أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-4-2016
![]()
التاريخ: 16-6-2022
![]()
التاريخ: 30-3-2016
![]()
التاريخ: 5-4-2016
![]() |
ووجّه الإمام لدى عودته من صفّين بمنطقة يقال لها : « حاضرين » وصية مهمّة إلى ابنه الحسن ( عليه السّلام ) وقد تضمّنت دروسا بليغة :
« من الوالد الفان ، المقرّ للزمان[1] ، المدبر العمر ، المستسلم للدنيا ، الساكن مساكن الموتى ، والظاعن[2] عنها غدا ، إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك ، السالك سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام[3] ، ورهينة[4] الأيام ، ورميّة[5] المصائب . . .
أمّا بعد : فإن فيما تبيّنت من إدبار الدنيا عنّي ، وجموح الدهر[6] عليّ ، وإقبال الآخرة إليّ ، ما يزعني[7] عن ذكر من سواي ، والاهتمام بما ورائي[8] ، غير أني حيث تفرّد بي دون هموم الناس همّ نفسي ، فصدفني[9] رأيي ، وصرفني عن هواي ، وصرّح لي محض أمري[10] ، فأفضى بي إلى جدّ لا يكون فيه لعب ، وصدق لا يشوبه كذب . ووجدتك بعضي ، بل وجدتك كلّي ، حتى كأنّ شيئا لو أصابك أصابني ، وكأنّ الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي ، فكتبت إليك كتابي مستظهرا به[11] إن أنا بقيت لك أو فنيت .
فإني أوصيك بتقوى اللّه - أي بني - ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله . وأيّ سبب أوثق من سبب بينك وبين اللّه إن أنت أخذت به ؟
أحي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزهادة ، وقوّه باليقين ، ونوّره بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت ، وقرّره بالفناء[12] وبصّره فجائع الدنيا وحذّره صولة الدهر وفحش تقلّب الليالي والأيام ، وأعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين ، وسر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا ، وأين حلّوا ونزلوا ، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة ، وحلّوا ديار الغربة ، وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم . فأصلح مثواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ، ودع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لم تكلّف .
وخض الغمرات[13] للحقّ حيث كان ، وتفقّه في الدّين ، وعوّد نفسك التصبّر على المكروه ، ونعم الخلق التصبر في الحق ، وألجئ نفسك في أمورك كلّها إلى إلهك ، فإنّك تلجئها إلى كهف[14] حريز[15] ، ومانع عزيز فتفّهم يا بنيّ وصيّتي ، واعلم أنّ مالك الموت هو مالك الحياة ، وأنّ الخالق هو المميت ، وأنّ المفني هو المعيد ، وأنّ المبتلي هو المعافي ، وأنّ الدنيا لم تكن لتستقرّ إلّا على ما جعلها اللّه عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد ، أو ما شاء ممّا لا تعلم . . .
فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسوّاك ، وليكن له تعبّدك ، وإليه رغبتك ، ومنه شفقتك[16].
واعلم يا بني أنّ أحدا لم ينبئ عن اللّه سبحانه كما أنبأ عنه الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله ) فارض به رائدا ، وإلى النجاة قائدا ، فإنّي لم آلك[17] نصيحة فإنّك لن تبلغ في النظر لنفسك - وإن اجتهدت - مبلغ نظري لك .
واعلم يا بني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته ، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضادّه في ملكه أحد ، ولا يزول أبدا ولم يزل . أوّل قبل الأشياء بلا أوّليّة ، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية ، عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر ، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره[18] وقلّة مقدرته وكثرة عجزه ، وعظيم حاجته إلى ربّه ، في طلب طاعته ، والخشية من عقوبته ، والشفقة من سخطه ، فإنّه لم يأمرك إلّا بحسن ولم ينهك إلّا عن قبيح .
. . . يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحبّ أن تظلم ، وأحسن كما تحبّ أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك ، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك .
واعلم أنّ الإعجاب[19] ضد الصواب ، وآفة الألباب[20] ، فاسع في كدحك[21] ولا تكن خازنا لغيرك[22] ، وإذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربّك .
. . . واعلم أنّ الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء ، وتكفّل لك بالإجابة ، وأمرك أن تسأله ليعطيك ، وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه .
. . . ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته ، فمتى استفتحت بالدعاء أبواب نعمته ، واستمطرت شآبيب[23] رحمته ، فلا يقنّطك[24] إبطاء إجابته ، فإنّ العطيّة على قدر النيّة ، وربّما أخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل ، وأجزل لعطاء الآمل ، وربّما سألت الشيء فلا تؤتاه ، وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا ، أو صرف عنك لما هو خير لك ، فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله ، وينفى عنك وباله ، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له .
. . . يا بني ! أكثر من ذكر الموت ، وذكر ما تهجم عليه ، وتفضي بعد الموت إليه حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك[25] « 5 » وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك[26] ، وإيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد[27] أهل الدنيا إليها ، وتكالبهم[28] عليها ، فقد نبأك اللّه عنها ، ونعت[29] هي لك عن نفسها ، وتكشّفت لك عن مساويها ، فإنّما أهلها كلاب عاوية ، وسباع ضارية[30] ، يهرّ[31] بعضها على بعض ، ويأكل عزيزها ذليلها ، ويقهر كبيرها صغيرها .
. . . واعلم يقينا أنّك لن تبلغ أملك ، ولن تعدو أجلك ، وأنّك في سبيل من كان قبلك ، فخفّض[32] في الطلب ، وأجمل[33] في المكتسب ، فإنّه ربّ طلب قد جرّ إلى حرب[34] فليس كل طالب بمرزوق ، ولا كل مجمل بمحروم ، وأكرم نفسك عن كل دنيّة[35] وإن ساقتك إلى الرغائب[36] ، فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا[37].
ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حرا ، وما خير خير لا ينال إلّا بشرّ ، ويسر[38] لا ينال إلّا بعسر[39] ؟ .
وإيّاك أن توجف[40] بك مطايا[41] الطمع ، فتوردك مناهل[42] الهلكة[43] ، وإن استطعت ألّا يكون بينك وبين اللّه ذو نعمة فافعل ، فإنّك مدرك قسمك ، وآخذ سهمك ، وإنّ اليسير من اللّه سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه وإن كان كلّ منه .
. . . ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك ، ولا ترغبنّ فيمن زهد عنك ، ولا يكوننّ أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته ، ولا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان ، ولا يكبرنّ عليك ظلم من ظلمك ، فإنّه يسعى في مضرته ونفعك ، وليس جزاء من سرّك أن تسوءه .
واعلم يا بنيّ ! أنّ الرزق رزقان : رزق تطلبه ورزق يطلبك ، فإنّ أنت لم تأته أتاك ، ما أقبح الخضوع عند الحاجة ، والجفاء عند الغنى ! إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك[44] وإن كنت جازعا على ما تفلّت[45] من يديك ، فاجزع على كلّ ما لم يصل إليك ، استدل على ما لم يكن بما قد كان ، فإنّ الأمور أشباه ، ولا تكوننّ ممن لا تنفعه العظة إلّا إذا بالغت في إيلامه ، فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب ، والبهائم لا تتّعظ الّا بالضرب .
. . . استودع اللّه دينك ودنياك ، واسأله خير القضاء لك في العاجلة والآجلة والدنيا والآخرة ، والسلام
[1] المقر للزمان : المعترف له بالشدة .
[2] الراحل .
[3] غرض الأسقام : هدف الأمراض ترمي إليه سهامها .
[4] الرهينة : المرهونة .
[5] ما أصاب السهم .
[6] جموح الدهر : استقصاؤه وتغلّبه .
[7] يزعني : يكفّني ويصدني .
[8] ما ورائي : كناية عن أمر الآخرة .
[9] صدفه : صرفه .
[10] محض الأمر : خالصه .
[11] مستظهرا به : مستعينا به .
[12] قرره بالفناء : اطلب منه بالإقرار بالفناء .
[13] الغمرات : الشدائد .
[14] الكهف : الملجأ .
[15] حريز : الحافظ .
[16] شفقتك : خوفك .
[17] لم آلك النصيحة : أي لم أقصّر في نصيحتك .
[18] خطره : أي قدره .
[19] استحسان ما يصدر عن النفس مطلقا .
[20] آفة : علّة .
[21] الكدح : أشد السعي .
[22] خازنا لغيرك : تجمع المال ليأخذه الوارثون بعدك .
[23] شآبيب : جمع الشؤبوب - بالضم - وهو الدفعة من المطر ، وما أشبه رحمة اللّه بالمطر ينزل على الأرض الموات فيحييها .
[24] القنوط : اليأس .
[25] الحذر - بالكسر - : الاحتراز والاحتراس .
[26] بهر - كمنع - : غلب ، أي يغلبك على أمرك .
[27] إخلاد أهل الدنيا : سكونهم إليها .
[28] التكالب : التواثب .
[29] نعاه : أخبر بموته . والدنيا بحالها عن فنائها .
[30] ضارية : مولعة بالافتراس .
[31] يهرّ - بكسر الهاء - : يعوي وينبح وأصلها هرير الكلب وهو صوته دون حاجة من قلة صبره على البرد فقد شبه الإمام أهل الدنيا بالكلاب العاوية .
[32] خفّض : أمر من خفّض - بالتشديد - : أي ارفق .
[33] أجمل في كسبه : أي سعى سعيا جميلا لا يحرص فيمنع الحق ولا يطمع فيتناول ما ليس بحق .
[34] حرب - بالتحريك - : سلب المال .
[35] الدنيّة : الشيء الحقير المبتذل .
[36] الرغائب : جمع رغيبة ، وهي ما يرغب في اقتنائه من مال وغيره .
[37] عوضا : بدلا .
[38] اليسر : السهولة ، والمراد سعة العيش .
[39] العسر : الصعوبة ، والمراد ضيق العيش .
[40] توجف : تسرع .
[41] المطايا : جمع مطية ، وهي ما يركب ويمتطى من الدواب ونحوها .
[42] المناهل : ما ترده الإبل ونحوها للشرب .
[43] الهلكة : الهلاك والموت .
[44] مثواك : مقامك ، من ثوى يثوي : أقام يقيم ، والمراد هنا منزلتك من الكرامة
[45] تفلّت - بتشديد اللام - : أي تملّص من اليد فلم تحفظه .
|
|
لخفض ضغط الدم.. دراسة تحدد "تمارين مهمة"
|
|
|
|
|
طال انتظارها.. ميزة جديدة من "واتساب" تعزز الخصوصية
|
|
|
|
|
مشاتل الكفيل تزيّن مجمّع أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) بالورد استعدادًا لحفل التخرج المركزي
|
|
|