أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-09-2015
2127
التاريخ: 25-03-2015
11840
التاريخ: 14-08-2015
2318
التاريخ: 27-7-2017
5994
|
إمتازت
الرمزية كمذهب أدبي بخصائص ميّزتها عن المذاهب الأدبية الأخرى منها:
1-مجافاة الأسلوب القائم على الوضوح والدقّة والمنطق والتفكير
المجرّد والمعالجات الخطابية والمباشرة والشروح والتفصيلات.. لأن هذه الأمور ليست
من طبيعة الفنّ بل من طبيعة النثر ولغةِ التواصل العاديّة..
2-بالمقابل يسعى الرمزيون إلى الدخول في عالم اللاّحدود، عالمِ
الأطياف والاندياح والارتعاشات الرجراجة والحالات النفسية الغائمة أو الضبابيّة والمشاعر
المرهفة الواسعة، والتغلغل إلى خفايا النفس وأسرارها ودقائقها ولُويْناتها.
3-من ناحية الأسلوب التعبيري عن التجارب النفسيّة. نهجت الرمزية
منهجاً جديداً يختلف عن نهج الرومانسية والبرناسيّة ويوافق ما ذكرناه آنفاً في
التجربة الشعرية فقد وجدَ الرمزيون أن معجم اللّغة بما في ذلك المجازات والتشبيهات
قاصرٌ عن استيعاب هذه التجربة والتعبير عنها بشكل مناسب صادق، ولا بد من البحث عن
أسلوب جديد ولغةٍ ذات علاقاتٍ جديدة تتيح التعبير عن أرجاء العالم الداخلي ونقلَ
حالاته إلى المتلقيّ عن طريق إثارة الأحاسيس الكامنة وتحريك القوى التصوّرية
والانفعالية لإحداث ما يشبه السيّالة المغنطيسية التي تشمل المبدع والمتلقي. هذا
الأسلوب الجديد يقوم على اللمح والومض ونقل المشاعر جملةً بشكلٍ مكثفٍ غير مباشر..
ولذا
لجؤوا إلى الرمز للتعبير عن الأفكار والعواطف والرؤى لأنه أقدر على الكشف عن الانطباعات
المرهفة والعالم الكامن خلف الواقع والحقيقة. إن الرموز نوع من المعادل الموضوعي،
وهي من طبيعة خارج التراث، أيْ إنها تُشتق من الواقع الخارجي، ولكنها تختلف عن
الطرائق التصويرية التقليديّة: فالشاعر يتجنب معها عقد المماثلات والتشبيهات
والتوازيات بين طرفي الصورة، ويجعل الرمز وحده يؤدي الدلالة أو الشيء المرموز إليه
عن طريق النشاط الذهني للمتلقي. والرمز يوحي بالحالة ولا يصرّح بها، ويثير الصورة
ثم يتركها تكتمل من تلقاء ذاتها كما تتسع الدوائر في الماء، وذلك عن طريق
الفعّالية الذهنية للمتلقي إنّ وظيفة الرمز الإيحاءُ بالحالة لا التصريح بها
والكشف التدريجيّ عن الحالة المزاجيّة لا الإفضاء بها جملة واحدة، وهو وسيلة قادرة
على الإشعاع الطيفيّ كالأثار الموسيقية والتشكيليّة، ومنه يصبح القارئ مشاركاً
للمبدع في إنجاز عملية الخلق الفنيّ. والرمز أقدر على التعبير عن المشاعر المبهمة
والأحلام والنزوعات الخفية العميقة وترجمة السرّ الخفيّ في النفس الإنسانية، وهذه
هي المملكة الحقيقية للشعر، ولا تستطيع اللغة العادية التعبير عنها تماماً كما
يستطيع الرمز الذي يمكنه الكشف عن أدقّ اللوينات النفسية وفروقها الخفيّة.
4-العناية بالموسيقا الشعرية، موسيقا اللفظة والقصيدة،
والاستفادة من الطاقات الصوتية الكامنة في الحروف والكلمات مفردةً ومركبة ومن
التناغم الصوتي العام في مقاطع القصيدة، بحيث تصبح هذه الطاقة موظفة في التعبير عن
الجو النفسيّ لدى المبدع ونقله إلى القارئ، أي أنها تصبح أداة تعبيرية تضاف إلى المقدرة
اللغوية والتصويرية بما تحدثه من الإيحاء بالجو النفسيّ.. فهي إذن تدخل في عضوية
الفنّ ولا تأتي تجميلاً أو دغدغة لحاسة السمع.
لقد
أصبح شعار الرمزيين قول فيرلين مزيداً من الموسيقا والموسيقا قبل كل
شيء.. وأرادوا أن يحمّلوا الموسيقا من الدلالات والتأثيرات ما عجزت عنه
المدارس السابقة وأن يستعيدوا الخاصيّة الشعرية الحميمة للشعر التي انفصل عنها
الشعراء طويلاً. ولذلك تمرّدوا على الأطر الموسيقية الشعرية في الأوزان والقوافي
وتكوين المقطع والقصيدة ولم يحفلوا بالقواعد الكلاسيكية والرومانسية والبرناسيّة،
وراحوا يبدعون موسيقاهم الشعرية الخاصة بكل منهم بل بكل قصيدةٍ على حدة. وكان
رامبو أجرأهم في ذلك. ووصل بهم الأمر إلى الاستهانة بالقوافي وإلى تبني اللغة
الشعرية النثرية المموسقة داخلياً، وقرّروا أنها خيرٌ من ذلك النثر الموزون المقفى
وتجلى هذا النثر الشعري عند بودلير في (قصائد نثرية صغيرة) ورامبو في (إشراقات)
وأوغل في هذا المجال وحرّص عليه الشاعر الرمزي غوستاف كاهن الذي كان يرى أن
الرمزية هي مذهب الحريّة في الفنّ. وبهذا فتحت الرمزية باب التمرّد على القيود
الذي دخلته فيما بعد حركات فنيّة وأدبية عديدة.
5-لغة الإحساس: تعوّلُ الرمزيّة في صورها على معطيات الحسّ
بشتى أنواعها كأدوات تعبيريّة، كالألوان والأصوات والإحساس اللّمسيّ والحركيّ
ومعطيات الشمّ والذوق.. وترى في كلّ من هذه المعطيات رمزاً معبراً موحياً.
فالحواسّ نوافذ الإنسان على العالم الخارجي. وهذا العالم غابة من
الرموز كل ما فيها ينطق. والطبيعة عند الرمزيين تختلف عنها لدى الرومانسيين
إنها هنا تتخاطب فيما بينها وتتراسل، وتؤلف لغةً متشابكة لا يفهمها إلاّ الشعراء.
الشاعر
الرمزيّ مستوفز الإحساس، متيقظّ الجوارح، يَغْرق في الطبيعة فيصبحُ مصوّراً تلتقطُ
عينه الألوان والظلال والأشكال بل اللوينات الدقيقة ثم يترجمها بمختلف صفاتها
ودرجاتها ودلالاتها وينتبه لما يعنيه الملمس والشكلُ وما تؤدّيه الحركة من معنى،
ولا يهملُ روائع الأشياء.. من هذه النوافذ الطبيعية يدخل، ومنها ينطلق ويسوح. وإنّ
مظاهر العالم الطبيعي تشعره بالتماثل مع العالم البشريّ والتخاطب معه. وكلّ معطيات
الحواسّ تتشابك وتتخاطب وتتبادلُ وتتراسل. فالشّعر يُنْثَر والرمادُ يُسكب،
وللنجوم حفيف، وللوهم ظل، والخضرة تثقب، والنهرُ يغنّي، والأشعة تزْبد، والأنوار
تهطل، والانتحاب طويل، والصوت ناعم أو خشن، والسخرية صافية أو ثقيلة، والثقوب
زرقاء، والرنين أزْرق، واللاّزورد يُغَنّي.. ولكل شيء محسوسٍ دلالة ومعنى. فالأحمر
ثورة، والأسودُ عدم، والرمادي كآبة، والأخضر حياة.. الخ والأصوات لها ألوان، كما
في قصيدة الحروف الصوتية لرامبو:
Aأسود، Eأبيض، Uأخضر، Oأزرق..
فهنالك
-كما ترى-لغة جديدة تقوم على إسنادات وتركيبات جديدة وغريبة ولكنها ليست عابثة ولا
مجانية، إن المعطيات الحسيّة، باجتماعها تغدو كيمياء تصنع دلالات جديدة بالغة
البلاغة على ما فيها من إيجازٍ وتكثيف، وما تمنحه من شعورٍ بالجدة والدهشة
والمفاجأة.
6-الغموض: إذا كانت المدرسة الرمزية قد فتحت باب الغموض في
الشعر فمن الإنصاف القول بأن هذا الحكم ليس مطلقاً ولا عاماً، فالرمزيون الأوائل
قاربوه ومارسوه ولكن دون مبالغة أو شطط أو تعمّد، وكانت أشعارهم تتراوح بين الوضوح
والشفافية والغموض، وهم في ذلك على درجات. إنهم لم يخرجوا فجأة من الرومانسية
والبرناسيّة، بل احتفظوا ببعض ملامح المدرستين، ولذا نجد بودلير وفيرلين أكثر
وضوحاً من رامبو، والوضوح هنا يختلف عن المباشرة المرفوضة نهائياً. إنه يعني عدم
التعقيد في الفكرة وعدم الأغراب في الصورة، بحيث يلتقط المتلقي المعنى بسهولة
ويُسْر. أما الغموض -وهو غير الإبهام المحيّر-فيأتي من أسباب عديدة أبرزها:
1-التصرّف بمفردات اللغة وتراكيبها بشكلٍ غير مألوف
2-الرمز الذي بطبيعته لا يوضح المرموز إليه، بل يترك ذلك لخيال
القارئ وتأويله
3-التعبير بمعطيات الحواسّ ومراسلاتها وتقاطعاتها
4-الإشارات والتلميحات والأعلام التي تحتاج إلى معرفة واسعة أو
إلى شروح وتعليقات
5-التكثيف وشدة الإيجاز
6-الانطلاق من أفق الدقائق النفسية والحالات المبهمة التي يصعب
تصويرها والتعبير عن لويناتها الدقيقة
7-الاقتراب من الموسيقا والفن التشكيلي حيث يكون التواصل من
خلال الانطباع.