أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-05-2015
4157
التاريخ: 2023-04-01
1298
التاريخ: 21-05-2015
20426
التاريخ: 2023-03-31
1535
|
( 1 ) موت المأمون وخلافة المعتصم
ذهب المأمون إلى الشام سنة 218 ، لقتال الروم ، ومات هناك على نهر البدندون الذي يعرف بنهر البردان ، على نحو مئة كيلومتر من طرسوس في الساحل السوري ، وعاش تسعاً وأربعين سنة ، وحكم أكثر من عشرين سنة .
روى الطبري ( 7 / 207 ) عن سعيد العلاف القارئ : ( فجئت فوجدته جالساً على شاطئ البدندون ، وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه ، فأمرني فجلست نحوه منه فإذا هو وأبو إسحاق مدليان أرجلهما في ماء البدندون ، فقال : يا سعيد دلِّ رجليك في هذا الماء وذقه ، فما رأيت ماء قط أشد برداً ولا أعذب ولا أصفى صفاء منه . ففعلت وقلت : يا أمير المؤمنين ما رأيت مثل هذا قط . قال : أي شئ يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه ؟ فقلت : أمير المؤمنين أعلم . فقال : رطب الآزاذ ( من رطب البصرة - البلدان / 203 ) فبينا هو يقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد ، فالتفت فنظر فإذا بغال من بغال البريد على أعجازها حقائب فيها الألطاف ، فقال لخادم له : إذهب فانظر هل في هذه الألطاف رطب ، فانظر فإن كان آزاذ فأت به ، فجاء يسعى بسلتين فيهما رطب آزاذ كأنما جُنِيَ من النخل تلك الساعة فأظهر شكراً لله تعالى وكثر تعجبي منه ، فقال : أدن فكل ، فأكل هو وأبو إسحاق وأكلت معهما وشربنا جميعاً من ذلك الماء ، فما قام منا أحد إلا وهو محموم ، فكانت منية المأمون من تلك العلة ، ولم يزل المعتصم عليلاً حتى دخل العراق ) .
أقول : يظهر أن ذلك الرطب كان مسموماً ، فقد كتب الله عز وجل أن تكون منية المأمون بنفس الرطب المسموم الذي قتل به الإمام الرضا ( عليه السلام ) .
قال الدينوري في الأخبار الطوال / 401 : ( وقد كان بايع لابنه العباس بن المأمون بولاية العهد من بعده . وخلفه بالعراق . فلما مات هو على نهر البذندون ، جمع أخوه أبو إسحاق محمد بن هارون المعتصم بالله إليه وجوه القواد والأجناد ، فدعاهم إلى بيعته فبايعوه . فسار من طرسوس حتى وافى مدينة السلام فدخلها وخلع العباس بن المأمون عنها وغلبه عليها ، وبايعه الناس بها . وكان قدومه بغداد مستهل شهر رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين ) .
وكان المعتصم أقوى شخصية وأشجع من العباس بن المأمون ، وذكر الطبري ( 7 / 223 ) أن الناس خافوا من خلاف العباس والمعتصم ، فقبل العباس بخلع نفسه .
وفي أول خلافته أحضر المعتصم الإمام الجواد ( عليه السلام ) إلى بغداد ، وقد تكون زوجته عادت قبله . واستطاع الإمام ( عليه السلام ) أن يتخلص في هذه المرة ، ورجع إلى مدينة جده ( صلى الله عليه وآله ) .
ثم استدعاه المعتصم ثانية ، وحاول قتله مرات ، حتى دبر قتله بالسم على يد زوجته أم الفضل وأخيها جعفر .
فالمدة التي قضاها الإمام ( عليه السلام ) في بغداد كانت فترات قصيرة ، أولها عندما أحضره المأمون بعد مجيئه إلى بغداد سنة 204 ، وكان ( عليه السلام ) في التاسعة من عمره ، وعقد على ابنة المأمون . ويظهر أن قصة الباز الأشهب كانت في هذه السفرة .
وقد يكون الإمام ( عليه السلام ) جاء بعدها إلى بغداد وتخلص من المأمون وعاد إلى المدينة . لكن المؤكد كما ذكروا أنه جاء إليها سنة 215 ، أيام سفر المأمون لغزو الروم ، فبنى بزوجته حسب رواية الطبري بعد إحدى عشرة سنة من عقد زواجهما ، وبقي في بغداد مدةً ، ثم جاء بزوجته إلى الحج ، وسكن في المدينة .
ثم جاء لاستقبال المأمون من سفرته سنة 216 .
ثم كانت خلافة المعتصم ، فأحضره إلى بغداد مرتين ، وتخلص منه في السفرة الأولى ، ثم ارتكب المعتصم جريمة قتله بالسم في السفرة الثانية !
( 2 ) عُرف المعتصم في تاريخنا بالغيرة والجهاد
1 . ( اسمه محمد بن هارون الرشيد . . وأمه أم ولد من مولدات الكوفة تسمى ماردة ، لم تدرك خلافته ، وكانت أحظى النساء عند الرشيد . وكان أبيض أصهب اللحية طويلها ، مربوعاً مشرب اللون ، حسن العينين ) . ( المنتظم : 11 / 25 ) .
وذكروا في صفته أنه كان قوي البدن يميل إلى الفروسية والطرب والشراب ، ولا يهتم بالعلم والأمور الفكرية كالمأمون ، ولا بتشييد المباني كغيره من خلفاء بني العباس .
( كان مع المعتصم غلامٌ يتعلم معه في الكُتَّاب فمات الغلام ، فقال له الرشيد : يا محمد ، مات غلامك . قال : نعم يا سيدي ، واستراح من الكُتَّاب ! قال الرشيد :
وإن الكُتَّاب ليبلغ منك هذا المبلغ ؟ دعوه إلى حيث انتهى لا تعلموه شيئاً ، وكان يكتب كتاباً ضعيفاً ، ويقرأ قراءة ضعيفة ) . ( تاريخ بغداد : 4 / 112 ، والمنتظم : 11 / 27 ) .
وقد بدأ حكم المعتصم في آخر سنة 218 ، واستمر ثمان سنوات إلى سنة 227 . وأحضر الإمام الجواد ( عليه السلام ) إلى بغداد مرتين ، وقتله بالسم سنة 220 ، واتهمه في المرة الأولى بأنه يدبر للثورة عليه ، فلم يثبت عليه ذلك ، ثم عمل على إسقاطه في نفوس فعجز ، ثم قام بسُمِّهِ على يد بنت أخيه أم الفضل . ولعله بقي في بغداد بعد سفرته الثانية سنة أو أكثر ، في الإقامة الجبرية في قصور الخلافة ، ليفصلوه عن جمهور شيعته .
2 . روى المؤرخون أن الروم هاجموا مدينة صغيرة للمسلمين على حدودهم اسمها زبطرة ، وهي في تركيا من جهة سوريا .
فوصل الخبر إلى المعتصم وكان يشرب الخمر ، فوضع الكأس من يده وأمر بالنفير لرد عدوانهم . ودخل بجيشه من جهة سوريا وكان ثمانين ألفاً ، وهاجم عمورية وهي مدينة قريبة من زبطرة ، وانتصر عليهم ، ونهبها وأحرقها ، وأحرق عدداً من حصونهم ومنشآتهم ، ورجع بجيشه إلى ساحل الشام .
وبعد أن مشى من عمورية يوماً اكتشف أن ابن أخيه العباس بن المأمون ، دبَّرَ مع بعض القادة قتل المعتصم وأخذ البيعة لنفسه ، لأنه كان ولي عهد أبيه !
فقبض عليه المعتصم وعلى القادة الذين شجعوه ، وأمر الجيش بلعن ابن أخيه فلعنوه ، ووزع عليهم ما كان يحمل من مال ، وعاد إلى سامراء .
كانت هذه الغزوة للروم مثل غيرها من الغزوات الكثيرة ، لكن الرواة المسلمين خلدوها ، لأنه وقع فيها حادثة أو اخترعت لها ! وهي أن الروم عندما هاجموا زبطرة أخذوا من المسلمين أسرى ، وكانوا يضربون إحدى الأسيرات وكانت علوية من ذرية فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) فصاحت : وا محمداه وامعتصماه ، فبلغت استغاثتها به ، فأخذته الغيرة والحمية ، وترك كأس خمره ونهض ، وقاد جيشه وثأر للمسلمة الأسيرة ، فصار نموذجاً للغيرة والحمية وهما قيم إسلامية مهمة .
3 . بقطع النظر عن صحة استغاثة المرأة المسلمة وعدم صحتها ، لا يملك الإنسان إلا أن يُمَجِّد قيمة الغيرة الإسلامية ، ويسجل الشكر للمعتصم على هذه الوثبة ، مهما كان رأيه بسلوكه وشخصيته .
وقد تحدث أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) عن هذه الغيرة ، وذم جيشه لعدم استجابته لاستغاثة المسلمات والمسيحيات من سكان الأنبار ، فقال كما في الإرشاد ( 1 / 282 ) :
( يا أهل الكوفة ، قد أتاني الصريخ يخبرني أن أخا غامد ، قد نزل الأنبار على أهلها ليلاً في أربعة آلاف ، فأغار عليهم كما يغار على الروم والخزر ، فقتل بها عاملي ابن حسان ، وقتل معه رجالاً صالحين ذوي فضل وعبادة ونجدة ، بوأ الله لهم جنات النعيم وأباحها . ولقد بلغني أن العصبة من أهل الشام كانوا يدخلون على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة ، فيهتكون سترها ، ويأخذون القناع من رأسها ، والخرص من أذنها ، والأوضاح من يديها ورجليها وعضديها ، والخلخال والمئزر من سوقها ، فما تمتنع إلا بالاسترجاع والنداء : يا للمسلمين ، فلا يغيثها مغيث ، ولا ينصرها ناصر ! فلو أن مؤمناً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً ، بل كان عندي باراً محسناً ! واعجباً كل العجب ، من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم ، وفشلكم عن حقكم ! قد صرتم غرضاً يرمى ولا ترمُون ، وتُغزون ولا تَغزون ، ويُعصى الله وتَرضون ! تربت أيديكم ، يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها ، كلما اجتمعت من جانب تفرقت من جانب ) .
4 . سجل الشعراء منقبة المعتصم هذه ، وكان أولهم أبو تمام الطائي فقال كما في أعيان الشيعة ( 4 / 454 ) ( قصيدة يمدحه ويذكر كذب المنجمين وفتح عمورية ، وهي نحو من سبعين بيتاً ويقال إنه أجازه على كل بيت منها بألف درهم ) . وهذه أبياتٌ منها :
السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتب * في حَدِّهِ الحدُّ بين الِجدِّ واللعب
بيضُ الصفائح لا سودُ الصحائف في * متونهنَّ جلاءُ الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة * بين الخميسين لا في السبعة الشهب
أين الرواية بل أين النجوم وما * صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقة * ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
عجائباً زعموا الأيام مجفلة * عنهن في صفر الأصفار أو رجب
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة * إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
فتحُ الفتوح تعالى أن يحيط به * نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخطب
يا يوم وقعة عَمُّوريَّةَ انصرفت * عنك المنى حُفَّلاً معسولةَ الحَلَب
أبقيت جِدَّ بني الإسلام في صَعَدٍ * والمشركين ودار الشرك في صَبَبِ
لقد تركتَ أمير المؤمنين بها * للنار يوماً وكيل الصخر والخشب
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت * والشمس واجبةٌ من ذا ولم تجب
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى * يشله وسطها صبح من اللهب
تدبيُر معتصمٍ بالله منتقم * لله مرتقب في الله مرتهب
رمى بك الله برجيها فهدمها * ولو رمى بك غير الله لم يصب
لبَّيْتَ صوتاً زبطرياً هرقت له * كأس الكرى ورضاب الخُرَّدِ العُرُب
أجبته معلناً بالسيف منصلتاً * ولو أجبت بغير السيف لم تُجب
لما رأى الحرب رأى العين توفلسٍ * والحرب مشتقة المعنى من الحرب
غدا يصرف بالأموال خزيتها * فعزه البحر ذو التيار والعبب
هيهات زعزعت الأرض الوقور به * عن غزو محتسب لا غزو مكتسب
إن الأسود أسود الغاب همتها * يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت * جلودهم قبل نضج التين والعنب
كم أحرزت قُضُبُ الهندي مصلتة * تهتز من قضب تهتز في كثب
إن كان بين صروف الدهر من رحم * موصولة أو ذمام غير منقضب
فبين أيامك اللاتي نُصرت بها * وبين أيام بدر أقرب النسب
أبقت بني الأصفر المصفرِّ إستُهُمُ * صُفْرَ الوجوه وجلت أوجهُ العرب
وأشهر من مَجَّدَ نَخْوَةَ المعتصم من الشعراء المعاصرين : الشاعر عمر أبو ريشة ، قال :
أمتي هل لك بين الأممِ * منبرٌ للسيف أو للقلمِ
أتلقاك وطرفي مطرقٌ * خجلاً من أمْسِكِ المنصرم
ويكاد الدمع يهمي عابثاً * ببقايا كبرياء الألم
أمتي كم غصة دامية * خنقت نجوى علاك في فمي
أي جرح في إبائي راعفٍ * فاته الآسي فلم يلتئم
ألإسرائيلَ تعلو رايةٌ * في حمى المهد وظل الحرم
كيف أغضيت على الذل ولم * تنفضي عنك غبار التهم
أوما كنت إذا البغي اعتدى * موجة من لهب أو من دم
كيف أقدمت وأحجمت ولم * يشتف الثأر ولم تنتقمي
إسمعي نوح الحزانى واطربي * وانظري دمع اليتامى وابسمي
ودعي القادة في أهوائها * تتفانى في خسيس المغنم
رب وامعتصماهُ انطلقتْ * ملءَ أفواه البنات اليُتَّمِ
لامست أسماعهم لكنها * لم تلامس نخوةَ المعتصم
أمتي كم صنم مجدته * لم يكن يحمل طهر الصنم
لايلام الذئب في عدوانه * إن يك الراعي عدوَّ الغنم
فاحبسي الشكوى فلولاك لما * كان في الحكم عبيدُ الدرهم
أيها الجندي يا كبش الفدا * يا شعاع الأمل المبتسم
ما عرفت البخل بالروح إذا * طلبتْهَا غصصُ المجد الظمي
بورك الجرح الذي تحمله * شرفاً تحت ظلال العلم
5 . لعل أدق نص في غزوة عمورية ، ما كتبه المؤرخ الثبت ابن واضح اليعقوبي ، قال في تاريخه ( 2 / 475 ) : ( ودخلت الروم زبطرة سنة 223 ، فقتلوا وأسروا كل من فيها وأخرجوهم ، فلما انتهى الخبر إلى المعتصم قام من مجلسه نافراً ، حتى جلس على الأرض وندب الناس للخروج ووضع العطاء ، وعسكر من يومه بموضع يعرف بالعيون من غربي دجلة ، وقدم أشناس التركي على مقدمته ، وخرج يوم الخميس لست خلون من جمادى الأولى سنة 223 ، ودخل أرض الروم ، فقصد أرض عمورية ، وكانت من أعظم مدائنهم ، وأكثرها عدةً ورجالاً فحاصرها حصاراً شديداً .
وبلغ طاغية الروم فزحف في خلق عظيم ، فلما دنا وجَّهَ المعتصم بالأفشين في جيش عظيم ، فلقي الطاغية وأوقع به وهزمه ، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة ، فأوفد طاغية الروم من قبله وفداً إلى المعتصم يقول : إن الذين فعلوا بزبطرة ما فعلوا ، تعدوا أمري ، وأنا أبنيها بمالي ورجالي ، وأرد من أخذ من أهلها ، وأخلي جملة مَن في بلد الروم من الأسارى ، وأبعث إليك بالقوم الذين فعلوا بزبطرة على رقاب البطارقة . وفتحت عمورية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة 223 فقتل وسبى جميع من فيها ، وأخذ ياطس خال ملك الروم ، وأخرب وأحرق كل ما اجتاز به من بلادهم ) .
6 . استغل العباس بن المأمون سفر المعتصم إلى عمورية ، واتفق مع عدد من قادة الجيش أن يقتلوا المعتصم ، ويبايعوه بدله .
قال اليعقوبي ( 2 / 475 ) : ( وانصرف ( المعتصم ) فلما صار بأذنة ( أضنة الحالية ) حبس العباس ابن المأمون ، لما كان بلغه من المعصية والخلاف واجتماع من اجتمع إليه من القواد ، ووجد له مائة ألف وستة عشر ألف دينار ، فأمر أن تفرق على الجند ويؤمروا أن يلعنوه . فأحصوا فوجدوا ثمانين ألف مرتزق فدفع إليهم دينارين دينارين وتمم ذلك المعتصم من عنده ، ودفع العباس إلى الأفشين مقيداً ليسيره ، فلما صار بحبد رأس توفي ، وقيل إن الافشين أطعمه طعاماً كثير الملح في يوم شديد الحر ، ومنعه الماء فحمل إلى منبج فدفن بها . وسخط المعتصم على عجيف ابن عنبسة ، لأنه كان سبب معصيته ، وحمله من أذنة ( أضنة ) في الحديد الثقيل ، في فيه لبود قد خيطت عليه وفي عنقه غل عظيم ، فلما صار بموضع يقال له باعيناثا على مرحلة من نصيبين ، مات ودفن بها ، وسأل ابنه صالح بن عجيف أن لا ينسب إليه ، وأن يدعى صالحاً المعتصمي ولعنه وبرئ منه ) !
وفي الكامل لابن الأثير ( 6 / 492 ) : ( وأحضر المعتصم العباس بن المأمون وسقاه حتى سكر ، وحلفه أنه لا يكتمه من أمره شيئاً ، فشرح له أمره كله ، مثلما شرح الحارث ، فأخذه وقيده وسلمه إلى الأفشين فحبسه عنده . وتتبع المعتصم أولئك القواد وكانوا يحملون في الطريق على بغال بأكُف بلا وطاء . وأخذ أيضاً الشاه بن سهل وهو من أهل خراسان فقال له المعتصم : يا ابن الزانية أحسنت إليك فلم تشكر . فقال : ابن الزانية هذا وأومأ إلى العباس وكان حاضراً ، لو تركني ما كنتَ الساعة تقدر أن تجلس هذا المجلس وتقول هذا الكلام ! فأمر به فضربت عنقه ، وهو أول من قتل منهم ) .
أقول : هكذا كانت سياسة العباسيين ، فهي في أحسن حالاتها أن يستفيق الخليفة وتتحرك حميته ، فيترك خمره ويذهب إلى دفع عدوه ، ويجلس في مكان بعيد عن المعركة ويبعث جيشه فيقاتل فينصرهم الله تعالى .
ثم لا يقبل الخليفة من عدوه الاعتذار ولا الصلح ، ويتجبر ويقتل ويحرق الحصون والقرى والدور والأشجار والحيوانات ، بل والناس !
وفي عودته يتآمر عليه ابن أخيه ، أو يزعم أنه تآمر عليه ، كما تآمر هو من قبل عليه وعلى أبيه ، فيقتله ابن أخيه ومؤيديه ، شرَّ قتلة !
7 . قال السيوطي في تاريخ الخلفاء / 362 : ( وفتح عمورية بالسيف ، وقتل منها ثلاثين ألفاً ، وسبى مثلهم ) .
وروى لنا الطبري ( 7 / 272 ) كيف أحرق المعتصم الأسرى فقال : ( ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه ، حتى امتلأ العسكر ، فأمر المعتصم بَسيلَ الترجمان ، أن يميز الأسرى ، فيعزل منهم أهل الشرف والقدر من الروم في ناحية ، ويعزل الباقين في ناحية ، ففعل ذلك بَسيل .
ثم أمر المعتصم فوكل بالمقاسم قواده ، ووكل أشناس بما يخرج من ناحيته وأمره أن ينادي عليه ، ووكل الأفشين بما يخرج من ناحيته وأمره أن ينادي ويبيع .
وأمر إيتاخ بناحيته مثل ذلك ، وجعفر الخياط بمثل ذلك في ناحيته ، ووكل مع كل قائد من هؤلاء رجلاً من قبل أحمد بن أبي دؤاد ، يحصى عليه .
فبيعت المقاسم في خمسة أيام ، بيع منها ما استباع ، وأمر بالباقي فضُرِب بالنار ! وارتحل المعتصم منصرفاً إلى أرض طرسوس . . .
فلما كان من الغد أمر ألا ينادى على السبي إلا ثلاثة أصوات ليتروج البيع ، فمن زاد بعد ثلاثة أصوات ، وإلا بيع العلق فكان يفعل ذلك في اليوم الخامس ، فكان ينادى على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة ، والمتاع الكثير جملة واحدة . . .
وفي رواية : وانصرف المعتصم يريد الثغور ، وذلك أنه بلغه أن ملك الروم يريد الخروج في أثره أو يريد التعبث بالعسكر ، فمضى في طريق الجادة مرحلة ، ثم رجع إلى عمورية وأمر الناس بالرجوع ، ثم عدل عن طريق الجادة إلى طريق وادى الجور ، ففرق الأسرى على القواد ودفع إلى كل قائد من القواد طائفة منهم يحفظهم ، ففرقهم القواد على أصحابهم ، فساروا في طريق نحواً من أربعين ميلاً ليس فيه ماء ، فكان كل من امتنع من الأسرى أن يمشى معهم لشدة العطش الذي أصابهم ضربوا عنقه ! فدخل الناس في البرية في طريق وادى الجور ، فأصابهم العطش فتساقط الناس والدواب ، وقَتَل بعض الأسرى بعض الجند وهرب ، وكان المعتصم قد تقدم العسكر فاستقبل الناس ومعه الماء قد حمله من الموضع الذي نزله ، وهلك الناس في هذا الوادي من العطش ، وقال الناس للمعتصم : إن هؤلاء الأسرى قد قتلوا بعض جندنا ، فأمر عند ذلك بسيل الرومي بتمييز من له القدر منهم ، فعزلوا ناحية ثم أمر بالباقين فأصعدوا إلى الجبال وأنزلوا إلى الأودية فضربت أعناقهم جميعاً ، وهم مقدار ستة آلاف رجل قتلوا في موضعين بوادي الجور وموضع آخر ، ورحل المعتصم من ذلك الموضع يريد الثغر حتى دخل طرسوس ) .
ومعناه أن من يدعي أنه خليفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) عزل شخصيات الأسرى وقد يكونون مئتين أو ثلاث مئة من ألوف الأسرى ، ثم وكل كل قائد ببيع أسراه لمن أراد الشراء من الجيش ، وكان مندوب قاضي القضاة حاضراً ليحصي مبلغ البيع فيأخذها للخليفة ، وقد يعطي منها قسماً إلى القائد ، فاشترى الجيش قسماً من الأسرى وبقي قسم لا يوجد له مشترٍ هناك . فأمر أن يضربوهم بالنار ، أي يحرقوهم ! أو يضربوا أعناقهم !
ولا تعترض ، لأن الخليفة وقاضي القضاة أتقى الأتقياء ، ينفذون حكم الإسلام ، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا !
( 3 ) المعتصم ينهي الثورات المضادة للعباسيين
1 . قال في تاريخ بغداد : 4 / 112 : ( كان في المعتصم مناقب : منها ، أنه كان ثامن الخلفاء من بنى العباس ، وثامن أمراء المؤمنين من ولد عبد المطلب ، وملك ثماني سنين وثمانية أشهر ، وفتح ثمانية فتوح : بلاد بابك على يد الأفشين . وفتح عمورية بنفسه . والزط بعجيف . وبحر البصرة . وقلعة الأحراف . وأعراب ديار ربيعة . والشاري . وفتح مصر . وقتل ثمانية أعداء . بابك . ومازيار . وباطس ، ورئيس الزنادقة ، والأفشين ، وعجيفا ، وقارن ، وقائد الرافضة ) .
وقال ابن الجوزي في المنتظم ( 11 / 26 ) : ( وحكى الصولي أنه لم تجتمع الملوك بباب أحد قط اجتماعها بباب المعتصم ، ولا ظفر ملك كظفره . أسر بابك ملك أذربيجان ، والمازيار ملك طبرستان ، وباطس ملك عمُّورية ، والأفشين ملك أشروسنة ، وعجيفا وهو ملك ، وصار إلى بابه ملك فرغانة ، وملك اسيشاب ، وملك طخارستان ، وملك أصبهان ، وملك الصغد ، وملك كابل وباطيس ، ورئيس الزنادقة ، والأفشين ، وعجيفا ، وقارن ، وقائد الرافضة ) .
2 . كانت ثورة بابك الخرمي في آذربيجان ثورة مجوسية قوية ، وكان بابك داهية شجاعاً ، ساعدته جغرافية منطقة آذربيجان وشمال إيران الجبلية ، وقد بدأ ثورته من زمن المأمون سنة 201 ، واستمر يقاتل جيوش الخلافة العباسية أكثر من عشرين سنة ، وهزمها مرات وانهزم هو مرات ، وكان يفلت إلى الجبال أو الغابات ، حتى قبض عليه بطريق مسيحي سنة 222 .
وقال الصفدي في الوافي ( 10 / 39 ) : ( كان ظهور بابك سنة إحدى ومائتين بناحية أذربيجان ، وتبعه خلق عظيم على رأيه فأقام عشرين سنة يهزم جيوش المأمون والمعتصم ، فيقال إنه قتل مائة ألف وخمسين ألفاً وخمس مائة إنسان .
كان المعتصم بعث نفقات الجيوش بسبب بابك في أول السنة المذكورة ( 222 ) ثلاثين ألف ألف درهم . وجعل المعتصم لمن أتى به حياً ألفي ألف درهم ، ولمن جاء برأسه ألف ألف درهم . وكان بابك قد هرب واختفى في غيضة ، ثم خرج منها ، فالتقاه سهل البطريق فبعث به إلى الأفشين بعدما خبأه عنده ، فجاء أصحاب الأفشين وأحدقوا به وأخذوه ، فأعطى المعتصم لسهل البطريق ألفي ألف درهم ، وحط عنه خراج عشرين سنة .
ولما قتله المعتصم وفتح الأفشين مدينته وجد فيها سبعة آلاف وست مائة امرأة مسلمة . ولما صلبت جثته جعلت إلى جانب جثة المازيار ، صاحب طبرستان . . ومدح المعتصم عند ذلك أبو تمام بقصيدته التي أولها :
الحق أبلجُ والسيوف عوارِ * فحذار من أسد العرين حذارِ
ما زال سرُّ الكفر بين ضلوعه * حتى اصطلى سر الزناد الواري
ولقد شفيتُ القلب من برحائه * أن صار بابك جار مازيار
كادوا النبوة والهدى فتقطعت * أعناقهم في ذلك المضمار
وإنما قيل له بابك الخرمي ، لأنه دعا الناس إلى مقالة الخرمية ، وهو لفظ أعجمي ينبئ عن الشئ المستطاب المستلذ ، لأنهم يعتقدون إباحة الأشياء ، وهو راجع إلى عدم التكليف والتسلط على اتباع الشهوات ، وهذا اللقب كان للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس أتباع مزدك ، الذي نبغ في أيام قباذ والد أنو شروان ودعا مزدك قباذا إلى مذهبه فأجابه ، ثم اطلع على حاله فقتله .
وكان مزدك يقول النور والظلمة قديمان أزليان ، فالنور سميع بصير حساس يفعل بالقصد والاختيار . والظلمة جاهلة عمياء ، تفعل عن الخبط والاتفاق ) .
قال الذهبي في تاريخه ( 16 / 13 ) : ( وجدت بخط رفيقنا ابن جماعة الكناني أنه وجد بخط ابن الصلاح قال : اجتمع قومٌ من الأدباء ، فأحصوا أنّ أبا مسلم قتل ألفي ألف ، وأن قتلى بابك بلغوا ألف ألف وخمس مائة ألف ) .
3 . من جهة أخرى توالت ثورات العلويين على العباسيين ، فكانت ثورة إبراهيم بن طباطبا في الكوفة سنة 199 ، وسيطر على الكوفة وحكم لفترة . ثم ثار إبراهيم بن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) في اليمن . ومحمد بن جعفر الصادق ( عليه السلام ) في مكة .
وفي سنة مئتين وسبع خرج : ( عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك من اليمن يدعو إلى الرضا من آل محمد ) ( الطبري : 7 / 168 ) . وفي سنة 210 ، ثار أهل قم الشيعة على واليهم بسبب عسفه في الخراج ، وطالبوا بتخفيضه عنهم أسوة بأهل الري .
وفي سنة 219 ظهر في جبال الطالقان في إيران : ( محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضا من آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) فاجتمع إليه بها ناس كثير وكانت بينه وبين قواد عبد الله بن طاهر وقعات بناحية الطالقان جبالها ، فهزم هو وأصحابه فخرج هارباً يريد بعض كور خراسان ، كان أهله كاتبوه ، فلما صار بنسا وبها والد لبعض من معه ، مضى الرجل معه من أهل نسا إلى والده ليسلم عليه ، فلما لقى أباه سأله عن الخبر فأخبره بأمرهم ، وأنهم يقصدون كورة كذا ، فمضى أبو ذلك الرجل إلى عامل نسا فأخبره بأمر محمد بن القاسم ، فذكر أن العامل بذل له عشرة آلاف درهم على دلالته عليه فدله عليه ، فجاء العامل إلى محمد بن القاسم فأخذه ، واستوثق منه وبعث به إلى عبد الله بن طاهر ، فبعث به عبد الله بن طاهر إلى المعتصم ، فقدم به عليه يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر ، فحبس فيما ذكر بسامرا عند مسرور الخادم الكبير ، في محبس ضيق يكون قدر ثلاث أذرع في ذراعين ، فمكث فيه ثلاثة أيام ثم حول إلى موضع أوسع من ذلك وأجرى عليه طعام ، ووكل به قوم يحفظونه ، فلما كان ليلة الفطر واشتغل الناس بالعيد والتهنئة احتال للخروج . ذكر أنه هرب من الحبس بالليل وأنه دلى إليه حبل من كوة كانت في أعلى البيت يدخل عليه منها الضوء ، فلما أصبحوا أتوا بالطعام للغداء ففقد ، فذكر أنه جعل لمن دل عليه مائة ألف درهم ، وصاح بذلك الصائح فلم يعرف له خبر ) . ( الطبري : 7 / 223 ) .
( 4 ) المعتصم يتهم الإمام الجواد ( عليه السلام ) بالإعداد للثورة !
في أجواء ثورات العلويين وغيرهم ، وتصفية المعتصم لهم واحدة بعد الأخرى ، قرر أن يُحضر الإمام الجواد ( عليه السلام ) إلى بغداد ، فأحضره مرتين .
ولا بد أن الذي دبر إحضار الإمام ( عليه السلام ) هو ابن أبي دؤاد مدبر خلافة المعتصم ، فقد تأكدت علاقته مع المعتصم من يوم جعل المأمون ابنه العباس ولي عهده وبعث أخاه المعتصم إلى مصر ليبعده عن ولاية العهد ، وكان معه ابن أبي دؤاد ، فأطمعه بالخلافة ، ووجهه في مراحل عمله ، حتى غلب ابن أخيه وأخذ منه الخلافة .
فكان ابن أبي دؤاد نديمه ، وقاضي قضاته ، ووزيره الأول ، ومدبر مملكته !
قال إسماعيل بن مهران : ( لما خرج أبو جعفر ( عليه السلام ) من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه ، قلت له عند خروجه : جعلت فداك إني أخاف عليك في هذا الوجه فإلى من الأمر بعدك ؟ فكرَّ بوجهه إلي ضاحكاً وقال : ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة . فلما أخرج به الثانية إلى المعتصم صرت إليه فقلت له : جعلت فداك أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك ؟ فبكى حتى اخضلت لحيته ثم التفت إليَّ فقال : عند هذه يخاف عليَّ ، الأمر من بعدي إلى ابني علي ) . ( الكافي : 1 / 323 ) .
وفي كشف الغمة ( 3 / 155 ) : ( وعن ابن بزيع العطار قال : قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : الفرج بعد المأمون بثلاثين شهراً . قال : فنظرنا فمات بعد ثلاثين شهراً ) .
أقول : مقصوده ( عليه السلام ) الفرج عليه بانتهاء امتحانه في الدنيا على يد الطاغية المعتصم . فلا بد أن يكون سياق الحديث عن خوفهم على حياة الإمام صلوات الله عليه .
وفي هذه الثلاثين شهراً أحضره المعتصم إلى بغداد مرتين : اتهمه في المرة الأولى بالإعداد للثورة عليه ، فنفى الإمام ( عليه السلام ) ذلك ودعا على شهود الزور ، فظهرت آية وبهت المعتصم وتركه . ثم أحضره في المرة الثانية ، وتمكن من قتله بالسم ، بيد زوجته وأخيها !
( 5 ) يحترم الإمام الجواد ( عليه السلام ) بالظاهر ويدبر قتله !
في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 491 ) : ( ولما بويع المعتصم جعل يتفقد أحواله فكتب إلى عبد الملك الزيات أن ينفذ إليه التقي وأم الفضل ، فأنفذ ابن الزيات علي بن يقطين إليه ، فتجهز وخرج إلى بغداد ، فأكرمه وعظمه ، وأنفذ أشناس بالتحف إليه وإلى أم الفضل ) .
وتدل الرواية على أسلوب المعتصم في احترام الإمام الجواد ( عليه السلام ) في الظاهر ، وستأتي تكملتها وفيها محاولته دس السم للإمام في شراب مختوم بختم الخلافة !
وعند حضور الإمام ( عليه السلام ) إلى بغداد وجه اليه المعتصم تهمة بأنه يهيئ للثورة عليه . والمرجح أن قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد دبر إحضار الإمام الجواد ( عليه السلام ) واتهامه بمراسلة شيعته للثورة على المعتصم . فقد صرَّح بأنه يحمل حقداً عميقاً على الإمام الجواد ( عليه السلام ) كما يأتي ، لكنه فشل في اتهام الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، وظهرت له آية !
فقد روى القطب الراوندي في الخرائج ( 2 / 670 ) ، وابن حمزة في الثاقب / 524 : ( عن ابن أرومة قال : إن المعتصم دعا جماعة من وزرائه وقال : اشهدوا لي على محمد بن علي بن موسى الرضا زوراً ، واكتبوا بأنه أراد أن يخرج ! ثم دعاه فقال : إنك أردت أن تخرج عليَّ . فقال : والله ما فعلت شيئاً من ذلك .
قال : إن فلاناً وفلاناً شهدوا عليك ! وأُحضروا فقالوا : نعم ، هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك ! قال : وكان جالساً في بَهْوٍ ، فرفع أبو جعفر ( عليه السلام ) يده وقال : اللهم إن كانوا كذبوا عليَّ فخذهم .
قال : فنظرنا إلى ذلك البهو يرجف ويذهب ويجئ ، وكلما قام واحد وقع ! فقال المعتصم : يا ابن رسول الله ، تُبْتُ مما قلت فادع ربك أن يُسَكِّنَهُ . فقال : اللهم سكنه ، وإنك تعلم بأنهم أعداؤك وأعدائي ) .
أقول : لقد كان في ذلك آيةٌ للمعتصم وجماعته لو كانوا يعقلون . لكنهم شاهدوا آياتٍ كثيرة للإمام ( عليه السلام ) وقبله لأبيه الرضا ( عليهما السلام ) ، فلم يزدهم ذلك إلا عناداً !
كانوا يرون أنهم إن آمنوا به فقد اعترفوا على أنفسهم بأنه ولي الله وحجته ، وإمام الأمة وأنهم غاصبون لمقامه ! فالحل عندهم أن ينكروا آياته ، ويدبروا طريقة لقتله !
( 6 ) إحضار المعتصم للإمام ( عليه السلام ) ثانيةً
خطط المعتصم مع ابن أبي دؤاد لقتل الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، أما زوجته أم الفضل فيبدو أنها قبلت السكنى في المدينة ، بعد أن مات أبوها المأمون ، وانهزم أخوها العباس وخسر الخلافة وحبسه المعتصم وأمر بلعنه ثم قتله ، وانطفأ بيتهم .
ويظهر أن المعتصم وعدها أن تكون في بيته مع بناته بعد قتل الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، لأن الروايات نصت على أنهم حولوها بعد قتله إلى قصر المعتصم !
لاحظ هذا النص في مروج الذهب للمسعودي ( 3 / 464 ) قال : ( وفي هذه السنة ، وهي سنة تسع عشرة ومائتين ، قبض محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وذلك لخمس خلون من ذي الحجة ، ودفن ببغداد في الجانب الغربي من مقابر قريش ، مع جده موسى بن جعفر ، وصلى عليه الواثق . وقبض وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وقبض أبوه علي بن موسى الرضا ومحمد بن سبع سنين وثمانية أشهر ، وقيل غير ذلك .
وقيل إن أم الفضل بنت المأمون لما قدمت معه من المدينة إلى المعتصم سمَّتْه .
وإنما ذكرنا من أمره ما وصفنا ، لأن أهل الإمامة اختلفوا في مقدار سنه عند وفاة أبيه ، وقد أتينا على ما قيل في ذلك في رسالة : البيان في أسماء الأئمة ، وما قالت في ذلك الشيعةُ القطعية ) . أي الذين قطعوا بإمامة الاثني عشر ( عليهم السلام ) .
وقد جعل المسعودي شهادة الإمام ( عليه السلام ) سنة مئتين وتسعة عشر ، والمشهور أنها سنة عشرين . وسبب الاختلاف أنها كانت في ذي الحجة آخر السنة .
وتدل عبارته على أن أم الفضل كانت مع الإمام ( عليه السلام ) في المدينة عندما أحضره المعتصم في المرة الثانية ، وأن جائزتها بعد سمها الإمام ( عليه السلام ) أنها نقلت إلى قصر عمها المعتصم !
قال الخطيب في تاريخ بغداد ( 3 / 266 ) : ( قدم من مدينة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى بغداد وافداً على أبي إسحاق المعتصم ، ومعه امرأته أم الفضل بنت المأمون ، فتوفي في بغداد ، ودفن في مقابر قريش عند جده موسى بن جعفر ، وحملت امرأته أم الفضل بنت المأمون إلى قصر المعتصم ، فجعلت مع الحرم ) .
( 7 ) محاولة المعتصم تشويه سمعةالجواد ( عليه السلام ) !
قال الكشي في رجاله ( 2 / 833 ) : ( محمد بن مسعود قال : حدثني المحمودي أنه دخل على ابن أبي دؤاد وهو في مجلسه وحوله أصحابه ، فقال لهم ابن أبي دؤاد : يا هؤلاء ما تقولون في شئ قاله الخليفة البارحة ؟ فقالوا : وما ذلك ؟ قال : قال الخليفة : ما ترى العلائية ( أي الشيعة نسبة إلى علي ( عليه السلام ) ) تصنع إن أخرجنا إليهم أبا جعفر سكران يُنشى مضمخاً بالخلوق ! قالوا : إذاً تبطل حجتهم ويبطل مقالهم .
قلت : إن العلائية يخالطوني كثيراً ، ويُفْضُونَ إليَّ بسرِّ مقالتهم ، وليس يَلزمهم هذا الذي جرى ، فقال : ومن أين قلت ؟
قلت : إنهم يقولون لابد في كل زمان وعلى كل حال لله في أرضه من حجة ، يقطع العذر بينه وبين خلقه . قلت : فإن كان في زمان الحجة من هو مثله ، أو فوقه في النسب والشرف ، كان أدل الدلائل على الحجة ، لصلة السلطان من بين أهله وولوعه به . قال : فعرض ابن أبي داود هذا الكلام على الخليفة فقال : ليس إلى هؤلاء القوم حيلة . لا تؤذوا أبا جعفر ) .
أقول : هذا يدل على انشغال أعلى مراكز القرار في الخلافة ، في ابتكار طريقة للتأثير على تقديس الأمة للإمام الجواد ( عليه السلام ) ، وتشويه سمعته في نظرها !
فقد كان المعتصم كأبيه هارون يرى أنه لا يمكن للخليفة العباسي التعايش مع إمام علمه من الله تعالى ، والأمة تقدسه وتتحدث عن معجزاته ، ويمكن أن يأمرها بالخروج على الخليفة في أي وقت ! ولذلك طرح خطة سقي الإمام الجواد ( عليه السلام ) الخمر بأي طريقة وإخراجه سكران يتهادى ليراه الناس ويسقط في أعينهم ، ويرجعوا عن القول بإمامته !
وتبنى قاضي القضاة التقي هذه الخطة ، وطرحها مع كبار رجال الخلافة للدراسة !
فقال له أحدهم : هذا لا ينفع حتى لو استطعتم أن تخرجوه للناس سكراناً ! فأنا أعرف عقيدة الشيعة ونمط تفكيرهم ، إنهم يقولون إنه لابد من وجود حجة لله تعالى من العترة النبوية في كل زمان ، ولو لم يكن الجواد هو الحجة لما تولعت به السلطة وحاولت تشويه سمعته ، وتركت من هو أكبر منه سناً من العترة النبوية ، فلا يزيدهم ما تحاوله السلطة فيه إلا إيماناً بإمامته !
فذهب قاضي القضاة وأخبر المعتصم بنتيجة التشاور ، فاعترف بعدم فائدة محاولة جر الإمام ( عليه السلام ) إلى مجالس خمرهم وطربهم حتى لو نجحت ! ومعناه أنه لا بد من قتله !
ولست هذه المحاولة الأولى لتشويه سمعة المعصوم ( عليه السلام ) ، ولكنها لاتنجح لأن الله تعالى طهر أئمة العترة الطاهرين عن رجس هذه الأقذار وأهلها ، فمن المحال أن يقبل أي إمام منهم ( عليهم السلام ) أن يتلوث فيها .
وقد حاول قبله المأمون مع الجواد ومع أبيه الرضا ( عليهما السلام ) ، فعجز ، ثم حاول المتوكل مع الإمام الهادي ( عليه السلام ) فأعلن عجزه وقال : أعياني ابن الرضا !
وقد علق السيد الأمين في أعيان الشيعة ( 2 / 582 ) على هذه الرواية بأن عبارة الراوي المحمودي مغلقة ، والأمر كما قاله ( رحمه الله ) ، لكن المعنى المقصود مفهوم .
( 8 ) الوجه الآخر للمعتصم
قال الدكتور محمد حسين الصغير في كتابه الإمام الجواد / 81 : ( كان المعتصم متصفاً بالحماقة وشدة الغضب ، حتى عرف عنه أنه إذا غضب لا يبالي من قتل وما فعل . . وكان أمياً أو شبه أمي ، وكان له وزير عامي ، وقد بليت بهما الأمة ووصفهما أحمد بن عامر بقوله : خليفةٌ أمِّيّ ووزيرٌ عامي .
وكان شديد الكراهية للعرب وعمد إلى الاستهانة بهم ، وأخرجهم من الديوان وأسقط أسماءهم منه ، ومنعهم من العطاء كما منعهم من الولايات .
وفي قبال هذا ، كان مغرماً بحب الأتراك ( يقصد غلمانه وجنوده ) متزلفاً لهم بسبب خؤولتهم له ، فأمه ماردة تركية النسب ، ونشأ محاكياً للأترك في نزواتهم النفسية وطبائعهم الخلقية ، وأطلق لهم العنان في الدولة وتصريف الشؤون ، واستكثر منهم ، وبعث في طلبهم من فرغانة وأشروسة ) .
وقد وثق الدكتور الصغير فقرات كلامه ، وراجعت في المصادر حمق المعتصم وأنه إذا غضب لا يفقه ما يفعل ولا يبالي من يقتل ! فوجدت مصادره كثيرة ، منها الطبري ( 7 / 316 ) وفيه : ( إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل ) وأبو الفدا ( 2 / 35 ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء / 361 ، وابن كثير في النهاية : 10 / 325 ، وابن خلكان في الوفيات : 5 / 94 .
وقال الذهبي في سيره ( 10 / 302 ) : ( خلف من الذهب ثمانية آلاف ألف دينار ، وثمانية عشر ألف ألف درهم ، وثمانين ألف فرس ، وثمانية آلاف مملوك ، وثمانية آلاف جارية ، وبنى ثمانية قصور ، وقيل بلغ مماليكه ثمانية عشر ألفاً . وكان ذا سطوة إذا غضب لا يبالي من قتل ) !
( 9 ) شرب المعتصم مرةً تسعة أرطال خمر !
في تاريخ دمشق ( 69 / 270 ) : ( كان المعتصم يطرق عَريب كثيراً ، فشُغل أياماً عنها وكانت تتعشق فتى فأحضرته ذات يوم ، وقعدت تسقيه وتشرب معه ، وتغنيه ، إذ أقبل أمير المؤمنين المعتصم فأدخلته بعض المجالس ، ووافى المعتصم فرأى من الآلة والزي ما أنكره وقال لها : ما هذا ؟ قالت : جفاني أمير المؤمنين هذه الأيام واشتد شوقي إليه وعيل صبري ، فتمثلت مجلس أمير المؤمنين إذا طرقني وأحضرت من الآلة ما كنت أحضره إذا زارني وأكرمني ، ونصبت له شرابه بين يديه كما كنت أفعل ، وجعلت شرابي بين يدي كما كنت أصنع ، ثم غنيت لأمير المؤمنين صوته وشربت كأسه ، وغنيت صوتي وشربت كأسي !
فهذه حالي إلى أن دخل سيدي أمير المؤمنين فصح فالي ، فقعد المعتصم وشرب وفرح وسكر ، فلما انصرف أخرجت الفتى ، فما زالا في أمرهما إلى الصبح ) ! .
وفي الأغاني ( 17 / 477 ) ، قال ابن إسحاق المغني : ( ناظر أبي بعض المغنين ذات ليلة بين يدي المعتصم ، وطال تلاحيهما في الغناء ، فقال إسحاق للمعتصم : يا أمير المؤمنين ، من شاء منهم فليغنّ عشرة أصوات لا أعرف منها ثلاثة ، وأنا أغني عشرة وعشرة وعشرة ، لا يعرف أحد منهم صوتاً منها . فقال إسحاق : صدق يا أمير المؤمنين . واتبعه ابن بسخنّر وعَلُّويَه ، فقالا : صدق يا أمير المؤمنين إسحاق فيما يقوله . فأمر له بعشرين ألف درهم .
قال محمد : ثم عاد ذلك الرجل إلى مماظَّته يوماً فقال له : قد دعوتك إلى النَّصَفَة ، فلم تقبل ، وأنا أدعوك وأبدأ بما دعوتك إليه ، فاندفع فغنى عشرة أصوات ، فلم يعرف أحد منهم منها صوتاً واحداً ، كلها من الغناء القديم ، والغناء اللاحق به من صنعة المكَّيين الحذَّاق الخاملي الذكر ، فاستحسن المعتصم منها صوتاً وأسكت المغنين له ، واستعاده مرات عدة ، ولم يزل يشرب عليه سحابة يومه ، وأمر ألا يراجع أحداً من المغنين كلاماً ولا يعارضه أحد منهم ، إذ كان قد أبزَّ عليهم ، وأوضح الحجة في انقطاعهم ، وإدحاض حججهم ) .
وفي نهاية الإرب ( 4 / 232 ) : ( وفَصَدَ الواثق فأتاه أبو دلف ، وأتته رسل الخليفة بالهدايا ، فأعلمهم الواثق حصول أبي دلف عنده . . . فلم يلبث أن أقبل الخدم يقولون : قد جاء الخليفة ! فقام الواثق وكل من كان عنده حتى تلقوه وجاء حتى جلس . . وأقبل الواثق على أبي دلف فقال : يا قاسم غَنِّ أمير المؤمنين . . فغنى ، فقال المعتصم : أحسن أحسن ، ثلاثاً ، وشرب رطلاً ، ولم يزل يستعيده حتى شرب تسعة أرطال ! ثم دعا بحمار فركبه ، وأمر أبا دلف أن ينصرف معه ، فخرج معه فثبته في ندمائه ، وأمر له بعشرين ألف دينار ) .
أقول : هذا غيضٌ من فيضٍ من ركاكة شخصية المعتصم ، وهو صفةٌ عامةٌ للخلفاء وسكان قصورهم . والرطل العراقي تقريباً ثلث كيلو غرام ، لأن الكر الذي هو ألف ومئتا رطل ، نحو أربع مئة كيلو . فيكون المعتصم شرب في مجلس واحد ثلاث كيلوات من الخمر ! ( راجع الأوزان والمقادير / 64 و 97 ، وكلمة التقوى لزين الدين : 1 / 9 ) .
( 10 ) المعتصم شاذ جنسياً كأكثر خلفاء بني العباس !
روى السيوطي في تاريخ الخلفاء / 364 : ( عن محمد بن عمر الرومي ، قال : كان للمعتصم غلام يقال له عجيب ، لم ير الناس مثله قط ، وكان مشغوفاً به ، فعمل فيه أبياتاً ثم دعاني وقال : قد علمت أني دون إخوتي في الأدب ، لحب أمير المؤمنين لي وميلي إلى اللعب وأنا حدث ، فلم أنل ما نالوا . وقد عملت في عجيب أبياتاً ، فإن كانت حسنة وإلا فأصدقني حتى أكتمها ، ثم أنشد شعراً :
لقد رأيت عجيبا * يحكى الغزال الربيبا
الوجه منه كبدر * والقد يحكى القضيبا
طبيب ما بي من الحب * فلا عدمت الطبيبا
إني هويت عجيبا * هوى أراه عجيبا
فحلفت له بأيمان البيعة ، أنه شعر مليح من أشعار الخلفاء الذين ليسوا بشعراء ، فطابت نفسه ، وأمر لي بخمسين ألف درهم ) .
( 11 ) قال دعبل إن المسلمين لم يحزنوا لموت المعتصم !
في تاريخ بغداد ( 14 / 17 ) : ( ولما مات المعتصم وتولى الواثق الخلافة كتب دعبل ابن علي الخزاعي أبياتاً ثم أتى بها الحاجب فقال : أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل : مديح لدعبل ، قال : فأخذ الحاجب الطومار فأدخله إلى الواثق ، ففضه فإذا فيه :
الحمد لله لا صبرٌ ولا جلدُ * ولا رقادٌ إذا أهل الهوى رقدوا
خليفةٌ ماتَ لم يحزن له أحدٌ * وآخرٌ قام لم يفرح به أحدُ
فمرَّ هذا ومرَّ الشؤمُ يتبعه * وقام هذا وقام الويلُ والنكد
فطُلِب فلم يُوجَد ، حتى هلك الواثق ) .
وفي رواية أن الواثق أخذ الحاجب الذي جاءه بالطومار ، فقال : لا أعرف ما فيه فقد قال لي رجل أعط هذا للخليفة وقل مديحٌ من دعبل ، ولك نصف الجائزة . فقال الواثق : أعطوه نصف الجائزة ألف سوط ، فلو جاءنا دعبل لضربناه ألفي سوط !
لكن دعبلاً ضربه وأباه المعتصم بألفي سوط فقال فيه كما في تاريخ دمشق ( 17 / 264 ) :
ملوكُ بني العباس في الكتب سبعةٌ * ولم تأتنا في ثامنٍ منهمُ الكُتْبُ
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة * عداةٌ ثووا فيه وثامنهم كلب
وإني لأُزهي كلبهم عنك رغبةً * لأنك ذو ذنب وليس لهم ذنب
كأنك إذ ملكتنا لشقائنا * عجوزٌ عليها التاج والعقد والإتب
فقد ضاع أمر الناس حين يسوسهم * وصيفٌ وأشناسٌ وقد عظم الخطب
وفضل بن مروان سيثلم ثلمة * يظل لها الإسلام ليس له شعب
وهمك تركيٌّ عليه مهانةٌ * فأنت له أمٌّ وأنت له أبُّ
وإني لأرجو أن يُرى من مغيبها * مطالع شمس قد يغص بها الشرب
ومعنى كلامه الأخير : أرجو أن تطلع شمس أهل البيت ( عليهم السلام ) من مغربها ، فتنهيكم .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|