أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-10-2014
2212
التاريخ: 22-04-2015
1927
التاريخ: 7-12-2015
2741
التاريخ: 9-11-2014
2270
|
إنّ
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر له شقّان ، شقّ عام يشمل جميع النّاس ، وشقّ خاص
تختص به الحكومة الإسلاميّة ، ففي هذه المرحلة قد يلزم إبداء الخشونة والشّدّة
وهذا ليس من شأن النّاس ، بل لابدّ أن يقوم مأمور الحكومة المدربون على القيام
بهذه الوظيفة ، وهذا يشكل أساس «الحسبة» (1).
توضيح
ذلك :
«الحسبة» : في اللغة ،
إسم مصدر من مادة
«إحتساب» ، وكما ذكر أرباب اللغة فإنّه
بمعنى التّسليم والصّبر حيال المشكلات طلباً للأجر الإلهي ، وكذلك السّعي في أداء
أعمال الخير لتحصيل الثّواب.
ولما
كان هذا الشق من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر سعيٌ واجتهاد وجدٌّ في طريق
إطاعة اللَّه ومكافحة المنكرات لنيل رضا اللَّه ، سُمي «حسبة».
يقول
في كتاب «التّحقيق» حول معنى مادة «حسب» : الأصل في هذا المصطلح بمعنى التّحقيق
والبحث والتّدقيق بقصد الإمتحان.
وهذا
التعبير يناسب كثيراً شغل المحتسب الذي يستخبر عن شرائح مختلفة من المجتمع ويبحث
ويحقق ويراقب حركاتهم ، فإن وجد انحرافاً نبههّم إليه ، فإن لم ينفع واجههم بشدّة.
وكانت
دائرة «الحسبة» من الدوائر المعروفة في زمن الخلفاء وتشرف على نشاطات الكسبة
والتجّار والفلاحين وشرائح المجتمع الاخرى من حيث المخالفات والمنكرات ، وكلما رأى
المحتسبون مخالفة كانوا ينهون مرتكبيها لها ، فإن لم يؤثر فيهم النهي والتذكير
والموعظة ، كانوا يعاقبون المخالف في نفس المكان مباشرة ، أو يقبضون عليه
ويسلّمونه إلى القاضي فيأمر بحبسه.
وباعتقاد
البعض ، فإنّ جذور هذه المسألة تعود إلى عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله حيث كان
صلى الله عليه وآله يمارس عمل المحتسب بنفسه الشّريفة ، وتارة كان يوكل الأمر إلى
شخص ينتخبه لهذا الغرض ، ولكن لابدّ من الإلتفات إلى أنّ استعمال هذا المصطلح لم
يكن معمولًا به في ذلك العصر ، ولم يكن موجوداً في كلام الفقهاء المتقدمين ، ويبدو
أنّ هذا المصطلح استعمل لأول مرّة ، في عصر خلفاء بني أُميّة وبني العبّاس ، حيث
انتخب لهذا الشق من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
وعلى
أيّة حال ، فإنّ الأخبار الواصلة عن عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله تدل على أنّ
كلمة «الحسبة» وإنْ لم تكن متداولة في ذلك العصر بمعناها ومفهومها المعهود اليوم ،
ولكن مفهومها الواقعي أي ، النظارة على المسائل الاجتماعيّة من قبل الحكومة
الإسلاميّة ، كان مراعىً تماماً حينذاك ، فتارة كان الرسول صلى الله عليه و آله
يقوم بنفسه بهذه الوظيفة ، واخرى ، يوكلها إلى آخرين.
ومن
جملة الشّواهد على ذلك ، ما ورد من أنّ الرّسول صلى الله عليه و آله قد أمر سعيد
بن سعيد بن العاص- بعد فتح مكة- بالأشراف على السّوق ، حيث ورد في الحديث : «استعملَ رَسولُ اللَّهِ سعيد بنَ
سَعيد بن العاص بَعْدَ الفَتح على سُوق مكّة» (2).
حتى
أنّ المستفاد من بعض الرّوايات ، أنّ بعض النّساء كنَّ يمارسن وظيفة الاشراف على
المسائل النّسائية (كمسائل الحجاب وأمثال ذلك) ، ومن جملة تلك النّسوة امرأة باسم «سحراء» بنت نهيك (3) الذي أدرك عصر النّبيّ صلى الله عليه و آله ، كانت
مأمورة بالقيام بتلك الوظيفة ، فكانت تدور في الأسواق وتأمر بالمعروف وتنهى عن
المنكر (وإن ذهب البعض إلى أنّها لم تقم بذلك الدور في عصر النّبيّ صلى الله عليه
و آله وإنّما كان ذلك في زمن عمر بن الخطاب) (4).
وفي
كثير من المواضع ، كان النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله يتولى ذلك بنفسه ، خاصة
في مسائل الإحتكار والغش والتدليس في المعاملة وأمثال ذلك ، ومن جملة ما ورد في
ذلك : «إنّ رسول اللَّه صلى الله
عليه و آله مرَّ بالمحتكرين فأمر بحكرتِهم أنْ تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظرُ
الأبصار إليها» (5) ، فاقترح النّاس أن تُعيّن أسعارها ، فرفض النّبيّ صلى
الله عليه و آله ذلك.
وفي
حديث آخر ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه و آله مرَّ على رجل خلط طعاماً جيداً برديء
، فقال له النّبيّ صلى الله عليه و آله في ذلك ، فقال الرجل : أردت أن أبيعه
جميعاً فقال صلى الله عليه و آله : «ميِّزْ كُلَّ واحدٍ منهما على حِدة ، ليس في ديننا غشّ» (6).
وجاء
في عهد الإمام عليّ عليه السلام إلى مالك الأشتر :
«إمنَع من الإحتكار فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مَنَعَ مِنهُ ، وليكن
البَيْعُ بيعاً سَمحًا بموازين عدلٍ ، وأسعار لا تجحِفْ بالفريقين من البائع
والمبتاع ، فمن قارفَ حُكْرَةً بعد نهيك إيّاه ، فنكِّل به وعاقبهُ في غيرِ إسراف» (7).
ونقرأ
أيضاً في أحوال الإمام عليّ عليه السلام أنّه كان يتولى بنفسه الأُمور المرتبطة
بالحسبة ، فكان أحياناً يمرُّ في سوق القصابين وينهاهم عن المخالفة (8).
وكان
عليه السلام يمرَّ تارة في سوق السّماكين وينهاهم عن بيع الأسماك المحرّمة (9).
ولكن
، وبمرور الزّمان ، اتسعت مسألة «الحسبة» واتخذت تدريجياً صورة دائرة مهمّة من
دوائر الدولة الإسلاميّة ، فكان المأمورون باسم «المحتسبين» يدورون في الأزقة
والأسواق والشّوارع الكبيرة ليل نهار ويراقبون الأمور الاجتماعيّة ، المختلفة ، فيعاقبون
المخالفين في محل ارتكاب المخالفة أحياناً ، وأحياناً أخرى يأخذونه إلى القاضي
(كما في مأموري شرطة المرور هذه الأيّام).
واتّسعت
دائرة «الحسبة» إلى درجة أنّ «جرجي زيدان» المؤرخ المعروف ذكر في كتابه «تاريخ
الحضارة الإسلامية» يقول :
«الحسبة»
: وهي احدى المناصب الإسلامية ، شأنها شأن منصب القضاء
وللمحتسب حق ردع الناس عن القيام بالمنكرات ، وله حق الاشراف على التعزير والتأديب
، وأمر الناس بضرورة رعاية المصالح في المؤن ، ومنعهم من الوقوف في الطرقات ، ومراقبة
شؤون النقل ، ومنع أصحاب السفن من تحميل السفينة أكثر من طاقتها ، وذلك حفاظاً على
أموال وأرواح الناس ، ويأمر بإقامة وتعديل الجدران المشرفة على السقوط وكل شيء من
شأنه تعريض المارة للخطر ، وكل شيء يلحق بهم الضرر ، ويمنع الغش والتدليس في
الكسب والعمل ، ويأمر بمراعاة المكيال والميزان والاشراف على منع كل ما من شأنه أن
يلحق الاذى والاجحاف بالناس.
وكل
ما ذكر هو مسؤوليات القاضي ، ولكن لكون القاضي لا يستطيع ممارسة كل هذه الأعمال
بشكل عملي ، لذا فُصلت هذه المسؤولية من مهامه ، وأصبحت مستقلة.
المتصدي
لهذا المنصب أو المسؤول يجب أن يكون فرداً صالحاً ومن ذوي الوجاهة ، لأنّ هذه
المسؤولية تمثل خدمة دينية «ومن دون هذه الوجاهة لا يمكنه القيام بهذه المسؤولية».
ورئيس
امور الحسبة يقوم بتعيين ممثلين عنه في كافة المناطق ويستطيع أن يجلس كل يوم في
أحد المساجد المهمّة ، ويقوم مُمثِّلوه يقومون بممارسة الأعمال المختلفة الملقاة
على عاتقهم في الاشراف على المشاغل المختلفة والسوق.
وفي
مصر ، كان رئيس امور الحسبة يجلس يوماً في مسجد القاهرة ويوماً في مسجد الفسطاط ، ويرسل
ممثليه إلى الشوارع والأزقة لكي يقوموا بالاشراف على وضع اللحوم ومراكز الطبخ
والأغذية ، وكذلك الاشراف على الحمولة التي تحملها الحيوانات ، حيث لا يسمحون
تحميلها أكثر من طاقتها ، ويأمرون سقاة الماء بأن يغطوا أوانيهم بقطع من القماش ، وأن
يراعوا الموازين الصحية والإسلامية في أعمالهم.
ويحذرون
معلمي المدارس والمكاتب بأن لا يضربوا تلامذتهم ضرباً شديداً إذا ما أذنبوا ، وإذا
ما ضربوهم فليتجنبوا المناطق الحساسة والخطرة من الجسم.
والمحتسب
له حق الاشراف على محل ضرب العملة لكي لا يحصل الغش أثناء ضرب السكة فتخرج عن
العيار المطلوب.
وفي
الأندلس كان يسمى هذا المنصب لاخطة «الاحتساب» والمسؤول عنه أحد القضاة ، ويقوم
هذا الشخص بركوب مركباً والتجوال في الأسواق يحيط به أعوانه وموظَّفوه ، ويحمل معه
ميزان ليزن به الخبز ، فاذا كان أقل مِمّا هو مقرر فيعاقب البائع.
ويجب
على القصاب أن يعلق قيمة للحومة في دكانه ، وذلك لكي لا يتلاعب بالأسعار.
وفي
بعض الأحيان يقوم المحتسب بإرسال طفلٍ أو امرأة لكي يشتريا من السوق ، ويقوم
المحتسب بوزن ما اشترياه ، فاذا راي نقصاً في الوزن فيقوم بمجازاة البائع.
هؤلاء
، لديهم قوانين واسعة لها علاقة بالحسبة يقومون بتدريسها في مدارسهم ، كما يدرس
فقهاء الإسلام دروسهم
(10).
ومن
مجموع هذا الكلام والمطالب الاخرى المذكورة في الكتب المصنفة في «الحسبة» ، يظهر أنّ «دائرة الحسبة» كانت تتولى
كثيراً من الأمور التي تتولاها اليوم الدوائر الحكومية كأمانة العاصمة والقوى
الدّاخلية ، وقوى التعزيرات والغرامات الحكومية ، والتّربية والتعليم ، والقضاة ، وأنّها
أحد أركان الحكومة الإسلاميّة الفعالة ، وخاصة في دورها الواضح والبارز في محاربة
المنكرات ، ولذا فإنّ قصائد الشعراء تضمنّت مصطلح «المحتسب» ووظائفه بشكل موسع.
والمستفاد
من مجموعة من المصادر أنّ القيام بوظيفة «المحتسب» كان من الواجبات الكفائيّة بين
المسلمين ، إذ كما قلنا فإنّ «الحسبة» فرع من فروع الأمر بالمعروف والنّهي عن
المنكر ، حتّى أنّ بعض النّساء كنَّ يُنتَخَبْنَ لهذه الوظيفة ليشرفن على تحركات
النّساء الاجتماعيّة.
ونقرأ
في «دائرة معارف دهخدا» (فارسي) في بحث «وظائف المحتسب» : «إنّ وظيفة المحتسب ، أوّلًا : الاشراف على إجراء المقررات الشّرعيّة
والمنع من ارتكاب المحرمات ، وثانياً : الاشراف
على صحة سير الأمور المرتبطة بالمصالح العامة للمجتمع ورفاههم وحياتهم ، وكذلك الحدِّ
من سدِّ الطّرقات العامة والأزقة من قبل بعض المخالفين والباعة ... والإشراف على
الوزن ، وما هو اليوم في عهدة «البلديات» من هذه الوظائف كان في الأصل في عهدة
القاضي ، ولكنّهم جعلوها شغلًا مستقلًا لكي لا يبتلى القاضي بها» (11).
ويذكر
في نفس الكتاب وظائف المحتسب نقلًا عن كتاب «معالمُ القُرْبَة» والذي قد يكون أجمع
كتاب كتب في أحكام الحسبة ، حيث يذكر ما يظهر منه أنّ شغل المحتسب يشمل الاشراف
على أنواع الكسب والتجارات وموارد الإنتاج والخدمات والتّربية والتعليم.
ومن
جملة الموارد : منع وقوع المنكرات في الأزقة والأسواق ومراقبة صحة الوزن والمكيال
وأمور الأفران والمخابز ، والأمُور الصّحية والمسالخ والتّدقيق في صحة الذّبح
وشرائطه ، والحمّامات العامة ، والأطباء والمعلمين والمؤذنين وخدمة المساجد
والوعاظ والكتّاب ، وكذا النظارة على أشغال التّجارة ، والملاحين ، والمعمارين
والبنّائين ، والسماسرة والصرّافين والصاغة وأمثالهم (12).
وفيما
يرتبط بالفرق بين مسألة «الحسبة» ومسألة «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» ذكرت
بعض الكتب مثل «الأحكام السلطانية» فروقاً كثيرة بينهما بلغت تسعة فوارق (13).
ويمكن
في الواقع تلخيص تلك الفروق في جملة واحدة وهي أنّ «الحسبة» هي الشّق الحكومي
للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والذي يمكن التّوسل به في موارد اللزوم ، وعليه
فالمحتسب يُعَيَّن من قبل الحكومة ، وله أعوان وأنصار ، وظيفتهم الإشراف والنظارة
على المسائل الاجتماعيّة المذكورة ، وهؤلاء يستلمون مرتباتهم الشّهرية من صندوق
بيت المال ، ويلقون القبض على المخالفين ويعزّرونهم ويعاقبونهم على النحو الذي
مرَّ ، وأما الشّق العام للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، فلا يكون بهذا النحو.
_______________________
(1) التّحقيق في كلمات القرآن
الكريم ، ح 2 ، مادة (حسب).
(2)
التّراتيب الإدارية ، للكتاني ، ج 1 ، ص 285 (ينقل الرّواية عن إبن عبد البرّ في
الإستيعاب).
(3)
«نهيك» على وزن شريك ، وفي الأصل بمعنى الجمل القوي ، والسّيف القاطع ، ويقال
للرّجال القاطعين الحازمين أيضاً.
(4)
المصدر السابق.
(5)
وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 317 ، ح 1 ، الباب 3.
(6)
كنز العمال ، ج 4 ، ص 159.
(7)
نهج البلاغة ، الرسالة 53.
(8)
كنز العمال ، ج 4 ، ص 158.
(9)
وسائل الشيعة ، ج 16 ، ص 332.
(10)
تاريخ الحضارة الإسلامية «جرجى زيدان» ، ج 1 ، ص 252 ، مع التصرف.
(11)
لغتنامه دهخدا ، مادة (حسبة).
(12)
المصدر السابق.
(13)
الأحكام السلطانية ، ص 24.