أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-7-2019
6332
التاريخ: 5-7-2016
8793
التاريخ: 21-11-2019
2212
التاريخ: 23-2-2016
2211
|
في حالة الاختيار بين نظريتين وفقًا للطريقة العلمية، لا بد أن يعتمد هذا الاختيار على الأدلة، لكن ماذا إذا كانت النظريتان مختلفتين وتطرحان التنبؤات نفسها بالضبط؟ يُطلق الفلاسفة على هذه الحالة «نقص إثبات النظرية بالأدلة»؛ وتتمثل معضلة «نقص الإثبات» في الاختيار بين نظريتين من هذا القبيل.
فبشكل أو بآخر، تُعد مسألة نظريتي المادة المظلمة ديناميكا نيوتن المعدلة مثالاً على معضلة نقص الإثبات، إذ لا توجد تجربة ولا ملاحظة مرصودة تخبرنا بأي النظريتين صحيح؛ وذلك بسبب إمكانية إكمال تفاصيل النظرية وافتراضاتها المساعدة بطرق مختلفة لتفسير البيانات نفسها. والحل الواضح لتلك المسألة هو إنتاج المزيد من المعرفة العلمية؛ فبمرور الوقت، ستؤدي قوة الأدلة – كما نرجو – إلى استنتاج أوضح، حتى وإن ظلت لدينا بعض الأسئلة الفلسفية عن السبب الذي يدفعنا إلى الوثوق في هذا «الاستنتاج الواضح» على الرغم من عدم استبعاد أي من النظريتين استبعادًا حاسمًا. ويطلق الفلاسفة على هذه الحالات اسم «نقص الإثبات الضعيف». وثمة حالةٌ أخرى أكثر إزعاجًا، وهي عندما توجد نظريتان لا تطرحان التنبؤات نفسها وفقًا لمجموعة الأدلة الحالية فحسب، بل وفقًا لكل الملاحظات والقياسات المحتملة أيضًا. وفي هذه الحالة التي يسميها الفلاسفة «نقص الإثبات القوي»، لا يبدو أن مناهج العلوم تلقى قبولاً.
كان الكثير من فلاسفة العلوم يظنون فيما سبق أن هذه الحالة مستحيلة منطقيًّا. وفقًا لمذهب الوضعية (أو الإجرائية أو الذرائعية؛ وينبغي التأكيد مجددًا على أنني لن أقف على الفروق الدقيقة بين كلٌّ من هذه التوجهات)، فإِنَّ فَهْم محتوى أي نظرية علمية يستلزم التمييز بين مزاعمها «الرصدية» ومزاعمها «النظرية». وتُستخدم كلمة «الرصد» في هذا السياق بمعنى قوي جدا؛ حيث إنها تُشير إلى شيء «يمكن التعبير عنه باللغة المستخدمة يوميا»، أو «يمكن اختباره بحواس الإنسان من دون مساعدة». فعبارة مثل «سيعرض جهاز الكشف الرقم 5.228» هي ما يُعد زعما رصديًا على سبيل المثال. يرى أنصار مذهب الوضعية أنَّه لا يمكن فهم المزاعم غير الرصدية بمعزل عن آثارها الرصدية؛ فعبارة مثل «تتكون الذرة من إلكترونات وبروتونات» هي مرادف للقول: «إذا أجريت هذا القياس، فسأحصل على هذه النتيجة؛ وإذا أجريت ذلك القياس، فسأحصل على تلك النتيجة ...». فمن الناحية العملية، ليس محتوى النظرية العلمية سوى مجموعة المزاعم الرصدية التي تطرحها؛ مما يعني أن ما يتبقى من النظرية ليس سوى أداة حسابية للانتقال من مجموعة ملاحظات رصديةٍ إلى أخرى. إنَّ ما راقَ الفلاسفة في أوائل القرن العشرين – وبعض علماء الفيزياء حتى اليوم – في مذهب الوضعية هو أنه ينبذ أي زعمٍ بشأن أي نظرية إن لم تكن له نتائج تجريبية، بوصفه زعمًا لا طائل منه. ومما جذبهم إليه على وجه الخصوص، أنه يستبعد نقص الإثبات القوي بالضرورة؛ فوفقًا لهذا المذهب، إذا طُرِحَت نظريتان تقدِّمان المزاعم الرصدية نفسها، فهما نظرية واحدة تختلفان في طريقة الطرح فحسب. ولهذا يسمح مذهب الوضعية بتجاوز الكثير من اللبس اللفظي والدخول مباشرةً إلى الأسئلة العلمية الفعلية. ما نقائصه إذن؟ أولًا أنه لا يتلاءم مع الطريقة التي يتبعها العلماء في وصف مشاريعهم؛ لأنفسهم أو للآخرين. فعادةً ما يصف علماء الفلك أنفسهم بأنهم يبنون تلسكوبات الراديو للتعلم عن النجوم والمجرات، وليس لأنَّ هذه التلسكوبات تمثل اهتمامهم الجوهري. وعندما يحثُ علماء فيزياء الجسيمات الوزارات الحكومية لإنفاق مبالغ كبيرة من المال على مسرعات الجسيمات، فإنهم يدعمون قضيتهم بحجة استخدام تلسكوبات الراديو من أجل اكتشاف الحقائق العميقة عن الكون؛ وهي قضية ستضعف كثيرًا إن كان اكتشاف «الحقائق العميقة عن الكون» لا يستلزم سوى فهمها بوصفها مزاعم غير مباشرة، عن آليات عمل مسرع الجسيمات نفسه ليس إلا.
لكن ثمة سبب أعمق يعيب هذا المذهب؛ وهو أن التمييز بين المزاعم الرصدية والنظرية أصعب بكثير مما يبدو عليه. وقد تناولنا جزءًا من هذا السبب بالفعل؛ وهو أنه بسبب الافتراضات المساعدة، ما من زعم علمي مستقل له نتائج رصدية؛ ومن ثم فإنَّ القائمة التخطيطية الخاصة بالنتائج الرصدية لزعم أن الذرات تتكون من الإلكترونات والبروتونات» قائمة خيالية فحسب. ففي نهاية المطاف، ترتكز المزاعم الرصدية للنظرية العلمية على مزاعمها النظرية، ولا يمكن أن تفهم فهما وافيًا من دونها. الحق أنَّ الوضع أسوأ من هذا؛ إذ لا يمكن التمييز في حقيقة الأمر بين المزاعم «الرصدية» و«النظرية». فالملاحظات الرصدية «محمَّلة مسبقًا بالنظرية» مثلما يقول الفلاسفة؛ ذلك أننا نحتاج إلى الألفاظ المستخدمة في النظرية حتى في وصف الملاحظات الرصدية. «جهاز الكشف سيعرض الرقم 5.228 ...» أي جهاز كشف؟ وحده جهاز الكشف المصمم بالطريقة الصحيحة، ولا بد أن «الطريقة الصحيحة» ستنطوي على أفكار نظرية. فلا يمكن فَهم مصطلحات على غرار «الليزر» أو «تلسكوب الراديو» أو «مسرع الجسيمات من دون فهم النظرية التي تُستخدم فيها هذه المصطلحات («الليزر» على سبيل المثال عبارة عن شعاع ضوء متماسك ينتج عن انبعاث مستحث.
قد يبدو أن هذا يقضي على تهديد مشكلة نقص الإثبات القوي، إذا لم يكن بإمكاننا فصل الأجزاء التي يمكن رصدها في نظرية ما عن تلك التي لا يمكن رصدها، فلن يمكننا حتى فهم فكرة النظريات المختلفة ذات النتائج الرصدية نفسها. وفي أسوأ الحالات، قد يكون لدينا حالة من نقص الإثبات الضعيف، مثل حالة المادة المظلمة / ديناميكا نيوتن المعدلة، التي تؤثر فيها الأدلة في الجدال، لكن هذا التأثير غير حاسم في الوقت الحاضر. وعلى أي حال، توجد طرق أخرى قد تحدث بها مشكلة نقص الإثبات القوي. الطريقة الأولى مضجرة، ولهذا يمكننا التغيير منها بعض الشيء. إذا كانت النظرية X تتضمن الإلكترونات، على سبيل المثال، فربما تكون النظرية X: «تحدث الملاحظات جميع الرصدية كما لو كانت الإلكترونات موجودة، مثلما يرد في النظرية X ، لكن الإلكترونات غير موجودة بالفعل». الواقع أنَّ الخطأ في نظرية مثل النظرية X خفي بعض الشيء (إنها مثال على ما يطلق عليه الفلاسفة «مذهب التشكيك»)، ولكن المشكلة ليست قاصرة على العلم وحده. (تأمل الجملة: تحدث جميع الملاحظات الرصدية كما لو كان برج إيفل موجودًا، ولكنه غير موجود. إذا كنا مهتمين بفلسفة العلوم دون الأحاجي الفلسفية العامة، يمكننا تنحية هذه الحالة جانبًا.
تحدث الحالة الثانية حينما توجد لدينا نظريتان متطابقتان «فيما عدا» جزءًا إضافيًا في إحداهما لا يقدِّم أي فائدة تفسيرية. إذا كانت النظرية X نظرية علمية ناجحة، فسوف تتشكل النظرية "X بأن يُضاف إلى النظرية X عنصر جديد لا يتفاعل مع أي من العناصر الأخرى، وهو ما يُسمى بـ «العنصر غير ذي الصلة». وفي هذه الحالة، فإن جُلَّ ما يفعله العنصر غير ذي الصلة هو تعقيد النظرية X من دون أن يضيف إليها أي درجة من القوة العلمية؛ ومن ثم يبدو أنَّ التفكير العلمي السليم يقتضي الالتزام بالنظرية X. (سنجد مجددًا أنَّ السبب الدقيق الذي يوضّح وجاهة هذا التفكير وسلامته خفي بعض الشيء. فقبل مائة عام، كان الفلاسفة سيقولون إن هذا العنصر غير ذي الصلة مستغلق تماما. أما اليوم، فالأرجح أنهم سيقولون إنه لا يوجد سبب للاعتقاد بوجوده.)
تبرز الحالةُ الأكثر إثارة للاهتمام فرقًا حادا بين مناهج علماء الفيزياء و(معظم) الفلاسفة. ففي نظر عالم الفيزياء المشتغل بالمجال، يجب أن تُصاغ النظرية في نهاية المطاف بالرياضيات مجموعة من البنى الرياضية التي تصف الاحتمالات الظاهرة، وبعض المعادلات التي تحدّد أيُّ الاحتمالات الظاهرة ممكن من المنظور الفيزيائي. على الرغم من ذلك، يبدو أنَّ العالم لا يقتصر على الرياضيات فحسب، وثمة إغراء قوي على الأقل في أن تتضمن النظرية أكثر من ذلك؛ قدرًا من التفسير للظاهرة الكونية طبقًا للنظرية، ووصف الظاهرة، وذكر الأسباب والنتائج التي تؤدي إليها، وذكر التفسيرات لذلك. إذا كان الأمر كذلك، فهذا يثير احتمالية أن توجد نظريتان مختلفتان لهما البنية الرياضية نفسها (ومن ثم النتائج الرصدية نفسها، نظرًا لكيفية ممارسة الفيزياء). أهذه احتمالية حقيقية؟ رأينا أن أنصار مذهب الذرائعية يجيبون عن هذا السؤال بالنفي؛ إذ يرون أنَّ أيَّ نظريتين لهما النتائج الرصدية نفسها هما في الحقيقة نظرية واحدة، وصفت بطريقتين مختلفتين. لكننا رأينا أن مذهب الذرائعية غير قابل للتطبيق.) ويُجيب أنصار مذهب الواقعية العلمية القياسية عن هذا السؤال بالإيجاب؛ إذ يرون أنه من الممكن أن تتشارك نظريتان مختلفتان البنية الرياضية نفسها. وبالنسبة إلى أنصار مذهب الواقعية العلمية البنيوية أو ما يمكن تسميتهم بالبنيويين فهم أيضًا لا يرون في ذلك احتماليةً حقيقية؛ إذ يعتقدون أن نظريتين لهما البنية الرياضية نفسها هما في واقع الأمر وصفان مختلفان للنظرية نفسها. إنَّ النهج البنيوي هو الأقرب إلى الافتراضات الضمنية المستخدمة في الفيزياء، وهو النهج الذي أتبناه غالبًا في هذا الكتاب، غير أنه يوجد العديد من الأسئلة غير المجاب عنها بشأن كيفية فَهمه وتمييزه عن النهج القياسي.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|