أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-09-01
247
التاريخ: 30-04-2015
1647
التاريخ: 12-6-2016
1928
التاريخ: 10-10-2014
1571
|
لا شكَّ أنَّ اختلاف مصاحف الأمصار كان أهمَّ عوامل نشوء الاختلاف القرائي ، كان أهل كلِّ مِصر ملتزمين بالقراءة وفْق مصحفهم ، وعلى إقراء مُقريهم الخاصّ ، وهكذا قرأ ابن عامر ـ وهو مقرئ الشام ـ : {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وبالزبر } (1) ـ بالباء ـ ؛ لأنَّ مصحف الشام كان كذلك ، وقرأ الباقون بغير باء (2) .
وقرأ نافع وابن عامر : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران : 133] ـ بلا واو ـ ؛ لأنَّ مصحف المدينة ومصحف الشام كانا خلواً عنها ، ونافع مدَني ، وابن عامر شامي ، وقرأ الباقون بالواو ؛ لأنَّ مصاحفهم كانت مشتملة عليها (3) .
وهناك أيضاً عوامل أخرى ساعدت على هذا الاختلاف ، نذكر منها ما يلي :
1 ـ بداءة الخطّ :
كان الخطّ عند العرب آنذاك في مرحلة بدائية ، ومن ثمَّ لم تستحكم أُصوله ، ولم تتعرَّف العرب إلى فنونه والإتقان من رسْمه وكتابته الصحيحة ، وكثيراً ما كانت الكلمة تُكتب على غير قياس النُطق بها ، ولا زال بقي شيء من ذلك في رسم الخطّ الراهن ، كانوا يكتبون الكلمة وفيها تشابه واحتمال وجوه : فالنون الأخيرة كانت تُكتب بشكل لا يفترق عن الراء ، وكذا الواو عن الياء ، وربّما كتبوا الميم الأخيرة على شكل الواو ، والدال على صورة الكاف الكوفية ، والعين الوسط كالهاء .
كما ربّما كانوا يفكِّكون بين حروف كلمة واحدة ، فيكتبون الياء منفصلة عنها ، كما في ( يستحي ي ) و( نُحي ي ) و ( اُحي ي ) ، أو يحذفونها رأساً كما في ( إيلافهم ) كتبوها ( إلا فِهم ) بلا ياء ، الأمر الَّذي أُشكل على بعض القرّاء فقرأها وفْق الرسم بلا ياء ، قرأ ذلك أبو جعفر (4) فقد قرأ ( ليلاف قريش ) بحذف الهمزة وإثبات الياء ، و ( إلافهم رحلة الشتاء والصيف ) بإثبات الهمزة وحذف الياء .
وقرأ ابن فليح ( إلْفهم ) بالهمز وسكون اللاّم ، وهكذا اختلف القرّاء في هذه الكلمة اختلافاً غريباً من جرّاء عدم ضبط الكلمة في مرسوم الخطِّ تماماً .
وربَّما رسموا التنوين نوناً في الكلمة (5) ، كما كتبوا النون ألفاً في كثير من المواضع ، منها : {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق : 15] و {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف : 32] ، وهاتان النونان نون تأكيد خفيفة كتبوها بألف التنوين ، و {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء : 67] كتبوا ( إذاً ) بدل ( إذن ) تشبيهاً بالتنوين المنصوب (6) .
وهكذا حذفوا واوات أو ياءات بلا سبب معقول ، فكان من أهمّ عوامل الإبهام ، والإشكال في القراءة بل في التفسير أيضاً ، كما في قوله تعالى : ( وصالحوا المؤمنين ) فلم يكتبوا الواو هكذا : {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [التحريم : 4] ، ومن ثمَّ وقع الاشتباه أنَّه مفرد أُريد به الجِنس أو جمْع مضاف (7) .
وحذفوا الألف من ( عَاداً الأُولَى ) هكذا : ( عاد الأولى ) ، فربَّما اشتبه مشتبه أنَّه فِعل أو اسم (8) ، وزادوا ألفاً في (جاءنا) [ الزخرف : 38] هكذا ( جاءانا ) ، والكلمة مفردة فربّما ظنَّها الجاهل مثنّى (9) .
كما رسموا ألفاً بعد كثير من واوات زعموهنَّ واوات جمع ، وعلى العكس حذفوا كثيراً من ألفات واو الجمع ، فمن الأوَّل قوله : ( إنَّما أشكوا بثّي )[ يوسف : 86] ، و { فلا يربوا }[ الروم : 39] ، و{ نبلوا أخباركم }[ محمّد : 31] ، و { ما تتلوا الشياطين }[ البقرة : 102] ، ومن الثاني قوله : { فاؤ }[ البقرة : 226] ، و{ جاؤ } (10) ، و{ فباؤ } (11) ، و{ تبوَّؤ الدار }[ الحشر : 9] ، { سعو }[ الحجّ : 51]و[ سبأ : 5] ، و{ عتو } (12) ، وغير ذلك كثير .
ومن ثمَّ ربَّما كان الأوائل يتّهمون كَتَبة المصاحف فيرون الصحيح غير ما كتبوه ، كما روي عن ابن عبّاس أنَّه قرأ { ووصّى ربُّك أن لا تعبدوا إلاّ إيّاه } فقيل له : إنَّه في المصحف { وقَضَى رَبُّكَ }[ الإسراء : 23] فقال : التصقت أحد الواوين فقرأ الناس ( وقضى ) ، ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد .
وفي لفظ ابن أشتة : استمدّ الكاتب مداداً كثيراً فالتصقت الواو بالصاد (13) .
وروي أيضاً عنه أنَّه قرأ ( أفلم يتبيَّن الَّذين آمنوا ) فقيل له : في المصحف { أفلَم يَيأس} [ الرعد : 31] فقال : أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس (14) .
وقد صحَّح ابن حجر إسناد هذه الروايات (15) ، لكنَّ الصحيح عندنا ـ على فرْض صحَّة الإسناد ـ أنَّها مؤوَّلة إلى غير ما يبدو من ظاهرها .
2 ـ الخلوُّ عن النُقط :
كان الحرف المعجم يُكتب كالحرف المهمل بلا نُقَط مائزة بين الإعجام والإهمام ، فلا يُفرّق بين السين والشين في الكتابة ، ولا بين العين والغين ، أو الراء والزاي والباء والتاء والثاء والياء ، أو الفاء عن القاف ، أو الجيم والحاء والخاء ، والدال عن الذال ، أو الصاد عن الضاد ، أو الطاء عن الظاء ، فكان على القارئ نفسه أن يميِّز بحسب القرائن الموجودة أنَّها باء أو ياء ، جيم أو حاء ، وهكذا .
من ذلك قراءة الكسائي : ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبّتوا ) وقرأ الباقون : ( فتبيَّنوا ) (16) .
وقرأ ابن عامر والكوفيون : ( ننشرها ) ، وقرأ الباقون : ( ننشزها ) (17) .
وقرأ ابن عامر وحفص : ( ويكفّر عنكم ) ، وقرأ الباقون : ( نكفّر ) (18) .
وقرأ ابن السميقع ( فاليوم ننحّيك ببدنك ) ، والباقون : ( ننجّيك ) (19) .
وقرأ الكوفيّون غير عاصم ( لنثويَّنهم من الجنة غرفاً ) ، والباقون : ( لنبوّئنَّهم ) (20) .
وأمثلة هذا النوع كثيرة جدّاً .
3 ـ التجريد عن الشكل :
كانت الكلمة تُكتب عارية عن علائم الحركات القياسية في وزنها وفي إعرابها ، وربَّما يحتار القارئ في وزن الكلمة وفي حركتها فيما إذا كانت الكلمة محتلمة لوجوه ، مثلاً لم يكن يدري ( اعلم ) أمرٌ أمْ فِعل مضارع متكلّم ، فقد قرأ حمزة والكسائي ( قال اعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير ) بصيغة الأمر ، وقرأ الباقون بصيغة المتكلّم (21) ، كما قرأ نافع قوله تعالى : ( وَلاَ تسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ) بصيغة النَّهي ، وقرأ الباقون بصيغة المضارع المجهول (22) ، وقرأ حمزة والكسائي : ( مَن يطّوع ) بالياء وتشديد الطاء مضارعاً مجزوماً ، وقرأ الباقون بالتاء وفتح الطاء ماضياً (23) ، إلى غير ذلك من الشواهد المتوفّرة في المصحف الأوَّل .
قال ابن أبي هاشم : إنَّ السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها : أنَّ الجهات الَّتي وجِّهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة مَن حمَل عنه أهل تلك الجهة ، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل ... قال : فمِن ثمَّ نشأ الاختلاف بين قرّاء الأمصار (24) .
وقال سيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي ( دام ظلّه ) : إنَّ القراءات لم يتَّضح كونها رواية ، فلعلَّها اجتهادات من القرّاء ، وتؤيِّد هذا الاحتمال بعض الأعلام بذلك ، بل إذا لاحظنا السبب الَّذي من أجله اختلف القرّاء في قراءاتهم ، وهو خلوّ المصاحف المرسلة إلى الجهات من النقَط والشكل ، فإنَّه يقوى هذا الاحتمال (25) .
4 ـ إسقاط الألِفات :
كان الخطّ العربي الكوفي منحدراً عن خطِّ السريان ، وكانوا لا يكتبون الألِفات الممدودة في ثنايا الكلِم ، وقد كتبوا القرآن بالخطِّ الكوفي على نفس المنهج ، الأمر الَّذي أوقع الاشتباه في كثير من الكلمات ، فقد قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير : { وما يخادعون إلاّ أنفسهم } بدل ( وما يخدعون ) ؛ نظراً لأنّ [البقرة : 9] ( يخادعون الله ) في صدر الآية قد كُتبت بلا ألف فزعموهما من باب واحد (26) .
وهكذا كتبوا { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }[ الأنبياء : 95] ـ وحَرَم ـ بلا ألف ، ومن ثمَّ قرأ حمزة والكسائي وشعبة ( وحِرْم ) بكسر الحاء وسكون الراء (27) .
وقرأ الكوفيّون { ألم نجعل الأرض مهداً } بدل ( مهاداً ) [ النبأ : 6] ؛ لأنَّها كُتبت في المصحف بلا ألف (28) .
وقرأ أبو جعفر والبصريّون : { وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [ البقرة : 51] بلا ألف ، وكذا في سورتي الأعراف وطه (29) ؛ لأنَّها هكذا كُتبت ، وقرأ الباقون ( وإذ واعدنا ) (30) .
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ( بل أدرك ) ، وقرأ الباقون { بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ } [ النمل : 66] ؛ وسبب الاختلاف أنّها كُتِبت في المصحف بلا ألف ، فقرأ كلّ حسب نظره فيما رآه مناسباً (31) .
وقرأ نافع ( في غيابات الجبّ ) ، وقرأ الباقون { فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ } [يوسف : 10] (32) ؛ نظراً لأنَّ المصحف كان مجرَّداً عن الألف هكذا : ( غيبت ) ، فاجتهد نافع فزعمه جمْعاً ، واجتهد الآخرون فرأوه مفرداً ، والمفروض أنَّ رسم المصحف كان خلواً من الألف مع مدِّ التاء مطلقاً غالبياً ، ومن ثمَّ هذا الاشتباه والاختلاف .
* * *
تلك وأشباهها عوامل أوَّلية لاشتباه قراءة النصّ ، وكان فاقداً لأيِّ علامة مائزة ، وخالياً من النقَط والشكل ، ومشوَّشاً في رسم خطِّه بحذف أو زيادة ، فكان ذلك لا محالة موجباً للتشويش على القارئ ، فلم يكن يدري ـ مثلاً ـ أنَّ قوله تعالى { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً }[ يونس : 92] أنَّها بالفاء أو بالقاف ، أو أنَّ قوله : { تَبْلُو }[ يونس : 30] أنَّها ( تتلو ) بتائين ، أو ( نتلو ) بنون ثمَّ تاء ، أو ( يتلو ) بياء ثمَّ تاء ، أو أنَّ قوله : ( يعلمه ) أنَّها ( نعلمه ) ، أو ( تعلمه ) ، أو ( بعلمه ) .
أضف إلى ذلك : بعض الزيادات المخلّة بالمقصود ، إذا لم يكن القارئ عارفاً بأصل النصّ من سماعٍ خارج ، كما في قوله : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ }[ النمل : 21] فزادوا ألفاً أثناء كلمة واحدة (33) ( لأاذبحنَّه ) ، فربَّما يحسب القارئ الجاهل بالواقع أنَّها ( لا النافية ) ، في حين أنَّها لام تأكيد ، والهمزة حرف المتكلّم والألف زائدة .
وكذلك كلمة ( لشائ ) (34) في قوله : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً }[ الكهف : 23] زادوا بين الشين والياء ألفاً لا عن سبب معقول ، وكلمة ( تايئسوا ) في قوله : { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }[ يوسف : 87] زادوا ألفاً بعد حرف المضارع ، والفعل في الموضعين ( تايئسوا ) و( يايئس ) بلا موجب (8) .
* * *
وعلى أيّ تقدير ، فإنَّ عدم انتظام خطِّ المصحف الأوَّل كان أوَّل عامل في نشوء اختلاف قراءة القرّاء .
كان على القارئ نفسه أن يختار نوع الحرف والشكل وتمييز الكلمة في حركتها القياسية ونوعيَّة إعرابها ، فضلاً عن إعجامها وتشكيلها ، حسب ما يبدو له من قرائن وأحوال وشواهد ونظائر ، ومناسبة المعنى واللفظ ، فكان عليه ـ لا محالة ـ أن يلاحظ جميع هذه الملاحظات ، ثمَّ يختار القراءة الَّتي يراها وفْق الاعتبار الصحيح في نظرِه .
ولا شكَّ أنَّ المذاويق والسلايق وكذلك الأنظار والدلائل ، تختلف حسب عقليّات الأشخاص وسابقة إلمامهم بالأمر ، ومبلغ ممارستهم للموضوع ، ومن ثمَّ وقع الاختلاف في قراءة القرآن حسب تفاوت الاجتهادات النظرية ، فقد استند كلُّ قارئٍ إلى عِلل وحُجج ربَّما تختلف عن حُجج الآخرين .
وقد صنَّف كثير من العلماء في مستندات القراءات المختلفة وذكروا عِللها وحُججها ، منهم : أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي في كتابه ( الحجَّة في عِلل القراءات السبْع ) ، ومنهم أبو محمَّد مكّي بن أبي طالب القيسي في كتابه ( الكشف عن وجوه القراءات السبْع وعِللها وحُججها ) وسنذكر نماذج من كلامهما . والتصنيف في تعليل القراءات كثير .
هذا ، وأمّا الرواية أو السماع من الشيخ فلم يكن ينضبط تماماً إذا كانت تعتمد على مجرَّد الحِفظ ، ومن غير أن تتقيَّد بالثبْت في سجِلاّت خاصَّة ، أو في نفس المصحف الشريف برسم علائم مثلاً ، فلا محالة كان يقع فيها خلط أو اشتباه كثير ، لاسيَّما إذا طالت الفترة بين الشيخ الأوَّل والقارئ الأخير .
تلك أهمّ أسباب الاختلاف في القراءات ، مضافة إلى اجتهادات نظرية واعتبارات كان القارئ يلاحظها ويستند إليها في قراءته ، وسنفصّل هذا الجانب في الفصل التالي .
5 ـ تأثير اللهجة :
لا شكَّ أنَّ كلَّ أُمَّة ـ وإن كانت ذات لُغة واحدة ـ فإنَّ لهجاتها تختلف حسب تعدّد القبائل والأفخاذ المنشعبة منها ، وهكذا كانت القبائل العربية تختلف مع بعضها في اللهجة وفي التعبير والأداء .
من ذلك اختلافهم في الحركات ، مثل : ( نستعين ) ـ فتح النون وكسرها ـ قال الفرّاء : هي مفتوحة في لغة قيس وأسد ، وغيرهم يقولونها بكسر النون (36) واختلافهم في الحركة والسكون ، مثل قولهم : ( معكم ) ـ بفتح العين وسكونها ـ قال الشاعر :
ومَن يتَّقِ فإنَّ الله معه ورزق الله مؤتاب وغاد (37)
واختلافهم في إبدال الحروف ، نحو : أولئك وأولالك ، أنشد الفرّاء :
اُلالكَ قَومي لم يكونوا أشابة وهل يعِظ الضَّليل إلاّ الالكا (38)
واختلافهم في الهمز والتليين ، نحو : مستهزؤن ومستهزون .
واختلافهم في التقديم والتأخير ، قال المبرّد : تقول العرب : صاعقة وصواعق وهو مذهب أهل الحجاز ، وبه نزل القرآن ، وبنو تميم يقولون : صاقعة وصواقع (39) .
واختلافهم في الإثبات والحذف ، نحو : استحيت واستحييت ، أو تبديل حرف صحيح معتلاًّ ، نحو : أمّا زيد وأيما زيد (40) .
واختلافهم في الإمالة والتفخيم في مثل : قضى ورمى ، واختلافهم في تحريك الحرف الساكن بالكسر أو الضمّ ، فيقولون : اشتروا الضلالة ـ بكسر الواو وضمّها ـ واختلافهم في التذكير والتأنيث ، فإنَّ من العرب مَن يقول : هذه البقَر ، ومنهم مَن يقول : هذا البقَر ، وهذه النخيل وهذا النخيل .
واختلافهم في الإدغام ، نحو : مهتدون ومهدّون ـ بتشديد الدال في الثانية ـ واختلافهم في الإعراب ، نحو : ما زيد قائماً ، وما زيد قائم ، فإنّ ( ما ) عند تميم غير عاملة ، وعند الحجازيّين عاملة عمل ليس .
وكذا قولهم : إنَّ هذين ، وإنَّ هذان ، وهي بالألف لُغة لبني الحارث بن كعب ، يقولون : في كلّ ياء ساكنة انفتح ما قبلها ذلك ، ومن ذلك قول قائلهم ـ هو برّ الحارثي ـ (41) .
تزوَّد منّا بين أُذناه طعنة دعته إلى هابي التراب عقيم
وعلّل بعض أهل الأدب ذلك تعليلاً يستدعي الاطّراد (42) .
واختلافهم في صورة الجمع ، نحو : أسرى وأُسارى .
واختلافهم في التحقيق ـ أي المبالغة في إظهار الحرف أو حركته ـ والاختلاس ، نحو : { يَأْمُرُكُمْ }[ البقرة : 67] فحقَّق ضمَّة الراء بعضهم واختلسها بعض آخر ، ونحو : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ }[ البقرة 178] فحقَّق كسرة الفاء بعض واختلسها آخر .
واختلافهم في الوقف على هاء التأنيث ، مثل : هذه أُمَّه ـ بالوقف هاء ـ وأُمَّت ـ بالوقف على تاء ساكنة ـ .
واختلافهم في الإشباع إلى حدّ توليد حرف ، نحو : ( أنظور ) في ( أنظر ) ، أنشد الفرّاء :
الله يعلم أنّـــا فـي تلفّتنا يوم الفراق إلى جيراننا صور
وأنّني حيث ما يُثني الهوى بصَري من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور
قال أبو الحسين أحمد بن فارس : كلُّ هذه اللغات مسمّاة منسوبة إلى أصحابها ، لكن هذا موضع اختصار ، وهي وإن كانت لقوم دون قوم ، فإنَّها لمّا انتَشرَت تعاورها الكلّ (43) .
ومن ذلك أيضاً : مبالغتهم في إظهار الهمزة المفتوحة فتتبدَّل إلى العين ، وهي لُغة دارجة في تميم وبني قيس بن عيلان ـ كما قال الفرّاء ـ وتسمّى ( عنعنة تميم ) ، فيقولون : ( أشهد عنَّك رسول الله ) ، قال ذو الرمّة :
أعن ترسَّمت من خرقاء منزلة ماء الصبابة من عينيك مسجوم
أراد : ( أأن ) ، وذو الرمّة شاعر إسلامي بدويّ مجيد .
لكنَّها لُغة مذمومة ، ومن ثمَّ قال أحمد بن فارس ـ بصدد الإشادة بلُغة قريش ـ : ألا ترى أنَّك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم ، ولا عجرفية قيس ، ولا كشكشة أسد ، ولا كسكسة ربيعة ، ولا الكسر الَّذي تسمعه من أسد وقيس ، مثل : تعلمون ونعلم ـ بكسر التاء والنون ـ ومثل : شعير وبعير ـ بكسر الشين والباء ـ (44) .
6 ـ تحكيم الرأي والاجتهاد :
وهذا أكبر العوامل تأثيراً في اختيارات القرّاء ، كان لكلِّ قارئ رأي يعتمده في القراءة الَّتي يختارها ، وكانوا ـ أحياناً ـ مستبدّين بآرائهم ولو خالفهم الجمهور أو أهل التحقيق .
وسيأتي حديث نبر الكسائي بالهمز في مسجد الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، وإنكار أهل المدينة عليه (45) .
كما أنكروا على حمزة كثيراً من قراءاته ، ولم يكن يعبَاً بهم لقوَّة ما كان يراه من حُجج (46) .
وهكذا استبدَّ ابن شنبوذ بما يراه صحيحاً وإن كان على خلاف المرسوم العثماني ، فعُقِد لاستِتابته مجلس بحضرة الوزير ابن مُقلة ، فأغلظ في الكلام عليهم أوّلاً ، حتّى أمَر الوزير بضربه سياطاً ألجأته إلى إعلان توبته مقهوراً عليه (47) .
وانعقد مجلس آخر لأبي بكر ابن مقسم ، الَّذي كان يختار من القراءات ما بدا له أصحّ في العربية ، ولو خالف النقل ، أو رسم المصحف (48) .
نعم ، لم يكن إنكارهم على أمثال هؤلاء لجانب تحكيمهم للآراء والأذواق الاجتهادية ، بل لجانب خروجهم عن موافقة مرسوم الخطّ ، فالقراءة إذا كانت متوافقة مع ظاهر الرسم فلا تُعَدُّ منكَرة .
وقد كانت مِيزة القرّاء السبعة وغيرهم من المشهورين المعتمدين هو التزامهم بموافقة الرسم خطّاً ، كما يحدِّثنا أبو محمَّد مكّي : بأنَّ حفصاً قرأ ( كفواً ) بالواو ، فخفَّف الهمزة واواً ، وكان حقّه أن ينقل حركة الهمزة إلى الساكن قبْلها ، فيقول : كُفاً ، لكنَّه رفض ذلك لئلاّ يخالف الخطّ ، فأعمل الضمَّة الأصليَّة .
ومن ثمَّ تلك المحاولات لتوجيه القراءات الشاذَّة ، بل لمطلق القراءات إذا كانت موافقة للرسم .
انظر كيف يوجِّه الدمياطي قراءة حمزة : { وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ }[ النساء : 1] بجرِّ الأرحام عطفاً على الضمير المجرور بالحرف وفْق مذهب الكوفيّين (49) ، ويوجِّه قراءة ابن عامر : { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ }[ الأنعام : 137] (50) قرأ ( قتل ) مرفوعاً نائب فاعل لـ( زُيِّن ) الَّتي قرأها مبنيَّة للمفعول ، ونصْب ( أولادهم ) على أنَّه مفعول به للمصدر ، وجرَّ ( شركاؤهم ) على إضافة المصدر إليه مع الفصل (51) ، وأمثال ذلك كثيرة في توجيه القراءات الشاذَّة .
والكتُب في توجيه القراءات ـ ولاسيَّما الشاذَّة وذِكر عِلَلها وحُججها ـ كثيرة ، منها : الحجَّة لأبي علي الفارسي ، والمحتسب لابن جنّي ، وإملاء ما مَنَّ به الرحمان لأبي البقاء ، والكشف عن وجوه القراءات السبع لمكّي بن أبي طالب ، وغير ذلك ممّا يطول .
______________________
(1) آل عمران : 184 ، وفيه ( والزُبر ) .
(2) الكشف : ج1 ، ص370 . والمجمع : ج2 ، ص548 .
(3) الكشف : ج1 ، ص356 . والتحبير : ص99 .
(4) مجمع البيان : ج1 ، ص544 . شرح مورد الظمآن : ص143 .
(5) كما في ( كأيّن ) ، راجع شرح مورد الظمآن : ص186 .
(6) شرح مورد الظمآن : ص186 .
(7) راجع المجمع : ج1 ، ص316 . وشرح مورد الظمآن : ص47 .
(8) شرح مورد الظمآن : ص125 . والآية 50 من سورة النجم .
(9) شرح مورد الظمآن : ص128 .
(10) في تسع موارد من القرآن الكريم .
(11) في ثلاث موارد من القرآن الكريم .
(12) في أربع موارد من القرآن الكريم .
(13) الإتقان : ج1 ، ص180 . الدرّ المنثور : ج4 ، ص170 .
(14) تفسير الطبري : ج13 ، ص 104 . الإتقان : ج1 ، ص185 .
(15) فتح الباري : ج8 ، ص282 ـ 283 .
(16) المكرّر لأبي حفص الأنصاري : ص141 . والآية 6 من سورة الحجرات .
(17) الكشف : ج1 ، ص310 . والآية 259 من سورة البقرة .
(18) نفس المصدر : ص316 . والآية 271 من سورة البقرة .
(19) مجمع البيان : ج5 ، ص130 . القرطبي : ج8 ، ص379 . والآية 92 من سورة يونس.
(20) مجمع البيان : ج8 ، ص290 . والآية 58 من سورة العنكبوت .
(21) الكشف : ج1 ، ص312 ، والآية 259 من سورة البقرة .
(22) نفس المصدر : ص262 ، والآية 119 من سورة البقرة .
(23) المصدر : 268 ، والآية 158 من سورة البقرة .
(24) التبيان : ص86 .
(25) البيان : ص181 .
(26) الكشف : ج1 ، ص224 .
(27) شرح مورد الظمآن : ص126 .
(28) نفس المصدر : ص127 .
(29) الأعراف : 142 ، طه : 80 .
(30) مجمع البيان : ج1 ، ص108 .
(31) الكشف : ج2 ، ص164 .
(32) الكشف : ج2 ، ص 5.
(33) شرح مورد الظمآن : ص181 .
(34) نفس المصدر : ص183 .
(35) شرح مورد الظمآن : ص182 .
(36) انظر كتاب سيبويه : ج2 ، ص257 .
(37) أورده في اللسان ، مادة ( اوب ) .
(38) الصاحبي لأحمد بن فارس : ص48 .
(39) الكامل : ج2 ، ص198 ، باب 51 .
(40) الصاحبي : ص49 .(41) نسبه إليه في لسان العرب ، غير أنّه روى : بين أُذنيه .
(42) الصاحبي لابن فارس : 49 ـ 50 .(43) الصاحبي : 50 ـ 51 .
(44) الصاحبي : ص53 . والوجيز ص101 .
(45) نقلاً عن نهاية ابن الأثير : ج5 ، ص7 .
(46) تهذيب التهذيب : ج3 ، ص27 .
(47) طبقات القرّاء : ج2 ، ص52 .
(48) الإتقان : ج1 ، ص77 . والطبقات : ج2 ، ص54 .
(49) إتحاف فضلاء البشَر : ص185 .(50) ، والقراءة المشهورة ( شركاؤهم ) .
(51) المصدر : ص217 .
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|