أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-03-2015
4160
التاريخ: 25-03-2015
1443
التاريخ: 24-09-2015
1362
التاريخ: 25-09-2015
1396
|
الاستثناء
استثناءان: لغوي وصناعي، فاللغوي؛ إخراج القليل من الكثير، وقد فرغ النحاة من ذلك
مفصلاً في كتبهم.
الصناعي
هو الذي يفيد بعد إخراج القليل من الكثير معنى زائداً، يعد من محاسن الكلام، يستحق
به الإيتان في أبواب البديع، ومتى لم يكن في الاستدراك والاستثناء معنى من المحاسن
غير ما وضعا له، لا يعدان من البديع.
فمن
الاستدراك قول زهير [طويل]:
أخو
ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال
نائله
لأن
العرب كانت تعد إتلاف المال في الخمر من المدح البليغ، قال شاعرهم [كامل]:
شريب
خمر مسعر لحروب
فإنه
لو اقتصر على صدر البيت دل على أن ما له موفور، وتلك صفة ذم، فاستدرك ما يزل هذا
الاحتمال، وتخلص الكلام للمدح المحض، ومن ذلك في القرآن قوله تعالى: ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا )
فإنه سبحانه لو اقتصر على قوله: ( لَمْ تُؤْمِنُوا) لكان فيه تنفير لكونهم ظنوا
الإقرار بالشهادتين من غير اعتقادهما إيماناً، فأوجبت البلاغة أن يستدرك ما
استدركه، ليعلمهم أن حقيقة الإيمان موافقة الجنان للسان بالتصديق، بدليل قوله: ( وَلَمَّا
يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فلما تضمن الاستدراك إيضاح ما أشكل عليهم
عد من المحاسن، إذ صار الكلام به موصوفاً بحسن البيان لما أقام من الحجة عليهم.
وهذا
من الباب الذي قبل هذا، وإنما ذكرته هاهنا لما ذكرت أن الاستدراك والاستثناء
الصناعيين لا بد أن يكون في كل واحد منهما معنى زائد غير ما وضع له يدخله في
المحاسن.
والاستثناء
كقوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ) فإن في هذا الكلام معنى زائداً على مقدار
الاستثناء، وذلك تعظيم أمر الكبيرة التي أتى بها إبليس من كونه خرق إجماع
الملائكة، وفارق جميع الملإ الأعلى، بخروجه مما دخلوا فيه من السجود لآدم، وذلك
بمثابة قولك: أمر الملك بكذا وكذا فأطاع أمره جميع الناس من أمير ووزير إلا
فلاناً، فإن الإخبار عن معصية هذا العاصي بهذه الصيغة مما يعظم أمر معصيته، ويفخم
مقدار كبيرته بخلاف قولك: أمر الملك بكذا وكذا فعصاه فلان، وفي ضمن ذلك وصف الله
سبحانه وتعالى بالعدل فيما ضربه على إبليس من خزي الدنيا وحتمه عليه من عذاب
الآخرة. ومثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: ( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) فإن في الإخبار عن المدة
بهذه الصيغة تهويلاً على السامع لتمهيد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه،
وحكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تعظيم المدة لكون أول ما يباشر السمع ذكر
الألف، واختصار اللفظ، فإن لفظ القرآن أخصر من قولنا تسعمائة سنة وخمسون عاماً
كيفما قدرت اللفظتين، فلأن لفظ القرآن يفيد حصر العدد المذكور، ولا يحتمل الزيادة
عليه، ولا أن ينقص منه، فإن إخبارك عمن سكن دار ثلاثين يوماً، بأنه سكن عشرين
يوماً صادق لأنه سكن العشرين وزيادة، بخلاف قولك: سكن أربعين إلا عشرة أيام، فإن
هذا اللفظ لا يحتمل الزيادة. وكقوله سبحانه: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ
فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ
رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ
رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) فإنه سبحان هذا لما علم أن وصف الشقاء يعم
المؤمن العاصي، والكافر المسيء، استثنى من حكم بخلوده في النار بلفظ مطمع، حيث
أثبت الاستثناء المطلق وأكده بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) ، أي أنه لا اعتراض عليه في إخراج أهل الشقاء
من النار، ولما علم أن أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة، أكد خلودهم بعد
الاستثناء بما يرفع احتمال الاستثناء، حيث قال: ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير منقطع، ليعلم أن عطاءه لهم الجنة غير منقطع، وهذه
المعاني زائدة على الاستثناء اللغوي.
من
أمثلة الاستثناء البديعي في الشعر قول النميري [طويل]:
فلو
كنت بالعنقاء أو بأطومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني
فإن
هذا الاستثناء يتضمن زيادة مدح المادح الممدوح، وذلك أن هذا الشاعر يقول: إنني لو
كنت في حال العدم البحت لأن العرب تضرب المثل بالعنقاء لكل شيء متعذر الوجود لخلتك
متمكناً من رؤيتي، ليس لك مانع يمنعك منها إلا من جهتك، فأنت في القدرة على غير
مغالب، وهذا نهاية المدح.
وكقول
أبي نواس [طويل]:
لمن
طلل عاري المحل دفين ... عفا آية إلا
خوالد جون
فهذا
الاستثناء تضمن تعظيم الشاعر لما فيه من تعظيم أحبائه، ودل على شرف نفسه وعلو
همته، إذ لا يسمو إلا لحب الكرماء من الناس، وذلك أنه استثنى من آيات الطلل ذكره
الخوالد الجون وهو يريد الأثافي، فكونه وصفها بالخلود يدل على عظمها دليل على عظم
القدور، وعظم القدور دليل على عظم الكرم، وأكد ذلك بجعلها جوناً أي سوداً لكثرة
الوقود عليها، وإن كان الجون يطلق على الأبيض والأسود ولكن القرينة هاهنا خلصته
إلى السواد فتم للشاعر من الفخر إلى أه لهذا الطلل ما أراد، وهذا مثل قول عمر بن
أبي ربيعة [طويل]:
بعيدة
مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم
ومن
الاستثناء نوع وقع لي فسميته استثناء الحصر، وهو غير الاستثناء الذي يخرج القليل
من الكثير، كقول القائل [طويل]:
إليك
وإلا ما تحث الركائب ... وعنك وإلا فالمحدث كاذب
فإن
خلاصة هذا البيت قول الشاعر للممدوح: لا تحث الركائب إلا إليك، ولا يصدق المحدث
إلا عنك، ولا يحصل هذا الحصر من الاستثناء الأول، فإن قوله تعالى: ( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) لا يمنع أن
يقال: إلا خمسين عاماً وعاماً، لولا توخي الصدق في الخبر، وقوله ورهطه، لولا مراعاة
الصدق، ولأن الصيغ التي قدرها المعترض لا يقع مثلها في الكلام الفصيح، فإنها عبارة
أهل العي والفهه، فإن قلت: كل الاستثناء موضوع للحصر، فلا اختيار لهذا الاستثناء
على الأول، وما قدرته في الاستثناء الأول يلزم مثله في هذا الاستثناء إذا أزلت منه
التقديم والتأخير، وأتيت بالكلام على استقامته، قلت: الذي ميز هذا الاستثناء على
الأول: هو ما فيه من التقديم والتأخير، فإنه على الصورة التي جاء عليها يفيد حصراً
أشد من حصر جنس الاستثناء كله. والله أعلم.