أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-7-2017
3891
التاريخ: 30-09-2015
1766
التاريخ: 29-09-2015
2661
التاريخ: 27-7-2017
11380
|
نشأت
الحركة السريالية في حجر الدادائية وتفرّعتْ عنها وخَلَفتْها؛ ففي أثناء الحرب
العالمية الأولى وفي أعقابها، صحا الأدباء والمفكرون على واقع مرير خلّفتْهُ
الحرب، واقع الموت والدّمار والتمزّق، واقعٍ أكّد إفلاسَ المدنيّة الغربية وانسحاق
الإنسان وفشل كل مؤسساته ونظمه في جلب السّعادة والخير له؛ فكان لابدّ من إعادة
النظر في القيم السائدة والبنى المسيطرة التي تكبح إرادة الإنسان، وتكبت أحلامه
وتقوّض آماله. وكان أن وُلدت الحركة الدادائية، إلا أنها كانت حركة هدمٍ فقط،
ولذلك انفصل عنها أدباء شعروا بفراغها وعبثيتها ويأسها وعدم جدواها، وفي الوقت
نفسه آمنوا بمسؤولية الإنسان وقدرته على التغيير؛ فوُلدت الحركة السرياليّة من هذا
المنطلق، وكان شعارها تحريرَ الإنسان من ضغوط الحياة الاجتماعية المغرقة في
النفعيّة... وهكذا كان عليها إيجاد
مفاهيم بديلة لعالم جديد يعقب ذلك العالم المتفسّخ؛ أيْ تهيئةُ الإنسان لإنسانيّةٍ
متجدّدة ومتحرّرة وفعّالة انطلاقاً من حقيقته الإنسانية العميقة النظيفة التي
طالما شوّهتها القوى المسيطرة والنظم والأفكار السائدة.. فالسريالية من هذه الوجهة
حركةْ مخلِّصيّة. وليست الوحيدة في طرح هذه الأفكار، بل لم تكن هذه الأفكار
وليدتها فحسب؛ فكثيراً ما سبق الإعلانُ عنها بأشكالٍ مختلفة تتراوح بين السّخط
والثورة، منها الرومانسية في نظرتها إلى دَوْر الأدباء والفنّانين في تغيير طريقة
الحياة، ولا ننسى أن رامبو في تحرّره وانطلاقاته العفويّة المجدِّدة كان أحد
الجسور المؤديّة إلى السرياليّة. وقبَيْل الحرب الأولى ظهرت أعراض تعبّر عن بؤس
الحضارة تجلّت في الفلسفة والحركات المستقبلية والتكعيبيّة، أدانت القواعد
الكلاسيكية وتمرّدتْ عليها. وفي أثناء الحرب صدرت مجلة SiC بمبادرة من الشاعر غيّوم أبولينير(1918) فوحّدت على صفحاتها كلّ
الساخطين على الأشكال الفنية والواقع بشكل عام.
وفي
بيته تعارف أرغوان وفيليب سوبو وبروتون وأصدروا مجلة (أدب) في الوقت الذي مازال
فيه بروتون على اتصالٍ بتزارا في زيوريخ متعاوناً معه في إصدار مجلة (دادا) التي
كانت تتضمّن أحياناً نصوصاً سرياليّة مبكرة. ثم انفصل بروتون عن الدادائية وأصبح
رائد الزمّرة السريالية التي أنشأها حوله في عام 1924 وأصدر بيانها الأولَ مازجاً
بين الدادائية والفرويديّة، وداعياً، بعد عملية الهدم، إلى عملية بناءٍ متفاعل مع
المذاهب الفكرية الثورية والسياسية الجديدة، بغية معالجة هذا الإنسان المريض الذي
خلّفته الحرب بعد أن فشلتْ في تخليصه وإسعاده كل الأديان والنظم والثقافات. وهكذا
تفوقت موجة السرياليّة على الدادائية وانضمَّ إليها إيلوار وأراغون وسوبو وروبير
ديسْنوس وبنجامان بيريه الذين ارتضوا النهج السّريالي والتزموه، إضافة إلى فنانين
تشكيليين كان أبرزهم جان كوكتو وسلفادور دالي، وأصبح أندريه بروتون منظّرها الأول
وراعيها النشيط الدائب الحركة والناطق باسمها. ثم توسعت الجماعة وألّفت مكتباً
للبحوث السّريالية ومجلةً اسمها (الثورة السريالية) بقيت حتى عام 1929 وصار لها
فروع وأنصار في أوربا وأمريكا، وصدرت عنها منشورات وإعلانات ناقدة وساخرة، وأخذت
تقيم معارض وندوات ومحاضرات لعرض أفكارها ونتاجها والدعوة إلى مؤازرتها. وقد ظهر
أحد منشوراتها بعنوان (جُثّة) وفيه احتفلت المجموعة -بطريقتها الخاصّة-بوفاة
أناتول فرانس. ومما جاء فيه: بوفاة فرانس زال جانبٌ من الصَّغار الإنساني،
فليكن لنا هذا اليوم عيداً ندفن فيه الاحتيال والتقليد والمواطنة والانتهازية
والريبيّة ونضوب الروح.... وكانوا
يستنكرون التعصّب العرقي وكراهية الألمان المنهزمين في الحرب، ويدعون إلى مساواة
الشعوب والأفراد. وفي إحدى الأمسيات الأدبية أعلنت إحدى الأديبات أَنّ على المرأة
الفرنسيّة أن لا تتزوّج ألمانياً.
فما
كان منهم إلا أن أثاروا ضجيجاً واستنكاراً وعيّشوا ألمانيا وسقّطوا فرنسا... وانتهى بهم الأمر في تلك الليلة إلى الزج في النظارة...
وكان
الناس ينظرون إليهم كشبُّان بورجوازيين مشاغبين يعيشون في بطالة وفراغ ويبحثون عن
التسلية واللّهو... ولكنهم وسّعوا
دائرة عملهم وبحوثهم وخرجوا من الأحلام في الغُرف المغلقة إلى الحياة اليومية في
الشارع والمقهى والمعابر ودور السينما ذات الأفلام الرديئة والمسارح التي تعرض
المسرحيات الحمقاء، باحثين عما يختفي وراء تلك المظاهر، محطمين الحواجز المرئيّة
للوصول إلى غير المرئيّ. واقتصر نشاطُهم في السنواتِ الخمس الأولى على هذه المظاهر
لأن الوصول إلى الحياة، كما هي، أساسْ لكل عمل فنّي، وبعد ذلك تغدو الحياة هي الفن
والفن هو الحياة، ويصبح الفن وسيلة للوصول إلى حياة أفضل...!
ويعدُّ
عام 1928 عام الإنجازات فقد نشر بروتون (ناديا) و(السريالية والفن التشكيليّ)
وصدرتْ مجلة اللعبة الكبرى التي ورد في إحدى مقالاتها: سنبذل
جهودنا دائماً وبكل قوانا في سبيل جميع الثورات الجديدة...(1). ولكن هذا العام شهد من ناحية ثانية تفكك الجماعة
بسبب السياسة؛ فقد كانت الشيوعية المذهب السياسي الوحيد الذي ينسجم مع طموحاتهم،
فعملوا في صفوفها منتظمين أو مؤيّدين، وراحوا يطالبون بإعلانٍ جديد لحقوق الإنسان... افتحوا السجون، سرّحوا الجيش وبانتقال السلطة
إلى أيدي البروليتاريا. ثم بدأ الشقاق فقد أعلن أراغون انحيازه إلى الشيوعية في
عام 1930 ورفْضَه للفرويدية التي وَصَفها بأنها معادية للثورة. وكتبَ مقالةً بعنوان (الجبهة
الحمراء) اتُهِمَ على أثرها بالتحريض على الاغتيال السياسيّ، ثم فُصل من الجماعة
السريالية، وانسحب بروتون من الحزب الشيوعي مقتنعاً بأن السريالية لا يمكن أن
تنسجم مع الشيوعية... وتكونت مجموعات جديدة أخذت
تهاجمه لكنه استطاع نقل السريالية إلى عددٍ من أقطار أوربا والمكسيك والولايات
المتحدة. واستأنفت نشاطها بعد الحرب الثانية وأبْدَت مواقفها اليسارية في قضايا
الساعة مثل حرب فيتنام وثورة الجزائر والتمرّد في هنغاريا وحركات الشباب في أمريكا
وأوربا.
وفي
عام 1966 توفي بروتون. وبفقده توقَّفت الحركة السريالية رسميّاً، ولكن أفكارها
واتجاهاتها استمّرت هنا وهناك، دون حاجة إلى مرجعٍ مركزيْ.
_______________
(1)
تاريخ السريالية -موريس نادو، ص141، وزارة الثقافة-دمشق.