أقرأ أيضاً
التاريخ: 30/11/2022
1485
التاريخ: 31-12-2022
1550
التاريخ: 28-5-2022
2053
التاريخ: 2024-01-15
1071
|
رسالة أبي عبد الله ابن الفراء إلى ابن تاشفين
القاضي وجده أبو عبد الله ابن الفراء مشهور بالصلاح والفضل والزهد، ومن العجائب أنه ليس له ترجمة في «المغرب »، ولما كتب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى أهـل المرية يطلب منهم المعونة جاوبه بكتابه المشهور الذي يقول فيه: فما ذكره أمير المسلمين من اقتضاء المعونة وتأخري عن ذلك، وأن
٣٨٦
الباجي وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوا بأن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اقتضاها ، وكان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعه في قبره، ولا يشك في عدله ، فليس أمير المسلمين بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بضجيعه في قبره ولا من لا يشك في عدله، فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك بمنزلته في العدل فالله تعالى سائلهم عن تقلدهم فيك، وما اقتضاها عمر رضي الله تعالى عنه حتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف أن ليس عنده درهم واحد في بيت مال المسلمين ينفقه عليهم، فتدخل المسجد الجامع هنالك بحضرة من أهل العلم وتحلف أن ليس عندك درهم واحد ولا في بيت مال المسلمين، وحينئذ تستوجب ذلك، والسلام، انتهى.
وأما ابن القراء الأخفش بن ميمون(1)، الذي ذكره الحجاري في " المسهب" فليس هو من هؤلاء، بل هو من حصن القبذاق من أعمال قلعة بني سعيد، وتأدب في قرطبة ، ثم عاد إلى حضرة غرناطة ، واعتكف بها على مدح وزيرها اليهودي ، وهو القائل:
صابح محياه تلق النجح في الأمل وانظر بناديه حسن الشمس في الحمل
ما إن يلاقي خليل فيه من خلل وكلما حال صرف الدهر لم يحل
وكان يهاجي المنفتل شاعر البيرة، ومن هجاء المنفتل(2) له قوله :
لابن ميمون قريض زمهرير البرد فيه
فإذا ما قال شعراً نفقت سوق أبيه
ولما وفد على المترية مدح رفيع الدولة بن المعتصم بن صمادح بشعر، فقال له
۳۸۷
بعض من أراد ضره : يا سيدي لا تقرب هذا اللعين ، فإنه قال في اليهودي:
ولكن عندي للوفاء شريعة تركت بها الإسلام يبكي على الكفر
فقال رفيع الدولة : هذا والله هو الحر الذي ينبغي أن يصطنع ، فلولا وفاؤه ما بكي كافراً بعد موته ، وقد وجدنا في أصحابنا من لا يرعى مسلماً في حياته . وقال فيه المتفتل(3):
إن كنت أخفش عين فإن قلبك أعمى
فكيف تنثر نثراً وكيف تنظم نظما
ومن شعر الأخفش المذكور قوله:
إذا زرتكم غبا فلم ألق بالبر وإن غبت لم أطلب ولم أجـر في الذكر
فإني إذن أولى الورى بفراقكم ولا سيما بعد التجلد والصبر
ولما وفد على المنصور بن أبي عامر الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن مسعود الغساني البجاني(4) انهم برهق في دينه ، فسجنه في المطبق مع الطليق القرشي ، والطليق غلام وسيم ، وكان ابن مسعود كلفا به يومئذ وفيه يقول:
غدوت في السجن(5) خدنا لابن يعقوب وكنت أحسب هذا في التكاذيب
رامت عداني تعذيبي وما شعرت أن الذي فعلوه ضد تعذيبي
راموا بعادي عن الدنيا وزخرفها فكان ذلك إدنائي وتقريبي
لم يعلموا أن سجني لا أبا لهم قد كان غاية مأمولي ومرغوبي
۷۹
۳۸۸
وانطلق ابن مسعود والطليق قبله ، ووقع بينه وبين الطليق ، وعاد المدح هجاء ، فقال فيه(6):
ولي جليس قربه مني بعد الأماني كذبا(7) عني
قد قديت من لحظه مقلتي وفرحت من لفظة أذني
راهني في السجن من قربه أشد في السجن من السجن
لو أن خلقا كان ضدا له زاد على يوسف في الحسن
إذا ارتمى فكري في وجهه سلط إبطيه على ذهني
كأنما يجلس من ذا وذا بين كنيفين من النتن
وقال يخاطب المنصور من السجن:
دعوت لما عيل صبري فهل يسمع دعواي المليك الحليم
مولاي مولاي ألا عطفة تذهب عني بالعذاب الأليم
إن كنت أضمرت الذي زخرفوا عني فدعني للقدير الرحيم
فعنده نزاعة للشوى وعنده الفردوس ذات النعيم
وركب بعض أهل القرية في وادي إشبيلية، فمر على طاقة من طاقات شنتبوس ، وهو يغني:
خلين من واد ومن قوارب ومن نزاها في شنتبوس
غرس الحبق الذي في داري أحب عندي من العروس(8)
فأخرجت رأسها جارية وقالت له : من أي البلاد أنت يا من غنى ؟ فقال :
۳۸۹
من المرية ، فقالت : وما أعجبك في بلدك حتى تفضله على وادي إشبيلية ؟ وهو بوجه مالح وقفا أحرش ، وهذا من أحسن تعييب ، وذلك أنها أتته بالنقيض من إشبيلية ، فإن وجهها النهر العذب ، وقفاها بجبال الرحمة أشجار التين والعنب ، لا تقع العين إلا على خضرة في أيام الفرج ، وأين إشبيلية من المرية ، وفي المرية يقول السميسر شاعرها :
بس دار المرية اليوم داراً ليس فيها لساكن ما يحب
بلدة لا تمار إلا بريح ربما قد نهب أو لا تهب
يشير إلى أن مرافقها مجلوبة ، وأن الميرة تأتيها في البحر من بر العدوة وفيها يقول أيضا:
قالوا المرية فيها نظافة قلت : إيه
كأنها طست تبر ويبصق الدم فيه
وحكى مؤرخ الأندلس أبو الحجاج البياسي ، أنه دخل عليه في مجلس أنس شيخ ضخم الجثة مستثقل ، فقال البياسي(9):
اسقيني الكأس ضاحيه ودع الشيخ ناحية
فقال الكاتب أبو جعفر أحمد بن رضي :
إن تكن ساقيا له ليس ترويه ساقيه
وحكي أن العالي إدريس الحمودي لما عاد إلى ملكه بمالقة وبخ قاضيها الفقيه أبا علي ابن حسون ، وقال له : كيف بايعت عدوي من بعدي وصحبته ؟ فقال : وكيف تركت أنت ملكك لعدوك ؟ فقال : ضرورة القدرة حملتني على ذلك ، فقال : وأنا أيضاً حصلت في يد من لا يسعني إلا طاعته .
۳۹۰
ومن نظم القاضي المذكور :
رفعت من دهري إلى جائر ويبتغي العدل بأحكامي
أضحت به أملاكه مثل أشكال خيال طوع أيام
هذا لما أبرم ذا ناقض كأنهم في حكم أحلام
وكان الفقيه العالم أبو محمد عبد الله الوحيدي(10) قاضي مالقة جرى ـ كما قال الحجاري – في صباه طلق الجموح ولم يزل يعاقب بين غبوق وصبوح ، إلى أن دعاه النذير ، فاهتدى منه بسراج منير، وأحلته تلك الرجعة ، فيما شاء من الرفعة وقال بعض معاشريه : كنت أماشيه زمن الشباب ، فكلما مررنا على امرأة يدعو حسنها وشكلها إلى أن تحير الألباب ، أمال إليها طرفه ولم ينح عنها صرفه ، ثم سايرته بعد لما رجع عن ذلك واقتصر ، فرأيته يتغض البصر ، ويخلي الطريق معرضا إلى ناحية ، متى زاحمته امرأة ولو حكت الشمس ضاحية ، فقلت له في ذلك، فقال :
ذاك وقت قضيت فيه غرامي من شبابي في سترة الإظلام
ثم لما بدا الصباح لعيني من مشيبي ودعته بسلام(11)
ومن شعره في صباه :
لا ترتجوا رجعني باللوم عن غرضي ولتتركوني وصيدي فرصة الخلس
طلبتم رد قلبي عن صبابته ومن يرد عنان الجامح الشرس
ولما أقصر باطله ، وعريت أفراس الصبا ورواحله ، قال(12):
۳۹۱
ولما بدا شيبي عطفت على الهدى كما يهتدي حلف الشرى بنجوم
وفارقت أشياع الصبابة والطلا وملت إلى أهلي علا وعلوم
ولما تألب بنو حسون على القاضي الوحيدي المذكور صادر عنه العالم الأصولي أبو عبد الله ابن الفخار وطلع في حقه إلى حضرة الإمامة مراكش ، وقام في مجلس أمير المسلمين ابن تاشفين ، وهو قد غص" بأربابه ، وقال : إنه لمقام كريم ، نبدأ فيه بحمد الله على الدنو . منه ، ونصلي على خيرة أنبيائه محمد الهادي إلى الصراط المستقيم وعلى آله وصحابته نجوم الليل البهيم ، أما بعد فإنا نحمد الله الذي اصطفاك للمسلمين أميراً ، وجعلك للدين الحنيفي نصيراً وظهيراً ، ونفزع إليك ممتا دهمنا في حماك ، ونبث إليك ما لحقنا من الضيم ونحن تحت ظل علاك ، ويأبى الله أن يدهم من احتمي بأمير المسلمين ، ويصاب بضيم من ادرع بحصنه الحصين ، شكوى قمت بها بين يديك في حق أمرك الذي عضده مؤيده ، لتسمع منها ما تختبره برأيك وتنقده ، وإن قاضيك ابن الوحيدي الذي قدمته في مالقة للأحكام ، ورضيت بعد له فيمن بها من الخاصة والعوام ، لم يزل يدل على حسن اختيارك بحسن سيرته ، ويرضي الله تعالى ويرضي الناس بظاهره وسريرته ، ما علمنا عليه من سوء ولا درينا له موقف خزي ، ولم يزل جارياً على ما يرضي الله تعالى ويرضيك ويرضينا إلى أن تعرضت بنو . إلى الطعن في أحكامه ، والهد من أعلامه ، ولم يعلموا أن اهتضام المقدم ، راجع على المقدم ، بل جمحوا في لحاجهم فعموا وصموا ، وفعلوا وأمضوا ما به هموا.
وإلى السحب يرفع الكف من قد جف عنه مسيل عين ونهر
فملأ سمعه بلاغة أعقبت نصره ونصر صاحبه.
ومن شعر ابن الفخار المذكور ، ويعرف بابن نصف الربض ، قوله:
أمستنكر شيب المفارق في الصبا وهل ينكر النور المفتح في الغصن
أظن طلاب المجد شيب مفرقي وإن كنت في إحدى وعشرين من سني
۳۹۲
وقوله :
أقل عتابك إن الكريم يجازي على حبه بالقلى
وخل اجتنابك إن الزمان يمر بتكديره ما حلا
وواصـل أخـاك بعلاته فقد يلبس الثوب بعد البـلى
وقل كالذي قاله شاعر نبيل وحقك أن تنبلا
إذا ما خليـل أسا مرة وقد كان فيما مضى مجملا
ذكرت المقدم من فعله فلم يفسد الأخير الأولا
ولما وقد أبو الفضل ابن شرف من برجة في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة العظمى أنشده قصيدته الفائقة وهي(13):
مطل الليل بوعد الفلق وتشكي النجم طول الأرق
ضربت ريح الصبا مسك الدجى فاستفاد الروض طيب العبق
وألاح الفجر خدا خجلا جال من رشح الندى في عرق
جاوز الليل إلى أنجمه فتساقطن سقوط الورق
واستفاض الصبح فيه فيضة أيقن النجم لها بالغرق
فانجلى ذاك السنا عن حلك وانمحى ذاك الدجى عن شفق
بأبي بعد الكرى طيف سرى طارقاً عن سكن لم يطرق
زارني والليل ناع سدفه وهو مطلوب بباقي الرمق
ودموع الطل تمريها الصبا وجفون الروض غرقى الحدق
فتأتي في إزار ثابت رتنى في وشاح قلق
وتجلى وجهه عن شعره فتجلى فلق من غسق
نهب الصبح دجي ليلته قحبا الحد ببعض الشفق
۳۹۳
سلبت عيناه حدي سيفه وتحلى خـده بالرونـق
وامتطى من طرفه ذا خبب يلثم الغبراء إن لم يعنق
أشوس الطرف علته نخوة يتهادى كالغزال الخرق
لو تمطى بين أسراب المها نازعته في الحشا والعنق
حسرت دهمته عن غرة کشفت ظلماؤها عن يقق
لبست أعطافه ثوب الدجى وتحلى خد باليقق
وانبرى تحسبه أجفل عن تسعة أو جنة أو أولق
مدركا بالمهل ما لا ينتهي لاحقا بالرفق ما لم يلحق
ذو رضى مستتر في غضب ذو وقار منطو في خرق
وعلى خد كعضب أبيض أذن مثل سنان أزرق
كلما نصبها مستمعاً بدت الشهب إلى مسترق
حاذرت منه شبا خطية لا يجيد الخط ما لم يمشق
كلما شامت عذاري خده خفقت خفق فؤاد الفرق
بتلقاني بكف(14) مصقع يقتفي شأو عذار مفلق
إن يدر دورة طرف يلتمح أو يجل جول لسان ينطق
عصفت ريح على أنبوبه وجرت أكعبه في زئبق
كلما قلبه باعد عن متن ملساء كمثل البرق
جمع السرد قوى أزرارها فتأخذن بعهد موثق
أو جبت في الحرب من وخز القنا فتوارث حلقا في حلق
كلما دارت بها أبصارها صورت منها مثال الحدق
زل عنه متن مصقول القوى يرتمي في مائها بالحرق
٣٩٤
لو نضا وهو عليه ثوبه لتعرى عن شواظ محرق
أكهب من هبوات أخضر من فرند أحمر من علق
وارتوت صفحاه حتى خلته بحيا من لكفيك سقي
يا بني معن لقد ظلت بكم شجر لولاكم لم تورق
لو سقي حسان إحسانكم ما بكي ندمانه في جلق
أو دنا الطائي من حيكم ما حدا البرق لربع الأبرق
أبدعوا في الفضل حتى كلفوا كاهل الأيام ما لم يطق
ا فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه ، وحسده بعض من حضر ، وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم ، فقال له : من أي البوادي أنت ؟ قال : أنا من الشرف في الدرجة العالية ، وإن كانت البادية علي بادية ، ولا أنكر حالي ، ولا أعترف بخالي ، فمات ابن أخت غانم خجلا، وشمت به كل من حضر.
وابن شرف المذكور(15) هو الحكيم الفيلسوف أبو الفضل جعفر ابن أديب إفريقية أبي عبد الله محمد بن شرف الجذامي ، ولد ببرجة ، وقيل : إنه احل الأندلس مع أبيه وهو ابن سبع سنين ، ومن نظمه قوله:
رأى الحسن ما في خده من بدائع فأعجبه ما ضم منه وحرفا
وقال لقد ألفيت فيه نوادراً فقلت له لا بل غريباً مصنفا
وقوله :
قد وقف الشكر بي لديكم فلست أقوى على الوفاده
ونلت أقصى المراد منكم فصرت أخشى من الزيادة
۳۹٥
وقوله:
إذا ما عدوك يوما سما إلى رتبة لم تطق نقضها
فقبل ولا تأنفن كفه إذ أنت لم تستطع عضها
وقوله ، وقد تقدم به على كل شاعر:
لم يبق للجور في أيامهم أثر إلا الذي في عيون الغيد من حور
وأول هذه القصيدة قوله:
قامت تجر ذيول العصب والحبر ضعيفة الخصر والميثاق والنظر
وكان قد قصر أمداحه على المعتصم ، وكان يفد عليه في الأعياد وأوقات الفرج والفتوحات ، فوفد عليه مرة يشكو عاملا ناقشه في قرية يحرث فيها ، وأنشده الرائية التي مر مطلعها إلى أن بلغ قوله :
لم يبق للجور . . . البيت
فقال له : كم في القرية التي تحرث فيها ؟ فقال : فيها نحو خمسين بيتا ، فقال له : أنا أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد ، ثم وقع له بها ، وعزل عنها نظر كل وال.
وله ابن فيلسوف شاعر مثله ، وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل(16) المذكور ، وهو القائل:
وكريم أجارني من زمان لم يكن من خطوبه لي بد
منشد كلما أقول تناهى ما لمن يبتغي المكارم حد
٣٩٦
وابن أخت غائم هو العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن معمر(17)، من أعيان مالقة ، متفنن في علوم شتى ، إلا أن الغالب عليه علم اللغة ، وكان قد رحل من مالقة إلى المرية ، فحل عند ملكها المعتصم بن صمادح بالمكانة العلية ، وهو القائل في ابن شرف المذكور :
قولوا لشاعر برجة هل جاء من أرض العراق فحاز طبع البحتري
وافي بأشعار تضج بكفه وتقول هل أعزى لمن لم يشعر
يا جعفراً رد القريض لأهله واترك مباراة لتلك الأبحر
لا تزعمن ما لم تكن أهلا له هذا الرضاب لغير فيك الأبخر
وذكره ابن اليسع في معربه(18) وقال : إنه حدثه بداره في مالقة وهو ابن مائة سنة ، وأخذ عنه عام أربعة وعشرين وخمسمائة ، وله تأليف منها و شرح كتاب النبات ، لأبي حنيفة الدينوري ، في ستين مجلداً ، وغير ذلك.
وغانم خاله الذي يعرف به هو الإمام العالم غانم المخزومي ، نسب إليه لشهرة ذكره، وعلو قدره.
ولما قرأ العالم الشهير أبو محمد ابن عبدون في أول شبابه على أبي الوليد ابن ضابط النحوي المالقي جرى بين يديه ذكر الشعر ، وكان قد ضجر منه ، فقال:
الشعر خطة خسف
فقال ابن عبدون معرضا به حين كان مستجديا بالنظم ، وكان إذ ذاك شيخاً:
لكل طالب عرف
۳۹۷
للشيخ عتيبة عيب وللفنى ظرف ظرف
وابن ضابط هو القائل في المظفر بن الأفطس:
نظمنا لك الشعر البديع لأننا علمنا بأن الشعر عندك ينفق
فإن كنت مني بامتداح مظفراً فإني في قصدي إليك موفق(19)
ودخل غانم المخزومي السابق ذكره ، وهو من رجال الذخيرة ، على الملك ابن حيوس صاحب غرناطة ، فوسع له على ضيق كان في المجلس ، فقال(20):
صير فؤادك للمحبوب منزلة سم الخياط مجال للمحبين
ولا تسامح بغيضاً في معاشرة فقلما تسع الدنيا بغيضين
وهو القائل :
وقد كنت أغدو نحو قطرك فارحاً فها أنا أغدو نحو قبرك ثاكلا
وقد كنت في مدحيك سحبان وائل فها أنا من فرط التأسف باقلا
وله أيضا :
الصبر أولى بوقار الفتى من ملك يهتك ستر الوقار
من لزم الصبر على حالة كان على أيامه بالخيار
وكتب أبو علي الحسن بن الغليظ إلى صاحبه أبي عبد الله ابن السراج ، وقد قدم من سفر(21):
۳۹۸
يا من أقلب طرفي في محاسنه فلا أرى مثله في الناس إنسانا
لو كنت تعلم ما لقيت بعدك ما شربت كأساً ولا استحسنت ريحانا
فورد عليه من حينه وقال : أردت مجاوبتك ، فخفت أن أبطئ ، وصنعت الجواب في الطريق :
يا من إذا ما سقتني الراح راحته أهدت إلي بها روحاً وريحانا
من لم يكن في صباح السبت يأخذها فليس عندي بحكم الظرف إنسانا
فكن على حسن هذا اليوم مصطبحاً مذكراً حسناً فيه وإحسانا
وفي البساتين إن ضاق المحل بنا مندوحة لا عدمنا الدهر بستانا
ووفد أبو علي الحسن بن كسرين(22) المالقي الشاعر المشهور على ملك إشبيلية السيد أبي إسحاق إبراهيم ابن أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ، فأنشده قصيدة طار مطلعها في الأقطار ، كل مطار، وهو:
قسما بحمص انه لعظيم فهي المقام وأنت إبراهيم
ووصف الشاعر عطاء المالقي غادة جعلت على رأسها تاجا فقال:
وذات تاج رضعوا دوره فزاد في لألاتها باللآل
كأنها شمس وقد توجت بأنجم الجوزاء فوق الهلال
قد اشتكى الخلخال منها إلى سوارها فاشتبها في المقال
وأجريا ذكر الوشاح الذي لا يزل من خصرها في مجال
فقال: لم أرض بما نلته وليتني مثلكمـا لا أزال
أغتص بالخصر وأعيا به كنص ظمآن بماء زلال
وإنما الدهر بغير الوضى يقضي فكل غير راض بحال
۳۹۹
وهو القائل :
سل بحمامنا الذي كل عن شكره فمي
كم أراني بقربه جنة في جهنم
وكان يحضر حلقة الإمام السهيلي وضيء الوجه من تلامذته ، فانقطع لعارض فخرج السهيلي ماراً في الطريق الذي جرت عادته بالمشي فيه ، فوجد قناة تصلح ، فمنعته من المرور ، فرجع وسلك طريقا آخر ، فمر على دار تلميذه الوضيء ، فقال له بعض أصحابه ممازحاً بعبوره على منزله ، فقال : نعم ، وأنشد ارتجالا:
جعلت طريقي على بابه وما لي على بابه من طريق
وعاديت من أجله جيرتي وآخيت من لم يكن لي صديق
فإن كان قتلي حلالا لكم فسيروا بروحي سيراً رفيق
وأبو القاسم السهيلي مشهور ، عرف به ابن خلكان وغيره ، ويكنى ايضاً بأبي زيد ، وهو صاحب كتاب " الروض الأنف" وغيره.
واجتاز على سهيل وقد خربه العدو لما أغار عليه وقتلوا أهله وأقاربه ، وكان غائبا عنهم فاستأجر من أركبه دابة وأتى به إليه ، فوقف بإزائه ، وأنشد(23):
يا دار ابن البيض والآرام أم أين جيران علي كرام
راب المحبة من المنازل أنه حيا فلم يرجع إليه سلام
لما أجابني الصدى عنهم ولم يلج المسامع للحبيب كلام
طارحت ورق حمامها مترنما بمقال صب والدموع سجام
يا دار ما فعلت بك الأيام ضامتك والأيام ليس تضام
٤٠٠
وجرى بين السهيلي والرصافي الشاعر المشهور ما اقتضى قول الرصافي:
عفا الله عني فإني امرؤ أتيت السلامة من بابها
على أن عندي لمن هاجني كنائن غصت بنشابها
ولو كنت أرمي بها مسلما لكان السهيلي أولى بها
وتوفي السهيلي بمراكش سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، وزرت قبره بها مراراً سنة عشر وألف ، وسكن رحمه الله تعالى إشبيلية مدة ، ولازم القاضي أبا بكر ابن العربي وابن الطراوة ، وعنه أخذ لسان العرب ، وكان ضريراً.
ومن شعره أيضاً لما قال : " كيف أمسيت " موضع " كيف أصبحت ":
لئن قلت صبحاً كيف أمسيت مخطئاً فما أنا في ذاك الخطا بملوم
طلعت وأفقي مظلم لفراقكم فخلتك بدراً والمساء همومي
وحكي أن الوزير الكاتب أبا الفضل ابن حسداي الإسلامي السرقسطي ، وهو من رجال الذخيرة ، عشق جارية ذهبت بلبه وغلبت على قلبه ، فجن بها جنونه ، وخلع عليها دينه ، وعلم بذلك صاحبه فزفها إليه ، وجعل زمامها في يديه ، فتجافى عن موضعه من وصلها أنفة من أن يظن الناس أن إسلامه كان من أجلها ، فحسن ذكره ، وخفي على كثير من الناس أمره ، ومن شعره قوله(24):
وأطربنا غيم يمازج شمسه فيستر طورا بالسحاب ويكشف
ترى فرحاً في الجو يفتح قوسه مكبا على قطن من الثلج يندف
وكان في مجلس المقتدر بن هود ينظر في مجلد ، فدخل الوزير الكاتب أبو
٤٠١
الفضل ابن الدباغ وأراد أن يندر به ، فقال له ، وكان ذلك بعد إسلامه : يا أبا الفضل ما الذي تنظر فيه من الكتب ، لعله التوراة ؟ فقال : نعم ، وتجليدها من جلد دبغه من تعلم ، فمات خجلا ، وضحك المقتدر .
وأراد الشاعر أبو الربيع سليمان السرقسطي حضور نديم له، فكتب إليه :
بالراح والريحان والياسمين وبكرة الندمان قبل الأذين
وبهجة الروض بأندائه مقلداً منه بعقد ثمين
ألا أجب سبقا ندائي إلى الـ كأس تبدأت لذة الشاربين
هامت بها الأعين من قبل أن يخبرها الذوق بحق اليقين
نت لدينا شفقا معلنا فكن لها بالله صبحا مبين
وكتب علي بن خير التطيلي(25) إلى ابن عبد الصمد السرقسطي يستدعيه إلى مجلس أنس : أنا ـ أطال الله تعالى بقاء الكاتب سراج العلم وشهاب الفهم - في مجلس قد عبقت تفاحه ، وضحكت راحه(26) ، وخفقت حولنا للطرب ألوية ، وسالت بيننا للهو أودية ، وحضرتنا مثقلة تسأل منك إنسانها(27)، وصحيفة فكن(28) عنوانها، فإن رأيت أن تجعل إلينا القصد ، لنحصل بك في جنة الخلد ، صقلت نفوساً أصدأها بعدك، وأبرزت شموسا(29) أدجاها فقدك.
٤٠٢
فأجابه أبو(30) عبد الصمد : فضضت ـ أيها الكاتب العليم ، والمصقع الحبر الصميم - طابع كتابك ، فمنحني منه جوهر منتخب ، لا يشوبه مخشلب ، هو السحر إلا أنه حلال ، دل على ود حنيت ضلوعك عليه ، ووثيق عهد انتدب كريم سجيتك إليه ، فسألت فالق الحب ، وعامر القلب بالحب ، أن يصون لي حظي منك ، ويدرأ لي النوائب عنك ، ولم يمنعني أن أصرف وجه الإجابة إلى مرغوبك وأمتطي جواد الانحدار إلى محبوبك ، إلا عارض ألم ألم بي فقيد بقيده نشاطي ، وروى براحته بساطي ، وتركني أتململ على فراشي كالسليم ، وأستمطر الإصباح من الليل البهيم ، وأنا منتظر لإدباره.
ومن لطف أهل الأندلس ورقة طباعهم ما حكاه أبو عمرو ابن سالم المالقي قال : كنت جالسا بمنزلي بمالقة ، فهاجت نفسي أن أخرج إلى الجبانة ، وكان يوما شديد الحر ، فراودتها على القعود ، فلم تمكني من القعود ، فمشيت حتى انتهيت إلى مسجد يعرف برابطة الغبار ، وعنده الخطيب أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي فقال لي إني كنت أدعو الله تعالى أن يأتيني بك ، وقد فعل ، فالحمد لله ، فأخبرته بما كان مني ، ثم جلست عنده ، فقال : أنشدني ، فأنشدته لبعض الأندلسيين :
غصبوا الصباح فقسموه خدودا واستوعبوا قضب الأراك قدودا
ورأوا حصى الياقوت دون نحورهم فتقلدوا شهب النجوم عقودا
لم يكفيهم حد الأسنة والظبى حتى استعاروا أعيناً وخدودا
فصاح الشيخ وأغمي عليه ، وتصبب عرقاً ، ثم أفاق بعد ساعة ، وقال : يا بني اعذرني فشيئان يقهراني ، ولا أملك نفسي عندهما : النظر إلى الوجه الحسن وسماع الشعر المطبوع ، انتهى . وستأتي هذه الأبيات في هذا الباب
٤٠٣
بأتم من هذا وعلى كل حال فهي لأهل الأندلس ، لا لابن دريد كما ذكره بعضهم ، وسيأتي تسمية صاحبها الأندلسي ، كما في كتاب « المغرب » لابن سعيد المشهور ، رحمه الله تعالى .
وقال بعض الأدباء ليحيى الجزار ، وهو يبيع لحم ضأن(31):
لحم إناث الكباش مهزول
فقال يحيى :
يقول للمشترين مه زولوا
وقال التطيلي الأعمى في وصف أسد رخام يرمي بالماء على بحيرة(32):
أسد ولو أني أنا قشه الحساب لقلت صخره
وكأنه أسد السماء يمج من فيه المجرة
وحضر جماعة من أعيان الأدباء مثل الأبيض وابن بقي وغيرهما من الوشاحين ، واتفقوا على أن يصنع كل واحد منهم موشحة ، فلما أنشد الأعمى موشحته التي مطلعها(33):
ضاحك عن جمان سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان وحواه صدري
خرق كل منهم موشحته
وتحاكمت امرأة إلى القاضي أبي محمد عبد الله اللا ردي الأصبحي،
٤٠٤
وكانت ذات جمال ونادرة ، فحكم لزوجها عليها ، فقالت له : من يضيع قلبه كل طرف فاتر جدير أن يحكم بهذا ، تشير إلى قوله :
اين قلبي؟ أضاعه كل طرف فاتر يضرع الحليم لديه
كلما ازداد ضعفه ازداد فتكاً أي صبر يكون عليه ؟
وحضر أبو إسحاق ابن خفاجة مجلساً بمرسية مع أبي محمد جعفر ابن عنق الفضة الفقيه السالمي ، وتذاكرا فاستطال ابن عنق الفضة ، ولعب بأطراف الكلام ، ولم يكن ابن خفاجة يعرفه ، فقال له : يا هذا لم تترك لأحد حظا في هذا المجلس ، فليت شعري من تكون ؟ فقال : أنا القائل:
الهوى علمني شهد الليال ونظام الشعر في هذي اللآل
كلما هبت شمال منهم لعبت بي عن يمين وشمال
وأرقت فكرتي أرواحها فأتت منهن بالسحر الحلال
كان كالملح أجاجاً خاطري وسحاب الحب أبدته زلال
فاهتز ابن خفاجة ، وقال : من يكون هذا قوله لا ينبغي أن يجهل، ولك المعذرة في جهلك ، فإنك لم تعرفنا بنفسك ، فبالله من تكون ؟ فقال : أنا فلان ، فعرفه وقضى حقه.
وحكى ابن غالب في " فرحة الأنفس" أن الوزير أبا عثمان ابن شنتفير(34) وأبا عامر ابن غندشلب وفدا رسولين على المعتمد بن عباد ، عن إقبال الدولة بن مجاهد والمعتصم بن صمادح والمقتدر بن هود ، لإصلاح ما كان بين المعتمد وبين ابن ذي النون ، فسر المعتمد بهم وأكرمهم ودعاهم إلى طعام صنعه لهم ، وكان لا يظهر شرب الراح منذ ولي الملك ، فلما رأوا انقباضه عن ذلك تحاموا الشراب ، فلما أمر بكتب أجوبتهم كتب إليه أبو عامر:
٤٠٥
بقيت حاجة لعبد رغيب(35) لم يدع غيرها له من نصيب
أنا خيرية المساء حديثا وأنا في الصباح أخشى رقيبي
فإذا أمس كان عندي نهارا لم تخفني عليه بعد الغروب
وإذا الليل جن حدثت جلا سي بما كان من حديث عجيب
قيل إن الدجى لديك نهار وكذاك الدجي نهار الأريب
فتمنيت ليلة ليس فيها لذكا ذلك السنا من مغيب
ثم أغدو كأنني كنت في النوم وأخفي المنام" خوف هزيب
والهزيب: الرقيب العتيد في كلام أهل الأندلس فسر المعتمد وانبسط بانبساطه، وضحك من مجونه ، وكتب إليه:
يا مجاباً دعا إلى مستجيب فسمعنا دعاءه من قريب
إن فعلت الذي دعوت إليه كنت فيما رغبت عين رغيب
واستحضره فنادمه خالياً ، وكساه ووصله ، وانقلب مسروراً ، وظن المعتمد أن ذلك يخفى من فعله عن ابن شنتفير ، فأعلم بالأمر القائد ابن مرتين ، فكاد يتفطر حسدا وكتب إلى المعتمد:
أنا عبد أوليته كل بر لم تدع(36) من فنون برك فنا
غير رفع الحجاب في شريك الرا ح فماذا جناه أن يتجنى
وتمنى شراب سؤرك في الكأ س فبالله أعطه ما تمنى
فسرته أبياته ، وأجابه :
٤٠٦
يا كريم المحل في كل معنى والكريم المحل ليس يعنى
هذه الخمر تبتغيك فخذها أو قد عنها أو كيفما شئت كنا
وكان يقرأ في مجلس ملك السهلة أبي مروان ابن رزين ذي الرياستين ديوان شعر محمد بن هانئ، وكان القارئ فيه بله ، فلما وصل إلى قوله:
حرام حرام زمان الفقير
اتفق أن عرض للملك ما اشتغل به ، فقال للقارئ: أين وقفت ؟ فقال : في حر أم، فقام الملك ، وقال : هذا موضع لا أقف معك فيه ، ادخل أنت وحدك ، ثم دخل إلى قصره، والقلب المجلس ضحكا.
وكان المذكور وزير من أعاجيب الدهر ، وهو الكاتب أبو بكر ابن سدراي(37)، وذكره الحجاري في " المسهب" وقال : إن له شعراً أرق من نسيم السحر ، وأندى من الطل على الزهر ، ومنه قوله:
ما ضركم لو بعثم ولو بأدنى تحبه
تهزني من شذاها إليكـم الأربحيه
خذوا سلامي إليكم مع الرياح النديه
في كل سحرة(38) يوم تشترى وكل عشيه
يا رب طال اصطباري ما الوجد إلا بليه
غيلان بالشرق أضحى وحلت الغرب ميه
وقوله:
سابغي المجد في شرق وغرب فما ساد الفتى دون اغتراب
٤٠٧
فإن بلغت مأمولا فإني جهدت ولم أقصر في الطلاب
وإن أنا لم أفز بمراد سعيي فكم من حسرة تحت التراب
وقال ملك بلنسية مروان بن عبد العزيز لما ولي مكانه من لا يساويه:
ولا غرو بعدي أن يسود معشر فيضحي لهم يوم وليس لهم أمس
كذاك نجوم الجو تبدو زواهراً إذا ما توارت في مغاربها الشمس
وقال ابن دحية : دخلت عليه وهو يتوضأ ، فنظر إلى لحيته وقد اشتعلت بالشيب اشتعالا" ، فأنشدني لنفسه ارتجالا(39):
ولما رأيت الشيب أيقنت أنه نذير لحسمي بانهدام بنائه
إذا ابيض مخضر النبات فإنه دليل على استحصاده وفنائه
واعتل ابن ذي الوزارتين أبي عامر ابن الفرج(40) وزير المأمون بن ذي النون ، وهو من رجال الذخيرة والقلائد(41)، فوصف له أن يتداوى بالخمر العتيق ، وبلغه أن عند بعض الغلمان منها شيئاً ، فكتب إليه يستهديه(42):
ابعث بها مثل ودك أرق من ماء خدك
شقيقة النفس، فانضح بها جوى ابني وعبدك
وهو القائل معتذراً عن تخلفه عمن جاءه مندرا(43) :
٤٠٨
ما تخلفت عنك إلا لعذر ودليلي في ذاك خوفي عليكا
هبك أن الفرار من غير عذر أتراه يكون إلا إليكا ؟
وله من رسالة هناء :
أهنئ بالعيد من وجهه هو العيد لو لاح لي طالعا
وأدعو إلى الله سبحانه بشمل يكون لنا جامعا
وكتب إلى الوزير المصري(44) يستدعيه أن يكون من ندمائه ، فكتب إليه الوزير المصري يستعلمه اليوم ، فلما أراده كتب إليه(45):
ها قد أهبت بكم وكلكم هوى وأحقكم بالشكر مني السابق
كالشمس أنت وقد أظل طلوعها فاطلع وبين يديك فجر صادق
وله في رئيس مرسية أبي عبد الرحمن ابن طاهر ، وكان ممتع المجالسة كثير النادرة:
قد رأينا منك الذي قد سمعنا فغدا الخبر عاضد الأخبار
قد وردنا لديك بحراً نميراً وارتقينا حيث النجوم الدراري
ولكم مجلس لديك انصرفنا عنه مثل الصبا عن الأزهار
وشرب الأديب الفاضل أبو الحسن علي بن حريق(46)عشية مع من يهواه، ورام الانفصال عنه لداره، فمنعه سيل حال بينه وبين داره، فيات عنده على غير اختياره فقال ابن حريق(47):
٤٠٩
يا ليلة جادت الليالي بها على رغم أنف دهري
للسيل فيها علي نعمى يقصر عنها لسان شكري
ابات في منزلي حبيبي وقام في أهله بعذر
فبت لا حالة كحالي ضجيع بدر صريع سكر
يا ليلة القدر في الليالي لأنت خير من ألف شهر
ومن حسنات ابن حريق المذكور قوله:
يا ويح من بالمغرب الأقصى ثوى حلف النوى وحبيبه بالمشرق
لولا الحذار على الورى لملأت ما بيني وبينك من زفير محرق
وسكبت ثم قلت لسكبه من لم يذب من زفرة فليغرق
لكن خشيت عقاب ربي إن أنا أحرقت أو أغرقت من لم أخلق
وله :
لم يبق عندي للصبا لذة إلا الأحاديث على الخمر
وله :
فقبلت إثرك فوق الثرى وعانقت ذكرك في مضجعي
وله(48):
إن ماء كان في وجنتها وردته السن حتى نشفا
وذوى العتاب من أنملها فأعادته الليالي حشفا
وأورد له أبو بحر في " زاد المسافر " قوله :
٤١٠
كلمته فاحمر من خجل حتى اكتسى بالعسجد الورق
وسألته تقبيـل راحتـه فأبى وقال أخاف أحترق
حتى زفيري عاق عن أملي إن الشقي بريقه شرق
وقوله في السواقي:
وكأنما سكن الأراقم جوفها من عهد نوح مدة الطوفان
فإذا رأينا الماء يطفح نضنضت من كل خرق حية بلسان
وقال الفيلسوف أبو جعفر ابن الذهبي فيمن جمع بينه وبين أحد الفضلاء(49):
أيها الفاضل الذي قد هداني نحو من قد حمدته باختبار
شكر الله ما أتيت وجازا ك ولا زلت نجم هدي لساري
أي برق أفاد أي غمام وصباح أدى لضوء نهار
وإذا ما النسيم كان دليلي لم يحلتني إلا على الأزهار
وأنشد أبو عبد الله محمد بن عبادة الوشاح المعتصم بن صمادح شعراً يقول فيه:
ولو لم أكن عبداً لآل صمادح وفي أرضهم أصلي وعيشي ومولدي
لما كان لي إلا إليهم ترحل وفي ظلهم أمسي وأضحي وأغتدي
فارتاح ، وقال : يا ابن عبادة ، ما أنصفناك بل أنت الحر لا العبد ، فاشرح لنا في أملك ، فقال : أنا عبدكم كما قال ابن نباتة:
لم يبق جودك لي شيئا أؤمله تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
411
فالتفت إلى ابنه الواثق يحيى ولي عهده وقال : إذا اصطنعت الرجال فمثل هذا فاصطنع ضمه إليك وافعل معه ما تقتضيه وصيتي به ونبهني إليه كل وقت ، فأقام نديما لولي العهد المذكور.
وله فيهما الموشحات المشهورة ، كقوله(50) :
كم في قدود البان تحت اللمم من أقمر عواطي
بأنمل وبنان مثل العنم لم تنبري للعاطي
ولما بلغ المعتصم أن خلف بن فرج السميسر هجاه احتال في طلبه حتى حصل في قبضته ، ثم قال له : أنشدني ما قلت في، فقال له وحق من حصلني في يدك ما قلت شرا فيك ، وإنما قلت :
رأيت آدم في نومي فقلت له: أبا البرية إن الناس قد حكموا
أن البرابر نسل منك ، قال : إذن حوال طالقة إن كان ما زعموا
فنذر ابن بلقين صاحب غرناطة دمي ، فخرجت هاربا إلى بلادك فوضع علي من أشاع ما بلغك عني لتقتلني أنت فيدرك ثأره بك ويكون الإثم عليك ، فقال وما قلت فيه خاصة مضافاً إلى ما قلته في عامة قومه ؟ فقال لما رأيته مشغوفاً بتشييد قلعته التي يتحصن فيها بغرناطة قلت :
يبني على نفسه سفاها كأنه دودة الحرير
فقال له المعتصم: لقد أحسنت في الإساءة إليه ، فاختر : هل أحسن إليك وأخلي سبيلك أم أجيرك منه ؟ فارتجل:
خبرني المعتصم وهو بقصدي أعلم
٤١٢
وهو إذا يجمع لي أمنا ومنا أكرم
فقال: خاطرك خاطر شيطان ولك المن والأمان فأقام في إحسانه بأوطانه ، حتى خلع عن ملكه وسلطانه .
ولما أنشده عمر بن الشهيد قصيدته التي يقول فيها(51):
سبط البنان كأن كل غمامة قد ركبت في راحتيه أناملا
لا عيش إلا حيث كنت، وإنما تمضي ليالي العمر بعدك باطلا
التفت إلى من حضر من الشعراء وقال : هـل فيكم من يحسن أن يجلب القلوب بمثل هذا ؟ فقال أبو جعفر ابن(52) الخراز البطرني(53): نعم ، ولكن للسعادة هبات ، وقد أنشدت مولانا قبل هذا أبياتاً أقول فيها(54) :
وما زلت أجني منك والدهر ممحل ولا ثمر يجنى ولا الزرع يحصد
ثمار أياد دانيات قطوفها لأغصانها ظل علي ممدد
برى جاريا مال المكارم تحتها وأطيار شكري فوقهن تغرد
فارتاح المعتصم ، وقال : أأنت أنشدتني هذا ؟ قال : نعم ، قال : والله كأنها ما مرت بسمعي إلى الآن ، صدقت ، للسعد هبات ، ونحن نجيزك عليها بجائزتين : الأولى لها والثانية لمطل راجيها وغمط إحسانها ، انتهى.
٤١٣
وقال بعض ذرية(55) ملوك إشبيلية :
نثر الورد بالخليج وقد در جه بالهبوب من الرياح
مثل درع الكمي مزقها الطعن فسالت بها دماء الجراح
وقال ابن صارة في النارنج(56) :
كرات عقيق في غصون زبرجد بكف نسيم الربح منها صوالج
نقبلها طوراً وطـوراً نشمها فهن خدود بيننا ونوافج
[ أشعار لابن الزقاق ]
وقال أبو الحسن ابن الزقاق ابن أخت ابن خفاجة (57):
وما شق وجنته عابثاً ولكنها آية للبشر
جلاها لنا الله كيما نرى بها كيف كان انشقاق القمر
وقال :
ضربوا ببطن الواديين قبابهم بين الصوارم والقنا المياد
والورق تهتف حولهم طرباً بهم فبكل محنية ترنم شادي
يا بانة الوادي كفى حزنا بنا أن لا نطارح غير بانة وادي
وقال :
نحن في مجلس به كمل الأنس ولو زرتنا لزاد کمالا
٤١٤
طلعت فيه من كؤوس الحميا ومن الزهر أنجم تتلالا
غير أن النجوم دون هلال فلتكن منعما لمن الهلالا
وقال :
وهويتها سمراء غنت وانثنت ف نظرت من ورقاء في أملودها .
تشدو ووسواس الحلي يجيبها مهما انثنت في وشيها وعقودها
أوليس مـن بـدع الزمان حمامة غنت فغنى طوقها في جيدها
وقال :
لئن بكيت دما والعزم من شيمي على الخليط فقد يبكي الحسام دما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المغرب ۲ : ۱۸۲ .
۲- ق ب : ومن هجائه المنقتل له ؛ و البيتان في الذخيرة ١/٢ : ٢٦٤ .
3- المغرب ٢ : ١٨٤ .
4- في الأصول ودولي : البجالي ؛ وترجمته في الجذوة : ٨٦ ؛ وانظر الذخيرة ۲/۱ :
6- الذخيرة: 83 .
5- الذخيرة : الحب .
7- الذخيرة : كلها
8- في ق ب ودوزي : الفردوس، وهو خطأ ؛ و العروس من متنزهات إشبيلية.
9- المغرب 1: 427.
10- ترجمة الوحيدي في المغرب 1 : ٤٣١ وبقية الملتمس ( ص : ٣٢٦ ) والصلة : ٢٩٠ والمرقبة العليا : ١٠٤ .
11- م: بالسلام.
12- البيتان في المغرب 1 : ٤٣١ .
13- انظرها في الذخيرة ( ۳ : ۲۷۷ ) وبعضها في المغرب ۲:۳۳۰ .
14- دوزي : بكسب.
15- ترجمة أبي الفضل ابن شرف في المغرب ۲ : ۲۳۰ والذخيرة ( 3 : ٢٧٦ ) و القلائد: 252 والصلة : ١٢٩ والمطرب : 71 وبغية الملتمس ص: ۳۳۹ .
16- ترجمته في المغرب ٢ :232 والمسالك 11 : ۲۳۸ .
17- ترجمته في المغرب 1 : ٤٣٣ وبغية الوعاة : 106 وأبياته في المغرب 1 : ٤٣٣.
18- في الأصول ودوزي: مغربه .
19- انظر التكملة : ٤٠٧ .
20- در البيتان، انظر ص:265 وانظر بدائع البدائه ۲: ۱۲۳
21- البيتان في المغرب 1 : ٤٣٦.
22- في التحفة : 91 ابن كسرى ، وكلك في التكملة : ٢٦٤ .
23- الأبيات في المغرب 1 : ۳۷۰ .
24- البيتان في الذخيرة (٣: ١٦٤) .
25- هذا النص في الأخيرة ( ٣ : ٢٥٦ ) وقد صدره ابن بسام بقوله « وأخبرت أن بعض أدباء الثغر استدعى هذا الشيخ ( يعني أبا عبد الصمد ؛ وكان في عصر أبي حفص ابن برد الأصغر ، فهو غير اب بحر ابن عبد الصمد ) لمجلس أنس بهذا النثر : أنا أطال الله بقاء الكاتب . . . إلخ .
26- الذخيرة: وصفت أقداحه
27- الذخيرة : فنحن لنأيك عنا مقلة تسأل إنسانها.
28- الذخيرة: نشر.
29- الذخيرة: وارت سرجا وهو أجود.
30- في الأصول : ابن.
31- انظر زاد المسافر: ۹۸ .
3۲- ديوان التعليل: ٢٤٩.
33- أزهار الرياض ۲ : ۲۰۸
34- لعله : ابن بشتغير كما ورد من قبل ص : ۲۰۹ .
35- م: غريب.
36- في الأصول : لم يدع .
37- انظر المغرب ٢ : ٤٣٠ وبعض أبياته هنالك .
38- المغرب : غرة .
39- المطرب : ۸۰
40- ترجم له صاحب المطمح : ١٥ وانظر الأخيرة ( القسم الثالث ) والمغرب ۲ : ۳۰۳ والحلة 2: 171.
41- كذا قال ابن سيد أيضا و لكن ليست لابن الفرج ترجمة في القلائد المطبوع ، وإنما ترجمته في المطمح.
42- البيتان في المطمح والحلة.
43- انظر المصدرين السابقين .
44- هو أبو محمد المصري : ( أبو محمد عبد الله بن خليفة القرطبي).
45- الشعر في الحلة والمطمح .
46- ترجمته في المغرب ۲ : ۳۱۸ وزاد المسافر : ٢٣ والتكملة : ٦٢٩ والقوات ۲ : ۷۰.
47- هذه القطعة واللتان تليانها في المغرب: ۳۱۹ ، ۳۱۸
48- زاد المسافر ، ۲۲ ، ۲۳ ، ٢٤ ( ثلاث قطع ) .
49- مرت الأبيات من: ۲۰۷ .
50- انظر هذه الموشحة في دار الطراز: 60 .
51- الذخيرة ۱ / ۲ : ۱۹۰ .
5۲- ابن: سقطت من م ب.
53- هو أبو جعفر احمد بن الخراز ( الجزار في المغرب ) الببطرني ( نسبة إلى بطرقة من قرى بلنسية ) وهو الذي أثار ابن غربية إلى كتابة رسالته في الشعوبية وعارضه أبو جعفر برسالة تناظرها (المغرب 2: 355 والحاشية ) .
54- الأبيات في المغرب ٢ : ٣٥٦ .
55- ذرية : سقطت من م . والبيتان لابن الزقاق ( ديوانه : ۱۳۱).
56- من أبيات في الذخيرة ( ٢ : ٣٢٥) .
57- انظر هذه القطع في ديوان ابن الزقاق : ۱۷۹ ، ١٤٤ والقطع الثلاث الأخيرة لم ترد في ديوانه ؟ و القبعة الأولى مرت في النفح ص : ۲۹۰
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|