساناً امياً يستطيع عن طريق الصدفة أن يؤلف كتاباً في مجال «الفلسفة» مثلًا أو «الآداب والشعر» أو «الطب» ، بمعنى‏ أن نعطيه آلة طابعة فيبدأ بدون أن يعرف الحروف بالضغط على‏ أزرار الآلة ليطبع كتاباً.

وليس من المستحيل كتابة كتاب علمي عن طريق الصدفة فحسب ، بل لا يمكن كتابة حتى‏ رسالة قصيرة أيضاً.

لأنّه لو افترضنا أن حروف الآلة الطابعة ثلاثون حرفاً فقط ، (وهي بالطبع أكثر بكثير ، لأنّ لبعض الحروف صور متعددة ، فمثلًا حرف الباء الأولية والباء الوسطية والباء النهائية والباء المفردة تشكل أربع صور مختلفة لحرف الباء) يقول حساب الإحتمالات هنا : إنّ الظهور التصادفي لكلمة «من» المكونة من حرفين هو احتمال واحد من تسعمائة احتمال.

(30/ 1* 30/ 1/ 900/ 1).

واحتمال ظهور كلمة مكونة من ثلاثة أحرف هو احتمال واحد من 27 ألف احتمال ، وحين نصل إلى‏ كلمة مكونة من خمسة أحرف سوف نجتاز حدود 21 مليون!!.

والآن إذا كانت الحروف الموجودة في رسالة قصيرة هي مائة حرف فإنّ مجموعة احتمالات هذه الأحرف هي العدد 30 مرفوعاً إلى‏ الأُس 100 بحيث أن رسالتنا المعينة

تشكل احتمالًا واحداً من هذا العدد الهائل من الاحتمالات ، أي عدداً كسرياً بسطه واحد ومقامه العدد 3 إلى‏ يمينه مائة صفر.

إنّ مقام هذا الكسر من الضخامة بحيث لا يمكن حسابه ، ولا شي‏ء في هذا العالم يصل إلى‏ ضخامة هذا العدد.

ولأجل إيضاح هذه الحقيقة يكفي أن نعلم أننا لو قطرنا جميع المحيطات على‏ الكرة الأرضية قطرة قطرة وحسبنا عددها لكان عددها أقل من عدد على يمينه واحد وعشرون صفراً فقط.

وعلى‏ هذا الحساب لو حسبنا كتاباً مكوناً من ألف صفحة فإنّ عدد الاحتمالات سيتضخم إلى‏ درجة أنّ الاحتمال التصادفي لعدده الكسري‏ (البسط) يتساوى‏ مع الصفر أي أنّه مستحيل.

وبهذا الدليل ، إذا ادّعى‏ شخص مثلًا : أنّ‏ «ابن سينا» مؤلف كتاب‏ «القانون» في الطب كان أمياً تماماً ، وأنّ‏ «المتنبّي» لم يكن له ذوق شعري مطلقاً ، وأن‏ «أنشتاين» لم يكن يفقه شيئاً من الرياضيات وأنّ بنّائي الأبنية التاريخية الشهيرة لم يكن لهم أدنى‏ اطلاع في فن العمارة ، وأنّ جميع الآثار التي تركوها ظهرت بمحض الصدفة والحركات غير المقصودة لأيديهم على‏ الأوراق أو على‏ المواد الإنشائية! فلا شك أنّ من يقول مثل هذا الكلام إن لم يكن يمزح فهو مجنون!.

وخلاصة القول أنّ علاقة النظام بالعلم واضحة إلى درجة أنّ الكثير من العلوم والمعارف البشرية قائمة على النظام ، فمثلًا جزء مهم من تاريخ الحضارة البشرية كتب من خلال مطالعة ودراسة الآثار الجذابة للسلف التي خلفوها بعد رحيلهم.

والعلماء- بمطالعة الآثار التي يعثرون عليها بواسطة الحفريات أو التي يكتشفونها في قبور ومعابد الأقوام الغابرة- يتوصلون إلى مستوى‏ ثقافتهم وحضارتهم ونوعية عقائدهم.

في حين إذا أنكرنا علاقة النظام والعلم إنهارت كل هذه الاستنباطات.

الآن وقد اتّضحت تماماً العلاقة بين النظام والعلم ، وبعبارةٍ ثبتت كبرى‏ البرهان ، نتطرّق‏

إلى‏ مصاديقها في عالم الوجود التي اعتمد عليها القرآن الكريم.

واللطيف أنّ آيات القرآن لا تتحدث مطلقاً عن كبرى‏ برهان النظام ، أي «علاقة النظام والعلم» ، لأنّها كانت واضحة ووجدانية إلى‏ حد أنّه لم تكن ثمة حاجة لبيانها ، وكما قلنا فإنّ الإنسان إذا أنكر هذه العلاقة يجب عليه إنكار الكثير من الحقائق الموجودة في حياته ، وما من شك في أن منكري هذه العلاقة يشبهون ب «السفسطائيين» الذين ينكرون الحقائق أثناء حديثهم ، ولكنهم في حياتهم اليومية يقبلون جميع الحقائق مثل الآخرين ، فمثلًا لو تمرضوا يراجعون الطبيب ويستعملون الدواء وينفذون إرشادات الطبيب حرفاً بحرف ، أي أنّهم يعترفون رسمياً بوجود «الطبيب» و«الدواء» و«علم الطب» و«الصيدلة» ومئات الأمور الأخرى الدائرة في هذا الفلك.

إنّ منكري «علاقة النظام والعلم» أيضاً بدورهم يستنتجون علمياً وعملياً من أي أثر علمي وصناعي وأدبي وفني ، وجود مُبدى‏ء واع وذي ذوق وفن ، ولا يعتمدون أبداً على‏ الاحتمالات المجنونة.

الآن وقد اتّضحت علاقة النظام والعلم تماماً ، وثبتت كبرى‏ البرهان حسب الاصطلاح المنطقي ، نعرج على‏ مصاديقها في القرآن الكريم والتي اعتمد عليها.

ونعتقد أن من الضروري ذكر هذه النقطة وهي : أنّ الفلاسفة الماديين الذين حاربوا برهان النظم (انكار وجود النظام في العالم أو إنكار علاقة النظام والعلم) وعلى‏ رأسهم‏ «دافيد هيوم» لم يتحفونا بسوى‏ مجموعة من الوساوس التي لا قيمة لها ، الوساوس التي لم يكونوا يقبلونها في حياتهم أبداً.

- آياته في خلق الإنسان‏

في البداية نمعن خاشعين في الآيات الكريمة أدناه :

1- {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} (الروم/ 20).

2- {إِنَّا خَلَقْنَا الْإنْسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ أمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (الإنسان/ 2) .

3- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِّنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ}

(المؤمنون/ 12 و13).

4- {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* الَّذِى أَحَسَنَ كُلَّ شَىْ‏ءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ مَّاءٍ مَّهِينٍ* ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُّوْحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} (السجدة/ 6- 9).

5- {وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} «1» (الجاثية/ 4).

شرح المفردات :

«بَشَرْ» : من أصل‏ (بَشَرَة) بمعنى‏ ظاهر جلد الإنسان ، ولكن يستفاد من‏ «مقاييس اللغة» أنّ أصلها هو ظهور شي‏ءٍ ذي حسن وجمال ، لذا فإنّ حالة «البُشر» (على‏ وزن اليُسر) بمعنى‏ الفرح والانبساط ، وانطلاقاً من أنّ هذه الحالة خاصة بالإنسان ، كانت مفردة «البشر»

اسماً للنوع الإنساني‏ «2» ، وهذه المفردة تطلق على‏ الرجل والمرأة والمفرد والمثنى‏ والجمع‏ «3».

«سُلالة» : (على‏ وزن عُصارة) بمعنى‏ الشي‏ء المأخوذ من شي‏ء آخر ، فيكون خلاصته وعصارته ، وهي في الأصل من‏ (سَلَّ) على‏ وزن‏ (حَلَّ) بمعنى‏ سحب وجرَّ برفق وتستخدم لسحب السيف من القراب أيضاً ثم اطلقت على‏ عصارة وخلاصة الأشياء «4» ، وحينما نقرأ في الآيات المذكورة أنّ اللَّه خلق الإنسان من سلالة من طين ، فمعنى‏ ذلك من العصارة المصطفاة من الطين ، وقال البعض : إنّ المراد من هذا هو أنّ آدم مخلوق من عصارة كل الأتربة الموجودة على‏ الأرض (ولهذا فقد استخلص آثار الجميع في وجوده) وإطلاق‏ «السليل» على‏ «الابن» من باب أنّه ناتج من عصارة وجود الأب والأم.

«النطفة» : في الأصل بمعنى‏ «الماء الصافي» ، واعتبرها بعض أهل اللغة بمعنى‏ «الماء القليل» ، وبما أنّ الماء الذي يمثل المبدأ في ظهور الإنسان قليل ومصطفىً وعصارة من كل الجسم فقد أُطلقت هذه المفردة عليه ، ويقال للسوائل الجارية «ناطف» أيضاً.

«أمشاج» : جمع‏ «مَشْج» (على‏ وزن نشج) بمعنى‏ الشي‏ء المخلوط ، والبعض اعتبرها جمعاً ل «مشيج» ، ولأنّ ماء الرجل والمرأة يختلطان عند انعقاد نطفة الإنسان فقد أطلقت هذه المفردة عليه.

جاء في‏ «لسان العرب» أنّ هذه المادة في الأصل بمعنى‏ اللونين المختلفين الذين يمتزجان مع بعضهما (ثم أطلقت على‏ الأشياء المختلفة التي تختلط مع بعضها).

خلق الإنسان من (نطفة أمشاج) ، يمكن أن تكون إشارة إلى‏ المواد المختلفة التي تشكل النطفة ، أو القابليات المتنوعة التي تجتمع في النطفة عن طريق عامل الوراثة وغيره من العوامل ، أو أنّه إشارة إلى‏ كل هذه الامتزاجات.

جمع الآيات وتفسيرها

آيات الأنفس الأولى‏ :

للقرآن الكريم عبارات متنوعة حول بداية ظهور الإنسان ، يقول في أول آية بهذا الخصوص :

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَاب».

ويقول في الآية الرابعة : {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِيْنٍ}.

ويقول في الآية الثالثة : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ}.

ويقول في الآية 11 من سورة الصافات : {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّنْ طِيْنٍ لَّازِبٍ}.

ويقول في الآية 26 من سورة الحجر : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مِّسْنُونٍ}.

وجاء في الآية 14 من سورة الرحمن : {خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}.

{الصَلْصَال} : في الأصل بمعنى‏ لوي الصوت في الجسم اليابس ، ولهذا سمّى الطين اليابس الذي يصدر منه صوت عند ارتطام جسم آخر به بالصلصال ، وحين يُفخر على‏ النار يقال له {الفخار}.

«الفخار» : مأخوذ من مادة «فخر» أي الفخور كثيراً ، ولأنّ الأشخاص الفخورين أناس كثيرو الضجيج والكلام وفارغون ، فقد أُطلق هذا الاسم على‏ الكوز وكل فخار فارغ الجوف ، بل أطلق على‏ كل أنواع الفخار «5».

يستفاد من مجموع الآيات أعلاه أنّ الإنسان كان تراباً في البداية ، وقد امتزج هذا التراب بالماء واستحال إلى‏ الطين ، وقد أخذ هذا الطين بعد مضي فترة شكلَ الوحل ثم استخلصت من عصارته المادة الأصلية لآدم ثم جُفِّفَتْ ، وباجتيازها المراحل المهمّة تكوّن آدم.

لكن في آيات اخرى‏ من القرآن كالآية الثانية المعنية ، يعتبر خلقة الإنسان من نطفة مختلطة : {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}.

وفي الآية الثالثة يعتبرها اولًا من «عصارة الطين» ، ثم من «نطفة في الرحم» : {مِنْ سُلالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرارٍ مَكِيْنٍ}.

واضح أنّ المراد من هذه الآيات هو خلقة الإنسان في المراحل والأجيال اللاحقة ، وبهذا فإنّ جدنا الأول مخلوق من التراب ، وأولاده وعقبه من نطفة أمشاج.

ثمّة احتمال في تفسير الآية أعلاه هو : بما أنّ المواد المكوِّنة للنطفة مأخوذة جميعها من التراب (لأنّ غذاءنا إمّا من المواد الحيوانية أو النباتية ونعلم أن جميع هذه المواد نحصل عليها من التراب) ، لهذا فلم يكن الإنسان الأول من التراب فحسب ، بل إنّ جميع الناس في المراحل اللاحقة ينشأون من التراب أيضاً «6».

وعلى‏ كل حال ، فهذه حقّاً من العجائب الكبيرة في عالم الوجود وغرائب عالم الخلقة أن يولد- من مادة ميتة وبلا روح ولا قيمة لها كالتراب- موجود حي وعاقل وذو قدر وقيمة كالإنسان ، فهذه من الآيات البينات لذلك المُبدى‏ء الكبير ، و«إنّ ذلك الخالق لجدير بالشكر والثناء لأنّه خلق من الماء والطين مثل هذا الشكل الجذاب».

وبشكل عام فإن ظهور الحياة من موجود ميت مايزال من ألغاز عالَم الفكر والمعرفة ، فضمن أيّ شروط وظروف يخرج موجود حي من موجود ميت كالتراب؟ يعتقد كل العلماء أنّ الكرة الأرضية حين انفصلت عن الشمس كانت كلها ناراً محترقة ، ولم تكن عليها حياة مطلقاً ، ثم بردت قليلًا قليلًا وهطلت عليها سيول الأمطار من الغازات المضغوطة الموجودة حولها ، فتكونت البحار ، بدون أن يكون فيها كائن حي ، ثم ظهرت بوادر الحياة سواء النباتية أو الحيوانية وأخيراً خُلقَ الانسان!

إنّنا سواء اعتقدنا بالخلق المستقل للإنسان (كما هو ظاهر الآيات القرآنية) ، أو اعتبرنا الإنسان متكاملًا من أنواع الأحياء الأخرى‏ (كما يقول أتباع داروين ، ونظرية التكامل) ، فمهما كان فإن جذور هذا الإنسان تعود إلى‏ التراب ، فهو منبثق ومخلوق منه ، وإذا كان ظهور كائن حي أُحادي الخلية ومجهري من التراب ، محيّراً لأفكار كل العلماء ، فكيف بظهور الإنسان من التراب الميت الخالي من الروح؟

هنا يجب الاعتراف أننا بأزاء آية كبيرة من آيات الحق وعلامة محيّرة من عظمة اللَّه ، آية من العالم الصغير هي نموذج متكامل للعالم الكبير.

يقول كاتب‏ «سر خلق الإنسان» «غرسي موريسن» في معرض إشارته إلى بداية ظهور الحياة على‏ الكرة الأرضية :

«وقعت حادثة عجيبة في بداية ظهور الحياة على‏ الكرة الأرضية كان لها أثر كبير على‏ حياة الموجودات الأرضية ، حيث أصبح لأحدى‏ الخلايا خاصية عجيبة وهي أنّها وبواسطة ضوء الشمس بدأت تحلِّل وتجزِّء بعض التراكيب الكيميائية وتوفر بهذا العمل المواد الغذائية لنفسها ولسائر الخلايا المشابهة ، وقد تغذت الخلايا المنشطرة من احدى‏ هذه الخلايا البدائية على‏ الأغذية التي وفرتها لهم أمهم وأوجدت جيل الحيوانات ، في حين أنّ خلية أخرى‏ بقيت على‏ شكلها النباتي وكونت نباتات العالم ، وهي اليوم تغذي كل الأحياء الأرضية.

ثم يضيف : هل يمكن التصديق أنّه وحسب الصدفة كانت إحدى‏ الخلايا منشأً لحياة الحيوانات وخلية أخرى‏ كانت أصلًا ومصدراً للنباتات؟».

ووفق قول آخرين :

إنّ العلماء يقسمون موجودات عالم المادة إلى‏ نوعين ، العضوية (وهي الموجودات القابلة للفساد كأنواع النباتات وأجسام الحيوانات) ، والموجودات اللاعضوية (المعدنية) التي لا تقبل الفساد ، ولهذا يقسمون الكيمياء إلى‏ قسمين‏ «الكيمياء العضوية» و«اللاعضوية».

تشكل المواد العضوية جميع أطعمة الإنسان تقريباً ، وهي مأخوذة كلها من التراب ، وحين تدخل جسم الإنسان تكوّن تراكيب كيميائية جديدة تناسب تغذية كل عضو من الأعضاء ، وهذه نفس الحقيقة التي يبينها القرآن بعبارة : {إنّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُراب} أو {مِنْ سُلالةٍ مِّنْ طِين} «7».

صحيح أنّ للإنسان علاوة على‏ المادة الترابية روحاً إلهية ، ولكن لا شك أنّ الروح تكون مظهراً للأعمال والأفعال المختلفة بالتنسيق مع الجسم وعليه فإنّ هذه المادة الترابية تستطيع بالتنسيق مع الروح أن تقدم أنواع القابليات والأذواق والابتكارات والأعمال التي يحار فيها العقل.

مع أنَّ الإنسان صار موضوعاً لعلوم مختلفة ، وهنالك عالِم خاص حول كل جانب من جوانبه يمارس دراساته وأبحاثه ، إلّا أنّ الإنسان ما يزال موجوداً مجهولًا ، ويلزم من الوقت سنين طويلة لكي يحل العلماء بجهودهم المتواصلة هذا اللغز الكبير في عالم الوجود وينيروا زواياه ، وربّما لم يستطيعوا أبداً أن يقوموا بذلك!

يمكن لكل عضو من أعضاء جسم الإنسان أن يكون لوحده موضوعاً لحساب الاحتمالات : العين ، الاذن ، القلب ، العروق ، الجهاز التنفسي ، الكلى‏ ، المعدة ، الكبد ، وأخيراً الجهاز العصبي المعقّد ، وبعملية رياضية بسيطة يتضح أن أي عقل لا يوافق على‏ أنّها خُلقت صدفة.

نعم ، إنّه من أجل التوصل إلى‏ بنية ونوع فعالية وفسلجة كل واحد من الأعضاء فقد درس آلاف العلماء والعقول المفكرة وكتبت مئات أو آلاف الكتب حولها.

هل يصدق أحد أنّه من أجل معرفة كل واحد من هذه الأعضاء تلزم كل هذه العلوم والعقول والذكاء والدراية ، بينما لا يلزم صنعها علماً وعقلًا على‏ الاطلاق؟! كيف يمكن أن يكون فهم اسلوب عمل إحدى‏ المعامل متطلباً لسنين من المطالعة ، بينما تكون صناعة هذا المعمل قد حصلت على‏ يد العوامل غير العاقلة؟ أي عقل يصدق هذا؟!

هنا لا يعتبر ظهور الإنسان من المادة البسيطة (التراب) ومن سلالة من طين ومن الحمأ

المسنون إحدى‏ أعمال الخلق العظيمة والآيات الكبيرة على‏ وجود اللَّه فحسب ، بل إنّ كل واحدة من خلايا الجسم بإمكانها أن تكون مرآة عاكسة لعظمة اللَّه ووجوده.

______________________________
(1) هنالك في هذا المجال آيات متعددة أخرى‏ أيضاً ، صرفنا النظر عن ذكرها لتقارب مضمونها مع ما ذكرناه من الآيات ، من جملتها آيات سورة النجم ، 45- 46؛ غافر ، 67؛ فاطر ، 11؛ الكهف ، 37- 38؛ النحل ، 4؛ الانعام ، 2.

(2) مقاييس اللغة ، لسان العرب والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

(3) لسان العرب ، ومجمع البحرين.

(4) مفردات الراغب ، مجمع البحرين ، ولسان العرب.

(5) مفردات الراغب؛ ومجمع البحرين؛ ولسان العرب.

(6) ورد في تفسير الميزان ، ج 16 ، ص 173 إشارة مقتضبة لهذا المعنى‏.

(7) مقتبس من إعجاز القرآن من وجهة نظر العلوم المعاصرة ، ص 23 و24.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .