أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-2-2018
1175
التاريخ: 30-06-2015
1258
التاريخ: 7-08-2015
1124
التاريخ: 6-12-2018
1145
|
إن الحديث حول الإمامة له جوانب متعددة وجهات مختلفة، وقد تناول علماؤنا المتقدمون والمتأخرون ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ البحث حول اثبات النص وإفحام الخصم وإقامة الأدلة المتنوعة على إثبات إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وخلافته عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمثال الإرشاد والغدير وعبقات الأنوار والمراجعات وغيرها كثير، وكانت نتيجة هذه الجهود المتواصلة أن أصبح البحث حول صحة وتواتر حديث من أحاديث الولاية من السهولة واليسر مما لا ينكره إلا مكابر أو معاند.
والبحث الذي نريد أن نتناوله هنا هو حقيقة الإمامة وما هيتها
وكنهها، وهو ليس أمرا مبتكرا في
بابه، فقد تناوله الأعلام لكن بنحو مضغوط ومبعثر في ذيل تفسير بعض الآيات القرآنية،
وفي شرح بعض الأحاديث الشريفة، ونسعى إلى طرح ذلك من خلال نهج واضح وأسلوب يرفع
الستار عن كثير من الحقائق التي خفيت في كتب الأقدمين ويعتبرها بعض أهل العصر من
العجائب والغرائب، وقبل الشروع في ذلك نقدم ذكر بعض
الامور التي لها مدخلية في البحث:
أولاً: تحرير محل النزاع :
يعتبر مصطلح الإمامة من الموضوعات التي كانت مثار بحث وجدل بين المتكلمين
والفقهاء من الصحابة والتابعين وغيرهم منذ بدأ عصر الرسالة، وعندما يحررون محل
النزاع يقال: إن الإمامة ترادف الزعامة الدنيوية، وأن البحث حول الإمامة هو البحث
حول من يجب أن يتولى إدارة أمور المسلمين ومن يكون له الأمر والنهي، وبالتعبير
الحديث حصر محل النزاع في ما يصطلح عليه اليوم بالفقه السياسي.
وتوسع بعض المتكلمين من الامامية بل أكثرهم في محل النزاع، وأضافوا إليه
الزعامة الدينية بمعنى أنه بالإضافة إلى دور الإمام في إدارة شئون المجتمع فهو
يقوم ببيان الدين والذب عنه ونشر الأحكام الشرعية، فيُعد قوله وتقريره مصدرا من
مصادر التشريع الإسلامي.
ونحن لا ننكر هذين الموردين - وإن كان العامة قد انكروهما وأصبح موردا
للنزاع - لكن نقول أن الأمر لا ينحصر بهما، بل أن الإمامة تحمل في طياتها معنى
أوسع وأكبر مما ذكره هؤلاء جميعا، ويمكننا القول أن علماءنا رضوان الله تعالى
عليهم ألجأتهم ظروف التخاصم والتقية إلى ذكر ذلك كمحل للنزاع ولا يحصرون اعتقادهم
بالإمامة في هذا النطاق.
فالإمامة في حقيقتها هي محور الاتصال بين الأرض والسماء، حيث أن الاتصال
الغيبي بين الخالق ومخلوقه لم ولن ينقطع منذ بدء الخليقة حتى قيام الساعة، فدائما
يوجد من يمثل تلك الصلة الروحية والمعنوية ومن هنا اعتبروا الإمامة امتدادا للنبوة
والرسالة، فهي من تلك الجهة تؤدي نفس وظيفة النبوة في عالم الدنيا.
فإن الأدلة قائمة على ضرورة وجود حجة لله عز وجل في كل زمان، وأن الاتصال
لا ينقطع بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ، وهذا هو المقام الإلهي الذي يثبته
الامامية الاثني عشر، وهو من الامور التي انفردوا بها عن بقية المذاهب حتى
الاسماعيلية والزيدية، وهنا يكمن النزاع والخلاف مع المذاهب الأخرى، وتلك الحقيقة
هي التي نريد إماطة اللثام عنها.
ومن الشواهد التي تؤيد ما ذكرناه: أن الأئمة في دعواهم للإمامة لم يكونوا
ليقصروا حديثهم على زعامة المسلمين، بل كانوا يركزون على مقامات أكبر من ذلك
ويذكرون في كلماتهم اتصالهم بالغيب، وتحديث الملك لهم، وأن علومهم من نور، واطلاعهم
على أعمال العباد، وأن ما لديهم هو علم لدني.
والجدير بالذكر أن مثل هذه الدعاوى لم تصدر عن غيرهم ممن عاصرهم أو من
أتى بعدهم، بل غاية ما ادعوه هو تصديهم للزعامة الدنيوية، ومن هنا نرى بعض
المنحرفين يرمون الأئمة بدعوى الألوهية والنبوة، وذلك لأن الأئمة كانوا يركزون على
مسألة الاتصال بالغيب وهي أعم من النبوة والإمامة.
بل في موقف عمر بن الخطاب مع سلمان المحمدي ما يدلل على أعمق من ذلك فقد
روى الشيخ الطبرسي (1) أن سلمان قال - لعمر-: أشهد أني قد قرأت في بعض كتب الله
المنزلة أنك باسمك ونسبك وصفتك باب من أبواب جهنم. فقال لي: قل ما شئت أليس قد
أزالها الله عن أهل هذا البيت الذين قد اتخذتموه أربابا من دون الله (2) .
وفي ذيل قوله تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رُسُلِنَا} [الزخرف: 45] يذكر البحراني في البرهان وكذلك الطباطبائي في الميزان أن
نافع كان على خط الخليفة الثاني جالسا في المسجد الحرام في موسم الحج، إذ رأى أن
الناس قد تجمعوا حول شخص (وهو الإمام الباقر (عليه السلام) فسأل هشام بن عبد الملك: من هذا الجالس الذي
اجتمعت عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة.
فهم كانوا يعرفون أن عقيدة الامامية هي بأن هؤلاء هم الرابط بين السماء
والأرض، فالتهمة بالربوبية ليست تهمة جديدة بل لها جذورها من العصر الأول، والسبب
في ذلك أن دعوى الربوبية - في أذهانهم - تختلف عن دعوى الألوهية، فالربوبية تعني
اتحاد الوسائط بين الارض والسماء، وذلك لأن الإنسان بنفسه يذعن بعدم إمكانيته
الاتصال بالغيب وفي نفس الوقت يشهد عقله بأن الاتصال بالغيب لابد منه.
فحكم الفطرة يوجب ان تكون هناك واسطة، ولكن يجب في هذه الوسائط أمران:
أحدهما: أن تكون مجعولة من قبل الخالق الواحد الأحد، لا أن يختلقها بنو
الإنسان كما كانوا يفعلون في الأصنام.
والثاني: أن لا تصل هذه الوسائط إلى رتبة الألوهية فهي مخلوقة لله وهي
ذليلة لله تعالى {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي
الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] وخاضعة له سبحانه في السر والعلانية ...
ثانياً :
ينسب إلى الشيعة القول بأن الإمامة وراثية، وبالتالي فهم يقولون أن
الزعامة تنتقل بالوراثة كما تنتقل الرئاسة بين الملوك وأبنائهم. وهذا لا أساس له
من الصحة إذ بناء على ما ذكرنا من أن الإمامة مقام إلهي واتصال بالغيب، فبالتالي
فهي بعيدة عن التوريث النسبي، بل هي مقام تكويني ووراثة روحية بمعنى وجود استعداد
في روح أخرى للكمالات التي أفيضت على روح سابقة، وعندما يقال:
أن الإمامة وراثة فإن ما ذكرنا هو المقصود منه، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ
* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 33، 34] .
ثالثاً :
مما ذكرنا في الأمر الأول يتضح أن مثل هذا المقام لا يكون بيد الانسان بل
لله عز وجل يجعله حيث يشاء، أما إذا اقتصرنا في محل النزاع على الزعامة الدنيوية
فواضح أن ما يطرحه العامة من جعله بيد الناس وباختيارهم يكون أوهم إلى العقول وأميل
إلى النفوس، وكأنه اشبه بلغة العصر، لنفرة الإنسان من تسلط فئة معينة على إرادته
وتقييدها في إدارة شئون مجتمعه، فطرح محل النزاع بتلك الصورة يخدم العامة، أما على
ما ذكرناه من حقيقة الإمامة يتضح السبب في ايكال ذلك الأمر إلى الله عز وجل، وما
إن يجعل الحق تعالى إماما فلا معنى للجوء إلى طرق أخرى لتعيين من له الزعامة
الدنيوية بل يكون هو المتعين، وبتعبير آخر أن من تثبت فيه الكمالات الروحانية
العالية ومن يتصل بالغيب لا يمكن أن يلجأ الناس إلى غيره لإدارة شئونهم، وبهذا ترى
أن مركز الزعامة الدنيوية متفرع على ذلك المقام وتابع، كما رأينا في حياة الرسول
(صلى الله عليه وآله) فإنه بعد ثبوت نبوته وإيمان الناس به لم ينازع أحد في
حاكميته، والخلاصة أنه يمكننا القول أن مقام الزعامة الدنيوية هو أدنى مراتب
الإمامة ومقاماتها.
رابعاً :
إن وظيفة النص في تعيين الإمام لا تنحصر في الجعل والاعتبار والإنشاء كما
يقوم أي حاكم في تعيين حاكم آخر، بل إن النص سوف يكون كاشفا عن الإرادة التكوينية
والجعل الإلهي.
ومن هنا يتضح أن نصب الرسول أو الإمام السابق للإمام اللاحق لا يقوم به
من تلقاء نفسه بل هو بإيحاء من الله عز وجل فهو جعل اعتباري كاشف عن الجعل
التكويني.
خامساً :
من الامور المهمة التي تترتب على تغيير محل النزاع هو أن مسألة الإمامة
تدخل في ضمن المسائل الاعتقادية الأصلية في الدين، لأنها تكون بمنزلة النبوة وإن
اختلفت عنها، وتكون هذه المسألة ما بها النجاة يوم القيامة، بخلاف المسائل
الاعتقادية غير الأصلية وهي التي لا تكون النجاة يوم القيامة مرهونة بها.
بيان ذلك: أنا ذكرنا أن الركن الاساسي في مقام الإمامة هو مقام السفارة
الإلهية ومَن يكون سفيرا من قبل الغيب ومَن هو حجة الله على خلقه، فالأمر الرئيسي
هنا هو في الاعتقاد والتسليم بهذه السفارة والسفير وهذا أمر اعتقادي وليس مسألة
عملية فرعية، نعم هذا المقام تلحقه شؤون عملية وفرعية، لكن الأمر الاساس هو الأمر
الاعتقادي، كما هو الحال في بحث النبوة.
وللأسف الشديد نجد البعض يعبّر بأن مسألة الإمامة خارجة عن الأصول وداخلة
في الفروع، وهذا بلا شك غفلة عن حقيقة الحال، وله لوازم فاسدة من نحو عدم وجود
فائدة عملية لهذا البحث في زماننا الحاضر وذلك لأن الامام غائب فينتفي موضوع
الزعامة ولو انتفاء مؤقتا، كما انه لا فائدة من البحث عمن كان يجب أن يخلف النبي
(صلى الله عليه وآله) فهذا حدث تاريخي قد مضى، اما على ما ذكرنا فإن البحث تبقى له
أهميته القصوى، إذ قضية الاعتقاد لا ترتبط بحضوره وعدم حضوره ولا بحياته وعدم
حياته.
ومثل هذا في الوهن أن يقال: أن أهمية بحث الإمامة تنحصر في أن الإمام هل
هو مصدر من مصادر التشريع الإسلامي أم لا؟ فهذا وإن كان صحيحا إلا أن فائدة البحث
لا تنحصر به بل البحث في أمر اعتقادي جانحي كما يُبحث حول النبوة مع عدم وجود نبي
على قيد الحياة إلا أن البحث له أهمية وخطورة من حيث وجوب الاعتقاد على كل مسلم فليس
البحث حول من يكون رئيسا وزعيما فقط، وليس البحث عن ميزان استنباط الأحكام
الفرعية، وهل السنة تشمل النبي والأئمة أم يقتصر فيها على النبي، فهذه كلها أمور
فرعية تبتني على ذلك الأصل الاعتقادي، وهو أن الإمامة استمرار لمسيرة النبوة
فالاعتقاد بها على نحو الاعتقاد بالنبوة.
سادساً :
أن البحث قد يتعمق إلى البحث حول مقامات الأئمة سلام الله عليهم، وليعلم
أن مقام الإمامة من أهم هذه المقامات كما أن مقام الزعامة أدناها وأقلها، فتوجد
مقامات أخرى تتجاوز الإمامة ككونهم كلمات الله (3) وأسماء الله الحسنى، وغيرها من
المقامات العالية التي تعد من أسرار معارف أهل البيت، وفي كل هذه المقامات لا
يخرجون عن زي العبودية بل أن خضوعهم وتذللهم التام وفنائهم في المعبود هو الذي
جعلهم ينالون هذه المقامات.
وبعض هذه المقامات يشاركهم فيها غيرهم من الأنبياء والمرسلين، وفي بعضها
يتفردون ويشاركون بها الخاتم (صلى الله عليه وآله) ، وكذلك الزهراء (عليها السلام)
تشاركهم في بعض هذه المقامات كمقام حجة الله، كما ورد في الخبر المتواتر معنى
"وفاطمة حجة الله علينا" أو كون مصحفها مصدر من مصادر علومهم.
سابعاً :
إذا تم مقام الإمامة فسوف يتوجه إلى المكلفين عدد من الوظائف الشرعية،
بدءا من الاعتقاد والمعرفة والتسليم إلى التولي والتبري القلبي والعملي ، ووظائف
أخرى ...
ولا يخفى أن هذه المقامات الاخرى لا يتوقف عليها الإيمان، فكثير من
علمائنا في علم الرجال يشيرون إلى أن الاعتقاد بأدنى مراتبه وهو إجمال الزعامة
الدينية والدنيوية ـ كما هو حال كثير من الناس والرواة ـ كاف في اعتبارهم من
الامامية.
ثامناً :
وقد يطرح هاهنا إشكال حاصله:
إن اثبات المقامات الغيبية للنبي والأئمة وتعميق هذا الجانب في شخصيتهم
البشرية يتنافى مع جعلهم قدوة للبشرية ولا يتلاءم مع أمر الله عز وجل باتباعهم
واتخاذهم أسوة.
بيان ذلك: أن طبيعة الاقتداء والإتباع أن يأمل المقتدي من الوصول إلى
مرتبة المقتدى، وأن يجعل همه الأول هو الوصول إليه والسير على هداه، وهذا يعني أن
يكون المقتدى بمرتبة ومقام يمكن الوصول إليه، أما إذا كان مقامه مما لا يمكن
الوصول إليه بل هو ممتنع المنال فكيف يجعل قدوة ونؤمر باتخاذه أسوة! فعليه يجب حصر
الجانب الغيبي في ما يظهرونه من معجزة لإثبات الرسالة والإمامة فقط.
وقد يطرح الاشكال بنحو آخر أن تعميق هذا الجانب الغيبي في أحكام الدين
سوف يبعد الدين عن الجوانب الاجتماعية والمادية التي جعلها ضمن اهتماماته، وبتعبير
آخر أنه لو قلنا أن ملاكات الأحكام أمور غيبية بعيدة عن تأثيرات وضعية دنيوية سوف
يفقد المكلف الدافع المحرك للسعي وتحصيل تلك الملاكات.
وفي الواقع ليس هذا الاشكال بصياغتيه شيئا جديدا مبتكرا بل هو اشكال يعود
في جذوره إلى ما قبل الاسلام، حيث كان الناس يعتقدون أن الوصول والاتصال بالله
سبحانه وتعالى ذي القدرة المطلقة اللامحدودة متعسر وممتنع فيجب توسيط وسائط تعد
أربابا وآلهة صغيرة تكون وسيلة وواسطة.
أما الجواب:
أولا: أن طبيعة الاقتداء تقتضي أن يكون هناك فارق بين المقتدي والمقتدى،
فإذا كان المقتدى مساويا للمقتدي، فإن الإقتداء يكون ممتنعا، إذ لا توجد مزية
للمقتدى حتى يقتدى به، فالسعي والحركة والانبعاث الذي يحصل للمقتدي إنما هو من أجل
تحصيل أمور وكمالات هو فاقد لها لكنها متوفرة وحاصلة في المقتدى، إذن يجب أن يكون
المقتدى غير مساو للمقتدي.
ثانيا: كما أن الحاصل لا يسعى الإنسان إلى تحصيله، كما أن الممتنع أيضا
لا يسعى الانسان إلى تحصيله، فيجب أن يكون المقتدى له مرتبة بين هذين الأمرين، وفي
نفس الوقت يجب أن يكون هذا الاقتداء ملازماً للإنسان في كل مسيرته بمعنى أن
المقتدى يجب أن يكون متفوقا دائما على المقتدي، وإلا لو فقد هذا التفوق لتوقف
الاقتداء في فترة من فترات حياة الإنسان، وذلك فيما إذا نال كل كمالات المقتدى،
وحينئذ لا يكون هناك سعي ولا يكون هناك هدف يحرك هذا الانسان، فيجب أن يكون هناك
باعث ومحرك دائمي للإنسان وللإنسانية قاطبة، وفي نفس الوقت لا تكون كل درجات
كمالات المقتدى ممتنعة، كي يمكن السعي والتحصيل.
وهذا هو معنى الحالة الوسطية بين الأمرين أي لا كمالاته كلها ممتنعة ولا
كل كمالاته بكل درجاتها حاصلة، فيسعى الانسان لتحصيل تلك الكمالات فقد يصل بجهده
إلى تحصيل بعضها وقد لا يستطيع "ألا أنكم لا تستطيعون على ذلك فأعينوني بورع
واجتهاد وعقل وسداد".
فتحصيل كل كمالات المقتدى أمر مستحيل غير ممكن أما تحصيل بعض درجات كمالاته
فهو أمر مرجو ممكن الحصول عليه، فلماذا لا يصح الاقتداء ولماذا لا يمكن السعي
نحوها!!
وقد يقال: إذا كان الأمر كذلك فما الحاجة إلى الإمام من أجل الإقتداء به
إذا لم يكن من الممكن الحصول على كل كمالاته، فليقتدى مباشرة بالكمال المطلق
اللامحدود وهو الذات المقدسة؟
وجوابه: أن الإمام هو الآية العظمى وفي الحديث "ما لله آية أكبر مني
"وآيته في الصفات الخلقية، فالسعي إلى الله غير متناه لا في الدنيا ولا في
الآخرة ومن رحمة الله بعباده أن جعل لهم إماما يقتدون به يماثلهم في البشرية
ومتخلقا بأخلاق الله عزّ وجل، وهذا هو لطف الله بعباده لأن المقتدى أيضا هو في
حالة سير وحركة من أجل تحصيل الكمال اللامتناهي ...
ونعود إلى محل الكلام فإن هذه الحالة الوسطية دائما هي التي تدفع الإنسان
نحو الحركة والعمل وكما في الخوف والرجاء، فلا هو حصر في حالة الخوف فقط لأنه يأس
من رحمة الله، واليأس عدم اعتقاد برحمته تعالى فهو كفر، والرجاء المطلق كفر أيضا
لأنه عدم اعتقاد بعقاب الله.
فالإمام ليست صفاته كلها قابلة للمنال ولو كانت كذلك لما كان الانسان
متحركا نحوها بحركة مستمرة دائمة لا تقف عند حد، ولا هي حاصلة للإنسان حتى لا يكون
هناك دافع نحو السير والسعي الحثيث. وسوف نشير في بحث الفقه العقلي للإمامة إلى أن
الوسيلة الصحيحة للتوحيد هي الإمامة.
ثالثا ... أن كمالات الإنسان تشمل جنبتيه البدنية المادية و الروحية
المعنوية، وكمالات الجنبة الأخيرة على قسمين: منها ما له ارتباط بالبدن كالشجاعة
فهي كمال روحي إلا أن له ارتباطاً بالبدن. والقسم الآخر: كمالات روحية لا ارتباط
لها بالبدن بل ترتبط بعوالم الغيب و الآخرة والعوالم المجردة، وكمالات هذا الجانب
أشرف من الجوانب الأخرى، والاقتداء المؤدي للكمال لا بد أن يشمل جميع جوانب النفس
الانسانية، ومن هنا نحتاج في المقتدى أن تكون له جوانب غيبية وكمالات مرتبطة بعالم
الغيب.
رابعا: إن دراسة طبيعة حركة الانسان ترشدنا إلى أن جوارحه تنطلق في
حركتها من الجوانح، والأخيرة تتحرك طبقا للاذعان والايمان والاعتقاد الذي يلتزم به
الانسان فهذه الهيكلية في صدور تصرفات الانسان هي الاساس، وهذا يعني أن أساس تحرك
الانسان هو معارفه الاعتقادية، والاعتقاد يشمل جميع الجوانب الغيبية وغيرها، فلا
يمكن أن نتمسك بقسم معين من المعارف ونثبته ونغض الطرف عن القسم الآخر لأن العقائد
شأن مجموعي تبتني عليه عمل الجوانح التي هي المحرك للجوارح فإذا اختل الأساس اختل
ما عليه من البناء.
خامسا: نحن نسائل المستشكل الذي لا ينفي الغيبيات في المقتدى، بل يحصرها
في اثبات المعجزة للرسالة والنبوة والإمامة، نقول: لماذا في هذا الجانب نثبت الأمر
الغيبي؟
والجواب: أن هذا هو الكاشف عن اتصال هذا الشخص بالغيب وأنه مبعوث وسفير
من قبل الله سبحانه وتعالى، فالمعجزة هي المثبتة للاتصال والسفارة الإلهية وأن هذا
الاتصال غير موجود في بقية أفراد البشر، ونحن نقول أن هذا الاتصال الغيبي هو
المقام الغيبي نفسه، بمعنى أن هذا الاتصال يكشف أن لهذا الشخص درجة وجودية معينة، وهذه
الخصوصية مَنّ الله تعالى بها عليه وهي التي مكنته من الإتيان بالمعجزة حتى يثبت
لبني البشر أنه سفير من قبل الله تعالى.
ومما لا شك فيه أن تصحيح محل النزاع بما ذكرنا سوف يهئ لنا الأرضية
والذهنية المطلوبة للتعامل مع الأدلة العقلية والنصوص الشرعية، حيث أن طائفة كبيرة
سوف تدخل في ضمن نطاق التحليل والاستنطاق بخلاف ما إذا كان المطلوب هو اثبات
الزعامة الدنيوية فإنه سوف يتم اسقاط عدد كبير من الأدلة بحجة أنها تبحث عن ما هو
خارج عن محل النزاع.
ولا يخفى أن الخوض في مثل هذه المباحث يحتاج إلى أهلية عقلية وإلمام تام
بالمباحث الفقهية والتفسيرية والكلامية والفلسفية والعرفانية ، مضافا إلى ما يمكن
استفادته من علوم النفس والاجتماع الحديث.
[ وبعد
ذكر هذه المقدمات يتم الشروع في بيان حقيقة الامامة وكالآتي ]
تعريف الإمامة :
الجهة الاولى: التحليل اللغوي:
إنا لا نهدف من بحثنا استعراض المعنى اللغوي
الذي يسطره اللغويون في كتبهم، بل مرادنا هو الوصول إلى ماهية وحقيقة الإمامة
وبتعبير اصطلاحي رفع الستار عن ما الشارحة وما الحقيقية. وإذا ما استعرضنا كلمات
اللغويين فما ذلك إلا توطئة للوصول إلى التعريف الماهوي واستخلاص المعاني العقلية التي
تنطوي عليها اللفظة.
ومن خلال ما يذكره اللغويون يمكن ذكر بعض
الملاحظات التالية:
1 ـ أن اصطلاحات الامام والأمة والمأموم
كلها تعود إلى جذر لغوي واحد هو أمّ يؤم.
2 ـ أن المراد من يؤمه أمّ إذا قصده، والأمّ
هو القصد المستقيم والتوجه نحو المقصود (4) ففي هذا الأصل الاشتقاقي جنبة السير
والسلوك.
3 ـ أن المراد من الأمة هي الجماعة الذين
يكون لهم مقصد واحد.
4 ـ أن الإمام هو كل من ائتم به قوم كانوا
على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، وعلى هذا يكون معنى إمام بمعنى
المقتدى اسم مفعول، ويكون المأموم اسم فاعل أي الذي يقتدي بغيره، وأما إذا كانت
بمعنى الهداية فسوف يكون الامام بمعنى الهادي وهو اسم فاعل والمأموم المهتدى فهو
اسم مفعول.
فيلاحظ أن المعنى اللغوي يستبطن معنى
الاقتداء والهداية.
من خلال تلك النقاط نرى أنه في جميع
اشتقاقات (أمّ) يتضمن قصد وسلوك غاية وهدف معين مع إضافات أخرى في كل اشتقاق، فإذا
كانت الأمة فإنها تطلق على الجماعة البشرية التي لها مقصد واحد فهي بالضرورة تتبع
إماماً لها يقتدي به الناس ويأخذ بيدهم نحو ذلك المقصد وتلك الغاية، ومن هنا ورد
التعبير في القران {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] ،
ولذا لم يطلق الأمة على كل المجتمع البشري بل أطلقه بحسب الحقب الزمانية.
ويمكننا القول أن الامامة في اللغة تساوق
الهداية، والهداية كما يذكر اللغويون لها معنيان أحدهما: مجرد إراءة الطريق
المستقيم، والآخر: هو الإيصال إلى المطلوب، والثاني يستلزم الأول، وذلك لأنه لو
قلنا أنها بمعنى الأخذ بيد المأموم وإيصاله إلى المطلوب والغاية المرادة فهي لا
تقتصر على مجرد الاراءة بل تتعداها إلى الإيصال.
ونقول أن المراد من الهداية هنا هو الثاني،
وذلك لأن الأمة وهي الجماعة التي لها مقصد واحد فإنها تسير نحو هذا المقصد وتتبع
الامام من أجل الوصول إلى تلك الغاية، ووجود الامام ومقتضى السير أن يكون المراد
من الهداية هو الايصال وأن الامام لا يقتصر على مجرد إراءة الطريق الصحيح بل يتبع
ذلك بالأخذ بيد الامة من أجل ايصالهم إلى الغاية القصوى، نعم تلك الهداية والايصال
ليس ايصالا جبريا بل ايصال اختياري.
الجهة الثانية: التحليل العقلي :
إنا إذا قمنا بتحليل أعمق لماهية الامامة
وكيفية أخذ الامام بيد الأمة لتحقيق الغاية القصوى، فإنه يجب أن تكون هناك طاعة
ومتابعة وانقياد من قبل المأموم للإمام، مع المحافظة في نفس الوقت على الاختيار
والارادة التي للمأموم، وهذا يعني وجود نوع من السلطة والولاية من قبل الامام على
المأموم مع المحافظة على اختياره وهو أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.
فالإمامة متقومة بطرفين الامام والمأموم وفي
كل طرف منهما يكون لها معنى; ففي الاول له التسلط والولاية، وفي الثاني له
الاختيار بمعنى أن الامام لا يلجأ المأموم على التصرف المعين ولا يقوم بتسخيره أو
قهره بل يجب أن يقوم المأموم بذلك طواعية واختيارا، ونستطيع تشبيه ذلك بالانجذاب
الحاصل بين المحب ومحبوبه وسيطرة الأخير على الأول لا بنحو يقهره ويسلبه وهذا لا
ينافي اختياره.
ومن هنا نستطيع القول أن الإمامة ليست علة
تامة للهداية بل هي مقتض لحصولها إذا ارتفع المانع وهو إرادة نفس المأموم
واختياره، إذ بيده أن يتبع هداية الأمام حتى يوصله إلى الغاية وان يسلم له
القيادة، وله أن لا يستجيب له فلا تؤثر عليه هداية الامام.
فالتحليل الماهوي للإمامة يقوم على حيثيات;
حيثية الاقتداء، وحيثية الهداية الايصالية، وحيثية السير السلوك والحركة، وحيثية
الولاية والسلطة والجذب.
وإذا أردنا أن نتلمس بنحو أفضل فما علينا إلاّ
التأمل في هذه الامثلة الثلاثة والموازنة بينها: الانسان الصغير وهو ذلك المخلوق الذي كرمه الله تعالى
بالعقل. والإنسان المجموعي وهو المجتمع البشري، والإنسان الكبير وهو عالم الخلقة.
فنتناول دور الهداية في هذه العوالم
الثلاثة.
- أما الانسان الصغير: فهو ذو جنبتين أحدهما
البدن والاُخرى الروح، ولكل منهما تكامل وارتفاع وصعود كما أن لهما تسافلاً
وهبوطاً وانحداراً.
ولندقق النظر في تكامل الروح فإن الله تعالى
قد كرم بني آدم بالقوى العقلية والعملية المختلفة التي تضمن للإنسان أفضل السبل
للصعود إلى الكمالات العالية. وعلى رأس القوى العملية والإدراكية يقف العقل ليقود
هذه القوى، فإذا ما رضخت له القوى الأخرى تصاعد الانسان في الكمالات، وإذا ما
انقلبت الآية ولم يأخذ العقل موقعه المناسب تجد الإنسان في هبوط وانحدار.
والقوى العقلية على نحوين: العقل النظري
والعقل العملي. والأول وظيفته الادراك. والآخر وهو العقل العملي ووظيفته الادراك
والعمل والتأثير على القوى المادون التي تتبعه في الحركة، فيكون أميرا لها وتكون
أسيرة له، وفي اتباعه لا تكون ملجئة بل يبقى للقوى الاخرى الاختيار في اتباع العقل
العملي، فإذا ما تسلطت القوى المادون على قوة العقل العملي فتكون إمام ضلال وباطل،
وقد ورد في حكمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) : "كم من عقل أسير تحت هوى
أمير" (5) .
أما إذا أذعنت لقوة العقل العملي فإنه يصبح
إمام هدى، فالعقل العملي هاد ومرشد لقوى الانسان المختلفة، ووجود هذه القوة امر لا
بد منه وإلا لسعت كل قوة إلى ما يؤدي إلى تكاملها وأدى الصراع بين قوى الانسان إلى
فنائه، فيحتاج إلى ما يكون هاديا وموصلا للكمال وهو العقل العملي، وزود هذا العقل
بسلطة اخضاع القوى المادون مع احتفاظ النفس الانسانية بالاختيار، والاختيار حيثية
نفسانية توظفه النفس - التي هي غير القوى العملية والادراكية - في يد القوى
الفوقانية أو القوى المادون، ولو كان العقل العملي ملجئا وسالبا للاختيار لما صدرت
المعصية من أحد لأنه موجود في كل إنسان.
والعقل العملي في فعله يعتمد على الإدراكات
الصحيحة التي تتم في العقل النظري والعملي، فهو يقود لأنه يمتلك العلم الذي لا
تمتلكه بقية القوى وهذا العلم هو الذي يعطيه الصلاحية لقيادة قوى الانسان، ولو كان
هذا العلم محتملا للخطأ لما أصبحت لديه اللياقة لقيادة الانسان وقواه...
والعقل في نفسه مبرأ من الغرائز الشهوية
والزلل، وليس العقل هو الذي يسبب الزلل والوقوع في الخطأ، بل هو بسبب سيطرة القوى
المادون، وقد قرروا في محله أن إدراكات العقل في نفسها لا خطأ فيها إلا إذا تدخلت
القوى الأخرى فيها وهي الواهمة والمخيلة والقوى الشهوية والغضبية.
والخلاصة:
أ - أن قوى الإنسان تهتدي إلى الكمال بواسطة
العقل العملي.
ب - أن العقل العملي يقوم بدور إمام هدى،
وهذه الهداية ايصالية وليست مجرد إراءة وإلا لأكتفي بالعقل النظري، فهذا يدل على
الحاجة الفطرية داخل الانسان لوجود ما يقوده إلى الكمال.
ج - أن العقل العملي استحق هذا المقام بسبب
العلم الذي لديه.
د - أن العلم الحصولي لدى العقل العملي
يعتمد على أساس العلم الحضوري الذي لا خطأ فيه.
هـ - أن العقل واسطة لتنزل العلوم من
العوالم الغيبية العلوية إلى العوالم المادون، ولا يمكن للقوى المادون (الغضبية
والشهوية...) أن تتصل بتلك العوالم إلا بالعقل العملي وذلك لضعف
قابليتها.
و - ورد في الأثر أن لله حجتين ظاهرة وباطنة
أما الظاهرة فهو الرسول وأما الباطنة فهو العقل، وهذه الموازنة تعني أن مقام
النبوة كما له دوره وموقعه في الانسان المجموعي فإن له موضع في الانسان الصغير،
وأن الله عز وجل قد أودع في الإنسان رسولاً باطناً وظيفته الهداية وهي على وزان
الهداية التي يقوم بها الرسول الظاهر وهي الاراءة {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ}
[الرعد: 7] فهي هداية إرائية وانذار وبيان أين يكمن الطريق الصائب والصحيح من دون
أن تقوم بوظيفة الايصال (نعم قد يكون النبي إماما فتجتمع لديه ولاية تشريعية
وتكوينية كما في أولي العزم) والعقل المقصود به هنا هو العقل النظري، فتكون أوامره
تشريعية يشخص الصواب من الخطأ ولا تكون له سيطرة على بقية القوى، وهذه هي مهمة
الرسول الباطن.
ز - أن الرسول الباطن وحي فطري إنبائي،
والامام الباطن وحي فطري ولوي.
أما كونه وحيا: فلأن العقل قوامه بالعلم،
لكن العلم الذي في الوحي النظري غير عمّال أي علم باطني غيبي أما في العقل العملي
فهو علم عمّال ومستند للعلم الحضوري، والعلم الإنبائي الذي في العقل النظري أيضا
مستند للعلم الحضوري إلا أن تكامل العقل النظري يكون فيما إذا وجد العقل العملي،
وعندما نقول أن العلم فيه حيثية اولوية فلا نقصد بذلك تعبيرا أدبيا بل إشارة إلى
عمّاليته ومحركيته وقدرته.
أما سبب اطلاقنا عليه بالوحي (6) فلأن حقيقة
الوحي هي الارتباط بالغيب، والانسان لوجود حيثية التجرد فيه فهو مفطور على
الارتباط بعالم التجرد بواسطة العقل، أي بتوسط نفسه، ومن هنا كان
فطريا، لا وحيا نبويا تشريعيا جعليا، ومن هنا نقول أنه عندما يقال: انقطع الوحي
فإنما يعني الوحي التشريعي لا انقطاع الوحي بمعناه الأعم الشامل لما بيناه أي مطلق
الارتباط بعالم الغيب.
ح - في مراتب العلم الحضوري يذكرون أن مرتبة
القلب من النفس بوابة الغيب والعوالم العلوية لكلا العقلين، والعقل العملي والنظري
يأتمان به وهو مصدر علومهما الحضورية.
ط - أن تصرف الامام الباطن في القوى المادون
يكون بقدرة ملكوتية ونعني بها القدرة التجردية التي ليس فيها تدريج وتدرج بل على
نحو كن فيكون، وهذه القدرة لا تحتاج إلى شرائط عالم المادة و لا شرائط في فعله
وتأثيره، وإنما مجرد الاذعان يحرك النفس تحريكا اختياريا، فلو أن المحرِّك لم يختر
التحريك فلا يتحرك، وليس معنى (كن فيكون) الجبر.
وبيان آخر للملكوتي: أنه اصطلاح يطلق على
القدرة النابعة من العلم محضا في مقابل القدرة التي تتوقف على العلم والآلة
المادية وتسمى القدرة المادية، وهذا أمر متفق ومبرهن عليه في علوم المعارف العقلية
والنقلية نذكره كأصل موضوعي. فالعلم الحصولي وهو مرتبة ضعيفة من العلم يحتاج إلى
الآلة كما في قدراتنا المعتمدة على العلم الحصولي. أما إذا كانت القدرة نابعة من
العلم الحضوري فإنها لا تحتاج إلى شرائط المادة لشرافة و قوة العلم المعتمدة عليه.
فإمامة الامام الباطن وعمّاليته بتوسط قدرة
ملكوتية وهداية الامام الباطن بأمر ملكوتي ويسمى أمر إلهي، والإلهي اشارة إلى عالم
التجرد، وقد يطلق على عالم الملكوت بعالم الامر فتسمى القدرة الأمرية.
فتبين أن الامام الباطن تكون له نحو إحاطة
وقيمومة على من دونه، وهذه ليست كإحاطة واجب الوجود ببقية الممكنات بل هي كإحاطة
العلة بمعلولها، ويُمثل لها بالصور الخيالية الحاصلة لدى النفس، فإن النفس تحيط
بها احاطة قيمومية فظاهرها وباطنها وأصل وجودها مرهون بفعل النفس.
وفي الانسان الصغير نرى أن نسبة العقل
العملي والنظري لما دونه من القوى هي إحاطة قيمومية، والوجه في ذلك أن النفس
والقوى المادون لا تستطيع أن تصدر فعلا من الأفعال سواء كان فعلا إدراكيا أو عمليا
من دون توسيط العقل في البين، فهو يحيط بأعمال وأفعال القوى المادون، وأن الكمالات
العملية تفاض عليها بتوسط العقل وبسبب كونه واسطة في الفيض فهو يدرك كمالات
المادون ولا يكون جسرا للعبور فقط.
وبناء على كل ما مضى نقول في تعريف الامام
الباطن في الانسان الصغير: انه يكون هاديا وموصلا للنفس إلى كمالاتها بأمر ملكوتي.
ي ـ نقطة أخيرة; نضيفها أن التسلسل في تنزل
الفيوضات يكون من القلب للعقل النظري الذي هو الرسول الباطن ومن ثم للعقل العملي
الذي هو امام باطن، و...ان العلم الذي في الثاني أشرف من الأول لكن إذا جمع الأول
بين الرسالة والامامة فإنه ينال الشرف العالي، وقد ورد في كلمات أمير المؤمنين
(عليه السلام) عن الذين ابتعدوا عنه "احتجوا بالشجرة وضيعوا الثمرة"،
وهذا قريب مما ذكرنا أن كمال العقل النظري هو بالعقل العملي فالإمامة هي ثمرة
النبوة، وذلك لأن مجرد العلم ومجرد التمييز بين الحسن والقبيح من دون ترجيحها إلى
إعمال وإثارة القوى المادون لا يكون ذا أثر، والأثر الوحيد هو في الاستفادة من
العلم الذي يتوصل إليه العقل النظري لوصول الانسان إلى الكمال وتجنب الوقوع في
المفاسد والقبائح، ومن هنا تكون الامامة ثمرة النبوة والرسول الأكرم (صلى الله
عليه وآله) قد حاز شرف النبوة والإمامة وكما أنه امام للخليقة فهو إمام للأئمة كما
أن القلب امام للعقل العملي الذي هو إمام لما دونه من القوى.
وبهذا البيان نستطيع استيعاب ما ورد في
الأثر أن "المؤمن جماعة بمفرده في صلاته" حيث يكون أحد تفسيراته أن كل
قواه تكون مسخرة لقوة العقل العملي وهو مسيطر عليها.
الانسان المجموعي :
وهو مجموع المجتمع بما فيه من اركان وهي
الدولة والحكومة، فإنا نشاهد انها تتألف من فقرات متعددة منها القوة التنفيذية،
ومنها القوة التشريعية، ومنها القوة القضائية، كما أن كلا من تلك القوى الثلاث
تتشعب إلى أقسام.
والقوة التشريعية وظيفتها الهداية الارائية،
والقوة التنفيذية وظيفتها الهداية الايصالية، والقوة القضائية وظيفتها كوظيفة
الوجدان في الانسان الصغير، وهي لتعديل الاشياء لكي لا تستعصي في قبول الهداية
الارائية الايصالية والسير نحو التكامل وعدم التخلف عن ذلك، ويمكن المطابقة في
التفاصيل الاخرى بين الانسان المجموعي والانسان الصغير فمثلا وزارة الجيش والدفاع
توازي القوى الغضبية، ووزارة الرياضة والتربية البدنية أو السياحة ونحوها مما يغطي
جانب اللهو واللعب توازي القوى الشهوية، وإلى غير ذلك من التطابق إلا ان اهم ركن
في الانسان المجموعي هو ما يقوم بالهداية الارائية والهداية الايصالية إلى
الكمالات المنشودة.
الانسان الكبير:
ونقصد به عالم الخلقة وما يحويه من عوالم
ونشآت في قوس النزول وقوس الصعود، وذلك لنتعرف على دور الامامة وحقيقتها في هذا
العالم الكبير، وهذا الانتقال طبقا لما هو المسلم به في المعارف أن "من عرف
نفسه فقد عرف ربه"، أي أن معرفة آيات الله وأفعاله جل وعلى يكون عن طريق
معرفة الانسان نفسه وهذا يقتضي موازاة الانسان الصغير للإنسان الكبير، وأن فعل الله وهو الخلقة تكون معرفته بمعرفة
الانسان الصغير.
ففي الانسان الكبير أيضا مراحل ومراتب من
النفوس الكلية (بمعنى السعة والاحاطة) إلى العقول الكلية التي تدير تلك النفوس،
ونحن في بحثنا نعتمد على قاعدة عقلية مؤداها أن التعريف الماهوي للإمامة له مصداق
في الانسان الصغير إي في ترتب قوى النفس الانسانية وبمقتضى التطابق مع الانسان
الكبير - عالم الخلقة - نستكشف الاخير.
والمهم لدينا هو استكشاف موقع الامامة في
الانسان الكبير وأنها مرتبة تكوينية ومقام وجودي في ضمن المراتب الوجودية
المختلفة، وهذا هو محل النزاع مع الآخرين والذي أردنا إثباته، فهم قد جعلوا محور
البحث في الانسان المجموعي ونحن ننقل ذلك إلى الانسان الكبير أيضا.
ولا ندعي أنا قد توصلنا إلى معرفة كنه
وحقيقة الامامة في هذا الموقع بل تمكنا من وضع تصور اجمالي يرفع الغموض واللبس وإن
بقيت جوانب مجهولة، وهذا المقدار لا يمنع من ثبوت المعرفة وتحققها.
ونبدأ بحديث هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد
المعروف والمشهور حيث قال له: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: ما ترى بها؟ قال: الألوان
والاشخاص، قال: قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: اشتم به الرائحة،
قلت: فلك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم. قلت: ألك قلب؟ قال:
نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح، قلت: أليس في هذه
الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني
الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته ردته إلى القلب فيتيقن اليقين ويبطل
الشك، قلت: وإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم، قلت: فلا بد من القلب
وإلا بم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم، قلت: يا أبا مروان إن الله لم يترك جوارحك حتى
جعل بها إماما يصحح لها الصحيح ويتيقن لها ما شكت فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في
حيرتهم وشكهم واختلافاتهم لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك
إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك (7) .
فيلاحظ في هذه الرواية أن ما ذكره عمرو بن
عبيد من التسالم على خضوع القوى المادون للقلب وأن هذا الخضوع ليس اعتباريا بل
تكويني حقيقي.
الجهة الثالثة: التعريف النقلي :
يلاحظ أن هذه الكلمة وردت في القران في
موارد عدة هي: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] ، {وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] ، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ } [الأنبياء: 73] ، {يَوْمَ نَدْعُو
كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] ، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] .
والعلامة الطباطبائي يتعرض لتفسير مقام
الامامة الذي أُعطي لإبراهيم وأنه مغاير لمقام النبوة والرسالة، ويأتي بشواهد عدة:
1 ـ أن هذا المقام أعطي لإبراهيم على كبره و
بعد تولد ذريته اسماعيل واسحق، وقد كان قبلها نبيا بلا شك.
وذلك لأنه لو لم يكن لديه ذرية لما كان
سؤاله الله تعالى {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] .
2 ـ أنه لو كان المراد من الإمامة هنا
النبوة فلا معنى لأن يقال لنبي مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبيا أو مطاعا فيما
تبلغه من نبوتك فهذا لا يتناسب مع كونه نبيا.
3 ـ أن القران كلما تعرض للإمامة تعرض معها
للهداية تعرض تفسير (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)
والهداية الجديدة التي حاز مرتبتها ابراهيم يجب أن تكون مخالفة
للهداية السابقة التي كان حائزا عليها عندما كان نبيا، ولا شك أن الهداية التي في
النبوة هي هداية اراءة فالهداية هنا هي هداية ايصال.
4 ـ أن لفظ الهداية قُيد بالأمر في آية
السجدة، والأمر هو الذي يبين حقيقته ما ورد في قوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ
إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ، وقوله {وَمَا
أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر: 50] ، فهذا الأمر هو
أمر ملكوتي ليس فيه تدريج بل يحصل دفعة واحدة بمجرد إرادته بعيداً عن شرائط المادة
والآلة وهذا الملكوت قد حاز عليه ابراهيم كما ورد في {كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]
، فإراءة الملكوت لإبراهيم كانت مقدمة لإفاضة اليقين عليه، وأهل اليقين لا يحجبهم
عن ربهم حجاب قلبي من معصية أو جهل أو شك أو ريب، بل يكون لهم شهود حضوري على
الأعمال أي أعمال البشر.
فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه،
والامامة بحسب الباطن نحو ولاية على الناس في أعمالهم، وهدايتها ايصالها إياهم إلى
المطلوب بأمر الله دون مجرد اراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول (8) .
ولأن محور تعريف الامام حول فهم الملكوت
فإنا نستكشف رأي العلامة في ذلك فتوجد آيات عدة تتعرض للملكوت وهي يس 83 ـ الانعام
75 ـ الملك 3 ـ المائدة 120 ـ القمر 50 ـ آل عمران 26.
ففي سورة الملك {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ
الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ
الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ ...} [الملك: 1 - 3]
فالآية تشير إلى أن الذي بيده الملك هو بيده
القدرة وعلله (الذي خلق سبع سماوات) أي كل عالم الخلقة، فالملك بيد الله لأن ايجاد
الخلق بيد الله، فكون وجود الاشياء منه وانتساب الاشياء بوجودها وواقعيتها إليه
تعالى هو الملاك في تحقق ملكه الذي لا يشاركه فيه غيره، ولا يزول عنه إلى غيره ولا
يقبل نقلا ولا تفويضا، وهذا هو الذي يفسر الملكوت في قوله تعالى { إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ
الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 82، 83] فالملكوت هو وجود الاشياء
من جهة انتسابها إلى الله سبحانه وتعالى، أي جنبة الإيجاد والقيومية والهيمنة
والاحاطة.
فالمخلوق يكون ذا جهتين فإذا لحظناه بما هو
في نفسه فإنك تلحظه من جهة المخلوقية، أما إذا لحظته بما هو دال على خالقه تكون
جنبة ملكوتية، ومن هنا كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الانسان إلى التوحيد هداية
قطعية، فإراءة ابراهيم ملكوت السماوات والأرض هو توجيهه تعالى نفسه الشريفة إلى
مشاهدة الاشياء من جهة استنادها ووجودها إليه (9) .
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي
الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] ،
فالملك هنا يشمل الحقيقي والاعتباري، بل قد يقال بالأول فقط وهو قد يعطيه من يشاء
من عباده وليس فيه معنى تعطيل نفسه عن الملك وحصر لقدرته حتى تكون يده مغلولة
والعياذ بالله، وإنما هو اقدار في عين أنه قادر.
إذن فالإمامة هي الهداية الايصالية
الملكوتية النابعة من العلم والقدرة، فالإمام هو رابطة تكوينية بين الخالق
والمخلوق فهو يشهد الاعمال {كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:
20، 21] ، فالمقربون لهم نوع من العلم الحضوري، ويضيف العلامة
أنه يوجد في سورة الانبياء قيد آخر {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ
وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ } [الأنبياء: 73] فمتعلق الوحي جاء
خال من (إن) وقد حرر في البلاغة أن إضافة العامل إلى معموله إن كانت بـ (أن
والفعل) فإنه يفيد الاستقبال وأنه أمر تشريعي، مثل {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}
[الأنعام: 72] اما إذا أضيف إلى ما يضاف الفعل لمعموله من دون توسط (أن) بين
أوحينا إليهم وبين فعل الخيرات، فهذا يدل على تحققه فعلا على نحو ما ورد في آية
التطهير { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} [الأحزاب: 33]
فإن الفعل لم يسبق بأن وهو دال على وقوع التطهير فعلا، ففعلهم نابع من الوحي
والتسديد الإلهي وهو معنى العصمة أي لا يحتاج إلى هداية غيره.
- وقوله تعالى { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ
أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] .
يذهب العلامة إلى أن المراد من الامام هنا
هو إمام الهدى، إذ ان الآية تدل على أن لكل زمان إمام، ولا يخلو أناس في عصر من
العصور من إمام فيكون المراد من الإمام هنا هو إمام الهدى، نعم الروايات دالة على
وجود إمامين هدى وضلال، واستظهار العلامة وإن خالف ظاهرها لكن لا مخالفة حقيقية
عند التدبر في الروايات، وذلك لان الروايات المفسرة للقران على نحوين:
أحدهما: أنها تقوم بمعالجة ظاهر القران
الكريم بحيث تبين المراد من الآية وترشد إلى النكات الأدبية والبلاغية في الآية، و
هذه لا مجال لاستظهار غير المعنى الذي تشير إليه بل يجب الأخذ بها، وأمثلتها كثيرة
منها: في تفسير آية الوضوء (إلى المرافق) أنه ليس المراد بيان انتهاء عملية الغسل
بل لتحديد المقدار المغسول ويذكر الامام شواهد على ذلك، وقوله (لا جناح عليكم أن
تقصروا من الصلاة) ليس المراد هو التخيير بين القصر والتمام، بل المراد هو الالزام
فمثل هذه الروايات يجب الأخذ بها في تعيين الظهور.
والقسم الآخر: من الروايات التي تقوم ببيان
باطن القرآن وهذه الروايات لا تنفي حجية الظاهر بل يبقى على حجيته فهي لا تحصر
معنى الآية فيما تذكر، والشاهد على ذلك ورود روايات متعددة في تفسير الآية
الواحدة، فهذه كلها غير متناقضة إذ أنها تشير إلى أسرار الآيات التي لا يصل إليها
غير المعصوم. وهذا بحث حرره الأصوليون.
نعود إلى الآية الكريمة: فعلى فرض كون
المراد من الامام هو إمام الضلال أيضا لا الامام الذي اجتباه الله، فإن إمام الهدى
هو من البشر، وقد عرفته آيات أخرى من أن هدايته تكون بأمر ملكوتي خلاف إمام الضلال
الذي لم تعرفه الآيات بهذا السنخ...
وقد ذهب البعض إلى أن المراد من الامام هو الكتاب
التشريعي كالتوراة والانجيل والقرآن، وهذا غير صحيح لأن المراد من كل أناس أنه يعم
كل الناس من الأولين والآخرين، وليس مختصا بفئة معينة، ويلاحظ أن القرآن إذا أراد
تخصيص فئة معينة من الناس لها هدف معين فإنه يعبر عنهم بالأمة وعدم استخدامه لهذا
اللفظ هنا يدل على إرادته كل الناس في مختلف الأزمنة.
ونعود إلى إمام الهدى والضلال; فإن امام
الهدى هو الذي تكون هدايته بأمر ملكوتي بخلاف إمام الضلال الذي تكون هيمنته على
مستوى الشيطنة، وهذه الهيمنة يوازيها في الانسان الصغير التخيل والتوهم إي العقل
المقيد، وفي رواية في ذيل سورة القدر: والله إنه ليوحى إلى امام الضلالة بتوسط
ابليس وجنوده كما يوحى إلى امام الهدى كما تتنزل عليه الملائكة من الله.
ففي الانسان الصغير بظل أئمة الضلال من
الواهمة والمتخيلة والغضبية والشهوية لا تستطيع أن تترفع إلى مستوى التجرد العقلي
فكذلك أئمة الضلال في الانسان الكبير إبليس وأشياعه وأتباعه.
ويستعين العلامة في توضيح الهداية المخبوة
في الامام بقوله تعالى {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ
أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى } [يونس: 35] ، فإن الآية تجعل المقارنة
بين هاديين إلى الحق (والهادي إلى الضلال خارج عن هذه المقارنة) أحدهما يهدي إلى
الحق من نفسه والآخر يحتاج إلى هداية الغير من أجل أن تهتدي نفسه ثم يقوم بهداية
غيره.
إن قلت: أن الذي يهدي من نفسه ولا يحتاج إلى
هداية الغير هو الله سبحانه وتعالى كما ذكرته الآية في الشق الأول، والذي يحتاج
إلى هداية الغير هم الأنبياء والرسل والائمة المهتدون بهداية الله سبحانه.
قلت: إن لازم ذلك أن يبعث الله للناس نحو
هداية نفسه مباشرة لا الهداية التي في الرسل والانبياء لأنهم يهتدون بغيرهم،
وبتعبير آخر لازم ذلك أن ينهانا عن اتباع الرسل والانبياء في حين لا توجد لدينا
قناة لاستلام الهداية إلا من الرسل فيحصل تنافي في مدلول الآية الشريفة، وهداية
الله لا يدعيها أحد من دون توسط الرسل والانبياء، فبالتأكيد هذا المعنى خاطئ،
والصواب أن الآية دالة على أن الهادي الذي يتبع هو المعصوم الذي علمه لدني لا من
الأغيار البشرية وإن كانت في خط الهداية، ومن يهدي بهداية غيره لا يكون مأمونا من
الخطأ والزلل، فلا يكون هاديا.
وذلك المعصوم هو الذي يكون هاديا للحق على
نحو الدوام أما الشخص الآخر الذي لا يهتدي إلى الحق إلا بهداية غيره فإذا لم يوجد
ذلك الغير فهو يهدي إلى الباطل والضلال. وهداية الله لهؤلاء المعصومين تكون بأحد
الطرق الثلاثة {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا
أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } [الشورى: 51].
وينقل العلامة دليلا عقليا على وجوب العصمة
وهو تفسير الامامة بأنه يهدي (بأمرنا) وأن الهداية ايصالية ... فلابد أن مَن يكون
لديه القدرة على تلك الهداية أن يكون مهتديا بنفسه بل تدل
الآية على أن الفيوضات الكمالية العملية على النفوس، وانتقال النفوس في سيرها
التكاملي من موقف لآخر إنما يتم عبر الامام، وذلك لأنه يهدي بأمرنا إي بالامر
الملكوتي وهو (كن فيكون) فالفيوضات تكون بواسطة رابطة الامامة أما رابطة النبوة
فهي من أجل هداية الخلق في الاراءة فقط وهي الجهة التشريعية.
فتحصل مما تقدم:
1 ـ ضرورة كون الامام معصوما.
2 ـ أن يكون موجودا في كل زمان.
3 ـ أنه يفوق غيره في الفضائل النفسية سواء
المعاشية أو الأخوية.
4 ـ أن الإمامة باقية في عقب ابراهيم، وهذا
يستفاد من نفس سؤاله لله تعالى في سورة البقرة، واستجابته تعالى لذلك، وما ورد في
سورة الانعام من [ قوله تعالى ] ... {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا
إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا
وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ... } [الأنعام: 83، 84] حيث
الخطاب في الآية لذرية ابراهيم واصطفاء الله لهم، وهدايتهم ثم يقول عز من قائل {فَقَدْ
وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] فالمراد من
(بها) الامامة، وهذا يدل على تأبيدها واستمرارها، وأن الخطاب ما زال لإبراهيم
وذريته فهم الموكلون بهداية البشرية.
ويطرح العلامة اشكالا ويجيب عنه، أما
الاشكال فهو أن الآية تدل على أن من يكون نبيا فهو مهتديا فهذا يدل على أن كل نبي
إمام، ويجيب عنه: أنه مما لا شك فيه أن النبي يكون مهتديا لكن ليست لدينا قاعدة أن
كل مهتدي فهو هاد هداية ايصالية، نعم ما دلت عليه آية (أفمن يهدي إلى الحق...)
تدل على أن الهادي إلى الحق يجب أن يكون مهتديا فالتلازم من طرف واحد لا من طرفين.
ويضيف العلامة في آية سورة الزخرف ... {وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ *
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً
فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الزخرف: 26 - 28] أن الله عز وجل جعل
الهداية باقية في عقبه.
نعم يبقى اثبات أن المراد من الهداية في
(سيهدين) حيث أنه كان نبيا ويدعو قومه فيجب أن تكون تلك الهداية غير ما هو حاصل
عنده وما ذلك إلا الهداية الايصالية والامرية المجعولة باقية في عقبه.
ويخلص العلامة إلى أنه يتضح من آية البقرة
سبع مسائل هي امهات مسائل الامامة:
1 ـ أن الامامة مجعولة.
2 ـ أن الامام يجب أن يكون معصوما بعصمة
إلهية
3 ـ أن الارض لا تخلو من أمام حق.
4 ـ أن الامام يجب أن يكوم مؤيدا من عند
الله.
5 ـ أن اعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.
6 ـ أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج
إليه الناس في أمور معادهم وحياتهم.
7 ـ أنه يستحيل أن يوجد من يفوقه في فضائل
النفس.
وفي كتاب المقالات التأسيسية يذكر العلامة
تعريفا أوسع للإمامة : أن الامام هو السائق للنفوس البشرية إلى لقاء الله وإلى
المعاد حيث يسوق أعمالهم ونفوسهم إلى الله تعالى، فبه معادهم وحشرهم ونشرهم حيث
تشير الروايات المستفيضة إلى ورود الامام في كافة منازل الآخرة، وقد أشار القرآن
إلى ذلك {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ } [التوبة: 105] فهذه الآية تثبت للرسول الذي هو حي في عالم
الدنيا بأنه يشهد الاعمال وهي من سنخ ملكوتي والمؤمنون هم المعصومون يشهدون
الاعمال بمقتضى {كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 20،
21] .
ونضيف على ما ذكره العلامة أن رابطة الامام
والرسول بما هو امام لا تقتصر على عالم الدنيا وما بعده بل حتى ما قبل عالم
الدنيا، حيث بعثه في عالم الذر إلى الآخرين وبقية العوالم السابقة على نشأة
الدنيا، وأن الهداية الارائية ايضا مفروضة في الامامة لتقدمها على الايصالية - وان
كانت هي في الامام في طول الهداية الارائية للنبي (صلى الله عليه وآله) - وهو ما
يعبر عنه بالحافظ والمبين للدين عند المتكلمين، وأن الامامة في المجتمع - الانسان
المجموعي - هي الزعامة السياسية أيضا مفروضة في حدّ الامامة.
____________
1- الاحتجاج: 210.
2- كتاب سليم بن قيس: 90.
3- قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } [آل عمران: 45].
4-
المفردات، مادة: أم.
5-
نهج البلاغة الكلمات القصار211.
6-
نظير قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي} [النحل: 68]
أي فطرها على ذلك.
7-
رجال الكشي 2: 259.
8-
الميزان 1: 274.
9-
الميزان 7: 170 ـ 172.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|