أقرأ أيضاً
التاريخ: 5/12/2022
1657
التاريخ: 2023-06-14
1350
التاريخ: 1/11/2022
1572
التاريخ: 5-10-2014
1865
|
ممّا أُخِذ على الإسلام وعلى القرآن بالذات إطلاق سَراح الرجُل بشأن المرأة ، في الطلاق والإمساك ، وإعضالِها عن أنْ تَملُك نفسها إلاّ حيث شاء الزوج ، حقّاً قانونياً له دونَها ، الأمر الذي يَجعلُها مُهانةً لا وزن لها في الحياة الزوجيّة ما دامت لا تَعدو مُتعةً للرجل يَعبث بها حسبَما شاء !
وهذا مِن الأثر المتبقي مِن أعرافٍ جاهليّةٍ أُولى ، قام الإسلام بتعديلها وربّما آخِذاً بجانبها ولكن في شيءٍ يسيرٍ لم يرفعْها إلى حيثُ كرامتها الإنسانيّة العليا !
قال الشيخ مُحمّد عَبده : كان للعرب في الجاهليّة طَلاق ومُراجعة في العِدّة ، ولم يكن للطلاق حدّ ولا عدد ، فإن كان لمُغاضَبَةٍ عارِضَةٍ عاد الزوج واستقامت عشرته ، وإنْ كان لمُضارّة المرأة رَاجَعَ قبل انقضاء العِدّة واستأنف طلاقاً ، ثُمّ يعود إلى ذلك المرّة بعد المرّة أو يفيء ويَسكُن غضبُه ، فكأنّ المرأة اُلعوبة بيد الرجل يُضارُّها بالطَلاق ما شاء أنْ يضارَّها ، فكان ذلك ممّا أصلحه الإسلام مْن أمور الاجتماع (1) .
وذَكَر في سبب نزول الآيات 228 ـ 232 من سورة البقرة بهذا الشأن : أنّ الرجل كان يُطلِّق امرأته ما شاء أنْ يُطلّقها وهي امرأته إذا ارتَجَعَها وهي في العِدّة وإنْ طلّقها مِئة مرّة وأكثر ، حتّى قال رجل لامرأته : والله لا أُطلِّقك فَتَبيني ، ولا آويك أبداً ! قالت : وكيف ذلك ؟ قال : أُطلِّقك ، فكلّما همّتْ عِدّتُك أنْ تنقضي راجعتُكِ ، فذهبت المرأة حتّى دخلت على عائشة فأخبرتها ، فصبرت عائشة حتّى جاء النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) فأخبرته بذلك ، فسكت النبيّ هُنيئة حتّى نزل القرآن : {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ... فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 229 و 230] إلى آخر الآيات (2) .
حاوَلَ بعضُ الكُتّاب العصريّين أنْ يجعل من التشريعات الإسلاميّة متأثِّرةً بعض التأثّر بتقاليدٍ كانت سائدة ذلك العهد ، فهو وإنْ كان قام بتعديلات خطيرة في تقاليد العرب لكنّه مع ذلك اضطرّ إلى الرضوخ لبعض تقاليدهم جرياً مع مُقتضيات الزمان ، ومنها أَمر الطلاق حيث جَعَله بيد الرجل وِفْقاً مع عُرف القوم السائد ! قال : ولا سيّما إذا ما لا حظنا أنّ التشريعات الإسلاميّة في مثل هذه الشؤون إمضائيّة وليست تأسيسيّة كما هو معروف (3) .
* * *
ولنا أنْ نتساءل : هل تَنازل الإسلام في تشريعاته الأُولى ـ ولو في جوانبٍ منها ـ إلى حيث مستوى ثقافة ذلك العهد وتلاؤماً مع مُقتضيات عصره حتّى تُصبح صالحةً للتغيير مع تطوّر الزمان ؟
الجواب : كلاّ ، ولا سيّما التشريعات التي جاءت نصّاً في القرآن الكريم .
الإسلام جاء بثقافة جديدة شاملة ليَرفض كلّ تقاليد جاهليّة كانت سائدة ذلك اليوم ، وأَلبَسها ثوب الخلود ( حلال مُحمّدٍ حلال أبداً إلى يوم القيامة وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة ) (4) ، إلاّ ما كان من قبيل التدبير في الشؤون السياسيّة لإدارة البلاد وِفق شرائط الزمان على ما أسلفنا ؛ ومِن ثَمّ كانت التشريعات الإسلاميّة مُنذ البدء تنقسم إلى قسمين
أساسيّين : ثابتة ومتغيّرة ، أمّا الثابتة فهي التي شُرِّعت وِفق مصالح عامّة عُمُوماً يَشمل الأجيال والأزمان مدى الدهر ، وهي الأصل في التشريع حسب ظاهره الأَوّلي ، إلاّ إذا دلّت القرائن على أنّها مِن المُتغيِّرات ، وهي التي شُرّعت لمصالح وقتيّة تُناط ببقاء تلك المصالح وتَذهب بزوالها ، وهذا في جانب الأحكام السياسيّة الصادرة مِن أُولي الأمر نَجده بكثير، وقد فصّلنا الكلام في ذلك وَذَكرنا المعايير التي يُمكن التمييز بين القسمين ، والأصل المرجع عند الشكّ (5) .
أمّا القول بالتنازل والمُداهنة أو المُجاملة مع القومِ فهي عقيدة باطلة يَرفضُها أصالة التشريع الإسلامي المُستَنِد إلى وحي السماء ، ويأبى الله ورسوله ذلك ، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] (6).
* * *
وسؤال آخر : هل كان الطلاق والرجوع في العِدّة ـ بذلك الشكل الفظيع ـ عادةً جاهليّة ليَكون موضع الإسلام منها تعديلها إلى وجهٍ صحيح ؟
قال الشيخ مُحمّد عَبده : كان للعرب في الجاهليّة طلاق ومُراجعة في العدّة ، ولم يكن للطلاق حدّ ولا عدد ... فكان ذلك ممّا أصلحه الإسلام .
في حين أنّ جواز الرجوع في العدّة ـ في الطلاق الرَّجعي ـ وكذا تشريع العدّة للطلاق أمرٌ لم يكن للعرب ولا لسائر الأُمَم عهدٌ بذلك مِن ذي قَبل ؛ وإنّما هو مِن مُبدَعات الإسلام وتشريعاته التأسيسيّة الحكيمة ، حتّى أنّ الإمام عَبده استشهد بقضيةٍ وقعت في عهدٍ متأخّر في المدينة ، حيث جاءت المرأة وشكت عند عائشة لتَرفع أمرَها إلى النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) وَنَزلت آيات مِن أُخريات سورة البقرة ، ولعلّها في العام السادس أو السابع للهجرة ! وقد صرّح الطبري بأنّه كان على عهد النبيّ ، وكان رجلٌ مِن الأنصار (7) .
هذا ، وقد أخرج أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في سُنَنه عن أسماء بنت يزيد الأنصاريّة ، قال : طُلِّقتُ على عهد رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله ) ولم يكن للمُطَلَّقة عدّة ، فأنزل الله ـ حين طُلِّقت ـ العدّة للطلاق {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، فكانت أَوّل مَن أُنزلت فيها العدّة للطلاق .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : كان أهل الجاهليّة يُطلِّق أحدهم ليس لذلك عدّة (8) ، وأمّا الرواية الأُخرى عن قتادة بأنّ الطَّلاق لم يكن له في الجاهليّة عدد وكانوا يراجعون في العدّة (9) ، فلعلّ الذيل زيادةٌ مِن الراوي أو بيان للمُراجعة بعد تشريع العدّة في الإسلام ، إذ لا تُقاوِم هذه الرواية ما تقدّمها من روايات مستفيضة .
* * *
وسؤال ثالث : هل الطلاق بيد الرجل ورَهن إرادته على الإطلاق ؟
ذهب المشهور إلى ذلك استناداً إلى قوله ( صلّى اللّه عليه وآله ): ( إنّما الطَّلاق لِمَن أَخَذ بالساقِ ) (10) .
والحديث كما رواه ابن ماجة في السُنَن عن ابن عبّاس أنّ رجلاً أتى النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) فقال : يا رسول الله ، إنّ سيّدي زوّجني أَمَته وهو يُريد أنْ يُفرّق بيني وبينها ، فصعد النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) المِنبر فقال : ( أيّها الناس ، ما بالُ أحدِكم يُزوّج عَبدَه أَمَته ثُمّ يُريد أنْ يُفرّق بينهما ؟! إنّما الطلاق لمَن أَخذ بالساق ) .
والحديث وإنْ كان بِمُختلف طُرقه ضعيف الإسناد إلاّ أنّ الفقهاء تَسالموا على الاستناد إليه ، حتّى أنّ صاحب الجواهر عبّر عنه بالنبويّ المَقبول وَذَكر أنّ الحكم إجماعي ، وقد أَرسل المحقّق حُكَمَه باختصاص الطلاق بِمالِك البُضع إرسال المسلّمات (11) .
وعليه ، فلا شأن للمرأة في أمر الطلاق والفِراق ، وإنّما هو رَهنُ إرادة الرجل حسبَ مشيئته الخاصّة.
* * *
غير أنّ المسألة بحاجة إلى دقةٍ ونظرةٍ فاحصةٍ :
الطلاق ـ وهو الفِراق بين المُتآلِفَين ـ لابدّ أن يكون عن كراهية مُعقَّدة لا يُمكن حلُّها إلاّ بالمُفارقة ، والكراهية إمّا من الزوج فالطلاق رجعي ، إذا كان عن دخولٍ بها ولم تكنْ التطليقةُ الثالثة ، ولم تكنْ المرأة يائسةً ، وشرائط أُخَر مذكورة في محلّها .
وإمّا مِن الزوجة ، فالطلاق خُلعي ؛ لأنّها تَبذل مَهرها لتَنخلع أي تتخلّص بنفسها وتنفلت عن قيد الزوجيّة .
وإمّا مِن الطرفين ، ويعبّر عن ذلك في مصطلحهم بالمُباراة ، مِن المُبارَأَة وهي التخلّص والفصل بين الشريكَينِ أو المُتزاوِجَين. يقال : بَارَأَ شريكَه : فاصَلَه وفارَقَه . وتَبارَأَ الزوجان : تَفارَقا .
فالطلاق في الصورة الأُولى عن رغبةِ الزوج ، وفي الصورة الثانية عن رغبة الزوجةِ ، وفي الصورة الثالثة عن رغبتهما معاً .
فهل الطلاق في جميع هذه الصور بيد الرجل مَحضاً ورَهن إرادته ، إن شاء فارَقَها وخلّى سبيلَها ، وإن شاء أمسكَها إضراراً بها ؟ ولا شأن للمرأة في ذلك ولا لوليّ الأمر إطلاقاً ؟! .
وإليك بعض الكلام حول هذه المسألة الخطيرة الشأن :
جاء في الحديث النبويّ المُستفيض : ( أنّ امرأةً ـ ولعلّها جميلة بنت أُبيّ بن سلول ـ تزوّجها رجلٌ دَميمٌ ( كريه المنظر ) وأَصدَقها حديقة ، فلمّا رآها كَرِهتهُ كَرَاهةً شديدةً ، فجاءت إلى رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله ) وأَبدت كَراهَتَها له وقالت : إنّي لأَكرَهَهُ لدَمامَته وقُبحِ مَنظره حينما رأيتُه ، وزادت : إنّي لولا مخافة الله لبَصَقتُ في وجهِهِ ، قالت : إنّي رفعتُ الخِباء فرأيته مُقبِلاً في عدّةٍ ، فإذا هو أشدُّهم سواداً وأقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً ، قالت : والله ، لا يجمع
رأسي ورأسَه شيء . فقال لها رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( أَتَرُدّين عليه حديقتَه ) ؟ قالت : نعم ، وأَزيدُه ، قال لها النبيّ : ( لا ، حديقته فقط ) ، فردّت عليه حديقتَه ، فَفَرّق بينهما رسول الله ( صلّى اللّه عليه وآله ) .
ويَبدو أنّ ذلك كان بمَغيبٍ عن الرجُل وذلك ؛ لأنّ الرواية ذكرت أنّه لمّا بَلَغه قضاء رسول اللّه وحكمُه بالفِراق بينهما قال : قد قَبِلتُ قضاء رسول اللّه ، قال ابن عبّاس : وكان أَوّلُ خُلعٍ وَقَع في الإسلام (12) .
وظاهر الحديث : أنّه في صورة كَراهة الزوجة تَرفع أمرَها إلى وليّ الأمر ( الحاكم الشرعي ) وهو الذي يتولّى شأنَها ويقضي بفِراقها ، وليس للزوج الامتناع ، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب: 36] .
والمُراد بقضاء الله والرسول أنْ يكون قضاء النبيّ وِفق شريعة السماء ، ولا يكون إلاّ كذلك ، وعليه فقبول الرجُل كان فرضاً عليه ولم يكن له الردّ .
وهكذا جاء في أحاديث أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) :
روى الشيخ بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر( عليه السلام ) قال: ( لا يكون الخُلع حتّى تقول : لا أُطيع لك أمراً ولا أَبرّ لك قَسَماً ولا أُقيم لك حدّاً فخذ منّي وطلّقني ، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أنْ يَخلعها بما تراضيا عليه من قليلٍ أو كثيرٍ ، ولا يكون ذلك إلاّ عند سلطان ، فإذا فعلت ذلك فهي أَملك بنفسها من غير أنْ يُسمّى طلاقاً ) (13) .
وروى بإسناده عن ابن بزيع قال : سألت أبا الحسن الرضا ( عليه السلام ) عن المرأة تُباري زوجَها أو تَختَلع منه بشهادة شاهِدَينِ على غير طُهرٍ مِن غير جُماع ، هل تَبينُ منه بذلك ؟ أو هي امرأته ما لم يُتبِعُها بطلاقٍ ؟ فقال : ( تَبينُ منه ) ، قال : إنّه رَُوي لنا أنّها لا تَبينُ منه حتّى يُتبِعُها بطلاقٍ ! قال ( عليه السلام ) : ( ليس ذلك إذن خُلع ) ، فقال : تَبينُ منه ؟ قال ( عليه السلام ) : ( نعم ) (14) .
وقد أفتى بذلك الشيخ وجماعة مِن كِبار الفقهاء وأوجبوا على الزوج الإجابة على طلبِها مِن غير أنْ يكون له الامتناع .
قال الشيخ في النهاية : وإنّما يَجب الخُلع إذا قالت المرأة لزوجها : إنّي لا أُطيع لك أَمراً ولا أُقيم لك حدّاً ، فمتى سُمِع منها هذا القول أو عُلِم مِن حالِها عصيانَه في شيء مِن ذلك وإنْ لم تَنطق به وَجَب عليه خُلعُها (15) .
قال العلاّمة في المُختَلف : وتَبِعَه أبو الصلاح الحلبي والقاضي ابن البرّاج في الكامل وعليّ بن زُهرة الحلّي (16) .
قال أبو الصلاح ( ت 448) : فإذا قالت ذلك فلا يَحِلّ له إذ ذاك إمساكُها (17) .
وقال ابن زُهرة ( ت585 ) : وأمّا الخُلع فيكون مع كَراهة الزوجة خاصّةً الرجلَ ، وهو مُخيّر في فِراقها إذا دَعَته إليه حتّى تقول له : لئن لم تفعل لأَعصيَنَّ اللّه بِتَرك طاعتِك ، أو يَعلم منها العِصيان في شيءٍ مِن ذلك ، فيجب عليه والحال هذه طلاقُها (18) .
فإذا كان ذلك واجباً عليه ولم يكن له الامتناع عند ذلك لَزِمَهُ طلاقُها ، أو يُلزِمُه السلطان ( وليّ الأمر ـ الحاكم الشرعي ) أو يتولّى الحاكم ذلك بنفسه حسبَما تقدّم في ظاهر الحديث النبوي .
على أنّ ذلك هو لازم اشتراط أنْ يكونَ بمَحضَر السلطان ، كما اشترطه أبو علي ابن جنيد الإسكافي ؛ استناداً إلى حديث زرارة عن أبي جعفر ( عليه السلام ) الآنِف ، ولقوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ} [البقرة: 229] ، وهذا الخطاب للحاكم (19) .
فإنّ مُقتضى هذا الاشتراط أنْ يقوم الحاكم بتنفيذ الأمر حسبَما يَراه مِن مصلحتِهما ، إمّا إلزاماً للزوج أو التولّي بنفسه .
وقد ناقش صاحب الجواهر القولَ بوجوب خُلعِها على الرجل بعدم الدليل على الوجوب ؛ إذ ليس في شيءٍ من الروايات أَمرٌ بذلك وبعدم تماميّة كَونه رَدعاً عن المُنكر ، مُضافاً إلى كونه منافياً لأُصول المذهب ! (20) .
لكن جانب الإضرار بالمرأة ـ إذا لم تُطِق الصبرَ معه ـ يَرفع سُلطة الرجل على الطَّلاق حتّى في هذه الصورة ؛ إذ ( لا ضَرر ولا ضِرار في الإسلام ) (21) ، بمعنى : أنّه لم يُشرَّع في الإسلام أيّ تشريع ـ سواء أكان تكليفاً أم وضعاً ـ إذا كان موردُه ضَرريّاً ، وهذه القاعدة حاكمة على جميع الأحكام الأَوّليّة في الشريعة المقدّسة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، ولا شكّ في أنّ الحكم باختيار الرجل بشأن الطلاق ـ حتّى في صورة كون الزوجيّة أو تَداومِها حَرَجاً على المرأة وضارّاً بها ـ حُكمٌ ضَرريٌّ ، فهو مرفوع ، فعُموم سُلطة الرجل على أَمر الطلاق مُخَصَّصٌ بغير هذه الصورة .
وهكذا ورد صحيحاً عن الإمام أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) فيمَن كانت عنده امرأة ولا يقوم بنَفقتِها... قال : ( كان حقّاً على الإمام أنْ يُفرّق بينهما ) (22) .
على أنّ دليل عموم سُلطة الرجل على الطلاق ضعيف ، بعد كون مُستَنده الحديث النبويّ المعروف ( إنّما الطلاق لمن أَخذ بالساق ) ، وهذا الحديث بِمُختَلف طُرقه ضعيف الإسناد على ما تقدّم عن الهيثمي في مجمع الزوائد (23) .
وعُمدة ما استَدَلّ به صاحب الجواهر على ذلك هو الإجماع (24) ، ولم يكنْ دليلاً لفظياً ليكون له إطلاقٌ أو عموم ، إذن ، فمُستند العُموم ضعيف الشمول .
وبعد ، فإذا لم يكن لعُمومِ سُلطة الرجل على الطَّلاق دليل قاطع وشامل وكان أمر الخُلع مَنوطاً بالتَرافع لدى السلطان ، كان مُقتضى ذلك هو إمكانُ إلزامِ الزوج بالطلاق إذا كانت المَصلحة قاضية بذلك ، ومُدعَمَاً بحديث ( لا ضَرَر ولا ضِرار في الإسلام ) .
وهناك بعض الشواهد عليه في بعض النصوص ، كما في حديث حمران عن الصادق ( عليه السلام ) وفي آخره : ( والطلاق والتخيير مِن قِبل الرجل ، والخُلع والمُباراة يكون مِن قِبل المرأة ) (25) .
وهذا يعني : أنّ أمر الخُلع مَنوطٌ بِمَصلحة المرأة واختيارها ، ولا خِيار للزوج فيه ، مضافاً إلى ما فعله النبي ( صلّى اللّه عليه وآله ) بشأن المُختَلَعة ..
إذن فطريق الخَلاص للمرأة ـ إذا لم تُطِق الصبر مع زوجها ـ مُنفَتِح ، وليست أسيرةً رَهن إرادة الرجُل مَحضاً .
بقي هنا شيءٌ وهو كلام صاحب الجواهر بالمُنافاة مع أصول المذهب ! ولم نتحقَّقه ، كيف وقاعدة لا ضَرر ولا حَرج هُما اللذان يُشكِّلان قواعد المذهب ، والعمل عند اللّه .
والسؤال الأخير : ما هو سبب الفَرق بين الرجل والمرأة ، حيث كان الرجل مُطلَق السَّراح بشأن طلاق زوجته ، وأمّا المرأة فبعد مُراجعة الحاكم الشرعي ورَهن تَصميمِهِ في الأمر ؟!
وهذا يعود إلى ما بين الرجل والمرأة مِن فَرق في طبيعتِهما ؛ حيث هي مُرهَفَة الطبع ، رقيقة النفس ، ذات عواطف جيّاشة ، تُثار لأيّ مؤشِّر وتنبري لأيّ وَخزَة ، وكلّ أمر إذا أُنيط بجانب العاطفة السريعة التأثُّر ربّما أوجد مشاكل ومضاعفات لا يُحمد عُقباها ، أمّا الرجل فبطبيعته الهادئة المتريّثة ، وهو الذي تحمّل تكاليف هذا الازدِواج ، ولا يمكن أنْ يتغافل عن عواقب سُوءٍ سوف تترتّب على الفِراق أحياناً ، ويكون أعباء ثقلها على عاتقه في الأغلب ؛ فإنّه بذلك ولغيره مِن الجهات لا يتسّرع في الأمر مهما بلغ به الغضب أو ثارت ثائِرتُه في حينه ، مادام لم ينظر في عاقبة الأمر وما يترتّب عليه مِن أثر!
ومع ذلك ، فإنّ القوانين المدنيّة الحاكمة اليوم في البلاد الإسلاميّة تَفرض على الرجل تريّثَه المُضاعف ومُراجعة المَحاكم الصالحة ، مِن غير أنْ يكون مُطلق السَّراح .
ونحن الآن ـ في ظلّ ولاية الفقيه ـ نرى مشروعيّة هذه القوانين المُحدِّدَة مِن تَصرّفات الرجل العابثة ، وهذا مِن الآثار الإيجابيّة لسيطرة ولاية الفقيه على القوانين الحاكمة في البلاد .
* * *
ونجد هناك بعض المحاولات لسدّ هذه الثغرة عن طريق الاشتراط على الزوج ـ في عَقد النِّكاح أو ضِمن عقدٍ آخر لازم ـ بأنْ يُوكِّل الزوج زوجتَه في طَلاق نفسِها متى
شاءت أو مَشروطاً بعدم إمكان المُؤالَفَة ونحو ذلك ، فتقوم المرأة بتطليق نفسِها وَكالةً عن زوجِها .
وبهذا النحو مِن العِلاج أفتى سيّدنا الأستاذ الإمام الخميني ـ طاب ثراه ـ إجابةً على استفتاءٍ قدّمته إليه جَماعةُ النِسوَة المُناضِلة في إيران عام 1358 هـ .ش (26) .
وقد كان هذا الاشتراط على الزوج في صالح الزوجة رائجاً في أوساطنا منذ القديم ، لكن على النحو المَشروط ، أمّا بصورة الإطلاق ومتى شاءت اختصّ الإمام الراحل ( قدس سرّه ) بالإفتاء به .
وإليك نصّ العبارة ـ مُترجمةً ـ بعد البَسمَلة .
قد سهّل الشارع المقدّس طريقةً معيَّنةً للنساء ، كي يَستطعنَ تولّي الطَّلاق بأنفسِهنّ ، وذلك بأن تَشترط المرأة في ضِمن عَقد النِّكاح أنْ تكونَ وكيلةً عن الزوج في الطلاق بصورة مُطلقة ، أي متى شاءت أنْ تُطلّق نفسَها فَعَلت حَسَب مشيئتِها ، أو بصورة مَشروطةٍ ما إذا تخلّف الزوج عن بعض وظائفه الزوجيّة ، أو أراد أن يتزوّج امرأةً أُخرى ، ونحو ذلك ، فهي مُختارة ـ حسب وكالتِها عن الزوج ـ في تطليقِ نفسِها ، قال : وبهذا النحو مِن العِلاج تنحّل مُشكلة أَمر الطَّلاق ، ( روح اللّه الموسويّ الخمينيّ )
لكن الظاهر أنّ هذا ليس بالعلاج الحاسم ، والمُشاهَد أنّ الأزواج لا يُوافقون على هذا النحو من الاشتراط ولا سيّما صورة إطلاقه ، وليس الرجل ـ مهما كانت المرأة بالمُفتَن بها ـ بهذا النحو مِن الرضوخ لإرادتها الخاصّة ـ طُول حياتها الزوجيّة ـ لاسيّما وتضخّم عدد النساء الطالبات للزواج بلا شرط ولا قيد !
إنّ للرجل ـ في طبيعته الرجوليّة ـ أَنفَةً وشموخاً لا يستسلم لقيادة المرأة مهما كانت فائقةً ، إلاّ إذا بلغ به الذُّلّ والهوان ما يَجعله خاضِعاً لهذا الرضوخ .
على أنّ هنا حديثاً عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في رَجُلٍ جَعَل أمرَ امرأته بيدها ! قال :
( وَلّى الأمرَ مَن ليس أهله ، وخالف السنّة ، ولم يَجز النِّكاح ) (27) .
وفي رواية أُخرى في رجُلٍ لامرأته : أَمرُكِ بيدِكِ ! قال : ( أَنّى يكون هذا ، واللّه يقول {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] ؟! ليس هذا بشيء ) (28) .
وأيضاً هنا كلام عن هذه الوَكالة ـ وهي عَقد جائز ، متى شاء المُوكِّل عَزلَ الوكيل ـ هل تُصبح لازِمةً باشتراطه في ضِمن عقد النِّكاح أو أيّ عقد لازم ؟ وهل الشرط ضِمن عَقدٍ لازم يُغيّر مِن ماهيّة المشروط ؟
وأخيراً ، فإنّ الشيخ ذَكَر في كتابه ( المبسوط ) قال : وإن أَراد [ الرجل ] أن يجعلَ الأمر إليها فعندنا لا يجوز على الصحيح مِن المذهب . وفي أصحابنا مَن أجازه (29) .
ومِن ثَمّ فإنّ المسألة ليست بهيّنة ، لا سيّما وخُطورة أمر البُضع المقتضية للاحتياط فيه ، كما وقد رجّح صاحب الجواهر جانب الاحتياط ، قال : وعلى كلّ حالٍ فالاحتياط لا ينبغي تركه (30) .
_______________________
1. راجع : تفسير المنار ، ج 2 ، ص 381 .
2. الدرّ المنثور ، ج 1 ، ص 662 ، ومجمع البيان ، ج 2 ، ص 329 .
3. الدكتور حسين مهربور أخصّائي في الحقوق ، مجلّة ( نامه مفيد ) ، العدد 21 ، ص 161 .
5. راجع : صحيحة زرارة في الكافي ، ج 1 ، ص 58 ، رقم 19 .
6. تجد جانباً من ذلك في رسالتنا ( ولاية الفقيه ) الفارسيّة ص 172 ـ 174 .
7. البقرة 2 : 120 ، وفي آية أخرى : ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) ، البقرة 2 : 145 ، وفي ثالثة : ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) ، الأنعام 6 : 116 .
8. جامع البيان ، ج 2 ، ص 276 .
9. الدرّ المنثور ، ج 1 ، ص 656 ، وسنن أبي داود ، ج 2 ، ص 285 ، رقم 2281 ، وسنن البيهقي ، ج 7 ، ص 414 كتاب العدد .
10. جامع البيان ، ج 2 ، ص 276 .
11. سُنَن ابن ماجة ، ج 1 ، ص 641 ، باب 667 ، طلاق العبد ، رقم 2107 ، وفي كنز العمّال ، ج 9 ، ص 640 ، رقم 27770 نقله عن الجامع الكبير للطبراني ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد ، ج 4 ، ص 334 وعن عصمة ... الخ ، وقال : فيه الفضل بن المختار وهو ضعيف . ( هامش الكنز ) ، أمّا عن ابن عباس ـ كما في سُنَن ابن ماجة والطبراني ـ ففي طريقه ابن لهيعة ، قال في الزوائد : وهو ضعيف . ( هامش ابن ماجة ) .
12. جواهر الكلام ، ج 32 ، ص 5 .
13. راجع : سُنَن البيهقي ، ج7 ، ص314 ، وسُنَن ابن ماجة ، ج1 ، ص633 ، باب 658 ، والدُرّ المنثور ، ج1 ، ص 670 ـ 672 وقد نقلنا النصّ بصورة مُلفقة والأكثر للدرّ .
14. تهذيب الأحكام ، ج8 ، ص98 ـ 99 ، رقم 331 .
15. المصدر : رقم 332 .
16. النهاية في مجرد الفقه والفتاوي للطوسي ، ص529 .
17. المختلف ، ج7 ، ص383 .
18. الكافي في الفقه للحلبي ، ص307 .
19. غنية النزوع لابن زُهرة ، ج1 ، ص374 ـ 375 .
20. المختلف ، ج7 ، ص388 .
21. جواهر الكلام ، ج33 ، ص3 ـ 4 .
22. وسائل الشيعة ، باب 1 من أبواب موانع الإرث ، حديث 10 ، ج17 ، ص118 .
23. وسائل الشيعة : باب 1 من أبواب النفقات ، ج21 ، ص509 ، رقم 2 و6 و12 .
24. راجع : هامش كنز العمّال ، ج9 ، ص640 ، وهامش ابن ماجة ، ج1 ، ص641 ، ومجمع الزوائد ، ج4 ، ص334 .
25. جواهر الكلام ، ج32 ، ص5 .
26. وسائل الشيعة ، ج22 ، ص292 ، رقم 4 ، باب 6 من كتاب الخُلع .
27. راجع : صحيفة النور ، ج10 ، ص78 ، ومجلّة ( نامه مفيد ) ، العدد 21 ص168 .
28. تهذيب الأحكام ، ج8 ، ص88 ، والاستبصار ، ج3 ، ص313 ، والكافي ، ج6 ، ص137 ، رقم 4 .
29. وسائل الشيعة ، ج22 ص 93 ـ 94 ، رقم 5 و6 ، باب 41 من أبواب مقدّمات الطلاق .
30. المبسوط للطوسي ، ج5 ، ص29 .
31. جواهر الكلام ، ج32 ، ص25 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|