أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-10-2014
5822
التاريخ: 16-1-2021
2620
التاريخ: 8-1-2023
1246
التاريخ: 2023-02-04
937
|
الأبطال أو الشخصيات يشكلون [في الأعمال القصصية] عنصرا حيويا ممتعا
، يمدونها بالحركة التي تشد انتباه القارئ ، ما دامت كل واقعة وكل موقف يرتبطان
بالضرورة بعنصر (الأشخاص).
ومما يزيد الإمتاع والحيوية في القصة ، أن يتنوع الأبطال فيها ،
وبخاصة ـ إذا انضم إليهم ـ عنصر من غير عضويتهم : من نحو الملائكة أو الجن أو
الطير مثلا.
وفي قصص قرآنية سابقة لحظنا عنصر (الملائكة) ، يشاركون (الآدميين) في
أدوار القصة ،… كما لحظنا عنصر (الجن) وعنصر (الطير) يساهمان [في قصص سليمان]
أيضا.
هنا ـ في القصة التي نتحدث الآن عنها ـ يجيء عنصر (الجن) أبطالا
(مستقلين) في القصة… ، ينهضون بدور خاص مرسوم لهم.
وحيوية مثل هؤلاء (الأبطال) لا تتمثل في مجرد كونهم عنصرا غير مرئي
مثلا ، أو عنصرا يحمل في سماته ما هو مدهش أو غريب ،… بل تتمثل في مشاركتهم
للآدميين في طبيعة همومهم وتطلعاتهم وحركتهم في الوجود العامة.
إن القصة القرآنية الكريمة ، لا تستهدف عرض الحقائق أو الأبطال غير
الآدميين لمجرد التسلية والإمتاع ، بل تستهدف من ذلك ، تحسيسنا ـ نحن البشرـ
بحقيقة مهمتنا العبادية في الأرض ، والإفادة من تجارب الآخرين ـ حتى لو كان من غير
العضوية البشرية ـ في تصحيح سلوكنا وتعديله.
ان (الجن) مخلوقات غير مرئية : لها بيئتها الخاصة التي كيفتها السماء
لهم ،… كما أنهم ـ مثل الآدميين وسائر المخلوقات ـ لهم يخلقوا عبثا ، بل من أجل
مهمات خاصة يضطلعون بها.
المهم ، أن القصة التي نحن في صددها ، تستهدف عرض بعض الحقائق
المتصلة بهذا العنصر ، وصلته بالعنصر الآدمي من حيث مشاركتهما جميعا في تحقيق المهمة
العبادية : (هم) [أي الجن] في بيئاتهم الخاصة ، و(نحن) في بيئتنا الأرضية.
والأهم من ذلك : إفادتنا ـ نحو الآدميين ـ من تجربة الأبطال غير
الآدميين فيف نطاق العمل العبادي الذي خلقنا من أجله.
والآن : ما هي التجربة المطروحة في نطاق أبطال الجن؟
التجربة المطروحة أمام هؤلاء الأبطال هي : قضية إيمانهم برسالة
(الإسلام) العظيم.
وقد يبدو لأول وهلة ان الإسلام رسالة بشرية صرف ما دام الأمر متصلا
بشخصية المرسل صلى الله عليه وآله وسلم ، والمرسل إليهم (البشر).
غير ان الأمر يأخذ منعطفا آخر ، عندما تحدثنا القصة عن أبطال من غير
البشر لهم تركيبتهم النارية الخاصة [غير المرئية] ولهم لغتهم الخاصة [لا تفقه في
إدراك الآدميين العاديين] ، ولهم بيئاتهم التي تتجاوز نطاق الأرض : لكنها ذات
تعامل مع رسالة القرآن.
التجربة المطروحة أمام هؤلاء الأبطال ، تعرضها القصة على النحو
التالي :
{اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا
عَجَبًا} [الجن : 1]
هذه البداية القصصية ، لا نمر عليها عابرا : بل نقف عندها طويلا.
فنحن حيال (قصة) تعرض الحقائق وفق شكل فني خاص ، مما يعني أن بدايتها
بهذا النحو دون سواه ، له دلالة محددة.
لكن ، قبل ذلك ينبغي ان نعرف أيضا ان هذه القصة ، خضعت لهيكل هندسي
خاص.
فمن الحقائق المألوفة [في حقل الأدب القصصي] أن غرض الحقائق يتم وفق
إشكال متنوعة : قد يكون سردا ، وقد يكون سردا وحوارا ، وقد يكون حوارا وحده ،…
وهذا الحوار قد يكون خارجيا [أي : يدور بين طرفين فصاعدا] ، وقد يكون الحوار
داخليا [أي : حديث الشخص مع نفسه] ، وقد يكون حوارا جماعيا مبهما…الخ.
القصة التي تواجهنا ، تعتمد شكل (الحوار) الخالص ، دون ان يتخلله
تعقيب أو تعليق ، بل يظل الحوار طوليا يتم وفق محاورة جماعية مبهمة يتحدث فيها
أبطال الجن مع أنفسهم ، أو أصحابهم ، على النحو الذي أوضحته بداية القصة ، حينما
نقلت لنا جانبا من محادثاتهم بهذا الشكل :
{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}
إن أهميه هذا الحديث أو الحوار ، تتمثل في كونه حديثا أحادي الجانب ،
لا أنه محاوره بين طرفين : أحدهما يسأل ، والآخر يجيب ، أو احدهما يتحدث ، والآخر
يعقب عليه. بل يجري وكأنه محاضرة يلقيها فرد على آخر ، أو جماعة على آخرين.
أو يمكننا أن نتصور الأمر على نحو ما نمارسه ـ نحن البشر ـ حين نتلقى
نبأ خطيرا مثلا ، فيهرع كل واحد منا إلى صديقه أو جماعته ، وينقل إليه هذا النبأ.
طبيعي ، عندما استمع نفر من الجن إلى القرآن ، وقالوا لأصحابهم : {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} ، نتوقع حينئذ أن يصدر من المخاطبين تعليق على هذا النبأ ، سواء أكان
إيجابيا أم سلبيا.
غير ان القصة لم تنقل إلينا شيئا من تعليق هؤلاء.
والسر في ذلك [من الزاوية الفنية] ان القصة في صدد التعريف برد الفعل
الذي أحدثه نزول القرآن الكريم في نفوس أبطال الجن ،… متمثلا في استجابتهم الخيرة
حيال رسالة السماء ، على النجو الذي تفصله القصة لاحقا.
إن القصة عندما بدأت بهذا الشكل : {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ
فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } ، تركتنا ـ نحن القراء ـ أما جملة من التصورات ، لهذه البداية الفنية
في القصة.
ان القارئ يطرح أكثر من سؤال في هذا الصدد :
هل قرأ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ القرآن على (الجن) كما
قرأه على الإنس؟ هل انهم استمعوا إليه خلال قراءته على الإنس؟ هل قرئ بلغتهم؟
[وقبل ذلك : هل لهم لغة خاصة؟] هل يفقهون اللغة العربية؟؟
هل اتيح لمجموعة من الجن أن يستمعوا ذلك ، دون آخرين ، ولماذا؟
إن هذه الأسئلة تثار في ذهن القارئ دون أدنى شك.
بيد ان القصة ، سكتت عن ذلك : تاركة لنا تقليب الوجوه والاستنتاجات ،
بغية ان نكتشف بأنفسنا احتمالات الموقف.
وواضح [من حيث السمة الفنية] ان القصة ليست في صدد تبيين لغة الجن ،
أو تحديد نمط العلاقة الاجتماعية القائمة بينهم وبين الآدميين ، بضمنها : طريقة
تلقيهم للمعرفة ،… بل في صدد (المعرفة) نفسها ،… في صدد تبيين رد الفعل لديهم ،
حيال مواجهتهم لرسالة الإسلام.
من هنا انتفت الحاجة إلى قص التفصيلات المتصلة بلغتهم ، وطريقة
تلقيهم للمعرفة.
ويلاحظ : ان النصوص المفسرة بدورها ، لم تلق إنارة تامة على هذا
الجانب. فبعضها ينفي أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد قرأ القرآن
عليهم ، وإلى ان هذا النفر استمع إليه عبر محاولته معرفة السبب الذي حال بين
الشياطين وبين السماء عند ظهور الرسالة. وبعضها يذهب إلى أن بطلهم أتاه ، فذهب
إليهم يقرئهم في إحدى الليالي ،… وبعضها يذهب إلى ان عددهم سبعة أبطال أو تسعة
قابلهم وارسلهم إلى الآخرين…
ومثلما قلنا ، فان المهم (فنيا) ، ليس (عددهم) ولا نمط الرهط الذي
ينتسبون إليه ، ولا طريقة استماعهم ، بل المهم هو استماعهم نفسه ، وادراكهم لأهمية
الرسالة التي أنزلتها السماء على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيما جعلتهم
منبهرين منها بقولهم : (سمعنا قرآنا عجبا).
والأهم من ذلك ، أنهم أدركوا تفصيلات الموقف الجديد ، وصلته بماضي
سلوكهم ولاحقة ، على نحو ما يكشفون : هم أنفسهم في الحوار الجماعي أو الحديث
المطول الذي ألقوه على جماعتهم في هذا الميدان.
يبدو أن أبطال الجن الذين استمعوا إلى القرآن عند نزوله ، وعقبوا على
ذلك قائلين : {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} ،… يبدو أن هؤلاء الأبطال يشكلون مجموعة خاصة تتميز بوعي ، أو
بموقع اجتماعي متميز ، لم يتوفر عند الآخرين ، على نحو ما نجده في نطاقنا الآدمي
مثلا ،… وإلا لم تهيأ لهذا النفر منهم دون سواهم مثل هذا الاستماع للقرآن ، وادراك
رسالة السماء ، بحيث هرعوا إلى اصحابهم ينقلون إليهم مثل هذه الظاهرة العظيمة؟
إن بيئة الجن لا بد أن تشبه بيئة الآدميين في طبيعة بنائهم النفسي
والفكري : وفي مقدمتها ، الموقف الفلسفي من الكون ومبدعه… ، وهو أمر يحدثنا به
أبطال الجن أنفسهم ،… فلتسمع إليهم أولا ، وهم يواصلون إلقاء كلمتهم على جمهور
الجن ، ونعني بهم : أولئك النفر المتميز الواعي الذي أتيح له أن يستمع إلى القرآن
، وينقل إلى الجمهور تجربته في هذا الصدد :
قال هؤلاء النفر :
{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا
بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا
اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن : 1 - 3]
إلى هنا ، فان الكلمة التي ألقاها هذا النفر. على جمهور الجن ، تتحدث
عن ظاهرة (التوحيد) وعدم الشرك بالله.
ومما لا شك فيه ان الحديث عن التوحيد وعدم الشرك ، يومئ بوجود عنصر
(التشكيك) في اذهان البعض منهم على نحو ما هو متحقق عند الجهلة من الآدميين.
غير ان هذا الفرز بين نمطين من الجمهور : الجمهور الموحد والجمهور
المشكك ، يأخذ تحديدا أوسع شمولا ، حينما نجد هؤلاء النفر يعلنون عن المصدر الذي
كان يثير في اذهان الجن عنصر التشكيك ، ألا وهو : الشيطان.
يقول هؤلاء النفر الواعون من الجن ، مواصلين إلقاء كلمتهم على
الجمهور : {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا
عَلَى اللَّهِ شَطَطًا } [الجن : 4]
ان هذه الكلمة ذات دلالة فنية وفكرية كبيرة. وتتمثل أهميتها في انها
صادرة من رهط ينتسبون إلى عنصر (الجن). ويعرفون رئيسهم تمام المعرفة ، حيث خلعوا
عليه صفة (السفيه).
وواضح ان كلمة (السفيه) لا تشرف صاحبها بأية حال من الأحوال ، لأن
(السفاهة) نوع من امراض التخلف العقلي.
ولا شيء أشد ألما في النفس من أن يرى كبيرهم الذي أضل مجموعة من الجن
، يرى هذا الرئيس ان متبوعيه يطلقون عليه صفة (السفاهة) ، بعد أن خيل إليه أنه قد
نجح في إضلالهم.
إذن : كم لهذا الكلمة من وقع حاد على نفسيه الشيطان (السفيه)!! وإلى
أي حد ستعرضه إلى التمزق والتوتر والانسحاق والقلق والرعب!!
إنها كلمة مجلجلة ، تصعق الشيطان ، وترده مدحورا…
على ان صفة (السفيه) التي أطقها الواعون من الجن على الشيطان ، تنطوي
على أهمية أخرى غير الأهمية التي تسحب أثرها النفسي على الشيطان ذاته ،… هذه
الأهمية هي : انسحاب أثرها على القارئ والسامع أيضا. فالقارئ حينما يجد أن عنصر
التشكيك الذي يثيره الشيطان ، انما صدر من شخصية (سفيهة) تعاني مرض التخلف العقلي
،… حينئذ لا يقيم القارئ أي وزن لهذه الشخصية وأفكارها ، لانها (أفكار) نابعة من
مرض عقلي هو (السفاهة). فالأفكار من الممكن ان تجد لها صدى في النفوس إذا كانت
صادرة من عقل سليم. أما إذا صدرت من (سفيه) فحينئذ تسقط الأفكار أساسا ، وتصبح
موضع سخرية ، كما حدث بالنسبة إلى النفر الواعي من الجن ، عندما أدركوا سفاهة
الشيطان ، وضربوا بأفكاره عرض الجدار ، واتجهوا إلى الإيمان بالله ، وبرسالة
الإسلام.
للمرة الجديدة : نذكر القارئ بأهمية الكلمة التي أطلقها الواعون من
الجن على الشيطان : ونعني بها كلمة (السفيه) من حيث وقعها المر على الشيطان ذاته ،
ومن حيث وقعها الإيجابي على القارئ الذي ستتعمق لديه حقائق الموقف بجلاء أشد.
ولنتابع الآن ، نص الكلمة التي ألقاها نفر واع من الجن على جمهورهم :
قال هذا النفر ، بعد ان عرض لسمة (السفاهة) على الشيطان :
(وأنا ظننا ان لن تقول الانس والجن على الله كذبا).
هنا يتم كشف شيء جديد من الموقف.
فأبطال الجن لم يتحدثوا لحد الآن إلا عن [السفيه : الشيطان] ، لكنهم
في هذه الفقرة من كلمتهم ، تعرضوا إلى (الإنس) أيضا ، فخلعوا عليهم صفة مشاركة
لصفة (الجن) ، ألا وهي : [الكذب على الله].
لنقرأ الكلمة من جديد : (وأنا ظننا ان لن تقول الإنس والجن على الله
كذبا).
والسؤال [من الزاوية الفنية] هو : لماذا أقحم أبطال الجن ، عنصر
(الإنس) في هذه الكلمة ؟ مع أنهم يتحدثون عن تجربتهم الخاصة.
في تفسيرنا الفني لهذه الظاهرة ، ان القصة عندما نقلت لنا هذه الفقرة
وسواها مما يتصل بعنصر الآدميين ، انما استهدفت الآدميين في ذلك ، ما دام الأمر
متصلا بتجربة البشر الذي يقرأ القصة ،… فضلا عن انها حقيقة ذات صلة بتجربة (الجن)
أيضا.
ان [الكذب على الله] يشكل جريمة أو مفارقة عقلية واضحة.
فالله (حقيقة) تفرض وجودها بكل ما (للحقيقة) من دلالة.. فلماذا ،
يحاول الإنس والجن نفي هذه الحقيقة؟؟
من هنا ، فان ابطال (الجن) ـ محقون كل الحق ـ في ظنهم الذاهب إلى انه
لا يمكن لإنسي أو جني أن يفتري على الله كذبا.
ومن هنا أيضا جاء (الإنس) عنصرا ، يفرض وجوده في أذهان الواعين من
الجن ما دام محاولا ـ بجهالة ـ نفي حقيقة الله.
وإذا كان (الجن) قد اقحموا عنصر (الإنس) في كلمتهم المتقدمة ، للسبل
الذي أوضحناه ، فانهم ـ في كلمة جديدة من خطابهم إلى جمهور الجن ـ يقحمون عنصر
(الإنس) أيضا عبر تجربة أخرى ، عرضوا لها في كلمتهم.
ولنستمع إليهم في هذا الصدد.
قال هذا النفر الواعي من الجن : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ
الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ
أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن : 6 ، 7].
في هذه الفقرات من خطاب الجن ، حقيقتان تتصلان بعنصر (الآدميين)
وعلاقتهم بعنصر (الجن) ، الأولى هي : ان البعض من الآدميين كان يستجير بالجن ،
فزادتهم هذه الاستجارة رهقا.
أما الحقيقة الثانية فهي : مشاركة الآدميين للجن في التشكيك باليوم
الآخر.
مما لا شك فيه ان هذه الحقيقة الأخيرة أي : التشكيك باليوم الآخر يظل
متصلا بعنصر التشكيك في ظاهرة التوحيد أيضا : وقد سبق التحدث عنها. لكنها في
الحقيقة تبقى متصلة أيضا بعملية الاستجارة بالجن ،… وهي الحقيقة التي ينبغي التوقف
عندها ، نظرا لانطوائها على أهمية كبيرة ، في نطاق العلاقة القائمة بين عنصري
الإنس والجن.
والسؤال ـ فنيا ـ هو : لماذا أقحم أبطال الجن الذين وجهوا كلمتهم إلى
الجمهور ،… لماذا أقحموا قضية الاستعاذة أو الاستجارة الآدمية برجال الجن؟؟
هل لان الجن يتميزون بقوى لا يملكها الآدميون؟ هل لأشكالهم غير
المرئية صلة بهذا التميز؟ هل هناك تجارب بشرية في هذا الصدد فرضت على أبطال الجن
عرضها بهذا النحو؟ ثم : ما هي صلة الفشل الذي لحق تجارب الآدميين في اعتصامهم بقوى
الجن ،… ما هي صلة الفشل المذكورة بحقيقة الموقف الجديد الذي أعلنه أبطال الجن عند
استماعهم للقرآن الكريم ، وإيمانهم بالإسلام ؟؟ هذه الأسئلة تتطلب اجابة محددة ما
دامت متصلة بتجارب الآدميين الذين نقلت هذه القصة لهم.
يخيل للقارئ أو السامع أن ابطال الجن الذين كانوا يتحدثون لجمهورهم ،
عن ان رجالا من الإنس يعوذون برجال من الجن ،… يخيل : ان ذلك بمثابة تقرير لحقيقة
ثابتة هي : ان (الجن) بصفتهم قوى غير مرئية ، وبصفتهم يتسمون بما هو غريب ومدهش
بالنسبة للآدميين ، وبصفتهم يتنقلون بحرية ، ليس في البيئة الجغرافية الفاصلة بين
السماء والأرض فحسب ، بل حتى في الأرض ، وبصفتهم يمتلكون إمكانات التأثير على
الآدميين… كل ذلك حمل أبطال الجن الذين تحدثوا لجمهورهم عن رسالة القرآن العظيم ،…
حملهم على الاشارة لهذا الجانب ، وتحسيس جمهورهم بان هذه الاستعانة بالجن [بالنسبة
للآدميين] ، تظل عملا منكرا : بدليل ان الجن زادوا الآدميين الذين اعتصموا بهم ،…
زادوهم رهقا ، وإثما ، وضعفا… بل يمكن ان تكون هذه الاستعانة بهم ، عنصر تشجيع
للجن أيضا ، بأن تتورم ذواتهم ، ويطغوا بذلك بحيث يحملهم الطغيان على التفكير
بانهم أولوا قوة وسطوة ، وهو أمر منكر دون أدنى شك : إذا أخذنا بنظر الاعتبار ، ان
الكهنة [كما تقول بعض النصوص المفسرة] كانت تنقل إلى الآخرين ، ما يسمعونه من الجن
،… وإذا أخذنا بنظر الاعتبار ، ان الكلمة الحقيقة تظل ليس لهذا الجنس أو ذاك ، أو
أية قوة أرضية أو كونية أخرى.
إن هذه الدلالات التي استخلصناها من حديث أبطال الجن لجمهورهم ،
تنطوي على أهمية كبيرة في هذا السياق القصصي الذي كتب لنا نحن الادميون ، ولي
لسوانا.
هذه الشريحة من القصة ، تريد ان تقول لنا : إن أية استعانة بغير الله
عديمة الفاعلية ، وإلى انها تنم عن الضعف وانعدام الثقة بالله.
كما تريد ان تقول القصة لنا ثانيا : ان سلالة الجن بالرغم من
امتلاكها [في تصور الآدميين] إمكانات هائلة ، وبالرغم من طغيانها ، وبالرغم من
وقوعها مباشرة تحت تأثير (سفيههم) الكبير : الشيطان ،… بالرغم من ذلك ، ما أن سمع
نفر منهم إلى القرآن الكريم ، حتى اسرع إلى الإيمان بالله ، وبرسالة محمد صلى الله
عليه وآله وسلم.
وتريد القصة ان تقول لنا ، ثالثا [بطريقة فنية غير مباشرة] ان الجن
بالرغم من انتسابهم إلى سلالة غير الآدميين ، وبالرغم من ان القرآن لم ينزل إلا
بلغة الآدميين ،… بالرغم من ذلك ، فقد أسرع أبطال الجن إلى الإيمان بمجرد استماعهم
للرسالة ، في حين تلكأ الآدميون في الاستجابة للنداء الخير…
طبيعي ، لا ينحصر الأمر في عملية التوحيد فحسب ، بل ينبغي تجاوز ذلك
، إلى مطلق التعامل مع مبادئ الإسلام… أي ، ان التجربة الآدمية ينبغي ان تفيد من
تجربة الجن في تعديل سلوكها بعامة ، وفي ضبطه وفق مهمة الخلافة في الأرض ،… وهي :
المهمة التي القتها السماء علينا ـ نحن الادميون ـ في هذه المسافة الزمنية المحددة
من العمر.
ولنتابع ، كلمة أبطال الجن إلى جمهورهم ،… قال هذا النفر من الجن :
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا
شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ
يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ
بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن : 8 - 10]
في هذه الفقرات من كلمة أبطال الجن لجمهورهم ، تتقدم القصة بكشف
حقائق جديدة في حقل الظاهرة الكونية التي صاحبت نزول رسالة الإسلام ،… وهي حقائق
ذات خطورة كبيرة تدلنا ـ نحن الآدميون ـ على مدى أهمية رسالة الإسلام العظيمة التي
اختارتها السماء لنا.
إن ثمة تغييرا في النظام الكوني ، قد حدث ، مع انبثاق الرسالة
الإسلامية… ، كشفه لنا حوار الجن…
فأولا { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا
شَدِيدًا وَشُهُبًا} ،… وهذا يعني أن الجن كانوا يمارسون عملية الصعود إلى السماء ، وإلى
أنهم كانوا يجدونها ملأى بالملائكة ، وبالشهب ، أي : بالأنوار الممتدة من السماء.
ثانيا : {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ}
وهذا يعني ان الجن كانوا عبر صعودهم إلى السماء ، ومشاهدتهم لحراسها
من الملائكة ، ولشهبها ،… كانوا حينئذ يستمعون إلى أصوات الملائكة وتحركاتهم…
ولكن الذي حدث بعد ذلك : {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن : 9]
ان الذي حدث هو : أن الجن كانوا يتمتعون بحرية التنقل في الأجواء ،
إلى الدرجة التي كانوا يشاهدون الملائكة والشهب من خلالها ، ويطلعون على الأسرار…
لكنهم الآن : أي بعد نزول القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وآله
وسلم ، ما ان يحاولوا استراق السمع حتى يجدوا شهابا يرصدهم ، فيمنعهم من الصعود…
إن اقتران الحجز ـ أي : منع صعودهم إلى السماء ـ مع رسالة القرآن ،
يظل مؤشرا واضحا إلى خطورة ما لمحنا به قبل قليل…
انه ـ على الأقل ـ نبههم إلى حدوث ظاهرة خطيرة ، بحيث جعلتهم
يتساءلون : {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ
أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن : 10]
أي : لعذاب سينزل بالآدميين ، أم لرسالة تهدي إلى الرشاد.
انه لا شك مؤشر إلى الرسالة الجديدة التي غمرت هذا الكون…
لقد انتبه أبطال الجن إلى حدوث الظاهرة الخطيرة ، على النحو الذي
لحظناه.
والآن : لا يزال هؤلاء الأبطال ، يكشفون لنا عبر كلمتهم التي ألقوها
على جمهورهم ، بعد استماعهم للقرآن… يكشفون لنا مزيدا من الحقائق المتصلة بعالمهم
، وإمكان افادتنا ـ نحن الآدميون ـ من تجاربهم في هذا الصدد.
يقول هؤلاء الأبطال :
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ
قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ
نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ
بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ
أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا
لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } [الجن : 11 - 14]
إن هذه الكلمات [في منطق القصة] ليست مجرد نقل لتجربة سلالة من نار ،
بل تظل في الصميم من تجارب الآدميين ، فهناك الصالحون [من جن وانس] ، وهناك من
دونهم درجة ، وهناك فئات مختلة [طرائق قدد].. لكن الحق ـ كما نطق به أبطال الجن ـ
، ان لا أحد في الكون [يعجز الله في الأرض] [أو يعجزه هربا] ، بل تظل الهيمنة لله
وحده…
وتبعا لذلك ، ما أن واجه أبطال الجن هذه الحقيقة ، حتى هتفوا
بأصحابهم {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ }.
وأخيرا فإن القصة تنقل لنا هذه الفقرة التي تلخص كل شيء { فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا
يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} إن القصة [وهي تنقل نص الكلمة التي ألقاها نفر من الجن على جمهورهم]
تستهدفنا ـ نحن الآدميون ـ في تماثل التجربة التي يحياها كل من سلالة الطين وسلالة
النار في غمرة الصراع بين الشهوة والعقل… لقد أوضح أبطال الجن : أن فيهم (المسلم)
و(القاسط) وأن فيهم (الصالح) ومن دون ذلك ، وان فيهم مذاهب شتى… وهذه الحقيقة
ذاتها ، تطبع الآدميين…
لكن الواعين منهم [أي : ابطال الجن] أوضحوا أن الحقيقة هي : الإيمان
بالله ، فيما لا يخاف معها أي بخس وأي رهق ، مما يعني ـ في نهاية المطاف ـ ان
الآدميين أحق بإدراك مثل هذه الحقائق التي اغدقتها السماء عليهم ، حيث وعاها نفر
لم ينزل القرآن على بطل منهم ، بل على بطل من الآدميين ، وبلغة يفقهونها جيدا…
وهكذا نجد ، أن القصة الممتعة التي نقلت تجربة الجن إلينا ، تظل
نموذجا من طرائق فنية متنوعة ، توصلها إلينا ـ نحن القراء ـ ، بغية الافادة منها
في تعديل سلوكنا ، وادراك حقيقة المهمة العبادية لنا.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|