أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-7-2021
4666
التاريخ: 2023-03-15
1125
التاريخ: 14-2-2022
1815
التاريخ: 27-2-2022
1658
|
مراحل التطور الحضري
لقد بات من الواضح أن التطور الحضـري قـد مـر خـلال التاريخ البشري في مرحلتين رئيسيتين، أثناء مسيرة التقدم البشري وهما:
المرحلة الأولى: وتتمثل في الثـورة الزراعيـة : التي حدثت في الشرقين الأدنى والأوسط، قرابة الألف الخامسة قبل الميلاد، وقد تزامنت تلك الفترة مع الظهـور المبكر والمطابق للبلدات والمدن حينذاك.
المرحلة الثانية: وقد تمثلت في الثورة الصناعية التي حدثت في بريطانيا أواخـر القرن الثامن عشر (1769م)، والتي أدت إلى نمو وتطور العواصم الحديثة الكبرى في العالم. وقد قسمت هذه الثورات – حسبما قاله الباحث سيجوبرج Sjoberg عام 1960م – إلى ثلاث مراحل، هي مرحلة ما قبل الزراعة والمرحلة التقليدية ومرحلة المجتمعات الصناعية الحضرية.
وتتميز كل من هذه المراحل ببيئات تقنية مختلفة. وتزامنت مع كل منها استجابة سكنية مستقرة ومتميزة.
أما فيما يتعلق بالثورة الصناعية، فهو الاسم الذي أطلق على تلك المرحلـة مـن التطور في الحضارة البشرية، حينما حل النظام الزراعي بهيئاته المختلفة، مكـان نمـط حياة السلب والنهب Predatory والقبائل الرحل. وقد نجمت عن تدجين الحيوانات وزراعة الحبوب زيادة ملحوظة في إنتاج الغذاء، اكثر من المعدلات الضرورية اللازمة للفرد للبقاء على قيد الحياة. وقد أدى هذا الفائض الغـذائي بدوره، إلى المساهمة في إنشاء الحلات السكنية، واسكان السكان الرحل، وغير العاملين في النشاط الزراعي. وتعتبر أودية النيل والرافدين، والسند والهوانجو بالصين، ودلتـا نهـر النيجر في نيجيريا وأمريكا الوسطى، وجبال الانديز مشتلا للمدينة القديمة والحديثة على حد سواء. (عن King and Golledge). (2)
وقد قام الباحث شايلد Childe عام 1950م (3)، بتلخيص السمات الرئيسية لهذه المراكز الحضرية المبكرة لنشوء حضارة المدن. وبالرغم من ان تلك المراكز المدنية الاولى، يمكن اعتبارها أصغر من بعض القرى القائمة حاليا، الا انها كانت مكتظة وكبيرة نسبيا، أكثر من اي نوع من المستوطنات البشرية السابقة عليها. كما كانت أيضا، تتميز من حيث البناء والتصميم والشكل، خصوصا في المباني العامة والترفيهية، بالإضافة إلى زخرفتها وتركيبها.
لقد كانت تلك المدن القديمة، قريبة من الأراضي الزراعية الخاصة بها، وذلك للحصول على المواد الغذائية الضرورية لمجتمعها الحضري, ولكن هذا لم يمنع تلك المدن من المتاجرة مع البلدات والمدن الاخرى البعيـدة عنها، وذلك للحصول على المواد الخام والتماثيل الدينية Religious Artifacts وعلى اية حال، فقد حدثت هذه التجارة، ضـمـن نسـق وتركيبـة اجتماعيـة واقتصادية معينة، فأقيمت المباني في تلك المدن القديمة، والتي مثلت اكبر تقدم في ذلـك الـزمن، بالإضافة إلى احتوائهـا علـى الفلاحين العاملين بالزراعـة، والحـرفيين Craftsmen وعمال النقل والتجار، ورجال السياسة ورجال الدين، والذين استمروا بالبقاء بسبب توفر الفائض الزراعي بمنتجاته المختلفة.
وبعيدا عن الحاجة للعمل في الحقول الزراعية، فقد قامت تلك المجموعـات مـن سكان تلك المدن القديمة، بالمساهمة في الأدب والشعر والفنون والنشاطات العلمية. ومن ثم أخذت دورها وموقعها في البناء الاجتماعي للمدينة، كطبقة الصفوة Elitist متميزة عمن سواها، من الطبقات الاجتماعية الأخرى ....!؟
وفي خلال فترة الاقتصاد التقليدي، كان هناك سقف أعلى للتطـور الحضري للمدن، وقد تحدد هذا السقف من خلال توفر الفائض الغذائي. وهذا معناه ان حجـم الدن، كان يعتمد بالدرجة الأولى، على مقدار الإنتاجية الزراعية في المناطق المحيطة بها، وبالفعل، فالأماكن الواقعة في الأقاليم الغنية الزاهرة، أو الأقاليم التي تتمتع بوسائط نقل قادرة على ربطها من المناطق التي يتوفر فيها فائض غذائي كبير، الأمر الذي جعلها تستفيد من تلك الخيرات، وينعكس بالتالي على زيادة التطور الحضـري فيها، والأمثلة على ذلك عديدة منها؛ مدينة البندقية Venice وميلانو، وفلورنسة، وجنيف، وموانئ ساحل البلطيق.
ولنعد إلى الصناعة، فقد كانت هناك ضوابط لها، لاسيما وأن العديد من المدن. لم تتمكن من توفير القاعـدة الصناعية اللازمة؛ لتأسيس تطور صناعي ذاتـي لهـذا القطاع، اما فيما يتعلق بعمليات التصنيع في الاقتصاد التقليدي، فقد اعتمدت بصـفة اساسية على استغلال الانماط الحيوية من الطاقة، وعلى مقادير محدودة مـن مـصـادر الطاقة المتاحة التي يمكن انجاز العمل بها.
هذا وبالإضافة إلى ذلك، فإن المدن القديمة في الاقتصاد التقليدي، قد وجـدت نفسها من الصعوبة بمكان، الدخول إلى الاسواق الزراعية الاجنبيـة، وبالتالي أصـبح النمو الحضري محصوراً، ومعتمداً على توفير أعلى نسبة من المصادر الممكنة للزراعـة واستغلالها, وحتى يتحقق استغلال اقتصادي ناجح وفعال، فإن التقنية التي تسبق الصناعة، قد تحتاج لنظام اقتصادي واجتماعي محدد، وهذا سوف يؤدي بدوره لارتفاع المستوى الاجتماعي، والتطور المكاني المتماثل بين تلك المدن القريبة والمتشابهة في تلك الفترة.
ولقد تميز مجتمع ما قبـل الصناعة بوجـود نـظـام اجتماعي مكـون مـن ثـلاث طبقات، هي: الطبقة الأولى: وتتألف من فئـة صـغيرة ومتميزة في المجتمع الحضـري، ولديها المكانة الرفيعة فيه، وهناك الطبقة الثانية: وهي الشريحة العريضـة مـن المجتمع، وتمثل الطبقة الدنيا فيه، اما الطبقة الثالثة: فتضم أعداد الوافدين مـن المـدن الأخـرى، وهم المشردون والمنبوذون Outcasts، وقد تحددت المكانة الاجتماعية والموقع طبقا لمكان الميلاد والعائلة، والتي كانت تشكل الوحدة الأساسية والاجتماعية في التنظيم الاجتماعي لذلك المجتمع.
وكانت حصيلة كل هذا أن أصبحت النخبة القليلة المتميزة، وهي عليـة القـوم، تمارس كـل الأدوار السياسية، بـل تمتلـك كـل مفاتيح القـرار الـديني والتعليمـي والبيروقراطي في المجتمع الحضري، ومع استخدام المقاييس الصناعية، فإن التنظيم التقني والاقتصادي لمدينة ما قبل الصناعة وهيئاتها، كانت بسيطة للغاية، الأمر الذي جعل علية القوم (الأكابر) ان يتحكمـوا في التجارة والعمل والعمال والحرفيين، وأدوارهـا كيفما أرادوا. فعلى سبيل المثال، نجد ان صناعة السلع والأدوات قد خضعت لأيدي الحرفيين، الذين كانوا يقومون بكل الخطوات في عملية التصنيع، كما شكل الحرفيون نقابة للتجارة، وتحكموا بالمعايير والتجنيد وبالشروط وطرق البيـع والأسعار، وعليه، فالانتقال ضمن هذه الهرمية الاجتماعية الصارمة إلى الاعلى، كان امرا محدودا للغاية. ولهذا، فقد استمر النظام الاجتماعي من خلال النظام التعليمي، والذي كان يهدف بالدرجة الأساسية إلى المحافظة على الطبقة الصفوة Elite مـن الذكور في المجتمع المدني.
وبالفعل، فقد اشتمل النظام التعليمي للنخبة في المجتمع على مبادئ وافكار مـن علوم الدين والفلسفة، التي دعمت وقوت افكار، وآراء وقيم تلك النخبة الحاكمة، وساعدتهم على البقاء في موقعهم المتميز في المجتمع الحضري حينذاك. وعنـد تحديـدنا لهذا البناء الاجتماعي، فإننا نجد الباحث سيجوبرج Sjoberg قد وصف التركيب الحضري لمدينة ما قبل الصناعة عام 1960 بقوله: (وبعيدا عن الجدار الخارجي للمدينة القديمة، فقد قسمت أحياؤها إلى عدة قطاعات مفصولة عن بعض بالجدران والخنادق Moats وما شابهها. اما فيما يتعلق بمركز المدينة (قلب المدينة)، فكـان يضـم المبـاني الحكومية والدينية والسوق التجاري الرئيسي. وبالقرب مـن تلك الأماكن، كانت تتواجد أماكن أخرى مخصصة للبذخ واللهو والتسلية، وخاصـة بالطبقة الرفيعـة مـن الأثرياء في مجتمع المدينة حينذاك، كما تواجه من الداخل جـدار المدينـة غير المضياف بالإضافة للشوارع)، كما لا تنسى ان التوزيع العام للسكان داخل المدينة القديمة، بدءا من المركز، له علاقة بالقوة والثروة والجاه، وبالتالي يسكن الفقراء في الأماكن النائيـة عن وسط المدينة القديمة، بل ربما يتجمعون حول أسوار المدينة من الخارج.
وفي ضمن هذا الشكل والنمط الجغرافي، فإن المدينة تبدو وكأنها مقسمة لمناطق بناء على أسس حرفية أو مهنية بالرغم مـن وجـود بعـض التحديد للتخصـص، اي تحديد مكان العمل المبيت وهكذا...الخ، كما كانت مدينـة مـا قبـل الصناعة، تتميـز بوجود حركة مقيدة للبضائع والناس، فزاد احتقانها، وافتقرت للعديد من الموجودة في حياة المدينة العصرية، خاصة فيما يتعلق بالبيئة الحضرية، والمحافظة عليها من الأمراض، وعدم القدرة على توفير الخدمات الصحية التي تليق بها.
أما التغيير الرئيسي الثاني في مسيرة حياة المدينة، وطبيعة التطور الحضري فقد رافقه مجموعة معقدة من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتي تعرف للعامة بالثورة الصناعية ويعتبر التحسن والتطور الذي طرأ على عملية الانتاج الزراعي هو ما ارتبط غالبا بالتغيير في النمط التجاري من انتاج لسد الحادة والعيش الى انتاج المحاصيل النقدية cash crops، والتي وفرت الدعم الكبير والأساسي لبقـاء المـدن واستمراريتها، لقد رافق الإنتاجية عملية الانغلاق الداخلي Enclosure، والتنافس بين المزارع والابتكارات التقنية للأدوات، مما زاد انتاجية الفرد الواحد ايضا.
وحينما قل الطلب على الأيدي العاملة في النشاط الزراعي، سعى العديد منهم للعمل في مهن أخرى داخل المدينة، كما ساهم التحسن في وسائط النقل في زيادة التطور الحضري، وذلك من خلال جلب المواد الخام، وتصدير المنتجات الزراعية مـن المدينة إلى اماكن بعيدة خارجها، وان النجاح الذي طرأ على الإنتاج الزراعي، ساهم في التطور الحضري، لكن التطور السريع والمطرد للمراكز الحضرية يعـزى في جوهره إلى الثورة الصناعية والتقنية التي بدأت في اواخر القرن الـ 18م وأوائل القرن الـ19م، وقد تمثلت تلك التقنية في استخدام الطاقة البخاريـة من الفحم الحجري بدلا من الطاقة الطبيعية والحيوية خلال فترة ما قبل الصناعة.
وقد أشاد Geddes جديس عام 1915م ، إلى ان اواخر القرن الـ18م قد شهد تقنية بدائية تقوم على الاختراعات القائمة في ذلك الوقت، مثل عملية صهر الحديد، باستخدام فحـم الكـوك للباحث داربـي Darby's عـام 1907م، ونول كرومبتـون Crompton عام 1779م الآلي، كتطور في صناعة المنسوجات، ثم ابتكـار نـول كـادت رایت Cart Wright الآلي عام 1785م، ثم اختراع المحرك البخاري للعالم جيمس واط j.Watt عام 1825م.
لقد كانت تلك الفترة تعتمد على الفحم والحديد، ومن ثم فقـد فـضـلت تلك الأنشطة الاقتصادية ووسائل النقل التمركز قرب مصادر الطاقة أو في اماكن وجودها. ولهذا نجد الصناعات الثقيلة كصناعة الحديد والصلب قد تمركزت بالقرب من مناجم الفحم الحجري اللازم لتلك الصناعة، وعليه فقد نشأت مدن كاملة عند مناجم الفحم والحديد في بريطانيا أولا، ومنهـا انتشرت إلى شمال غرب اوروبا، وشمـال شـرق الولايات المتحدة، حيث ساهمت في إنتاج منتجات الصناعات الثقيلـة ومـن ثـم الدخول إلى عصر الصناعة الجديد.
وقد نقلت الثورة الصناعية الاولى، بريطانيا العظمى مـن مجتمع زراعـي ريفـي رعوي إلى الاقتصاد الصناعي الحضري. لقد كان لمسيرة التطور الحضري في بريطانيا خلال النصف الاول من القرن الـ 19م، بشكل هائل سمة غير مسبوقة ولا تـوازي، حيث زاد عدد سكان بريطانيا وويلز بين عامي 1801 م وحتى عام 1851م، بأكثر مـن 9 ملايين نسمة، على حين نجد ان سكان المناطق الريفية التي يقل حجمها عسن (5 آلاف نسمة)، قد ازداد في مجموعه من 6.6 مليون إلى نحو 9.9 مليون نسمة.
كما ان مجموع سكان البلدات الكلية، قد ازداد من 2.3 إلى 8 ملايين نسمة (عن ويبر Weber (1899 (1) . وقد انحصرت الزيادة الكلية في بريطانيا والبالغة نحو 64% فقط في البلدات والمدن لوحـدهما. وقد بلغت نسبة السكان الحضـر في بريطانيا عام 1801م نحو 26% من إجمالي السكان في المملكة المتحـدة كلها، ولكنها ارتفعت عام 1851م إلى نحو 45% من المجموع الكلي للسكان ذلك القطـر. وبحلول عام 1861م، فقد ارتفعت نسبة السكان الحضر في بريطانيا إلى أكثر من الذين يعيشون في المناطق الريفية. ويعزى العدد الأكبر لسكان المدن في ذلك الوقت بالدرجة الأولى إلى زيادة عدد المدن الكبرى، كما وضحها الباحث هول Hall عام 1973م وقد بلغ عدد سكان مدينة لندن عام 1801م نحو مليون نسمة. ولم تصل في كل من بريطانيا وويلز اي مدينة منها إلى 100 ألف نسمة على الإطلاق، فمدينـة ليفربول الكبرى بلغ عدد سكانها نحو 82 ألف نسمة، ومدينة مانشستر 75 ألف نسمة، وبرمينغهام Bermingham 71 ألف نسمة، ومدينة برستول 61 ألف نسمة، ومع حلول عام 1851م، ارتفع عدد سكان مدينة لندن الى نحو 2.491 مليون نسمة، واذا ما حسبنا المراكز الحضرية الواقعة تحت نفوذ لندن الكبرى، فسوف يكون الحجـم نحو (2.685 مليون نسمة). هذا بالإضافة إلى ثلاث مديريات كبرى ، يزيد حجم كل منها عن 200 ألف نسمة، وهي مديرية ليفربول Liverpool 376 الف نسمة، ومديرية مانشستر 3.3 آلاف نسمة، ومديرية برمنجهام 233 ألف نسمة، كما ان هناك اربع مدن يزيد عدد سكان كل منها عن 100 ألف نسمة، مثل مدينة ليدز Leeds 172 ألف نسمة، وبرستول Psristoul نحو 137 الف نسمة، وشفيلد Sheffield بنحو 135 ألـف نسمة، وبراد فورد Bradford بنحو 104 آلاف نسمة.
كما ان هناك 15 مدينة يزيد حجم كل منها عن 10 آلاف نسمة عام 1801م، ثم ارتفع في عام 1851م إلى نحو 63 ألف نسمة.
وقد اتسمت تلك المدن ذات التقنية القديمة Palaeotechni، بالتركز العـالي للسكان والوظائف، حيث ان الزيادة السكانية المتنامية والمطردة نسبيا في ذلك الوقت، مع غياب اية واسطة من وسائط النقل الكافية جنبا إلى جنب، مما ادى الى كثافات عالية للغاية من السكان، مع التركيز الشديد لقـوى العمل في المدينـة حـول امـاكن الورش والمعامل والمصانع، وأصبحت المقاطعات المركزية للعاصمة لندن عام 1801م تغطي ما مساحته 1045 هكتارا (10450 دونما)، وتؤوي نحو 425 ألف نسمة أي بكثافة 407 أفراد في الهكتار الواحد عن (هول P: Hall عام 1973) ومع 1851 فقد توسعت أكثر المناطق ازدحاما بالسكان لمدينـة لنـدن لتصبح تغطي نحو 2346 هكتار(23460 دونما) وتؤوي نحو 945 الف نسمة، يعيشون بمتوسـط كثافة سكانية تصل لنحو 402 شخص لكل هكتار.
اما مديرية مدينة مانشستر بمناطقها الإحصائية الداخلية الخمس الرئيسية، فغطت نحو 599 هكتارا (5990 دونما) في عام 1851 م، وبمعدل كثافة 299 نسمة في الهكتار الواحد. وبغض النظر عن التشابه في الموقع والحجم، ومعدلات النمو السكاني والحضـري، الا ان المدن الصناعية القديمة، كانت متباينة في النواحي الاجتماعيـة والاقتصادية إلى حد كبير.
صحيح ان تلك المدن كانت في معظمها، تمتلك نفس المقومـات مـن التقنيـة القديمة والصناعة، الا أنه كان هناك تخصص في التصنيع لكـل مدينـة ظهرت في بريطانيا. فعلى سبيل المثال، نجد صناعة القطن، قد تركزت في لانكشير Lancashire وصناعة الأصـواف في مقاطعة يوركشير Yorkshire، والسلع المعدنية في ميدلاند الغربية West midlands ، كما ظهر التخصص في نواتج التصنيع، في مراكز الإنتـاج المختلفة. وقد أدى كل هذا، مع المتطلبات التنظيمية والنقابية المتعلقة بالتقنيات المستقلة المختلفة، إلى التباينـات الجوهرية في النسيج الاجتماعي، واقتصاديات المدينـة، والسياسات البلدية للمجتمعات الحضرية الانجليزية.
اما بالنسبة للباحث بريجز A. Briggs(1)، فإن التأثيرات الأولية للتصنيع، قد تمثلت في التمييز بين المجتمعات الحضرية المختلفة، اكثـر مـن التركيز على معايرتهـا Standardize في اي بحث احصائي تحليلي بالتفصيل، وبالتالي تمت معالجة المدن التي وجدت في تلك الفترة على انها حالات منفردة ومستقلة.
وقد أدى البحث الذي اجراه الباحث بريجز Briggs للمدن الانجليزية، مثـل مانشستر وليدز وبيرمنجهام وميلدز بورو Middlesborough ولنـدن (وميلبورن) في استراليا إلى الكشف عن الاستجابات المختلفة، التي تقوم بها كل مدينة طبقا للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة فيها. ان العلاقات المتناقضة (المتضادة) بين مدينتي مانشستر وبيرمنجهام في منتصف القرن الـ19م، هي المسؤولة ولو جزئيـا عـن التطور والتحسن اللاحق في المدينة.
وباستعراض صناعة المنسوجات القطنية في مدينة مانشستر، نرى أنها ذات إنتاج عال، وتتميز مصانعها بأنها تحوي مكائن ضخمة، ويعمـل بـهـا الكثيرون، بينمـا نجـد مدينة برمنجهام على النقيض منها، حيث تضم مئات من الورش الصغيرة المتناثرة، والتي توظف عاملا أو عاملين من العمال المهرة Skilled workmen. كما ان هناك المزيد من الاختلافات بينهما.
فمدينة مانشستر، تتحكم بها مجموعة من السادة، التي تتحكم في العمال بطريقـة عدائية ومذلة لهم، بينما نجد العمل في مدينة بيرمنجهام أكثر لطفـا وسـهولة للموظف والعامل على حد سواء، وبالتالي تصبح العلاقات الاجتماعية أفضل مما هو كائن في مدينة مانشستر، كما يطمح الكثيرون فيها لتغيير وظائفهم. وبينما تسيطر حكومة القلة Oligarchy على بلدية مانشستر نجد مدينة برمنجهام توجد بها ادارة بلدية مبنية على قاعدة عريضة من فئات الشعب، وتسـودها درجـة عاليـة مـن الديمقراطية. وبطبيعة الحال، فقد بادرت الثورة الصناعية إلى احـداث تقدم نحو عـالم حـديث، تكون فيه التغيرات في عمليات التصنيع والمنتجات الصناعية، بحيث تصبح هذه التغيرات هي القاعدة Norm وليست الاستثناء.
وفي النصف الثاني من القرن الـ 19، بدأت الاختراعات الحديثة ممثلة في اختراع الدائرة الكهربائية من قبل العالم سيمنز seimesn عام 1850م، والهاتف من قبل العالم بل Bell عام 1876م، ومحطات الطاقة الكهربائية للعالم إديسون Edison عام 1882م، وحفر بئر البترول مـن قبـل العـالم دريك Drake عـام 1856م، واختراع الآلة ذات الاحتراق الداخلي (محرك البترول) للعالم ديميلر Daimler عـام 1883م، واختراع الراديو (المذياع) من قبل ماركوني Marconi عـام 1896م، وغيرها الكثير الكثير... والتي أدت إلى تقبل ما نادى بـه العـالم جديس Jeddes عـام 1915م، حينمـا وصـفها بالتقنية الحديثة للصناعات الحديثة والتي تعتبر النقيض الكامـل لـكـل أنـواع الصناعة والتقنية القديمة التي تعود لأواخر القرن الـ18م، كما لاحظ الباحث هـول Hall عـام 1966م هذه التقنية الحديثة وتميزها عن التقنية القديمة. فبدلا من المنتجات الثقيلة البشعة المنظر، ظهرت عوضا عنها الكهرباء، وبدلا من استخدام السكك الحديدية، ظهرت المركبات ذات المحرك الواحد (السيارات)، وعوضا عن التقييد، صـارت هنـاك الحرية للموقع داخـل المجتمع مع وجود شبكة الاتصالات السلكية واللاسلكية Communications
ومن الجدير بالذكر، ان هذه التغيرات في التقنية، قد رافقهـا في نفس الوقت تغيرات في بنية وتركيب الشركات، وكل أنواع الصناعات التي كانت قائمة حينذاك، اذا ما عدنا بالذاكرة إلى التقنيات القديمة، فإننا نجد ان الإنتاج الصناعي في بريطانيا ، قد تميز بعدد قليل من العمال، في مصانع صغيرة ومنفردة، علما بأن تلك المصانع كـان يديرها ويتحكم بها فرد واحـد أو عائلة أو شركاء. وتمـول مـن أربـاح ومدخرات الآخرين، أو الاقتراض من البنوك المحلية.
ومع تزايد الطلب على التوسع في الإنتاج، وعلى التقنية الراقية Sophisticated Technology، فإن العديد من تلك المصانع والمنشآت قد تم دمجهـا ضـمن تعاونيات أكبر. وأصبحت متخصصة في المزيد من الأعمال ضمن أقاليم عديدة .
وقد لاحظ الباحث شانون H.A. shanon عام 1931م"، أن هذا التغير الذي حدث في بريطانيا بين عامي 1844 و1856م؛ حينمـا انـدمجت الشركات مع بعضها البعض، بمسؤولية قانونية ومحدودة ما هو إلا فرض أو عقوبة اقر بها البرلمان الانجليزي لتلك الشركات. وللاستجابة للمتطلبات المتزايـدة مـن الهيئات ومنظمات الإنتاج الصناعي الجديد، وبالأخص إلى التنسيق والتعاون بين تلك المؤسسات والمصانع المتفرقة، فقد تم تشكيل إدارات جديدة تتولى رئاستها. وقد شمل ذلك التطوير تقسيم الإدارات بشكل أفقي، إلى دوائر متخصصـة وإلى نظام رأسي، للتحكم والتنسيق والاتصال بين تلك الدوائر المعنية .
وفي ذلك التقسيم الإداري، منحت المؤسسة للتنظيم والتخطيط وزيادة التعـاون بين الدوائر كلها، إلى الرئيس الأعلى المسؤول (رأس الهرم الإداري). وقد أدى كل هذا إلى جعل مهمات الحكومة، والهيئة الإدارية أسهل بكثير مـن خـلال سلسلة الاختراعات التقنية التي حدثت في نهاية القرن 19، وقد شملت تلك الاختراعات الاختزال التجاري Short hand عـام 1837م، والتلغراف الكهربائي عـام 1837م، والبريد الرخيص 1840م، والمصعد Elevator عـام 1857م، وآلة الطباعـة الحديثة Type Writer عام 1867م، والهاتف عـام 1876م، والمصباح الكهربائي عـام 1880، والهيكل الفولاذي لناطحات السحاب Sky scraper عام 1875م، بالإضافة إلى آلات النسخ والتصوير الكهربائي. فالعديد من هذه الاختراعات والآلات قد ظهرت بشكل تدريجي وعادي في جوهرها، ولكنها مع بعضها البعض أوجدت بيئة يمكن التحكم بها والسيطرة عليها، بالإضافة إلى مساهمتها في تخزين وتحديث المعلومات الضرورية لعمل مكتب الرئيس ومعالجتها.
من هنا، فإن نمط التطور الحضري وتركيبه قد تم تحديده فقط من خلال الإنتاج الصناعي، ولكن من خلال متطلبات الإدارة الصناعية ومتطلبات التحكم فيها. وقد لاحظ الباحث هول عام 1973م، أن هذه التطورات التقنية والتنظيمية، قد ساعدت في البدء في مرحلة النمو الحضري في بريطانيا التي اتسمت آنذاك بالتباين في جغرافية التوظيف للسكان في المدن. ففيما يتعلـق بالصناعة، فقد أدى الفصـل بـين الإنتاج والإدارة لإيجـاد هـوة واسـعة بين الأنشطة التصنيعية والإدارات المكتبيـة والانضباط في العمل.
ومن الجدير بالذكر أن الذين أقاموا المصانع الجديدة فضلوا المواقع الحضرية أو على مقربة من المدينة، حيث يمكنهم ذلك من الاحتكاك المباشر مع المنظمات والهيئات المالية وشركات التأمين والهيئات القانونية والشرعية أكثر من الذين يسعون لخفض النفقات وإقامة الصناعات في مناطق ليست مدنية .
ونتيجة لذلك، فقد أدى التركيز الكبير في الوظائف المكتبية، الناجم عن التوسع الهائل في قطاع البيع بالتجزئة في المراكز الحضرية المختلفة، . تزايد الخدمات المهنية المختلفة في قلب المدينة أكثر من عملية التعويض للوظائف المفقودة في التصنيع عنـد حافة المدينة وما وراءها.
ولعل أبرز خاصية للتغيرات الحضرية، كانت تتمثل في الهجرة السكانية من قلب المدينة إلى أطرافها الخارجية. فعلى الرغم من أن المدن استمرت في النمو وازداد حجمها، إلا أن تلك الزيادة كانت حقيقية وبصورة دراماتيكية. فعلى سبيل المثال، نجد أن مدينة لندن الكبرى قد زادت بين عامي 1919 و1936م من نحو 6 ملايين نسمة إلى نحو 8 ملايين نسمة كما زادت مساحتها إلى خمس مرات عما كانت عليه عام 1919م. وعلى الرغم من أن مدينة لندن قد زادت في حجمها ورقعتها الحضرية، إلا أن الأمور فيها سارت بطريقة أيسر، بفضل توفر شبكة نقل عامة جيدة. حيث أصبح فيها قطار خاص بالضواحي The Suburban Railway وقطار كهربائي ترام. بالإضافة إلى الحافلات الكبيرة، الأمر الذي مكن الناس فيها من العيش على مسافات متباعدة عـن بعضهم البعض داخل رقعة المدينة، وسهل عليهم الاتصال فيما بينهم وعلى رحلتهم اليومية بين مساكنهم ومواقع عملهم . هذا وتعتبر منطقة الأعمال المركزية بوسط المدينة، ومناطق الضواحي ظاهرتين حضريتين، تعكسان الخاصية الحضرية للمدينة الحديثة، وتمثلان المركزية في التوظيف في قلب المدينة، واللامركزية في توزيع السكان خارج هذا المركز نسبياً. وبعيـد الحـرب العالمية الثانية فقد أدت الحاجة والضرورة في المملكة المتحدة، لظهور الاقتصـاد الإداري، الذي كانت إحدى ملامحه تتمثل في العـدد المتزايد والمطـرد مـن الأعمال والوظائف في مجال الأفكار والمعلومات والأنشطة الإعلامية. ولعـل السبب الرئيس وراء ذلك يعزى لظهور أنماط البناء التعاوني المفروز، والتي تربط بين العديد من التعاونيات والمؤسسات القائمة في المدينة حينذاك. وذلك نتيجة للسيطرة التعاونية كما يذكر كـل مـن الباحـث شـاندلر Shandler وريـخ Redlich عام 1961م . وقد أصحبت الشركات في التقسيمات الوطنية والعالمية المتعددة غير مركزية، بسبب تقسيمها إلى أقسام عديدة، بحيث أصبح لكل قسم مكتب مسؤول عنها مباشرة، أما في المستويات العليا، فإن مكتـب الرئيس التعاوني يقـوم بـدور التنسيق والتعاون بين الأقسام للتخطيط للعمل بشكل شامل.
ونتيجة لذلك، فقد ظهـر هنـاك تمدد وتوسـع مشـابه في البيروقراطية على المستويين الحكومي والشعبي، في المجالات الصحية والرعاية الاجتماعية، بحيث أن نحو 34% من الوظائف في بريطانيا وويلز عام 1971م، قد اندرجت ضمن مجالات الحرف والإدارة والوظائف الحكومية. وقد رافـق هـذه التطورات الوظيفية تغيرات في الخصائص الديموغرافية والاجتماعية لسكان المدينة. وقد تمثل ذلك في تقليص حجـم الأسرة، وزيادة طول العمر (أمـد الحيـاة) Longevity، وزيادة إيجارات المساكن وإنشائها.
ولقد طرأت بحبوحة من العيش الرغد في بريطانيا بعيد الحرب العالمية الثانية، تمثلت في ارتفاع مستوى المعيشة، وتزايد امتلاك السيارة الخاصة لدى الأسرة، وتزايـد الطلب على ابتياع البضائع، والمنتجات الصناعية خصوصاً المنتجات المعدة للاستهلاك المحلي مع تزايد الاهتمام بالمساكن الجديدة الراقية والفخمة.
وفي خلال الفترة الواقعة بين عامي 1951م و1981م، فقد حصل تناقض واضح بين توزيع السكان والتوظيف في معظم المدن البريطانية. فقد أدت إعـادة التطـور والتحسين للمدن بوجه عام، ولأهداف تجارية وجمالية. إلى هبوط مفاجئ في أعـداد السكان المقيمين في قلب المدينة. فقـد انتقـل معظـم السكان إلى الضواحي التي تم تشييدها أخيراً، وبالتالي كانت النتيجة، عدم تمركز السكان المطلق في قلب المدينة.
وعلى الرغم من الزيادة المطردة في مستوى نشاط المكاتب الرئيسية في منطقة الأعمال الإدارية والمركزية بوسط المدينة، إلا أن ذلك لم يمنـع مـن الانحدار وتدهور الاقتصاد العام لتلك المناطق المركزية. على حين زاد عدد الوظائف الخدماتية ونموها في الضواحي، وبالتالي كان هناك بعض الحالات التي كان فيها لا مركزية مطلقة في التوظيف. وكل هذه الأمور كانت عكس الأسباب التي أدت لنمو المدينة ذات التقنيـة القديمة وتكونها تماماً. وبالفعل فقد قامت المدن البريطانية بمـا يعـرف بـانقلاب المدينة رأساً على عقب من الداخل نحو الخارج، والتي كانت يوماً ما تتركز وظائفها في المنطقة المركزية. فانتقلت مباشرة من القلب المركزي إلى الضواحي عند حوافها الخارجية.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
بعد إطلاقها لقافلة المساعدات السادسة العتبة العباسية تفتح باب التبرع للراغبين في دعم الشعب اللبناني وإسناده
|
|
|