المنهج الإحصائي

لا يخفى أن العلاقة بين الجغرافية والرياضيات ترجع إلى أيام (أرسطو)، الذي كان يعد الجغرافية أحد فروع الرياضيات المعروفة في تقسيمه لفروع المعرفة، ويوم كانت كلمة جغرافية الإغريقية تعني ما نعنيه اليوم بالجغرافية الرياضية، أي: إنها كانت تقصر اهتمامها على دراسة شكل الأرض وخطوط الطول والعرض، وحجم الأرض وأبعادها وحركاتها وعلاقاتها بالأجرام السماوية الأخرى.

وفي الفترة ما بين ١٦٢٢ - ١٦٥٠ ، عرف (فارنيوس) الجغرافية أيضاً أنها فرع من فروع الرياضيات ، كما فعل سلفه (بارثلوميوس كيكرمان) (١٥٧١ - ١٦٠٩) ، الذي كان ينظر إلى الجغرافية على أنها فرع من فروع الرياضيات النظرية، تهتم بقياس خطوط الطول والعرض، وخطوط الارتفاعات والأعماق .

ومن هنا كانت النزعة الجديدة في الجغرافية ترمي إلى إحياء طبيعة العلم القديمة، كفرع من فروع الرياضيات، كما كان معروفاً في العصور الوسطى والقديمة. وقد كان (شارلس كولبي) أول من لمس ظهور هذا التيار المنهجي الجديد، وهو استخدام الدراسات الجغرافية لبعض النظريات العلمية والأساليب الرياضية، ونوه إلى ظهوره في حديثه أمام رابطة الجغرافيين الأمريكيين بمناسبة انتخابه رئيس شرف لهذه الرابطة في عام ١٩٣٦، حيث تنبأ بأن وسائل البحث الجغرافي في المستقبل القريب، سوف تزداد دقة و عمقاً عما كانت عليه في الماضي، نتيجة إدخال الطرق الكمية على الدراسات الجغرافية، معتبراً هذه الخطوة حلقة هامة من حلقات التطور في الفكر المنهجي الجغرافي.

وفي الخمسينيات من هذا القرن، شهدت الجغرافية تحولاً جذرياً في مغزاها ومرماها وطرق بحثها، ولعل خير وصف لها أنها ((ثورة كمية)) (Quantitative revolution) ، ترمي إلى الأخذ بالأساليب الإحصائية الحديثة، وتسعى إلى تغليب وسائل التعبير الرياضي أو الإحصائي على وسائل التعبير اللفظي والوصفي في الأبحاث الجغرافية  .