المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

التاريخ
عدد المواضيع في هذا القسم 6787 موضوعاً
التاريخ والحضارة
اقوام وادي الرافدين
العصور الحجرية
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
العهود الاجنبية القديمة في العراق
احوال العرب قبل الاسلام
التاريخ الاسلامي
التاريخ الحديث والمعاصر
تاريخ الحضارة الأوربية

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
الفرعون رعمسيس الثامن
2024-11-28
رعمسيس السابع
2024-11-28
: نسيآمون الكاهن الأكبر «لآمون» في «الكرنك»
2024-11-28
الكاهن الأكبر (لآمون) في عهد رعمسيس السادس (الكاهن مري باستت)
2024-11-28
مقبرة (رعمسيس السادس)
2024-11-28
حصاد البطاطس
2024-11-28

السياسة الاسكانية ودورها في تضخم الاحياء العشوائية
21-6-2021
الحرجية criticality
12-7-2018
ظهور كوكب عطارد بالتلسكوب
4-3-2022
بكاء الرضا على الحسين (عليه السلام)
19-10-2015
طاهر بن عبد علي بن عبد الرسول الحكّامي.
14-7-2016
مقدمة التحقيق الصحفي
19-7-2019


الجانب المالي للحكم عند الامام علي ( عليه السلام)  
  
2271   05:46 مساءً   التاريخ: 26-4-2021
المؤلف : عبد الفتاح عبد المقصود
الكتاب أو المصدر : فلسفة الحكم عند الامام علي
الجزء والصفحة : ص 100- 156
القسم : التاريخ / التاريخ الاسلامي / الخلفاء الاربعة / علي ابن ابي طالب (عليه السلام) / الامام علي (عليه السلام) /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-11-2018 2240
التاريخ: 2-11-2018 2162
التاريخ: 24-12-2019 1736
التاريخ: 15-11-2019 1712

فلسفة الحكم عند الإمام في ضوء ملابساتها التاريخية

استعرضنا في الفصول السابقة فلسفة الحكم عند الإمام في جوانبها الثلاثة: الخلقي والسياسي والاقتصادي وقلنا أن ابن أبي طالب كان يسير (في سياسته العامة من الناحيتين النظرية والعملية) وفق مستلزمات كتاب الله. ولقد كان الرسول كذلك سائراً في سياسته العامة من الناحيتين النظرية والعملية وفق مستلزمات القرآن. ترى ما الذي حال بين الإمام وبين انتشار نهجه القويم في الحكم؟

وبعبارة أخرى: لماذا صرع الإمام قبل إنجازه رسالته الخالدة (المستمدة من القرآن وسنة الرسول)؟ ذلك ما سنحاول الإجابة عنه في هذا الفصل من فصول الكتاب.

ولكي نستزف جميع إمكانيات البحث المتيسرة لدينا فقد رأينا أن نقسم هذا الوجه من وجوه الدراسة قسمين: سمينا الأول منهما (بين رسول الله وعلي بن أبي طالب) وأطلقنا على الثاني عبارة (الإمام وقوى الشر).

 

أ - بين رسول الله وعلي بن أبي طالب

هناك أوجه شبه كثيرة بين الفترة التي عاش فيها الرسول - منذ نزول الوحي عليه حتى وفاته - وبين الفترة التي عاش فيها الإمام منذ تسنمه منصب الخلافة حتى مصرعه. فكأن تاريخ الفترة قضاها النبي مبشراً بالإسلام - (ويبلغ طولها زهاء ربع قرن قضى رسول الله منها أربعة عشرة سنة في مكة قبل الهجرة وإحدى عشرة سنة في المدينة) قد أعيد مضغوطاً - في خطوطه العامة بالطبع - في السنين الخمس التي حكم أثناءها الإمام.

هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن هناك أوجه شبه كثيرة أيضاً بين سيرة الرجلين وبين طبيعة المشاكل التي تعرض لها كل منهما من جهة وبين أسلوب معالجته إياها من جهة أخرى.

وقد فطن إلى ذلك أبو جعفر بن أبي زيد الحسين نقيب البصرة قبل زهاء سبعة قرون، فأوجز الخطوط العامة للسيرتين - في مواقع التشابه - وفي الظروف والملابسات التي أحاطت بكل منهما. وإلى القارئ نص ملاحظات الغيب في هذا الموضوع الطريف كما ذكرها ابن أبي الحديد(١) (إنه لا فرق عند من قرأ السيرتين: بين سيرة النبي وسياسة أصحابه أيام حياته، وبين سيرة أمير المؤمنين وسياسة أصحابه أيام حياته فكما أن علياً لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة والعصيان والهرب إلى أعدائه وكثرة الفتن والحروب، فكذلك كان النبي لم يزل ممنواً بنفاق المنافقين وأذاهم وخلاف أصحابه عليه وهرب بعضهم إلى أعدائه وكثرة الحروب والفتن. ألست ترى القرآن العزيز مملوء بذكر المنافقين والشكوى منهم والتألم من أذاهم!! كما أن كلام على مملوء بالشكوى من منافقي أصحابه والتألم من أذاهم له والنوائهم عليه.

وذلك نحو قوله تعالى: ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالاثم والعدوان ومعصية الرسول... إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد أن المنافقين لكاذبون. ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم... أرأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف. أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن يخرج الله أضغانهم، ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيمائهم... سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا...

وأصحاب النبي هم الذين نازعوا في الأنفال وطلبوها لأنفسهم حتى أنزل الله: (قل الأنفال لله والرسول)...

هم الذين التووا عليه في الحرب يوم بدر وكرهوا لقاء العدو حتى خيف خذلانهم وذلك قبل أن تتراءى الفئتان، وأنزل الله فيهم (يجادلونك في الحق بعد ما تبين لهم كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) وهم الذين كانوا يتمنون لقاء العدو حتى أنهم ظفروا برجلين في الطريق فسألوهما عن العير فقالا: لا علم لنا منها، وإنما رأينا جيش قريش وراء ذلك الكثيب - فضربوهما، ورسول الله قائم يصلى - فلما ذاقا من الضرب قالا بل العير أمامكم فاطلبوها. فلما رفعوا الضرب عنهما قالا والله ما رأينا العير، ولا رأينا إلا الخيل والسلاح والجيش. فأعادوا الضرب عليهما مرة ثانية. فقالا - وهما يضربان - العير أمامكم فخلوا عنا.

فانصرف رسول الله من الصلاة وقال إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذبا خليتم عنهما!! دعوهما فما رأيا إلا جيش أهل مكة.

وأنزل الله: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين... وهم الذين فروا عنه يوم أحد وأسلموه وأصعدوا في الجبل وتركوه حتى شج الأعداء وجهه... ونزل في ذلك قوله: إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، والرسول يدعوكم في أخراكم - أي ينادي فيسمع نداءه آخر الهاربين لأن أولهم أوغلوا في الفرار وبعدوا..

وهم الذين عصوا أمره في ذلك اليوم حيث أقامهم على الشعب في الجبل - وهو الموضع الذي خاف أن تكر عليه خيل العدو من ورائه، وهم أصحاب عبد الله بن جبير فإنهم خالفوا أمره وعصوه فيما تقدم به إليهم ورغبوا في الغنيمة... وذلك ما أشار إليه تعالى بقوله: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم كما تحبون، منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة.

وهم الذين عصوا أمره في غزاة تبوك بعد أن أكد عليهم الأوامر، وخذلوه وتركوه ولم يشخصوا معه فأنزل الله فيهم قوله: يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. الا تنفروا يعذبكم الله عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير... - حتى لقد كاشفوه مراراً فقال لهم يوم الحديبية احلقوا وانحروا مراراً فلم يحلقوا ولم ينحروا ولم يتحرك أحد منهم عند قوله، وقال له بعضهم - وهو يقسم الغنائم. اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. وقالت الأنصار له مواجهة يوم حنين أتأخذ ما أفاء الله به علينا بسيوفنا فتدفعه إلى أقربائك من أهل مكة!! حتى أفضى الأمر إلى أن قال لهم في مرض موته ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم ما لا تضلون بعده فعصوه...

فمن تأمل حال الرجلين وجدهما متشابهين في جميع أمورهما أو في أكثرها. وذلك لأن حرب رسول الله مع المشركين كانت سجالا: انتصر يوم بدر، وانتصر المشركون عليه يوم أحد، وكانت يوم الخندق كفافا - خرج هو وهم سواء لا عليه ولا له لأنهم قتلوا رئيس الأوس سعد بن معاذ وقتل منهم فارس قريش - وهو عمرو بن عبد ود، وانصرفوا عنه يوم الأحزاب بغير حرب بعد تلك الساعة التي كانت. ثم حارب بعدها قريشاً يوم الفتح فكان له الظفر. وهكذا كانت حروب على: انتصر يوم الجمل، وخرج الأمر بينه وبين معاوية على سواء - قتل من أصحابه رؤساء ومن أصحاب معاوية رؤساء، وانصرف كل واحد من الفريقين عن صاحبه بعد الحرب على مكانه. ثم حارب بعد صفين أهل النهروان فكان الظفر له.

ومن العجب أن أول حروب رسول الله كانت بدراً، وكان هو المنصور فيها، وأول حروب على الجمل، وكان هو المنصور فيها. ثم ما كان من صحيفة الصلح والهدنة يوم الحديبية وصفين.

ثم دعا معاوية في آخر أيام على إلى نفسه وتسمى بالخلافة، كما أن مسيلمة والأسود العنسى دعوا إلى أنفسهما في آخر أيام النبي وتسميا بالنبوة - واشتد على على ذلك كما اشتد على رسول الله أمر الأسود ومسيلمة، وأبطل الله أمرهما بعد وفاة النبي، وكذلك أبطل أمر معاوية وبني أمية بعد وفاة على. ولم يحارب رسول الله أحد من العرب إلا قريش ما عدا يوم حنين، ولم يحارب علياً من العرب أحد إلا قريش ما عدا يوم النهروان. ومات على شهيداً بالسيف، ومات رسول الله شهيداً بالسم، وهذا لم يتزوج على خديجة أم أولاده حتى ماتت، وهذا لم يتزوج على فاطمة أم أشرف أولاده حتى ماتت.

ذلك هو كلام النقيب أبي جعفر في معرض التحدث عن وجوه التشابه بين سيرة النبي وسيرة علي بن أبي طالب.

وقبل أن ننتقل إلى عرض جوانب أخرى من تشابه السيرتين - فات النقيب أن يذكرها - يجمل بنا أن نعرض للقارئ - بشيء من الإيجاز غير المخل - أهم ما ورد في كلام النقيب من حوادث تاريخية اكتفى هو بمجرد الإشارة إليها.

ولكي يكون عرض تلك الحوادث مستوفياً شروطه التاريخية فسوف نجعل مؤرخي السيرة المحمدية يخاطبون القارئ مباشرة فيقصون عليه - كل بأسلوبه الخاص - تلك الحوادث حسب التسلسل الذي ذكره السيد النقيب.

 

١ - فيما يتصل بالأنفال: قال ابن هشام: (فلما انقضى أمر بدر أنزل الله فيه من القرآن سورة الأنفال بأسرها: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. فكان عبادة بن الصامت - فيما بلغني - إذا سئل عن الأنفال قال فينا معشر أهل بدر نزلت حين اختلفنا في النفل يوم بدر فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقنا فرده على رسول الله فقسمه بيننا عن سواء - أي على السواء).

 

٢ - موقف المسلمين من النبي في بدر: قال ابن هشام(2) ثم ذكر الله في سورة الأنفال القوم وسيرهم مع رسول الله حين عرف القوم أن قريشاً قد ساروا إليهم، وإنما خرجوا يريدون الغير طمعا في الغنيمة فقال: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون. يجادلونك بالحق بعد ما تبين لهم كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون - أي كراهية للقاء القوم وإنكاراً لمسير قريش حين ذكروا لهم. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن لو غير ذات الشوكة تكون لكم - أي الغنيمة دون الحرب ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين - أي بالوقيعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يوم بدر.

إذ تستغيثون ربكم - أي لدعائهم حين نظروا إلى كثرة عدد العدو وقلة عددهم. فاستجاب لكم - أن بدعاء رسول الله ودعائكم - إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين.

يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون - أي لا تخالفوا أمره وأنتم تسمعون لقوله وتزعمون أنكم منه. ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون - أي المنافقين.. ولو علم الله بهم خيراً لأسمعهم... ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون..

يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم. - أي للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل.. واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض.. فآواكم وأيدكم بنصره)...

 

٣ - موقفهم في أحد: ذكر ابن هشام (سيرة النبي محمد ج ٣ ص ٦٦ - ٦٨) (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم باذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم. - لقد وفيت لكم بما وعدتكم من النصر على عدوكم إذ تحسونهم بالسيوف - أي القتل بإذني وتسليطي أيديكم وكفى أيديهم عنكم... حتى إذا فشلتم - أي تخاذلتم - وتنازعتم في الأمر، أي أتلفتم في أمري، أي تركتم أمر نبيكم وما عهد إليكم - يعني الرماة - من بعد ما أراكم ما تحبون - أي الفتح وهزيمة القوم من تسائهم وأموالهم.

منكم من يريد الدنيا - أي الذين أرادوا النهب في الدنيا وترك ما أمرا به من الطاعة التي عليها ثواب الآخرة... ثم أنبهم بالفرار عن نبيهم وهم يدعون ولا يعطفون عليه لدعائه إياهم.. ثم قال لنبيه ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

 

٤ - موقفهم منه في تبوك: جاء في السيرة(3) تخلف عنه في غزوة تبوك عشرة منهم أبو لبانه (فلما رجع أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد - منهم أبو لبانة -. فلما مربهم رسول الله قال من هؤلاء؟ قالوا أبو لبانة وأصحابه تخلفوا عنك حتى تطلقهم وتعذرهم.

قال: وانا اقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم ويعذرهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين. فلما بلغهم ذلك قالوا نحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا. فأنزل الله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم... إلى قوله: وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم أو يتوب عليهم - وهم الذين لم يربطوا أنفسهم بالسواري. عند ذلك أطلق رسول الله أبا لبانة وأصحابه الستة.

 

٥ - تفاصيل قصة الحديبية: ذكر ابن هشام(4) . أمر الحديبية في العام السادس للهجرة عن ابن إسحق أن رسول الله خرج من المدينة إلى مكة معتمراً (يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا وساق معه الهدى سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل...

حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش سمعت بمسيرك فخرجوا... وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم... فأمر رسول الله الناس فقال اسلكوا ذات اليمين... فسلك الجيش ذلك الطريق.

فلما رأت خيل قريش فترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم رجعوا راكضين إلى قريش... وخرج رسول الله حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته. فقال الناس خلأت الناقة - أي حرنت - فقال رسول الله ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة).

وحانت صلاة الظهر فصلاها النبي بالمسلمين، وفات المشركين أن يهجموا على الرسول وصحبه أثناء الصلاة. غير أن خالد بن الوليد، أحد أبطال المشركين آنذاك، أخبر قومه بوجوب التريث حتى تحين صلاة العصر للانقضاض على النبي وأتباعه أثناءها. فنزل القرآن على النبي يأمره بأداء فريضة العصر بطريقة خاصة عرفت بعد ذلك بصلاة عسفان أو صلاة الخوف. تفادياً لغدر المشركين وإفساداً لمؤامرة ابن الوليد.

وإلى القارئ نص ذلك القرآن كما جاء في سورة النساء: (وإذا كنت فيهم فأقمت الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم. ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة، ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم، وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً).

لقد أصر المشركون على منع النبي وأصحابه من دخول مكة. وحدثت مداولات بين الفريقين المتنازعين تمهيداً لعقد صلح بينهما(5) .

ويقول المقريزي. (بينا الناس قد اصطلحوا والكتاب لم يكتب أقيل أبو جندل ابن سهيل بن عمرو.. وقد أفلت يرسف في قيد.. حتى أتى رسول الله وهو يكاتب أباه سهيلا... ففرح المسلمون به فرفع سهيل رأسه فإذا بابنه أبي جندل، فقام إليه فضرب وجهه بغصن شوك وأخذ بتلبيبه - فصاح أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فزاد المسلمين ذلك شراً إلى ما بهم.

وقال سهيل بن عمرو هذا أول من قاضيتك عليه... فرده النبي عليه.

وعاد عمر بن الخطاب إلى رسول الله فقال: ألست رسول الله؟ قال بلى. قال ألست على الحق؟ قال بلى. قال أليس عدونا على الباطل؟ قال بلى. قال فلم نعطى الدنية في ديننا؟ فقال إني رسول الله ولن أعصيه ولن يضيعني... فوثب عمر إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب.. يا أبا جندل إن الرجل يقتل أباه في الله، والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في الله. فرجل برجل. فقال أبو جندل مالك لا تقتله أنت! قال عرم نهاني رسول الله عن قتله وقتل غيره. فقال أبو جندل ما أنت أحق بطاعة رسول الله مني).

فلما التأم الجمع دعا النبي علي بن أبي طالب فقال أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا. ولكن أكتب باسمك اللهم.

ثم قال الرسول أكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك. ولكن أكتب اسمك واسم أبيك(6) .

فقال النبي لعلي بن أبي طالب: (امح رسول الله... واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو.. فإن لك مثلها... إشارة لما سيقع بين على ومعاوية: فإنهما بصفين وقعت بينهما المصالحة... فلما كتب الكاتب: هذا ما صالح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان قال عمرو بن العاص لا تكتب أمير المؤمنين... وأرسل معاوية أيضاً لعمرو بن العاص يقول لا يكتب أمير المؤمنين، لو كنت أعلم أن علياً أمير المؤمنين ما قاتلته... ولكن اكتب علي بن أبي طالب... فقال أصحاب على لا تمح إمارة المؤمنين... فلم يسمع منهم، وقال للكاتب امحها... ثم تذكر قول رسول الله إن لك مثلها فقال الله أكبر مثلا بمثل(7) .

وبعد أخذ ورد طويلين بين النبي وسهيل بن عمرو من جهة، وبين النبي وأصحابه من جهة أخرى كتب كتاب الصلح بين الطرفين، وهذا نصه:

 (باسمك اللهم - هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو: اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض. على أنه لا أسلال ولا أغلال، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعهدها فعل. وإنه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه رده محمد إليه، وإنه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يردوه. وإن محمداً يرجع عنا عامه هذا بأصحابه ويدخل علينا في قابل في أصحابه فيقيم بها ثلاثا - لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر: السيوف في القرب(8) ).

(وفي رواية لمسلم من حديث أنس أن قريشاً صالحت النبي على أن من جاء منكم لا نرده إليكم ومن جاءكم منا رددتموه إلينا. فقالوا يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال نعم... فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه. فأبى سهيل بن عمرو إلا ذلك. فكاتبه النبي على ذلك، فقال المسلمون متعجبين: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ وكان ممن قال ذلك عمر بن الخطاب.

 

وفي رواية أن عمر قال يا رسول الله أترضى بهذا؟ فتبسم رسول الله وقال من ذهب منا إليهم فقد أبعده الله، ومن جاء منهم إلينا رددناه فسيجعل الله لهم فرجا ومخرجا(9) ).

(فلما فرغ رسول الله من الكتاب وانطلق سهيل بن عمرو وأصحابه قال رسول الله لأصحابه قوموا فانحروا واحلقوا وحلوا فلم يجبه أحد إلى ذلك. فرددها ثلاثا فلم يفعلوا. فدخل على أم سلمة - وهو شديد الغضب - فاضطجع. فقالت مالك يا رسول الله! مراراً ولم يجبها. ثم قال: عجبا يا أم سلمة!! إني قلت للناس انحروا واحلقوا وحلوا مراراً فلم يجبني أحد من الناس وهم يسمعون كلامي وينظرون في وجهي. فقالت يا رسول الله انطلق أنت إلى هديك فانحره فإنهم سيقتدون بك.

فاضطبع بثوبه وخرج وأخذ الحربة ويمم هديه وأهوى بالحربة إلى البدنة رافعاً صوته بسم الله والله أكبر - ونحر. فتواثب المسلمون إلى الهدى وازدحموا ينحرون.. فلما فرغ رسول الله من نحر البدن دخل قبة له من أدم حمراء فيها الحلاق فحلق رأسه، ثم أخرج رأسه من قبته وقال رحم الله المحلقين والمقصرين... فحلق ناس وقصر آخرون(10) ).

وبعد أن انتهى النبي من ذلك كله (قال عمر ورجال آخرون: يا رسول الله ألم تكن حدثتنا أنك تدخل المسجد الحرام وتأخذ مفتاح الكعبة وتعرف مع المعرفين؟ وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحن؟ فقال عمر لا. فقال الرسول إنكم ستدخلون وآخذ مفتاح الكعبة وأحلق رأسي ورؤوسكم ببطن مكة وأعرف مع المعرفين.

ثم أقبل على عمر وقال: أنسيتم يوم أحد؟ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد!! وأنا أدعوكم في أخراكم! أنسيتم يوم الأحزاب! إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم! وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر(11) !!).

(وروى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن جارية الأنصاري الأوسى - قال: شهدنا الحديبية. فلما انصرفنا منها وجدنا رسول الله واقفاً عند كراع الغميم... وقد جمع الناس وقرأ عليهم: إنا فتحنا لك فتحاً مبينا... لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريبا. السورة التي نزلت عند اتصرافهم من الحديبية. فقال رجل يا رسول الله أو فتح هذا؟ قال أي والذي نفسي بيده إنه لفتح.

وروى موسى بن عقبة والزهري والبيهقي عن عروة بن الزبير قال: أقبل النبي راجعاً فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت، وصد هدينا، ورد رسول الله رجلين من المسلمين كانا خرجا إليه - أبا جندل بن سهيل بن عمرو وأبا بصير -. فبلغ النبي قول ذلك الرجل فقال بئس الكلام، بل هو أعظم الفتح(12) ).

لا شك أن القارئ قد لاحظ معنا - في قضية الحديبية التي ذكرناها - جملة أمور على جانب كبير من الخطورة. فقد تعرض النبي إلى عدد من الصعوبات والمشاكل التي أثارها خصومه من جهة، وبعض أنصاره - وفي مقدمتهم عمر من جهة أخرى. غير أن رسول الله - كما لاحظنا - قد تغلب على ذلك كله بالوحي الذي نزل عليه آنذاك أولا وقبل كل شيء. فقد حبس ناقته - كما رأينا. حابس الفيل عن مكة، ونزل قرآن يأمره بإقامة صلاة الخوف أثناء تلك المحنة، وكانت سورة الفتح خاتمة المطاف. أما على فلم يحصل له شيء من هذا القبيل أثناء التحكيم.

 

٦ - قصة الرجل الذي أمر النبي بالتقوى: ذكر مسلم عن أبي سعيد الخدري. (قال: بعث على - وهو باليمن - بذهبة وهي بتربتها إلى رسول الله. فقسمها رسول الله بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة وزيد الخير. فغضبت قريش وقالوا: يعطى صناديد نجد ويدعنا!! فقال رسول الله إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم. فجاء رجل وقال اتق الله يا محمد. فقال رسول الله فمن يطع الله إن عصيته!! يأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟ وهناك حوادث أخرى تجري هذا المجري. نذكر منها ما يلي:

(١) جلس النبي بعد غزوة الطائف (وفي ثوب بلال فضة يقبضها للناس على ما أراه رسول الله. فأتى ذو الخويصرة التميمي - واسمه حرقوص - فقال اعدل يا رسول الله. فقال ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل(13) .

 

(ب) (وقال معتب بن قشير العمري (بعد الطائف - والرسول يعطى العطايا): إنها العطايا ما يراد بها وجه الله!! فتغير لونه، ثم قال: يرحم الله أخي موسى فقد أوذى بأكثر من هذا فصبر(14) ).

 

(ج) ذكر الغزالي في إحياء علوم الدين (ج ٢ ص ٢٥٣) أنه (أتى رسول الله بقلادة من ذهب وفضة فقسمها بين أصحابه فقام رجل من أهل البادية فقال يا محمد والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل!! فقال ويحك فمن يعدل عليك بعدي؟...

وروى جابر أن الرسول كان يقبض الناس - يوم خيبر - من فضة في ثوب بلال، فقال له رجل: يا رسول الله إعدل.

وروى المؤلف المذكور (المصدر السابق ج ٢ ص ٢٥٤) شيئاً آخر يجرى هذا المجرى حين قال: (جاء إعرابي يطلب من الرسول شيئاً، فأعطاه ثم قال له أحسنت إليك؟ قال الأعرابي لا ولا أجملت. فغضب المسلمون وقاموا إليه. فأشار إليهم النبي أن كفوا. ثم قام النبي ودخل منزله وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئاً. ثم قال أحسنت إليك؟ قال نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. فقال له النبي إنك قلت ما قلت، وفي نفس أصحابي منك شيء من ذلك فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك!! قال نعم.

فلما كان الغد أو العشى جاء، فقال النبي إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضى - أكذلك؟ فقال الأعرابي نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. فقال النبي إن مثلي ومثل الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحب الناقة ك خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها وأعلم. فتوجه لها صاحب الناقة فأخذ من قمام الأرض فردها هوناً هوناً حتى استناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها).

لقد ذكرنا بأن هناك وجوهاً أخرى تتماثل فيها السيرتان - سيرة النبي وسيرة الإمام - لم يشر إليها أبو جعفر النقيب. وإلى القارئ أهم ما عثرنا عليه منها:

١ - خروج النبي مهاجراً من مكة إلى المدينة، وخروج على من المدينة إلى الكوفة.

٢ - ظهور المستهزئين بالنبي، من كفار قريش، وظهور زملائهم من الخوارج: مع التشابه الكبير بين موقف النبي من المستهزئين وموقف الإمام من الخوارج المستهزئين.

٣ - تأليب الأمويين الناس على حرب النبي وحرب على على السواء، قاد أبو سفيان المشركين لحرب الرسول وقاد ابنه معاوية الناس لحرب الإمام(15) .

٤ - تحمس أصحاب النبي - بعد ظفرهم ببدر - للخروج إلى أحد. وتحمس أصحاب الإمام - بعد ظفرهم بالجمل - للخروج إلى صفين.

٥ - التشابه بين مواقع رايات الإمام - اثناء حربه مع مناوئيه - وبين مواقع رايات النبي في حربه المشركين.

٦ - التشابه بين فتح النبي مكة وسيرته فيها وبين فتح على البصرة وسيرته فيها.

٧ - هذا التراث اللغوي الفكري الرائع الذي خلفه النبي في أحاديثه وخلفه على في (نهجه).

٨ - تماثل السيرتين في الخلق والسياسة العامة.

(ا) تطبيق حدود الله على المستحقين من الناس دون استثناء.

(ب) المساوة في العطاء.

(ج) المروءة وسعة الصدر. وإلى القارئ تفصيل ما ذكرناه.

 

١ - هاجر النبي من مكة إلى المدينة عندما تآمر عليه كفار قريش ليقتلوه فوجد في المدينة أنصاراً بذلوا للمحافظة عليه وصيانة دعوته حياتهم وأموالهم. وخرج على إلى الكوفة عندما تآمر عليه أصحاب الجمل، فوجد فيها أنصاراً ومحبين - غير الذين أفسدهم دعاة الأمويين وغير المخذلين وفي مقدمتهم أبو موسى الأشعري - بذلوا في سبيل نصرته أموالهم وأرواحهم.

٢ - تعرض رسول الله إلى أذى جماعة من الأوباش أطلق عليهم مؤرخو المسلمين اسم المستهزئين - وفي مقدمتهم العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، والحكم ابن أبي العاص أبو مروان، وتعرض على إلى أذى مجموعة من الأوباش أطلق عليهم اسم الخوارج. وكان رسول الله حليما مع المستهزئين إلى أقصى حدود الحلم. وسار على على منواله.

وبما أن المستهزئين كانوا أفرادا متفرقين، وكان أذاهم منصباً على شخص النبي في الأمم الأغلب - بسبب رسالته بالطبع - لذلك نجده يقف منهم موقف المتسامح، لذاته، المتعالي بنفسه. وإلى هذا الحد يصدق الشيء نفسه على الإمام.

ولما تجاوز إعتداء الخوارج حدود شخص الإمام فشمل المسلمين وعرض أمن البلاد إلى الاضطراب والفوضى، والعقيدة الإسلامية إلى الاعتداء نهض الإمام فوضع في رقابهم السيف، كما فعل النبي قبل ذلك مع المستهزئين.

٣ - تعرض رسول الله لفتنة مصلحة قادها الأمويون ضده تحت زعامة أبي سفيان، وتعرض على لفتنة مسلحة قادها الأمويون ضده تحت زعامة معاوية بن أبي سفيان. وقد أنكر أبو سفيان على النبي نبوته، كما أنكر معاوية على على خلافته. وحارب أبو سفيان النبي رافعاً اللات والعزى بين يديه، وحارب معاوية علياً وبيده قميص عثمان.

٤ - تحمس أصحاب النبي للخروج إلى المشركين في أحد، وتحمس أتباع الإمام لملاقاة القاسطين في صفين. وأراد أصحاب النبي جهاد المشركين: إما الظفر أو الاستشهاد في ساحات القتال، وأراد أصحاب على (جهاد) القاسطين: إما الظفر أو الاستشهاد في ساحات القتال. (فقال مالك بن سنان - أبو أبي سعيد الخدري - يا رسول الله نحن بين إحدى الحسنين: إما أن يظفرنا الله بهم - فهذا الذي نريده، والأخرى يا رسول الله يرزقنا الله الشهادة. والله يا رسول الله لا أبالي أيهما كان: إن كلا لفيه الخير.

وقال النعمان بن مالك بن ثعلبة - أخو بني سالم - يا رسول الله لا تحرمنا الجنة، فو الذي لا إله إلا هو لأدخلنها.

وقال خيثمة - أبو سعيد - يا رسول الله إن قريشاً مكثت حولا تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن تبعها من أحابيشها. ثم جاؤونا. فلنخرج إليهم:

عسى الله أن يظفرنا بهم أو تكون الأخرى وهي الشهادة. لقد أخطأتي وقعة بدر وقد كنت عليها حريصاً.

وقال أنس بن قتادة: يا رسول الله هي إحدى الحسنين: إما الشهادة وإما الغنيمة والظفر بهم(16) ).

وقال عمار بن ياسر لعلى: (يا أمير المؤمنين إن استطعت ألا تقيم يوماً واحداً فافعل. اشخص بنا قبل استعار نار الفجرة واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة. فوالله إن سفك دمائهم والجد في جهادهم لقربة عند الله، وهو كرامة... وقال قيس بن سعد بن عبادة: يا أمير المؤمنين انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرد. فو الله لجهادهم أحب إلى من جهاد الترك والروم لإدهانهم في دين الله واستذلالهم أولياء الله.

وقال عتبة بن جويرية... قد كنت أتمنى الشهادة وأتعرض لها في كل حين فأبى الله إلا أن يبلغني هذا اليوم. ألا وإني متعرض ساعتي هذه لها وقد طمعت ألا أحرمها. فما تنتظرون عباد الله من جهاد أعداء الله (17) .)

كان ذلك قبل الخروج للمعركتين: أحد وصفين. أما أثناء وقوعهما فمن أروع ما عثرنا عليهم (في أحد) قصة عمرو الجموح (وكان عمرو الجموح رجلا أعرج. فلما كان يوم أحد - وكان له بنون أربعة يشهدون مع النبي أمثال الأسد - أراد بنوه أن يحبسوه... فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله إن أولادي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة فقال رسول الله أما أنت فقد عذرك الله، ولا جهاد عليك. فأبى عمرو إلا الخروج معهم إلى أحد.

فقال أبو طلحة نظرت إلى عمرو بن الجموح في الرعيل الأول يقول أنا والله مشتاق إلى الجنة، وإبنه في أثره حتى قتلا)(18) .

وفي صفين (خرج ابن مقيد الحمار الأسدي - وكان ذا بأس وشجاعة - وهو من أهل الشام فنادى ألا من مبارز؟ فقام المقطع العامري، وكان شيخاً كبيراً فقال له على أقعد إنك شيخ كبير... فقال يا أمير المؤمنين والله لا تردني: إما أن يقتلني فأتعجل الجنة، أو أقتله فأريحك منه.

وقال أبو عرفاء - جبلة بن عطية الذهلي - الحصين بن المنذر يوم صفين: هل لك أن تعطيني رايتك أحملها فيكون لك ذكرها ويكون لي أجرها؟ فقال الحصين وما غناى يا عم عن أجرها مع ذكرها. فقال لا غنى بك عن ذلك. أعرها إلى عمك ساعة فما أسرع ما ترجع إليك!!

فعلم أنه يريد أن يستقتل. قال فما شئت. فأخذ الراية أبو عرفاء وقال يا أهل هذه الراية إن عمل الجنة كره كله، وهو ثقيل... وإن الجنة لا يدخلها إلا الصابرون الذين صبروا أنفسهم على فرائض الله وأمره، وليس شيء مما افترض الله على عباده أشد من الجهاد... فإذا رأيتموتي قد شددت فشدوا. ويحكم!! ما تشتاقون إلى الجنة!! فقاتل أبو عرفاء حتى قتل)(19) .

٥ - سعى على إلى الاقتداء برسول الله في كل شيء حتى في مواقع راياته بالنسبة لمواقع رايات خصومه. فركز راياته - في صفين مثلاً - في الاتجاه الذي كان الرسول يضع راياته فيه أثناء حربه مع المشركين، ووضع معاوية راياته في مواقع رايات أسلافه المشركين.

ذكر أسماء بن حكيم الفزاري - على ما يروى نصر بن مزاحم(20) ، قال:

(كنا بصفين - مع على - تحت راية عمار بن ياسر ارتفاع الضحى وقد استضللنا برداء أحمر إذ أقبل رجل يستقرى الصف حتى انتهى إلينا وقال: أيكم عمار ابن ياسر؟ فقال عمار أنا. قال أبو اليقظان؟ قال نعم. قال إن لي إليك حاجة، أفأنطق بها سراً أو علانية؟ قال اختر لنفسك أيهما شئت. قال لا بل علانية. قال فانطق بها. قال إني خرجت من أهلي مستبصراً حتى ليلتى هذه فإني رأيت مناديا تقدم فأذن وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونادى بالصلاة. ونادى ماديهم مثل ذلك. ثم اجتمعت الصلاة فصلينا صلاة واحدة وتلونا كتابا واحداً: ودعونا دعوة واحدة.

فأدركني الشك في ليلتي هذه. فبت بليلة لا يعلمها إلا الله حتى أصبحت فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له. فقال هل لقيت عمار بن ياسر؟ قلت لا. قال فالقه فانظر ماذا يقول لك عمار فاتبعه. فجئتك لذلك.

قال عمار: تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي؟ فإنها راية عمرو بن العاص قاتلها رسول الله ثلاث مرات وهذه الرابعة - فما هي بخيرهن ولا أبرهن بل شرهن وأفجرهن. أشهدت بدراً واحداً ويوم حنين؟ أو شهدها أب لك فيخبرك عنها؟ قال لا. قال فإن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين، وإن رايات هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب).

٦ - دخل النبي مكة فاتحاً بعد أن استعمل قسم كبير من أهلها شتى صنوف القسوة والاعتداء عليه (ولكنه عاملهم بالصفح والتسامح. وسار على على منواله عندما دخل البصرة ظافراً بعد معركة الجمل. فعفا رسول الله عن هند أم معاوية وعن زوجها أبي سفيان، وعن هبار الأسود الذي اعتدى على زينب ابنته - ومن هم على شاكلتهم من الطلقاء.

ولما دخل على البصرة ذهب إلى عائشة - وهي في دار عبد الله بن خلف... وكانت صفية زوج عبد الله مختمرة... فلما رأته كلمته بكلام غليظ. فلم يرد عليها شيئا، ودخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها. ثم قال جبهتنا صفية... فلما خرج أعادت صفية عليه قولها. فكف بغلته وقال هممت أن افتح هذا الباب - وأشار إلى باب الدار - وأقتل من فيه، وكان فيه ناس من الجرحى، فأخبر بمكانهم فتغافل عنهم... وكان مذهبه ألا يقتل مدبراً ولا يذفف على جريح ولا يكشف ستراً ولا يأخذ مالا.

ولما خرج على قال له رجل من أسد: والله لا تغلبنا هذه المرأة.

فقال لا تهتكن ستراً ولا تدخل داراً ولا تهيجن امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحاءكم.

ومضى فلحقه رجل فقال: يا أمير المؤمنين قام رجلان على الباب فتناولا من هو أمض شتمالك من صفية.

قال ويلك!! لعلها عائشة! قال نعم. فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب فأقبل بمن كان عليه. فأحالوا رجلين عن أزد الكوفة - وهما عجلان وسعد ابنا عبد الله فضربهما مئة سوط وأخرجهما من ثيابهما.

ثم جهز عائشة بكل ما ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع، وبعث معها كل من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام، وأعد لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات. وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر... وشيعها على أميالا وسرج بنيه معها يوما (21) ).

٧ - ومن أبرز الأدلة على تشابه السيرتين هذا التراث الخالد - في التفكير والتعبير - الذي خلفه النبي في أحاديثه وخطبه ورسائله والذي تركه على في رسائله وخطبه وأقواله.

فقد جاءت أحاديث الرسول - وخطبه - ورسائله آية في روعة الأداء وسمو المعنى ونفاذ البصيرة في مكنونات النفس البشرية وتحليل نوازعها ودوافعها وعمق المعرفة في أثر البيئة في الفرد من الناحية الفكرية والعاطفة وفي التوجيه السليم من الناحيتين الفردية والاجتماعية.

وقد سار على على منوله وافتفى أثره إلى حد يستحيل معه على الباحث - في كثير من الأحيان - أن يميز بين ما تركه على - في هذا الباب - وبين ما خلفه رسول الله.

٨ - وهناك جوانب أخرى تتماثل فيها السيرتان كل التماثل بحيث تصبح إحداهما صورة الأخرى للثانية: فتتماثل السيرتان في تطبيق حدود الله على المستحقين، وفي المساواة في العطاء والمعاملة بين المسلمين من خضد شوكة العصبية الجاهلية فيما يتصل بموقف العرب المسلمين من المسلمين غير العرب، وفي موقف قريش من سائر العرب وفي موقف ذوى الأحساب والمكانة من قريش تجاه ذوى الأحساب المتواضعة والمكانة غير المرموقة (بمقاييس العهد الجاهلي).

ويتجلى التماثل بين السيرتين كذلك في المروءة والإسماح أو العفو وسعة الصدر والوفاء بالعهد للخصوم. والأمثلة على ذلك تكاد لا تقع تحت حصر. نذكر منها الأمثلة التالية:

(قال أبو سفيان لنفر من قريش (ألا أحد يقتل محمداً؟ فإنه يمشى في الأسواق فأتاه رجل من الأعراب - في منزله - فقال قد وجدت أجمع الرجال قلباً وأشدهم بطشاً وأسرعهم شداً - أي جريا - فإن أنت قويتني خرجت إليه حتى اغتاله، ومعي خنجر مثل خافية النسر.

فقال أبو سفيان أنت صاحبنا. فأعطاه بعيراً ونفقة، وقال اطو أمرك. فخرج ليلا... ثم أقبل يسأل عن رسول الله حتى دل عليه... فأقبل على رسول الله وهو في مسجد بني عبد الأشهل، فأقبل الرجل ومعه خنجر ليغتاله... فذهب لينحنى على رسول الله فجذبه أسيد بن حضير بداخلة إزاره - أي طرفه وحاشيته - فإذا بالخنجر. فأسقط في يده - أي ندم - فقال رسول الله أصدقني ما أنت؟ قال وأنا آمن!! قال نعم. فأخبره بخبره. فخلى سبيله.(22)

وذهب النبي إلى سعد بن عبادة يعوده من شكوى أصابته (فمر بعبد الله بن أبي وحوله رجال من قومه. فلما رآه رسول الله نزل فسلم ثم جلس قليلا فتلا القرآن ودعا إلى الله. حتى إذا فرغ قال ابن أبي إنه لا أحسن من حديثك!! إن كان حقاً فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدثه إياه ومن لم يأتك فلا تغته به ولا تأتيه في مجلس بما يكره منه... فقام رسول الله فدخل على سعد بن عبادة.)(23)

وعندما أراد الرسول المسير إلى آحد لمقابلة المشركين قال لأصحابه: (من رجل يخرج بنا على القوم من كثب من طريق لا يمر بنا عليهم؟ فقال أبو خيثمة - أخو بني حارثة - بن الحرث: أنا يا رسول الله. فنفذ في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي - وكان رجلا منافقا ضرير البصر - فلما سمع حس رسول الله ومن معه من المسلمين قام يحثو التراب في وجوههم، وأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال والله لو أنى أعلم لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك؟ فابتدره القوم ليقتلوه. فقال رسول الله لا تقتلوه.)(24)

واقترح أحدهم على النبي أن يأتي عبد الله بن أبي سلول (متألفاً له ليكون ذلك سبباً لإسلام من تخلف من قومه وليزول ما عنده من النفاق. فانطلق رسول الله وركب حماراً، وانطلق المسلمون يمشون معه فلما أتاه النبي قال: إليك عني لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك. فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه. فغضب لكل واحد منهما أصحاب فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال. فكفهم رسول الله وعفا عنه)(25) .

ذلك ما يتعلق بالنبي. أما ما يتصل بعلي فهو كثير. وقد مر بنا ذكر جانب منه ويتجلى ضبط الإمام لأعصابه وعفوه وسعة صدره في مواقفه من الخوارج على باطلهم.

وإلى القارئ مثلا واحداً من مئات الأمثلة في هذا الباب:

دخل أحد الخوارج مسجد الكوفة وعلى فيه (والناس حوله. فصاح لا حكم إلا لله ولو كره المشركون فتلفت الناس. فنادى لا حكم إلا لله ولو كره المتلفتون فوجه على برأسه إليه. فقال لا حكم إلا لله ولو كره أبو حسن. فقال على إن أبا الحسن لا يكره أن يكون الحكم لله.

وكان على يوما يؤم الناس - وهو يجهر بالقراءة - فجهر ابن الكواء من خلفه: ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين. فلما جهر ابن الكواء بها - وهو خلفه - سكت على فلما أنهاها ابن الكواء عاد على فأتم قراءته. فلما شرع على في القراءة أعاد ابن الكواء الجهر بتلك الآية. فسكت على فلم يزل كذلك مراراً حتى قرأ على: فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. فسكت ابن الكواء، وعاد على إلى قراءته)(26) .

أما الوفاء بالعهد فيتجلى - في السيرتين - بأروع أشكاله في القصتين التاليتين:

ذكر البخاري في صحيحه (ج ٢ ص ٨٩) بأسانيده المختلفة عن خذيفة بن اليمان انه قال:

(ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبو حسيل فأخذنا كفار قريش فقالوا إنكم تريدون محمداً!! فقلنا إننا ما نريده، نريد المدينة. فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله فخبرناه الخبر فقال انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عزوجل).

وحدث مثل ذلك لعلى في حرب البصرة فوقف منه كموقف الرسول كما ذكرنا قال الأحنف بن قيس بينما أنا في البصرة (إذ أتاني آت فقال هذه عائشة وطلحة والزبير قد نزلوا جانب الحريبة. فقلت ما جاء بهم؟ قالوا أرسلوا إليك يستنصرون بك على دم عثمان. فقلت لهم اختاروا مني واحدة من ثلاث خصال: إما أن تفتحوا لي جسراً فألحق بأرض العجم حتى يقضى الله من أمره ما قضى، أو ألحق بمكة فأكون فيها حتى يقضى الله من أمره ما قضى، أو أعتزل فأكون قريباً. قالوا نأتمر ثم نرسل إليك. فائتمروا وقالوا اجعلوه ههنا قريباً. فاعتزلت بالجلجاء من البصرة على فرسخين. وقدم على فنزل الزاوية وأقام أياماً. فأرسلت إليه إن شئت أتيتك!! فأرسل إلى علي: كيف بما أعطيت من أصحابك من الاعتزال؟ قلت إن من الوفاء لله قتالهم. فأرسل إلى أن كف من قدرت عليه)(27) .

تلك هي أهم وجوه التشابه بين سيرة النبي وسيرة ابن عمه. ترى لماذا أخفق خصوم النبي في القضاء عليه أو تعطيل رسالته، ولم يخفق خصوم الامام؟ وبعبارة أخرى: لماذا لم يتسع المقام لعلى لنشر رسالته المستندة إلى القرآن وسنة النبي؟ هناك على ما أرى أربعة عوامل كبرى أدت إلى ذلك:

أولا - كان المجال الذي تحدث فيه تصرفات الرسول أوسع مدى من المجال الذي تحدث فيه تصرفات الإمام. وكان الوحي بجانب النبي ينزل عليه بالتدريج وبصورة مستمرة، ولم يفارقه منذ نبوته حتى وفاته فكان الوحي ينزل عليه طريا في كل مناسبة ليعين له النهج الذي ينبغي له أن يسير عليه - في حياته الخاصة والعامة مع خصومه وأنصاره على السواء.

وكان ذلك كله يحدث بالطبع ضمن نطاق الاسلام الذي كان آنذاك في طريقه إلى النمو والتكامل. فكان الوحي يخرج النبي من المآزق الحرجة - في حالة مواجهته إياها - أحياناً، ويعمل على صيانته من التعرض لها - قبل وقوعها - أحيانا أخرى. وهذا يعني أن إطار تصرفات النبي كان يتسع بصورة مستمرة:

يتكيف للزمان والمكان أحياناً، ويكيفهما له أحياناً أخرى - حسب مستلزمات المصلحة العليا للدين الحنيف.

أما على فكان يتصرف ضمن حدود الإطار الثابت الذي خلفه له النبي في القرآن والسيرة المحمدية.

ولقد كان بإمكانه - لو أراد - أن يخرج على تلك الحدود (إذا استلزمت مصلحة زمنية عارمة) كما فعل غيره من الخلفاء. ولكنه بفي مقيدا بقيود الدين في تصرفاته العامة والخاصة مع خصومه وأنصاره على السواء. فإذا حصل خلاف بين على وبين خصومه من جهة، أو بينه وبين أتباعه من جهة ثانية استعان على بنصوص قرآنية ثابتة وبتصرفات محمدية هي الأخرى ثابتة أيضاً. على حين أن خصومه والمعارضين من أتباعه يلجأون إلى المغالطة والدس والتضليل لأنهم يؤمنون - في الظاهر - بما هو مؤمن به، ولا ينكرون تلك النصوص القرآنية والتصرفات المحمدية بل يفسرونها لصالحهم أو لغير صالحه(28) .

أي أن الرسول كان مشرعاً - بأمر الله بالطبع - ولم يكن على كذلك. وإلى القارئ نماذج مما ذكرناه سقناها على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:

١ - فيما يتصل بالعبادات: لم يكن بإمكان على - دون أن يتعرض لنقد أو تجريح أو تكفير - مثلا أن يصلى العصر بعد المغرب، أو أن يصلى الصبح بعد فوات أو انه، أو أن يصلى العصر بجماعة من المسلمين بطريقة غير مألوفة، أو أن يصلى دون وضوء، أو أن يفطر يوماً من رمضان - بعد الظهر - ويستمر على ذلك الإفطار مدة تتجاوز نصف رمضان، أو أن يحول قبلة المسلمين.

أما النبي فقد فعل ذلك كله بأمر من الله - عندما استلزمت ذلك المصلحة العليا للدين بالطبع. وإلى القارئ تفاصيل ذلك.

روى صاحب السيرة(29) (أن رسول الله صلى المغرب فلما فرغ قال: أحد منكم علم أني صليت العصر. قالوا يا رسول الله ما صلينا لا نحن ولا أنت. فأمر المؤذن فأقام الصلاة فصلى العصر ثم أعاد المغرب)(30) .

واستيقظ النبي في إحدى غزواته بعد فوات صلاة الصبح فقال: لا ضير ارتحلوا فارتحلوا. فسار غير بعيد ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودى بالصلاة فصلى بالناس.

وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعض الصحابة: وبعد أن صلينا وركبنا جعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما ضعناه بتفريطنا في صلاتنا؟ فقال النبي ما هذا الذي تهمسون دوني؟ فقلنا يا رسول الله بتفريطنا في صلاتنا. قال أما لكم في أسوة حسنة. ثم قال ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت أخرى)(31) .

وتفصيل ما ذكرناه - في رواية أبي قتادة(32) . بينما نحن نسير مع رسول الله وهو قافل من تبوك وأنا معه إذ خفق خفقة - أي نام نومة خفيفة - وهو على راحلته فمال على شقه. فدنوت منه فدعمته فانتبه فقال من هذا؟ قلت أبو قتادة يا رسول الله خفت أن تسقط فدعمتك... ثم سار غير كبير، ثم فعل مثلها فادعمته فانتبه فقال:

يا أبا قتادة هل لك في التعريس؟ - أي الاستراحة لما تبقى من الليل - فقلت ما شئت يا رسول الله. فقال أنظر من خلفك؟ فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة. فقال أدعهم. فقلت أجيبوا رسول الله، فجاؤا فعرسنا، ونحن خمسة ومعي إدارة فيها ماه فنمنا فما انتهينا إلا بحر الشمس. فقلت إنا لله! فاتنا الصبح. فقال رسول الله لنغيظن الشيطان كما أغاظنا. فتوضأ من ماء الإداوة... ثم صلى بنا الفجر بعد طلوع الشمس... وركب فلحق الجيش عند زوال الشمس، ونحر معه.

وحانت صلاة الظهر أثناء الحديبية (فصلاها النبي بالمسلمين فقال خالد بن الوليد وهو على شركه - قد كانوا على غرة لو حملنا عليهم أصبنا منهم. ولكن ستأتى الساعة صلاة أخرى فنزل جبرائيل بين الظهر والعصر بقوله تعالى: وإذا كنت فيهم فأقمت الصلاة فلتقم طائفة منهم معك - الآية.

فحانت صلاة العصر والعدو وجهه للقبلة فصلى النبي صلاة الخوف: فرتب القوم صفين وصلى بهم. فلما سجد سجد معه صف وحرس صف. فلما قام - هو ومن سجد معه - سجد من حرس ولحقوه. وسجد معه في السجدة الثانية من حرس أولا وحرس الآخرون. فلما جلس سجد من حرس. وتشهد بالصفين وسلم. وهذه الكيفية تعرف بصلاة عسفان)(33) .

وقد ذكر ذلك بشيء من الاختلاف المقريزي (إمتاع الأسماع ج ١ ص ١٨٨ - ١٩١).

ثم كانت غزاة ذات الرقاع سنة ٤ هـ وسببها ان قادماً قدم بجلب له - أي ما يجلب من خيل وإبل - من نجد إلى المدينة وأخبر أن بني أنمار بن بغيض وبني سعد بن ثعلبة قد جمعا لحرب المسلمين. فخرج النبي في أربعمائة. وصلى صلاة الخوف، فكان أول ما صلاها يومئذ. وقد خاف أن يغيروا عليه - وهم في الصلاة - فاستقبل القبلة وطائفة خلفه وطائفة مواجهة العدو. فصلى بالطائفة التي خلفه ركعة وسجدتين ثم سلموا وجاءت الطائفة الثانية فصلى بهم ركعة وسجدتين، والطائفة الأولى مقبلة على العدو. فلما صلى بهم ثبت جالسا حتى أتموا لأنفسهم ركعة وسجدتين. ثم سلم.

هكذا ذكر ابن اسحق والواقدي وغيرهما من أهل السير. وهو مشكل: فإنه قد جاء في رواية الشافعي وأحمد والنسائي عن أبي سعيد - أن رسول الله حبسه المشركون يوم الخندق عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً، وذلك قبل نزول صلاة الخوف.

قالوا نزلت صلاة الخوف بعسفان كما رواه أبو عياش الزرقي قال:

كنا مع النبي بعسفان فصلى بنا الظهر - وعلى المشركون يومئذ خالد بن الوليد - فقالوا لقد أصبنا منهم غفلة... ثم قالوا إن لهم صلاة بعد هذا هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم. فنزلت - يعني صلاة الخوف - بين الظهر والعصر. فصلى بنا العصر ففرقنا فرقتين. وقد ذكر خلاف ذلك أن صلاة عسفان كانت بعد الخندق فاقتضى هذا أن ذات الرقاع بعدها.. وقد قال بعض من أرخ أن غزوة ذات الرقاع حدثت أكثر من مرة: فواحدة كانت قبل الخندق وأخرى بعدها).

وفقدت السيدة عائشة عقداً لها في إحدى غزوات النبي - غير العقد الذي فعقدته في غزوة بني المصطلق التي نزلت فيها آيات الإفك - (فأرسل النبي في طلبه رجلين من المسلمين أحدهما أسيد بن حضير. فحضرت الصلاة. صلاة الصبح - وكانوا على غير ماء، فنزلت آية التيمم.

فعن عائشة قالت لما كان من أمر عقدى ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا فخرجت مع النبي في غزوة أخرى فسقط أيضاً عقدى حتى حبس التماسه الناس. وجاء الناس إلى أبي بكر وشكوا إليه ما نزل بهم. فجاء إلى عائشة - ورسول الله واضع رأسه الشريف على فخذها - فقال لها حبست رسول الله والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجعل يطعن بيده في خاصرتها ويقول: في كل سفرة تكونين عناء وبلاء. فاستيقظ رسول الله وحضرت الصلاة فلم يجد ماء فأنزل الله الرخصة بالتيمم. آية النساء. فقال أبو بكر عند ذلك - والله يا بني إنك - ما علمت - مباركة، وقال لها رسول الله ما أعظم قلادتك، وقال أسيد بن حضير ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر.. جزاك الله خيراً فما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله منه مخرجا وللمسلمين فيه خيراً(34) .

وخرج النبي إلى بدر في رمضان (فصام يوماً أو يومين ثم نادى مناديه يا معشر العصاة إني مفطر فافطروا - وذلك أنه قد كان قال لهم قبل ذلك أفطروا أفطروا فلم يفعلوا)(35) .

وخرج النبي إلى فتح مكة (يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان - بعد العصر ولما خرج من المدينة نادى مناديه من أحب أن يصوم فليصم ومن أحب أن يفطر فليفطر. وصام هو حتى إذا كان بالعرج صب على رأسه ووجهه الماء من العطش. فلما كان بالكديد - بين الظهر والعصر - أخذ إناء في يده حتى رآه المسلمون ثم أفطر تلك الساعة. ويقال كان فطر يومئذ بعد العصر. وبلغه أن قوماً صاموا فقال أولئك العصاة. وقال بمر الظهران: إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم)(36) .

ذلك ما يتصل بالصلاة والصيام. أما ما يتعلق بتغير القبلة فغن ابن اسحق قال عنه ما يأتى: (لما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة - على رأس سبعة عشر شهراً - من مقدم رسول الله المدينة. - أتى رسول الله رفاعة بن قيس وآخرون فقالوا يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها - وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ إرجع إلى قبلتك التي كنت عليها ونصدقك. فأنزل الله.

سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كنت عليها - قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم. وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً. وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.

ثم قال قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها: فول وجهك شطر البيت الحرام، وحيث كنتم فولوا وجهكم شطره)(37) .

أما كيف حصل ذلك من الناحيتين التشريعية النظرية والواقعية العملية فقد ذكره الزمخشري فقد جاء، من الناحية النظرية التشريعية، في سورة البقرة: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون. ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذن لمن الظالمين.

أما من الناحية العملية الواقعية: فعن البراء بن عازب (على رواية الزمخشري) قدم رسول الله المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً. ثم وجه وجهه إلى الكعبة. وقيل كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين ورسول الله في مسجد بني سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فسمى المسجد مسجد القبلتين).

٢ - فيما يتصل بالحروب: لم يكن باستطاعة على أن يحارب خصومه بأمر من الله ينزل خصيصاً لذلك، ولم ينزل قرآن في وصف خصومه وموقف أنصاره منه أثناءها، ولم يؤذن له أن يقاتل خصومه في الأشهر الحرم، أو تحارب الملائكة إلى جانبه بحيث يراها بعض الناس، أو أن تنزل بحقه (براءة من الله لمن عاهدتم من المشركين) عندما ألح عليه الخوارج بضرورة استئناف القتال ضد أهل الشام بعد التحكيم.

ولكن ذلك كله قد حصل للرسول - وإليك تفاصيله:

ذكر ابن هشام(39) أنه لم يؤذن للرسول - قبل بيعة العقبة - أن يقاتل المشركون، بل كان يؤمن بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه - من المهاجرين - حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم عن بلادهم.

وكانت أول آية نزلت في إذنه له بالحرب أذن الله للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله... ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز... وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة).

أما ما نزل من الآيات أثناء معركة بدر وبعدها فقد ذكرناه.

(وكان مما أنزل الله في يوم أحد من القرآن ستون آية من آل عمران... فمنها): (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ٩ أي لكم تكون العاقبة (إن كنتم مؤمنين) أي إن كنتم صدقتم نبي بما جاءكم به عني - (إن يمسكم قرح) أي جراح (فقد مسّ القوم قرح مثله) - أي جراح مثلها -.

(وتلك الأيام نداولها بين الناس) - أي نصرفها بين الناس للبلاء والتمحيص - (وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) - أي ليميز بين المؤمنين والمنافقين ويكرم من أكرم من أهل الإيمان بالشهادة - والله لا يحب الظالمين - أي المنافقين الذين يظهرون بألسنتهم الطاعة وقلوبهم مصرة على المعصية - وليمحص الله الذين آمنوا - أي يختبرهم بالبلاء الذي نزل بهم وكيف صبرهم ويقينهم - ويمحق الكافرين - أي يبطل من المنافقين قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم حتى يظهر منهم كفرهم الذي يستترون به. ثم قال: - (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) -.. (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون).

أي لقد كنتم تمنون الشهادة على الذي أنتم عليه من الحق قبل أن تلقوا عدوكم، يعني الذين استنهضوا رسول الله إلى خروجه بهم إلى عدوهم لما فاتهم من حضور اليوم الذي كان قبله ببدر، ورغبة في الشهادة التي فاتتهم به.

ثم قال: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزى الله الشاكرين). أي لقول الناس قتل محمد وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوهم... (وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله كتاباً مؤجلا - أي لمحمد أجل هو بالغه فإذا أذن الله في ذلك كان. ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها وسيجزى الله الشاكرين(39) ).

أما الإذن للمسلمين بمقاتلة خصومهم في الأشهر الحرم فقد ذكره ابن هشام بقوله:

قال ابن إسحق: عاد إلى المدينة عبد الله بن جحش وأصحابه من الشرية التي أوفدها الرسول وقد قاتلوا عدوهم في الأشهر الحرم. فقال لهم النبي. ما أمرتكم بقتال في الأشهر الحرم. فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً. فلما قال ذلك رسول الله سقط في أيدي القوم... فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله: يسألونك عن الشهر الحرام قتال؟ قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله - أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله، مع الكفر، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم. والفتنة أشد من القتل - أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل. - ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا - أي ثم هم مقيمون على أخبث من ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين. -

فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه - حين نزل القرآن - طمعوا في الأجر فقالوا يا رسول الله أنطمع أن تكون لا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله:

(إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله يرجون رحمة الله والله غفور رحيم(40)). وأما قتال الملائكة في بدر فقد مر بنا ذكره. وإلى القارئ ذكر شهود العيان في هذا الصدد:

قال ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن ابن عباس قال حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف على بدر - ونحن مشركان - ننتظر على من تكون الدائرة فننهب من ننهب. فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها جمجمة الخيل فسمعت قائلا يقول أقدم حيزوم.

وقال ابن اسحق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة عن ابن أسيد - مالك بن ربيعة - وكان شهد بدراً قال بعد أن ذهب بصره: لو كنت اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك فيه ولا أتمارى).

وقال ابن هشام بإسناده إلى أبي داود المازني - وكان شهد بدراً - (قال إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفى. فعرفت أنه قتله غيري.

وقال ابن اسحق حدثني من لا أتهم عن مقسم مولى عبد الله بن الحرث عن عبد الله بن عباس قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيضاً قد أرسلوها على ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمراً(41) .

ويتصل بذلك ما يلي: (جلس النبي في المسجد يقسم غنائم تبوك فدفع لكل واحد سهما، ودفع لعلى سهمين، فقام زائدة بن الأكوع وقال يا رسول الله أوحى من السماء؟ أم أمر من نفسك؟ فقال النبي أنشدكم الله هل رأيتم في ميمنتكم صاحب الفرس الأغر المحجل والعمامة الخضراء بها ذؤابتان مرخاتين على كتفه، بيده حربة قد حمل بها على الميمنة؟ قالوا نعم. قال هو جبرئيل، وإنه أمرني أن أدفع سهمه لعلى. فقال زائدا حبذا سهم مسهم(42) .

وأما نزول براءة فإليك تفاصيله: نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم(43) : براءة من الله إلى الذين عاهدتم من المشركين - أي لأهل العهد العام من المشركين - فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزى الله وأن الله مخزى الكافرين. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر إن الله برئ من المشركين ورسوله. - أي بعد هذه الحجة - فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم. إلا الذين عاهدتم من المشركين. - أي العهد الخاص إلى الأجل المسمى - ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين.

فإذا انسلخ الأشهر الحرم - يعني الأربعة التي ضرب لهم أجلا - فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد.

ثم قال: كيف يكون للمشركين - الذين كانوا وأنتم على العهد العام أن لا يخيفوكم في الحرمة - ولا في الشهر الحرام - عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام. وهي قبائل من بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله وبين قريش فلم يكن نقضها إلا هذا الحي من قريش وبنو الديل من بني بكر بن وائل الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم وأمر بإتمام لمن لم يكن نقض من بني بكر إلى مدته. فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين.

ثم أمر الله رسوله بجهاد أهل الشرك ممن نقض العهد الخاص ومن كان من أهل العهد العام بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم آجالا أن يعدو فيها عاد منهم فيقتل بعدائه فقال: ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزيهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين(44).

وهناك أمر آخر يتصل بما ذكرنا أشد الاتصال. هو أن الرسول عند مقاتلته خصومه وانتصاره عليهم كان يقسم غنائم الحرب على أتباعه كما هو معلوم. هذا إلى أن كيفية التقسيم نفسها وإن كانت تجري ضمن الإطار العام للإسلام إلا أن النبي كان يدخل عليها تغييرات كبيرة وفقاً لمستلزمات الظروف وضمن ذلك الإطار.

وقد مر بنا ذكر إعطائه علياً سهمين من غنائم تبوك - وقد حرم النبي الأنصار بكاملهم - إلا رجلين محتاجين هما سهل بن حنيف وأبو دجانة - من غنائم بني النضير.

قال المقريزي(45) (فلما غنم رسول الله بني النضير بعث ثابت بن قيس بن شماس فدعا الأنصار كلها من الأوس والخزرج. فحمد النبي الله وأثنى عليه وذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وإثرتهم على أنفسهم. ثم قال: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله على من بني النضير!! وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكن في مساكنكم وأموالكم. ولو إن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم!!

فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول الله بل تقسمه المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار رضينا وسلمنا يا رسول الله... فقسم النبي ما أفاء الله عليه على المهاجرين دون الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف وأبو دجانة).

أما على فلم يكن باستطاعته أن يعتبر ما يتركه خصومه (بعد الحرب) غنائم حرب أو (أن يقسم ذلك على أتباعه) لأنهم مسلمون - في الظاهر - كما ذكرنا.

قال الغزالي(46) (بعث علي بن أبي طالب بن عباس إلى الخوارج فكلمهم فقال ما تنقمون على إمامكم؟ قالوا قاتل ولم يسب ولم يغنم. فقال ذلك في قتال الكفار.

أرأيتم لو سبيت عائشة في يوم الجمل فوقعت في سهم أحدكم أكنتم تستحلون منها ما تستحلون من ملككم؟ فقالوا لا. فرجع منها للطاعة ألفان وبقى آخرون).

 

٣ - نزول الوحي في المآزق الحرجة: لقد كان الرحى - كما ذكرنا - الرسول في المواقف الحرجة والأزمات التي تعرض لها مع خصومه وأنصاره على السواء. ولم يكن على كذلك بالطبع. وقد مر بنا جانب كبير من الأمثلة على ذلك.

وإلى القارئ الأمثلة التالية سقناها على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:

(ا) معركة بدر: قال المقريزي: (وجاءت ريح شديدة ثم هبت ريح أشد منها ثم هيت ريح ثالثة أشد منهما: فكانت الأولى جبرائيل في ألف من الملائكة مع رسول الله، والثانية ميكائيل في ألف عن ميمنته، والثالثة في ألف عن ميسرته.

ويقال نزل جبرائيل بألف من الملائكة في صور الرجال... وهم الآلاف المذكورة في آل عمران - الآيات من ١٢٣ - ١٢٧... وكان يحدث أن الملائكة(47) نزلت يوم بدر على خيل باق عليها عمائم صفر. وقال سهيل ابن عمرو: ولقد رأيت يوم بدر رجالا بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون.

وقال أبو أسيد الساعدي بعد أن ذهب بصره - لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة... وقال رسول الله إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة. قال أبو أسيد الساعدي فذهبنا إليه فإذا رأسه يقطر ماء).

 (ب) في أعقاب معركة أحد: جاء في سيرة دحلان (ج ٢ ص ٧٧) أنه (لما رجع المشركون عن أحد قالوا لا محمداً قتلتم ولا الكواعب أردفتم. بئسما صنعتم. إرجعوا. فسمع رسول الله بذلك فندب المسلمين فانتدبوا(48) فخرج بهم حتى بلغ حمراء الأسد - أو بئر أبي عتبة - فأنزل الله. الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم. وخرج رسول الله وهو مجروح في وجهه أثر الحلقتين، ورباعيته مكسورة وشفته السفلى مشقوقة وركبتاه مجرحتان من وقعة الحفيرة).

(ج) الخندق: (أنزل الله في شأن الخندق - يذكر نعمته وكفايته عدوهم بعد سوء الظن منهم ومقالة من تكلم بالنفاق - قوله: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيراً - الآيات من ٩ - ٢٧ من سورة الأحزاب(49) ).

(د) جوانب أخرى من الحديبية: جاء في السيرة الحلبية (ج ٣ ص ١٠، ٢٩) (وسبب غزوة الحديبية أن رسول الله راى في النوم أنه دخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، وأنه دخل البيت وأخذ مفتاحه. فتجهز المسلمون للسفر وخرج رسول الله معتمرا... فلما صدوا عن البيت قالوا له: أين رؤياك يا رسول الله؟ فأنزل الله: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق - الآية(50) ).

(فركض الناس وهم يقولون أنزل الله على رسوله، حتى توافوا عنده وهو يقرؤها.

ويقال لما نزل جبريل عليه قال أهنئك يا رسول الله. فلما هنأه جبريل هنأه المسلمون(51) ).

وكان الوحي بجانب النبي كذلك في موقفه من النساء اللائي جئن من معسكر المشركين. وملخص ذلك أنه لما كان النبي بالحديبية بعد الصلح الذي وقعه عن المشركين سهيل بن عمرو، والذي كان من شروطه كما ذكرنا أن لا يدخل النبي مكة في ذلك العام، وأن يرد النبي على المشركين من يأتيه منهم، ولا يرد المشركون إلى النبي من يأتيهم من أصحاب النبي، جاءته جماعة من النساء المؤمنات مهاجرات من مكة، من جملتهن سبيعة بنت الحرث. فأقبل زوجها مسافر المخزومي طالبا لها. وأراد

مشركو مكة أن يردهن النبي إلى مكة فنزل جبرائيل بهذه الآية. يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن. فإن علمتموهن مؤمنات فلا تردو من إلى الكفار لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن، وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن(52) ).

أما موقف النبي من المسلمين الفارين من قريش - بعد الحديبية - فكان مغايراً لموقفه من المسلمات كما رأينا. وقد مر بنا ذكر جانب منه عندما تحدثنا عن قصة أبي جندل أثناء الحديث عن الحديبية. وإلى القارئ قصة أبي بصير.

قال المقريزي(53) (ولما قدم رسول الله المدينة من الحديبية جاءه أبو بصير - عتبة بن أسيد -... مسلماً قد انفلت من قومه وسار على قدميه سبعاً وكتب الأخنس بن شريق وأزهر بن عبد عوف الزهري إلى رسول الله كتاباً مع حنيس بن جابر من بني عامر، واستأجراه ببكرين لبون وحملاه على بعير. وخرج معه مولى يقال له كوثر. وفي كتابهما ذكرا الصلح وأن يرد عليهم أبابصير. فقد ما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. فقرأ أبي بن كعب الكتاب على رسول الله فإذا فيه. قد عرفت ما شار طناك عليه وأشهدنا بيننا وبينك من رد من قدم عليك من أصحابنا فابعث إلينا أبا بصير. فأمر رسول الله أبا بصير أن يرجع معهم، ودفعه إليهما.

فقال أبو بصير يا رسول الله أتردني إلى المشركين يفتنوني في ديني!! فقال يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر. وإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا).

(هـ) غزوة بئر معونة. (ثم كانت غزوة بئر معونة - وهي ماء لبني عامر ابن صعصعة -... في صفر على رأس سنة ثلاثة وثلاثين شهراً. وسببها أن عامر بن مالك... قدم على رسول الله وأهدى له فرسين وراحلتين فقال الرسول لا أقبل هدية مشرك. وردهما وعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال يا محمد إني أرى أمرك هذا حسناً شريفاً، وقومى خلفي فلو أنك بعثت نفراً من أصحابك معي لرجوت أن يجيبوا دعوتك ويتبعوا أمرك.

فقال النبي إني أخاف عليهم أهل نجد. فقال عامر لا تخف عليهم أنا لهم جار أن يعرض لهم أحد من أهل نجد. وكان من بينهم سبعون رجلا شببة - أي شباناً - يسمون القراء... فبعثهم النبي... وكتب معهم كتابا... حتى إذا كانوا ببئر معونة.. عسكروا بها... وقدموا حرام بن ملحان الأنصاري بكتاب رسول الله إلى عامر بن الطفيل في رجال من بني عامر. فلم يقرؤا الكتاب ووثب عامر بن الطفيل على حرام فقتله واستصرخ قبائل بني سليم فنفروا معه حتى وجدوا القراء فقاتلوهم - أي قتلوا القراء... ولم يجد رسول الله على قتلى ما وجد قتلى بئر معونة. وأنزل الله فيهم قرآنا(54) ).

 

ثانياً - أما العامل الثاني الذي حال بين الإمام وبين تطبيق رسالته المستندة إلى القرآن وسيرة النبي فهو أن خصوم الرسول كانوا مشركين، وكان من السهل عليه أن يؤلب المسلمين على حربهم والتنكيل بهم. وكان القرآن إلى جانبه في هذا السبيل. وكان المشركون - بدورهم - يحاربون النبي للقضاء - بصورة مكشوفة وصريحة - على العقيدة الإسلامية ورفع راية الشرك وعبادة الأوثان.

فكان الصراع بين الرسول وخصومه إذن صراعا مكشوفاً بين عقيدتين: الإيمان بالله بجميع مستلزماته، والكفر بالله بمستلزماته جيمعها. وسار الخصمان المتنازعان - على ذلك - في السر والعلانية دون تستر أو وجل أو مجاملة أو خوف.

أما خصوم الإمام فكانوا - في الظاهر - مسلمين كإسلامه، وكانوا يقاتلونه للمطالبة بدم ابن عفان.

وكان أشدهم وطأة عليه معاوية بن أبي سفيان وأمشاجه من الأمويين الذين تظاهروا بالإسلام للإجهاز عليه. فغرروا بكثير من السذج والبسطاء ودفعوهم أمامهم لحرب خليفة رسول الله. فلم يكن والحالة هذه باستطاعة الإمام أن يحمل الكثيرين من أتباعه على مواصلة القتال، وليس بجانبه وحى لأنه ليس بنبي. ولم يكن باستطاعة المخلصين من أتباعه - والعارفين بخفايا الأمور - أن يقنعوا المترددين من أنصار الإمام على السير بالقتال إلى نتيجته الطبيعية كما سار به رسول الله من قبل. فلا عجب أن ذهبت محاولاتهم - التي ذكرنا طرفا منها - أدراج الرياح. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى التحكيم ومصرع الإمام كما هو معروف. فانتقل الحكم الإسلامي إلى الأمويين وارتقى معاوية بن أبي سفيان منبر النبي يتصرف بشئون المسلمين كيفما شاء: معاوية الذي لم يصلح بنظر الإمام لولاية الشام بله خلافة المسلمين.

 

ثالثاً - وأما العامل الثالث فيتلخص في أمام الإمام ارتقى منبر النبي في ظروف مضطربة قلقة انتهت بدايتها بمصرع عثمان. وهذا يعني أن الخلافة قدمت لعلى بعد ثورة دموية لم يساهم هو في إحداثها.

أي أن الإمام بعبارة أخرى اقتطف ثمار ثورة قام بها غيره من حيث التمهيد لحدوثها ومن حيث المساهمة الفعلية في حوادثها.

فطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعمرو بن العاص مثلاً - وهم رؤوس الفتنة وشيوخ التأليب على عثمان - قد راعهم انتقال الأمر إلى على (لتعارضه مع مصالحهم) فقاوموه تحت ستار المطالبة بدم الخليفة القتيل. ورجال الثورة من المصريين والكوفيين والبصريين لم ينتفعوا أيضاً بالوضع الجديد فقاوموه. نقم هؤلاء وأولئك: الثائرون والمحرضون معاً على على كما نقموا على عثمان من قبل - مع فرق كبير بين عوامل النقمة في الحالتين. فقد نقموا على عثمان خروجه في سياسته العامة على الدين، ولكنهم نقموا على على تمسكه بالدين في سياسته العامة.

 

رابعاً - وأما العامل الرابع فيتلخص في أن الفترة التي أعقبت وفاة الرسول وانتهت بمصرع عثمان قد شهدت تساهلا في تطبيق حدود الله على المستحقين. بدأ ذلك التساهل خفيفاً في عهد أبي بكر واشتد في زمن عمر وتجاوز الحد في عهد عثمان. وقد ألف الناس ذلك وأصبح له أنصار ومحبذون من المنتفعين به ومن أصحاب المصالح المركزة. فلا عجب والحالة هذه أن تعرضت سياسة الإمام التي شرحنا جانباً منها في الفصول السابقة من هذه الدراسة إلى مقاومة عنيفة مر بنا ذكر جانب كبير منها.

وإلى القارئ هذه الأمثلة من تصرفات الخلفاء الذين سبقوا علياً سقناها على سبيل التمثيل لاعلى سبيل الحصر.

 

١ - خالف أبوبكر نصوصاً صريحة في القرآن والسيرة المحمدية في موضوع الخلافة، وفدك، وخالد بن الوليد. وقد بحثنا ذلك في كتابنا: (على ومناوئوه).

٢ - أسقط أبوبكر وعمر وعثمان سهم ذي القربى وسهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات خلافا لنص القرآن وسنة النبي. فقد جاء في سورة الأنفال نص صريح على سهم ذي القربى - وعمل به النبي -: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير). وورد في سورة التوبة نص على سهم المؤلفة قلوبهم - وعمل به الرسول -: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم).

ومن طريف ما يروي عن النبي في موضوع المؤلفة قلوبهم ما ذكره ابن هشام (سيرة النبي محمد ج ٤ ص ١٢٩ - ١٤١) حين قال: (أعطى رسول الله المؤلفة قلوبهم - وكانوا أشرافا من أشراف الناس - يتألفهم ويتألف بها قومهم فأعطى أبا سفيان بن حرب مئة بعير، وأعطى ابنه معاوية مئة بعير، وأعطى حكيم بن حزام مئة، وأعطى الحرث بن الحرث بن كلدة - أخا بني عبد الدار - مئة بعير، وأعطى سهيل بن عمرو مئة بعير، وأعطى الحرث بن هشام مئة بعير، وأعطى حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس مئة بعير، وأعطى العلاء بن جارية الثقفي - حليف بني زهرة - مئة بعير، وأعطى عيينة بن حصن مئة بعير وأعطى الأقرع بن حابس مئة بعير، وأعطى مالك بن عوف النصري مئة بعير، وأعطى صفوان بن أمية مئة بعير، وأعطى مالك بن عوف النصري مئة بعير، وأعطى صفوان بن أمية مئة بعير، وأعطى دون المئة رجالا من قريش منهم مخرمة بن نوفل الزهري وعمر بن وهب الجمحي وهشام بن عمرو أخو بني عامر بن لؤى. وأعطى عباس ابن مرداس أباعر فسخطها فعاتب فيها رسول الله.

كانت نهاباً تلافيتها

بكرى على المهر في الاجرع

وإيقاضى القوم إن رقدوا

إذا هجع الناس لم أهجع

فأصبح نهبي ونهب العبيد

بين عيينة والأقرع

وما كان حصن ولا حابس

يفوقان مرداس في المجمع

وما كنت دون امرئ منهما

ومن تضع اليوم لا يرفع(55)

٣ - عطل عمر بن الخطاب حداً من حدود الله في قضية زنى المغيرة ابن شعبة، وفي موضوع سرقة غلمان حاطب بن أبي بلتعة. وعطل عثمان حداً من حدود الله في قضية قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب أبا لؤلؤة والهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة. وإلى القارئ خلاصة ذلك كله:

(ا) زنى المغيرة بن شعبة: ذكر بن خلكان(56) قصة المغيرة مفصلة هذه أهم عناصرها: (وأما حديث المغيرة بن شعبة والشهادة عليه فإن عمر بن الخطاب كان قد رتب المغيرة أميراً على البصرة. وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار. وكان أبو بكرة يلقاه فيقول أين يذهب الأمير؟ فيقول حاجة. فيقول أبو بكرة إن الأمير يزار ولا يزور...

وكان المغيرة يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو... فبينما أبو بكرة في غرفة مع إخوته - لأمه سمية - وهم نافع وزياد وشبل بن معبد كانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة. فضربت الريح باب غرفة أم جميل ففتحته ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع امرأة على هيئة الجماع.

فقال أبو بكرة هذه بلية قد ابتليتم بها فانظروا حتى أثبتوا. فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة. فقال له إن كان من أمرك ما قد علمت فاعتز لنا.

وذهب المغيرة ليصلى بالناس الظهر، ومضى أبو بكرة فقال لا والله لا تصل بنا... وكتبوا إلى عمر فأمرهم أن يقدموا عليه جميعاً: المغيرة والشهود. فلما قدموا عليه جلس عمر فدعا بالشهود والمغيرة فتقدم أبو بكرة فقال له عمر رأيته بين فخذيها؟ قال نعم: والله لكأني أنظر تشريم جدري بفخذيها... فقال عمر لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة. فقال نعم أشهد على ذلك. فقال عمر إذهب مغيرة فقد ذهب ربعك.

ثم دعا عمر نافعاً فقال له علام تشهد؟ قال على شهادة أبي بكرة. قال عمر لا: حتى تشهد أنه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة. قال نعم... فقال عمر للمغيرة إذهب يا مغيرة فقد ذهب نصفك. ثم دعا الثالث فقال له علام تشهد؟ فقال على مثل شهادة صاحبي. فقال عمر: إذهب مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك.

ثم كتب إلى زياد - وكان غائباً - وقدم. فلما رآه جلس في المسجد واجتمع عنده رؤوس المهاجرين والأنصار. فلما رآه مقبلا قال إني أرى رجلا لا يخزى الله على لسانه رجلا من المهاجرين...

فقال زياد: يا أمير المؤمنين رأيت مجلساً وسمعت نفساً حثيثاً وانتهازاً ورأيته رافعاً رجليها فرأيت خصيتيه تردد ما بين فخذيها ورأيت حفزاً شديداً وسمعت نفساً عالياً.

فقال عمر: رأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكخلة؟ فقال لا. قال عمر الله أكبر! قم يا مغيرة إليهم فاضربهم فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين. وضرب الباقين... فقال أبو بكرة - بعد أن ضرب - أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا. فهم عمر أن يضربه حداً ثانياً فقال على: إن ضربته فارجم صاحبك. فتركه.

واستتاب عمر أبا بكرة فقال أبو بكرة إنما تستتبني بقبول شهادتي. فقال أجل. لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا.

تلك هي قصة المغيرة. وقبل أن نعلق عليها نرى لزاماً علينا - لكي يستوفى البحث شروطه التاريخية في القضية - أن نذكر للقارئ الأمور التالية:

1 - قال أحد الرواة (كان إسلام المغيرة من غير اعتقاد صحيح... وكان المتوسط من عمره الغش والفجور وإعطاء البطن والفرج سؤلهما، وممالأة القاسطين وصرف الوقت في غير طاعة الله)(57) .

٢ - ذكر ابن الأثير(58) أن المغيرة قال لعمر بن الخطاب في معرض الدفاع عن نفسه: (والله ما أتيت إلا امرأتي وكانت تشبهها).

٣ - ذكر ابن خلكان(59) أن المغيرة - عندما ضرب أبا بكرة وأخويه الحد بأمر من عمر - قال (الله أكبر!! الحمد لله الذي أخزاكم. فقال عمر: بل أخزى الله مكانا رأوك فيه).

٤ - وروى ابن خلكان(60) (أن أم جميل وافت عمر بن الخطاب بالموسم - والمغيرة هناك - فقال له عمر: أتعرف هذه المرأة يا مغيرة؟ فقال نعم: هذه كلثوم بنت علي بن أبي طالب. فقال له عمر أتتجاهل على!! والله ما أظن أبا بكرة كذت عليك. وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء).

٥ - ذكر ابن حجر(61) أن المغيرة قال: (أنا أول من رشا في الإسلام، جئت إلى يرفأ حاجب عمر - وكنت أجالسه - فقلت له خذ هذه العمامة فالبسها فإن عندي أختها. فكان يأنس بي ويأذن لي أن أجلس من داخل الباب. فكنت آتى فأجلس في القائلة فيمر المار فيقول: إن للمغيرة عند عمر منزلة: إنه ليدخل عليه في ساعة لا يدخل فيها عليه أحد غيره...

وأخرج البغوي من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:

استعمل عمر المغيرة على البحرين فكرهوه وشكوا منه فعزله فخافوا أن يعيده عليهم فجمعوا مئة ألف درهم فأحضرها الدهقان إلى عمر فقال: إن المغيرة اختان هذه وأودعها عندي فدعاه عمر فسأله فقال كذب إنما كانت مئتي ألف. فقال عمر ما حملك على ذلك؟ قال كثرة العيال. فسقط في يد الدهقان فحلف وأكد الإيمان أنه لم يودع عنده لا قليلا ولا كثيراً. فقال عمر للمغيرة وما حملك على هذا؟ فقال إنه افترى على فأردت أن أخزيه).

٦ - كتب أحد المؤرخين(62) عن عمر بن شبة في أخبار البصرة (أن العباس ابن عبد المطلب قال لعمر أقطعني البحرين. فقال ومن يشهد لك بذلك؟ قال: المغيرة بن شعبة. فأبى عمر أن يجيز شهادته).

٧ - لما جاء عروة بن مسعود الثقفي إلى رسول الله عام الحديبية نظر إلى المغيرة قائماً على رأس رسول الله مقلداً سيفه فقال من هذا؟ قيل ابن أخيك المغيرة. قال: وأنت ههنا يا غدر!! والله إني إلى الآن ما غسلت سوأتك(63) .

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نجزم بثبوت جريمة الزنى على المغيرة في القضية الآنفة الذكر. أما الأدلة على ذلك فتتلخص في الأمور التالية:

١ - لقد شهد كل من أبي بكرة ونافع وشبل وزياد - بكل صراحة ووضوح - أنهم رأوا المغيرة وأم جميل (التي لا تربطها بالمغيرة أية رابطة مشروعة) في مكان معين وهما على هيئة الجماع. وقد ذكر كل من أبى بكرة ونافع وشبل أنه رآه - على حد قوله - (يلج فيها ولوج المرود في المكحلة.

أما زياد فقد رأى - على حد زعمه - (مجلساً وسمع نفساً حثيثاً وانتهازاً ورآه رافعاً رجليها، ورأى خصيتيه تردد إلى ما بين فخذيها، ورأى حفزاً شديداً وسمع نفساً عالياً). وكل هذا يدل - دون شك - على أنه ولج فيها (ولوج الميل في المكحلة).

٢ - إن مجرد خلوة المغيرة بأم جميل كاف لإدانته بالزنى وذلك لاشتهاره بالفسق والفجور وإعطائه (البدن والفرج سؤلهما) كما قال أحد المؤرخين.

٣ - وخلوة أم جميل هي الأخرى من عوامل ثبوت الزنى لاشتهارها به بين الناس آنذاك.

٤ - عدم قيام أم جميل أو وليها بما يشبه المطالبة بالشرف ممن اتهمها بأعز شيء لديها، وهو أمر يمجه الذوق العربي الرفيع وتأباه الأخلاق الاجتماعية السليمة.

٥ - قول المغيرة لعمر - في معرض الدفاع عن نفسه - بأن أم جميل تشبه زوجته هو الآخر دليل على زناه. ولا ندري كيف عرف المغيرة وجه الشبه بين زوجته وبين أم جميل!! دون أن يرى أم جميل أو يجتمع بها!

(ب) سعى عمر لتبرءة المغيرة من فعله الشنيع. أما الأدلة على ذلك فهي:

١ - طبيعة الأسئلة التي وجهها للشهود.

٢ - قوله لأحد الشهود - قبل إدلائه بشهادته -: (إني أرى رجلا لا يخزى الله على لسانه رجلا من المهاجرين.) وهذا يوحى للشاهد - دون شك - رغبة الخليفة في تبرئة المتهم.

(ج) شعور نفسي لدى عمر بعدم براءة المغيرة. وللتدليل على ذلك نذكر مايلي:

١ - قول عمر للمغيرة (- على رواية ابن الأثير التي ذكرناها - عندما جاءت أم جميل إلى عمر في أحد المواسم، وعندما طلب عمر من المغيرة أن يشخصها فأخبره المغيرة بأنها أم كلثوم بنت على): (والله ما أظن أن أبا بكرة كذب عليك. وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء).

٢ - قول عمر للمغيرة - الذي ذكره ابن خلكان كما رأينا -: (بل أخزى الله مكانا رأوك فيه). وذلك عندما قال المغيره للشهود: (الحمد لله الذي أخزاكم).

٣ - عدم قبول لشهادة المغيرة كما رأينا.

٤ - عزله إياه من ولاية البصرة بعد الحادثة المذكورة مباشرة.

يتضح مما ذكرنا أن تاريخ المغيرة والقرائن التي ذكرناها وشهادة الشهود الأربعة تدين المغيرة. ومن المحزن حقاً أن يتخلص المغيرةمن العقوبة الشرعية. وأنكى من ذلك أن ينزل المغيرة نفسه الحد بمن شهد عليه.

على أن قصة المغيرة مع ذلك كله ذات مغزى بعيد الأثر عميق الغور في حياة المسلمين. ذلك لأنها حملت بين ثناياها المؤلمة ردعاً ضمنياً للناس عن قول والوقوف بوجه الفجرة من الولاة والأمراء.

(د) قضية غلمان حاطب بن أبي بلتعة: يتجلى الاختلاف بين نص القرآن وسيرة النبي من جهة وبين سيرة عمر بن الخطاب من جهة ثانية بأوضح أشكاله في إعفاء عمر عن غلمان حاطب بن أبي بلتعة من العقوبة الشرعية في قضية سرقتهم ناقة رجل من مزينة واعترافهم بذلك.

وخلاصة القصة: أن عمر - أثناء تحقيقه في موضوع السرقة المشار إليها وثبوتها له بعد أو اعترف الغلمان أنفسهم بالسرقة - رق لهم لبؤسهم. فاستدعى سيدهم - عبد الرحمن بن حاطب - وأنبه على إهماله لهم وتركه إياهم فريسة للجوع والفاقة، وأصدر أوامره بتغريمه ضعف ثمن الناقة المسروقة ثم خلى سبيل الغلمان. وقد خالف عمر - بموقفه هذا - نصاً صريحاً من نصوص القرآن وعطل حداً من حدود الله.

جاء في سورة المائدة: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله)...

وربما كان لموقف عمر ما يبرره من ناحية ظروف هذه القضية بالذات، فاجتهد بالذي اجتهد به لمصلحة خاصة رآها. ولكن القرآن لا يجيز ذلك وقد نص على العقوبة نصاً صريحاً لا لبس فيه ولا غموض. ولا اجتهاد في معرض النص كما هو معلوم. هذا مع العلم أن عمر مطالب باتباع نص القرآن في أحكامه العامة لأنه يحكم المسلمين باسم الدين باعتباره خليفة رسول الله - أي نائبه في تصريف شئون المسلمين.

(هـ) قصة أبي جندل (لما بلغ عمر أن أبا جندل قد عاقر الخمر بالشام كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب قابل التوبة، شديد العقاب: الآية(64) ).

في حين أن سيرة النبي كانت - في هذا الباب - على خلاف ذلك فقد أتى للرسول بشارب خمر (فأمر النبي من عنده فضربوه بما كان في أيديهم وحثا عليه التراب...)(65) ولم يقرأ عليه النبي الآية الآنفة الذكر، ولا نظن أن عمر كان ملماً بمواقع الاستشهاد بالآيات أكثر من رسول الله.

 (ز) قضية عبيد الله بن عمر بن الخطاب: وهي قضية على جانب كبير من الأهمية لذلك نرى ضرورة عرضها على القارئ بشيء من الإيجاز غير المخل.

بعد أن قتل أبو لؤلؤة عمر بن الخطاب تناول عبيد الله بن عمر بن الخطاب السيف فقتل أبا لؤلؤة وزوجته وابنته، كما قتل الهرمزان دون أن يثبت اشتراكهم في عملية القتل. وقد عفا عنه عثمان بن عفان بعد أن ارتقى منبر النبي على أثر وفاة ابن الخطاب. وقد تذرع الخليفة - بإعفائه عبيد الله من العقوبة - بأن ذلك من شأنه ألا يثير الشماتة في نفوس أعداء الإسلام. فلا يقولون قتل المسلمون خليفتهم أمس ثم قتلوا ابنه بعد ذلك. وقد كان الواجب على عبيد الله أن يتقدم بالشكوى إلى الخليفة حسب الأصول المعروفة ليجرى التحقيق الدقيق في هذه القضية وينزل العقاب المشروع بالمستحقين.

أما وقد وقع القتل فكان من واجب الخليفة أن لا يعفو عن عبيد الله. وكان على الخليفة كذلك - بقدر ما يتعلق الأمر بالهرمزان على الأقل - أن لا يعتبر نفسه ولي دمه. فالهرمزان كما هو معروف أمير فارسي مسلم ولم يكن له ولي في في المدينة يطالب بدمه حسب منطق الآية (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا).

وإذا سلمنا جدلا بأن الخليفة هو ولي دم الهرمزان (فإن عثمان ليس ولي دمه لأنه قتل أثناء خلافة عمر فصار عمر ولي دمه. وقد أوصى عمر - على ما جاءت به الروايات الظاهرة - بقتل ابنه عبيد الله إن لم تقم البينة العادلة على الهرمزان وجفينة - زوج أبي لؤلؤة - أنهما أمرا أبا لؤلؤة بقتله(66) .

أما حديث الشماتة فهو مضحك وسخيف. وأي شماتة للعدو في إقامة حد الله!

إنما الشماتة كلها من أعداء الإسلام في تعطيل حدود الله. وأى حرج في الجمع بين قتل الإمام وابنه!! نقد قتل أحدهما ظلماً والآخر عدلا).

أحدهما بغير أمر الله والآخر بأمره.

ذلك ما يتصل بالخروج الصريح على النصوص القرآنية. أما ما يتعلق بالقيام بأعمال لا تتفق هي وسيرة النبي - وخاصة ما يتعلق منها بالإدارة العامة - فإلى القارئ الأمثلة التالية:

(ا) فيما يتصل بعمر: ذكر الغزالي(67) جملة قضايا في هذا الباب منها:

(تزوج رجل على عهد عمر بن الخطاب، وكان يخضب بالسواد فنصل خضابه وظهرت شيبته. فرفعه أهل المرأة إلى عمر فرد نكاحه وأوجعه ضرباً، وقال: غررت القوم بالشباب ولبست عليهم شيبتك.

ومر عمر برجل يكلم امرأة على قارعة الطريق فعلاه بالدرة، فقال يا أمير المؤمنين إنها امرأتي. فقال: هلا حيث لا يراك أحد!!..

وعن عبد الرحمن بن عوف قال: خرجت مع عمر ليلة في المدينة فبينما نحن نمشى إذ ظهر لنا سراج فانطلقنا نحوه. فلما دنونا منه إذا باب مغلق على قوم لهم أصوات ولغط. فأخذ عمر بيدي وقال: أتدري بيت من هذا؟ قلت لا. فقال هذا بيت ربيعة بن أميةة بن خلف وهم الآن على شرب فما ترى؟ قلت: أرى إنا قد أتينا ما نهانا الله عنه: قال تعالى: ولا تجسسوا - فرجع عمر...

وروى أن عمر كان يعس بالمدينة من الليل فسمع صوت رجل في بيت يتغنى. فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر.

فقال يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته!!

قال: وأنت يا أمير المؤمنين فلا تعجل، فإن كنت قد عصيت الله في واحدة فقد عصيت الله في ثلاثا.

قال الله (ولا تجسسوا) وقد تجسست.

وقال الله (وليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها) وقد تسورت على.

وقد قال الله. ولا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم - الآية: وقد دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام...

وروى إن ابي عذرة الدؤلي - وكان في خلافة عمر - كان يخلع النساء اللاتي يتزوج بهن. فصارت له من ذلك في الناس أحدوثة يكرهها. فلما علم بذلك أخذ بيد عبد الله بن الأرقم حتى أتى به منزله ثم قال لامرأته: أنشدك بالله هل تبغضيني؟

قالت لا تنشدني بالله.

قال فإني أنشدك.

قالت نعم. فقال لابن الأرقم أتسمع؟ ثم انطلقا إلى عمر فسأله فأخبره فأرسل إلى امرأة ابن أبي عذرة فجاءت هي وعمتها. فقال عمر: أنت التي تتحدثين لزوجك إنك تبغضينه؟

فقالت أول من تاب وراجع أمر الله. أنه ناشدني فتحرجت أن أكذب. أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال نعم فإكذبي فإن كانت أحدا كن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك فأن أقل البيوت الذي يبنى على الحب ولكن الناس يتعاشرون...

وروى مؤرخ(68) آخر (إن أهل الكوفة شكوا سعد بن أبي وقاص وقالوا إنه لا يحسن الصلاة فعزله عمر... وولى مكانه عمار بن ياسر... ثم قدم عليه أهل الكوفة فقال كيف خلفتم عمار بن ياسر أميركم؟ قالوا مسلم ضعيف فعزله عمر ووجه جبر بن مطعم. فمكر به المغيرة وحمل عنه خبراً إلى عمر.

وقال المغيرة والتي يا أمير المؤمنين. قال أنت رجل فاسق. فقال المغيرة وما عليك؟ فسقى على نفسي. فولاه الكوفة فسأل عمر أهلها عن المغيرة فقالوا أنت أعلم بفسقه.

فقال ما لقيت منكم يا أهل الكوفة!! إن وليت مسلماً تقياً قلتم هو ضعيف، وإن وليت مجرما قلتم هو فاسق) كأن بلاد المسلمين قد عقمت من الولاة الصالحين الأقوياء في الحق.

وذكر أن عمر قاطر جماعة من عماله أموالهم: (قيل أن منهم سعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وعمرو بن العاص عامله على مصر، وأبا هريرة عامله على البحرين، والنعمان بن عدي بن حرثان عامله على ميسان، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله في مكة، ويعلى بن منية عامله على اليمن. وامتنع أبو بكرة من المشاطرة وقال والله لئن كان هذا المال لله فلا يحل لك أن تأخذ بعضاً ونترك بعضاً، وإن كان لنا فما لك أخذه(69) ).

(ب) فيما يتصل بعثمان: (أخذ عثمان الزكاة على الخيل - وكان النبي قد أعفى من زكاة الخيل... وحمى عثمان الحمى - والله ورسوله قد أباحا الماء والهواء والكلأ للناس جميعاً... وأخذ من أموال الصدقة فأنفق منها في الحرب وفي غير الحرب من المرافق العامة في حين أن ذلك لا يجوز بنص القرآن... وأتم الصلاة في منى وقد قصرها النبي(70) . أما تصرفات عثمان في الإدارة العامة وفي بيت المال وانفاقه أموال المسلمين على أصهاره وأصدقائه وذوى قرباه، وتوليته الفاسقين أمور المسلمين، واعتدائه على فريق من خيرة أصحاب النبي - كأبي ذر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود - لتنبيههم إياه بضرورة اتباع سيرة النبي فاشهر من أن تذكر. وقد ذكرنا شطراً منها في كتابينا (على ومناوئوه) و (الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام). على أن هذه التصرفات (واضرابها) برأينا هي العامل المباشر الذي أي إلى مصرع عثمان وهي كذلك العامل غير المباشر في إثارة المقاومة الصارمة غير العادلة التي أبداها ذوو عثمان وأتباعه ضد سياسة الأمام العادل الأمر الذي أدى في النهاية إلى مصرعه كما هو معلوم.

________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢/٣٧٣ - ٧٥ م الطبعة الأولى بمصر.

(2) سيرة النبي محمد ٢/٣١٢ - ٣١٣.

(3) السيرة الحلبية ٣/١٦٧.

(4) سيرة النبي محمد ٣/٣٥٥ - ٣٥٨.

(5) امتاع الاسماع ١/٣٩٣.

(6) سيرة ابن هشام ٣/٢٦٥ - ٣٦٦.

(7) سيرة دحلان ٢/٢١٢ - ٢١٣.

(8) المقريزي، امتاع الأسماع ١/٢٩٧.

(9) سيرة دحلان م ٢ ص ٢١٥ - ٢١٦.

(10) المقريزي، المصدر السابق ج ١ ص ٢٩٩ - ٣٠٠.

(11) المصدر نفسه ج ١ ص ٢٩٣.

(12) سيرة دحلان ج ٢ ص ٢٢٧.

(13) المقريزي، المصدر السابق ج ١ ص ٤٢٥.

(14) المصدر نفسه ج ١ ص ٤٢٦.

(15) ومن الغريب أن يصادف الباحث لكل هاشمي خصماً من الأمويين - في الجاهلية والإسلام - يسير كل منهما في الاتجاه الذي يسير فيه أجداده. فهذا هاشم وذاك أمية. وهذا عبد المطلب وذاك حرب وهذا محمد وذاك أبو سفيان. وهذا على وذاك معاوية. وهذا الحسين وذاك يزيد. راجع كتابنا (الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام).

(16) وقال آخرون مثل ذلك - راجع الواقدي. مغازي رسول الله ص ١٦٤ - ١٦٥.

(17) نصر بن مزاحم، صفين ص ١٠٤ - ١٠٦، ٢٩٨ - ٢٩٩.

(18) الواقدي، مغازي رسول الله ص ١٦٩.

(19) نصر بن مزاحم، صفين ص ٣١٥ و ٣٤٣.

(20) المصدر نفسه ص ٣٠٣ - ٣٦٤.

(21) ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج ٥ ص ١٠٥ - ١٣٢.

(22) سيرة دحلان ج ٢ ص ١٩٠.

(23) ابن هشام، سيرة النبي محمد ج ٣ ص ٢١٨ - ٢١٩. ومن الطريف أن نذكر في هذه المناسبة أن عبد الله بن رواحة كان جالساً في رجال عنده من المسلمين، فلما سمع قول ابن أبي للنبي قال أغشنا في حديثك في مجالسنا ودورنا وبيوتنا... فتمثل ابن أبي - حين سمع ذلك - بقول القائل:

متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل *** تذل ويصرعك الذين تصارع

وهل ينهض البازي بغير جناحه *** وإن جذ يوما ريشه فهو واقع

(24) ابن هشام سيرة النبي محمد ج ٣ ص ٩.

(25) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٨ - ٦٩.

(26) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة المجلد الأول ص ٢١٦.

(27) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج ٥ ص ١٩٧.

(28) وفي هذه النقطة بالذات يكمن سر العامل الثاني الكبير الدى حال بين الإمام وبين نشر رسالته (من الناحية العملية) - تلك الرسالة المستندة إلى القرآن وسنة النبي، وهو ما سنبحثه بعد فراغنا من العامل الأول الذي هو بين أيدينا الآن.

(29) السيرة الحلبية ٢/٣٤٤.

(30) السيرة الحلبية ٢/٣٤٤.

(31) السيرة الحلبية ١/٤٧٥ - ٤٧٦.

(32) المقريزي، امتاع الأسماع ج ١ ص ٤٧٥ - ٤٧٦.

(33) سيرة دحلان ج ٢ ص ١٩٥ - ١٩١.

(34) السيرة الحلبية ج ٢.

(35) المقريزي، امتاع الأسماع ج ١ ص ٧٣.

(36) المقريزي، المصدر السابق ١ - ٣٦٤ - ٣٦٥.

(38) ابن هشام (سيرة النبي محمد) ٢ ١٧٦ - ١٧٧.

(39) ابن هشام، سيرة النبي محمد ج ٣ ص ٦٣ - ٦٤.

(40) المصدر نفسه ج ٢ ص ٢٤١ - ٢٤٢. والزمخشري الكشاف ١ ١٧٦/١٧٧/١٩٦.

(41) المصدر نفسه (أي ابن هشام) ج ٢ ص ٢٧٣ - ٢٧٤.

(42) السيرة الحلبية ٣/١٦١.

(43) أن لا يصد عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك. وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة. فنزلت فيه وفيمن تخاف من المنافقين عنه أن تبوك.

(44) ابن هشام، سيرة النبي محمد ج ٤ ص ٢٠١ - ٢٠٤.

(45) امتاع الأسماع ج ١ ص ١٨٢ - ١٨٣.

(46) إحياء علوم الدين ١ / ٨٥.

(47) امتاع الاسماع ١/٨٠، ٨٧، ١٥٠.

(48) يذكرنا هذا الموقف بموقف أنصار الإمام منه عندما تخاذلوا وصموا آذانهم عن ندائه في معرص استنهاضه هممهم لمحاربة خصومه وخصومهم بعد صفين خاصة كما هو معروف.

(49) المقريزي. امتاع الاسماع ج ١ ص ٢٤٠.

(50) السيرة الحلبية ٣/١٠، ٣٩.

(51) السيرة الحلبية ٣/١٠، ٣٩.

(52) المقريزي، امتاع الاسماع ١/٣٠.

(53) المصدر السابق. وكان بين أولئك النسوة - باضافة إلى سبيعة بنت الحرث - كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، واميمة بنت بشر الأنصاري التي كانت تحت حسان بن الدحداح وهو يومئذ مشرك فزوجها النبي سهل بن حنيف فولدت له عبد الله. راجع السيرة الحلبية ٣/٣٠.

(54) المقريزي، امتاع الاسماع ١ / ١٧٠ - ١٧٣.

(55) الضمير المستتر في (كانت) يعود إلى الإبل والتهاب جمع نهب. والأجرع المكان السهل. والعبيد اسم فرس العباس بن مرداس. وحصن هو أبو عيينة. وحابس هو: أبو الاقرع. ومرداس هو: أبو عباس. وروى بموضع (مرداس)، (شيخي) أو (شيخي) بالتثنية يعني أباه وجده.

(56) وفيات الأعيان ٢/ ص ٢٩٧ - ٢٩٨.

(57) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ٤/٤٥٣.

(58) الكامل في التاريخ ٢/٣٧٩.

(95) وفيات الاعيان ٢/٢٩٨.

(60) المصدر نفسه ٢/٣٩٩.

(61) الاصابة في تمييز الصحابة ٣/٤٣٢.

(62) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ٤/٤٥٣. والإشارة هنا إلى قصة غدر المغيرة بجماعة من العرب - أثناء شركه المكشوف - حينما كانوا في طريق عودتهم من بعض الملوك حاملين الهدايا. فقتلهم بعد أن اسكرهم. ثم انتهب أموالهم وقدم على رسول الله فتظاهر بالاسلام كما هو معروف. ومن طريف ما يروى عن المغيرة (البلاذري: أنساب الأشراف ٥/١٧) أنه قال لعثمان أثناء توليته الخلافة (أما والله لو ولي غيرك ما بايعته فقال عبد الرحمن ابن عوف كذبت يا أعور: لو ولي غيره لبايعته ولقلت له مثل هذا القول).

(63) الغزالي، احياء علوم الدين ٣/١٤٩.

(64) المقريزي: امتاع الاسماع ١ / ٣٩٦ و ٤١٥.

(65) ابن أبي الحديد. شرح نهج البلاغة ١ / ٢٤٢ الطبعة الأولى.

(66) إحياء علوم الدين ٣/٢٤٢. (وروى بعضهم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال: يغفر الله لحفصة فإنها شجعت عبيد الله على قتلهم). تاريخ اليعقوبي ٣/١٣٨.

(67) الغزالي: احياء علوم الدين ١/١٢٧ و ١٧٨ و ٢/١٣٨ و ١٣٩ و ٣/٩٦.

(68) اليعقوبي ٢/١٣٣.

(69) اليعقوبي ٢/١٣٣ - ١٣٥. ولعل لموقف أبي بكرة هذا من عمر علاقة بموقف عمر منه أثناء شهادته في قضية المغيرة.

(70) الدكتور طه حسين: الفتنة الكبرى: عثمان بن عفان ص ١٧٥ - ١٨٦.

 

 

 

 




العرب امة من الناس سامية الاصل(نسبة الى ولد سام بن نوح), منشؤوها جزيرة العرب وكلمة عرب لغويا تعني فصح واعرب الكلام بينه ومنها عرب الاسم العجمي نطق به على منهاج العرب وتعرب اي تشبه بالعرب , والعاربة هم صرحاء خلص.يطلق لفظة العرب على قوم جمعوا عدة اوصاف لعل اهمها ان لسانهم كان اللغة العربية, وانهم كانوا من اولاد العرب وان مساكنهم كانت ارض العرب وهي جزيرة العرب.يختلف العرب عن الاعراب فالعرب هم الامصار والقرى , والاعراب هم سكان البادية.



مر العراق بسسلسلة من الهجمات الاستعمارية وذلك لعدة اسباب منها موقعه الجغرافي المهم الذي يربط دول العالم القديمة اضافة الى المساحة المترامية الاطراف التي وصلت اليها الامبراطوريات التي حكمت وادي الرافدين, وكان اول احتلال اجنبي لبلاد وادي الرافدين هو الاحتلال الفارسي الاخميني والذي بدأ من سنة 539ق.م وينتهي بفتح الاسكندر سنة 331ق.م، ليستمر الحكم المقدوني لفترة ليست بالطويلة ليحل محله الاحتلال السلوقي في سنة 311ق.م ليستمر حكمهم لاكثر من قرنين أي بحدود 139ق.م،حيث انتزع الفرس الفرثيون العراق من السلوقين،وذلك في منتصف القرن الثاني ق.م, ودام حكمهم الى سنة 227ق.م، أي حوالي استمر الحكم الفرثي لثلاثة قرون في العراق,وجاء بعده الحكم الفارسي الساساني (227ق.م- 637م) الذي استمر لحين ظهور الاسلام .



يطلق اسم العصر البابلي القديم على الفترة الزمنية الواقعة ما بين نهاية سلالة أور الثالثة (في حدود 2004 ق.م) وبين نهاية سلالة بابل الأولى (في حدود 1595) وتأسيس الدولة الكشية أو سلالة بابل الثالثة. و أبرز ما يميز هذه الفترة الطويلة من تأريخ العراق القديم (وقد دامت زهاء أربعة قرون) من الناحية السياسية والسكانية تدفق هجرات الآموريين من بوادي الشام والجهات العليا من الفرات وتحطيم الكيان السياسي في وادي الرافدين وقيام عدة دويلات متعاصرة ومتحاربة ظلت حتى قيام الملك البابلي الشهير "حمورابي" (سادس سلالة بابل الأولى) وفرضه الوحدة السياسية (في حدود 1763ق.م. وهو العام الذي قضى فيه على سلالة لارسة).