أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-2-2021
4356
التاريخ: 2-9-2021
6852
التاريخ: 9-2-2021
5395
التاريخ: 9-2-2021
6702
|
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال : 15 ، 19] .
لما أمد الله سبحانه المسلمين بالملائكة ، ووعدهم النصر والظفر بالكفار ، نهاهم عقيبه عن الفرار ، فقال سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قيل : إنه خطاب لأهل بدر ، وقيل : هو عام {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} أي : متدانين لقتالكم . قال الزجاج : معناه إذا واقفتموهم للقتال {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} يعني : فلا تجعلوا ظهوركم مما يليهم ، أي : فلا تنهزموا {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} أي : ومن يجعل ظهره إليهم يوم القتال ، ووجهه إلى جهة الإنهزام ، وأراد بقوله {يَوْمَئِذٍ} ذلك الوقت ، ولم يرد به بياض النهار خاصة دون الليل {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} أي : إلا تاركا موقفا إلى موقف آخر أصلح للقتال من الأول ، عن الحسن . وقيل : معناه إلا منعطفا مستطردا كأنه يطلب عورة يمكنه إصابتها ، فيتحرف عن وجهه ، ويرى أنه يفر ثم يكر ، والحرب كر وفر {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أي منحازا منضما إلى جماعة من المسلمين ، يريدون العود إلى القتال ليستعين بهم {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} أي : احتمل غضب الله واستحقه . وقيل : رجع بغضب من الله {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} أي : مرجعه إلى جهنم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وأكثر المفسرين على أن هذا الوعيد خاص بيوم بدر خاصة ، ولم يكن لهم يومئذ أن ينحازوا لأنه لم يكن يومئذ في الأرض فئة للمسلمين ، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض ، وهو قول أبي سعيد الخدري ، وابن عباس في رواية الكلبي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك .
ووردت الرواية عن ابن عمر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية ، فلقوا العدو ، فجاض الناس جيضة (2) ، وأتينا المدينة ، فتخبأنا بها ، وقلنا : يا رسول الله ! نحن الفرارون ! فقال : بل أنتم العكارون (3) ، وأنا فئتكم . وقيل : إنه عام في جميع الأوقات ، وإن من فر من الزحف إذا لم يزيدوا على ضعفي المسلمين لحقه الوعيد عن ابن عباس وفي رواية أخرى ، وهو قول الجبائي ، وأبي مسلم . ثم نفى سبحانه أن يكون المسلمون قتلوا المشركين يوم بدر ، فقال {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} وإنما نفى الفعل عمن هو فعله على الحقيقة ، ونسبه إلى نفسه ، وليس بفعل له من حيث كانت أفعاله تعالى كالسبب لهذا الفعل والمؤدي إليه من إقداره إياهم ، ومعونته لهم ، وتشجيع قلوبهم ، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم والمشركين حتى قتلوا .
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} : خطاب للنبي ذكر جماعة من المفسرين ، كابن عباس وغيره ، أن جبرائيل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر : خذ قبضة من تراب ، فارمهم بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما التقى الجمعان لعلي : أعطني قبضة من حصا الوادي . فناوله كفا من حصا عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، وقال : شاهت الوجوه! فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شئ ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم . وكانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم .
وقال قتادة وأنس : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات ، فرمى بحصاة في ميمنة القوم ، وحصاة في ميسرة القوم ، وحصاة بين أظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه ! فانهزموا . فعلى هذا إنما أضاف الرمي إلى نفسه ، لأنه لا يقدر أحد غيره على مثله ، فإنه من عجائب المعجزات {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} أي : ولينعم عليهم به نعمة حسنة ، أي : فعل ذلك إنعاما على المؤمنين .
والضمير في {مِنْهُ} راجع إلى النصر أي : من ذلك النصر ، ويجوز أن يكون راجعا إلى الله تعالى .
{إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لدعائكم {عَلِيمٌ} بأفعالكم وضمائركم ، وإنما يقال للنعمة بلاء ، كما يقال للمضرة بلاء ، لأن أصل البلاء : ما يظهر به الأمر من الشكر والصبر ، فيبتلي سبحانه عباده أي : يختبرهم بالنعم ، ليظهر شكرهم عليها ، وبالمحن والشدائد ، ليظهر عندها الصبر الموجب للأجر . والبلاء الحسن هاهنا هو النصر ، والغنيمة ، والأجر ، والمثوبة .
النظم : وقيل في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان أحدهما : إنه سبحانه لما أمرهم بالقتال في الآية المتقدمة ، ذكر عقيبها أن ما كان من الفتح يوم بدر ، وقهر المشركين ، إنما كان بنصرته ومعونته ، تذكير للنعمة عن أبي مسلم والآخر : إنهم لما أمروا بالقتال ثم كان بعضهم يقول : أنا قتلت فلانا ، وأنا فعلت كذا ، نزلت الآية على وجه التنبيه لهم ، لئلا يعجبوا بأعمالهم .
{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} .
{ذَلِكُمْ} إشارة إلى بلاء المؤمنين ، خاطبهم سبحانه بعد أن أخبر عنهم ، ومعناه الأمر ذلكم الإنعام ، أو ذلكم الذي ذكرت {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِين} بإلقاء الرعب في قلوبهم ، وتفريق كلمتهم ، قال ابن عباس : يقول إني قد أوهنت كيد عدوكم حتى قتلت جبابرتهم ، وأسرت أشرافهم {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} قيل : إنه خطاب للمشركين ، فإن أبا جهل قال يوم بدر حين التقى الفئتان :
اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف ، فانصر عليه ، عن الحسن ، ومجاهد ، والزهري ، والضحاك ، والسدي . وفي حديث أبي حمزة : قال أبو جهل : اللهم ربنا ديننا القديم ، ودين محمد الحديث ، فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك ، فانصر أهله اليوم . وعلى هذا فيكون معناه إن تستنصروا لأهدى الفئتين ، فقد جاءكم النصر أي : نصر محمد وأصحابه . وقيل : إنه خطاب للمؤمنين ، عن عطا ، وأبي علي الجبائي . ومعناه : إن تستنصروا على أعدائكم ، فقد جاءكم النصر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قال الزجاج : ويجوز أن يكون معناه : إن تستحكموا وتستقضوا ، فقد جاءكم القضاء والحكم من الله {وَإِنْ تَنْتَهُوا} أي : تمتنعوا من الكفر ، وقتال الرسول والمؤمنين . {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} معناه : وإن تعودوا أيها المشركون إلى قتال المسلمين ، نعد بأن ننصرهم عليكم ، ونأمرهم بقتالكم . {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا} أي : ولن تدفع عنكم جماعتكم شيئا {وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} بالنصر ، والحفظ ، يمكنهم منكم ، وينصرهم عليكم ، عن جماعة من المفسرين .
وقيل : معناه وإن تنتهوا أيها المسلمون عما كان منكم في الغنائم وفي الأسارى ، من مخالفة الرسول ، فهو خير لكم ، وإن تعودوا إلى ذلك الصنيع نعد إلى الانكار عليكم ، وترك نصرتكم ، ولن يغني عنكم حينئذ جمعكم شيئا ، إذ منعناكم النصر ، عن عطا والجبائي .
__________________
1- تفسير مجمع البيان ، الطبرسي ، ج4 ، ص444-448 .
2- أي فروا .
3- العكار : من يحمل على العدو ثم يتخلف ثم يحمل كثيرا .
قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبارَ } .
يقال : زحف العسكر إذا توجه للقتال ، وسبق ان المشركين خرجوا من مكة لقتال المسلمين ، وهذه الآية من تعاليم الحرب ، وهي تأمر المسلمين أن يثبتوا لعدوهم ، ولا يفروا منه إذا زحف لقتالهم ، لأن الفرار وهن في الدين ، وذلّ للمسلمين .
{ومَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ومَأْواهُ جَهَنَّمُ وبِئْسَ الْمَصِيرُ} . الا متحرفا لقتال أي تاركا موقفه إلى موقف أحكم وأصلح للقتال ، أو متحيزا إلى فئة أي منحازا إلى جماعة أخرى من المسلمين تقاتل العدو لأنهم بحاجة إليه ، أو هو بحاجة إليهم ، والمعنى أثبتوا أيها المسلمون لعدوكم في المعركة ، ولا تفروا منها الا أن تختاروا موقعا أحسن ، أو تدبروا خطة أحكم بانضمام بعضكم إلى بعض ، وان من فر من العدو بلا مبرر فقد استحق غضب اللَّه ومأواه جهنم .
وقد أفتى الفقهاء بتحريم الفرار من الزحف إلا إذا كان عدد جيش العدو أكثر من ضعف عدد جيش المسلمين . . وفي رأينا ان الفقهاء لا يملكون هنا الفتوى بوجوب الثبات ، ولا بجواز الفرار ، وان الأمر في ذلك يجب أن يترك لتقدير القائد الأمين الخبير ، لأنه هو المسؤول عن الحرب ، وليس الفقهاء ، فيجب أن يترك له تقدير وجوب الثبات أو الفرار ، فقد يرى الثبات مع زيادة عدد العدو ثلاثة أضعاف ، وقد يرى لزوم الفرار والانسحاب من المعركة مع زيادة عدد المسلمين أضعافا مضاعفة ، لأن الثبات عملية انتحارية ، وفي جميع الحالات يجب الأخذ بقوله ، لا بقول الفقهاء الدين يفتون ، وهم على الوسائد متكئون . . هذا ، إلى أن قول الفقهاء في الحروب قد ذهب بذهاب وقته الذي كانت تقاس فيه القوة بالكم لا بالكيف ، وبعدد الجيش لا بمعداته الجهنمية الحديثة .
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكِنَّ اللَّهً قَتَلَهُمْ} . انتصر المسلمون ببدر على المشركين ، فقتلوا منهم من قتلوا ، وأسروا من أسروا ، وسبب هذا الانتصار ثبات المسلمين وصبرهم في القتال ، أما سبب هذا الثبات والصبر فهو ما أشارت إليه الآيات السابقة من أن اللَّه ربط على قلوب المسلمين ، وثبت أقدامهم ، وأمدهم بالملائكة ، وأزال الرعب من قلوبهم وألقاه في قلوب المشركين . . وعلى هذا تصح نسبة قتل المشركين إلى المسلمين لأنه كان بأيديهم ، وبسبب ثباتهم وصبرهم ، وأيضا تصح نسبته إلى اللَّه تعالى لأنه هو الذي مهد لهم لهذا الثبات والصبر بالإضافة إلى أنه سبب الأسباب . . وفي رواية ان بعض المسلمين قال يوم بدر أنا قتلت فلانا .
وقال آخر : وأنا قتلت فلانا . فأنزل اللَّه سبحانه : فلم تقتلوهم ولكن اللَّه قتلهم .
{وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ اللَّهً رَمى} . أجل ، ان اللَّه رمى ، ولكنه اختار لرميته كف محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) الذي فضله على جميع خلقه ، وخصه برسالته التي عمت رحمتها جميع العالمين . وروي ان النبي أخذ يوم بدر قبضة من الحصى أو التراب ، ورمى بها المشركين ، وقال : شاهت الوجوه ، فأعقب ذلك هزيمتهم .
وغير بعيد أن تكون هذه الرواية صحيحة ، وأيضا غير بعيد أن يكون المراد بالرمية تدبير الأمر وأحكامه ، ومهما يكن ، فان مشيئة اللَّه هي سبب الأسباب ، بها وجد محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) والحصى والكون بما فيه ، فان أي سبب مباشر أو غير مباشر لأية حادثة من الحوادث فإنها تنتهي إلى قوة عليا وجدت من غير موجد ، وإلا كانت كلمة الوجود لفظا من غير معنى ، تماما كما لو قلت : لا أحد يعطي المال ، حتى يأخذه من غيره فان هذا تعبير ثان عن قولك : لا أحد يعطي المال على الإطلاق ، لأنك نفيت الأصل الذي يعطي ولا يأخذ ، وبانتفاء الأصل ينتفي الفرع .
{ولِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} . البلاء والابتلاء يستعملان بمعنى الاختبار ويكون الاختبار بالنعمة لإظهار الشكر ، وبالمحنة لإظهار الصبر ، وأيضا يستعمل كل من البلاء والابتلاء بالإعطاء ، وهذا المعنى هو المراد بالبلاء في الآية ، أما المراد بالحسن فهو النصر والغنيمة ، أي ان اللَّه سبحانه أمر المسلمين بالثبات والصبر وعدم الفرار من الزحف ، ومهد لهم السبيل إلى ذلك ليتم عليهم نعمته بالنصر والغنيمة {إِنَّ اللَّهً سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . فقد سمع استغاثة المسلمين واستجاب لهم لأنه علم منهم صدق النية وصحة العزم .
{ذلِكُمْ وأَنَّ اللَّهً مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ} . ولا نعمة أجل وأعظم من ضعف العدو ، وإبطال كيده وحيله {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ ولَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً ولَوْ كَثُرَتْ وأَنَّ اللَّهً مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} . الخطاب في أن تستفتحوا وان تنتهوا وان تعودوا وفي لكم وعنكم وفئتكم ، كل أولاء للمشركين بقرينة السياق واستقامة المعنى . وروي ان المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة ، فاستنصروا اللَّه ، وقالوا :
اللهم انصر أعلى الجندين ، وأكرم الفئتين . فأجابهم اللَّه بقوله : {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} الخ . أي إن تستنصروا للأعلى والأهدى فقد استجاب اللَّه ونصر الأعلى والأهدى ، فان انتهيتم عن حرب المسلمين ومشاقة اللَّه والرسول فالانتهاء خير لكم وأبقى بعد أن ذقتم من القتل والأسر والهزيمة ما ذقتم ، وان عدتم إلى الحرب والمشاقة يحل بكم ثانية ما حل بكم أولا . أما الكثرة التي تعتزون بها فقد رأيتم انها لا تدفع عنكم القتل والأسر والهزيمة ، فان اللَّه هو الناصر ، وهو مع المؤمنين ، فان أردتم النصر حقا فدعوا الشرك ، وآمنوا باللَّه ورسوله .
____________________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنيه ، ج3 ، ص460-463 .
أوامر ونواه متعلقة بالجهاد الاسلامي مما يناسب سوق القصة ، وحث على تقوى الله وإنذار وتخويف من مخالفة الله ورسوله والتعرض لسخطه سبحانه ، وفيها إشارة إلى بعض ما جرى في وقعة بدر من منن الله وأياديه على المؤمنين .
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} اللقاء مصدر لقى يلقى من المجرد ولاقى . يلاقى من المزيد فيه ، قال الراغب في مفردات القرآن : اللقاء مقابلة الشئ ومصادفته معا ، وقد يعبر به عن كل واحد منهما يقال : لقيه يلقاه لقاء ولقيا ولقية ، ويقال ذلك في الادراك بالحس وبالبصر وبالبصيرة قال : لقد كنتم تمنون الموت من قبل ان تلقوه ، وقال : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، وملاقاة الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه قال : واعلموا انكم ملاقوه ، وقال : الذين يظنون أنهم ملاقوا الله ، واللقاء الملاقاة قال : وقال الذين لا يرجون لقاءنا ، وقال : إلى ربك كدحا فملاقيه . انتهى .
وقال في المجمع : اللقاء الاجتماع على وجه المقاربة لان الاجتماع قد يكون على غير وجه المقاربة فلا يكون لقاء كاجتماع الاعراض في المحل الواحد . انتهى .
وقال فيه : الزحف الدنو قليلا قليلا ، والتزاحف التداني يقال : زحف يزحف زحفا وأزحفت للقوم إذا دنوت لقتالهم وثبت لهم . قال الليث : الزحف جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة وجمعه زحوف . انتهى .
وتولية الأعداء الادبار جعلهم يلونها وهو استدبار العدو واستقبال جهة الهزيمة .
وخطاب الآية عام غير خاص بوقت دون وقت ولا غزوة دون غزوة فلا وجه لتخصيصها بغزوة بدر وقصر حرمة الفرار من الزحف بها كما يحكى عن بعض المفسرين . على انك عرفت أن ظاهر سياق الآيات انها نزلت بعد غزوة بدر لا يومها ، وان الآيات ذيل ما في صدر السورة من قوله : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية ، وللكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} إلى آخر الآية . التحرف : الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف وهو طرف الشئ وهو أن ينحرف وينعطف المقاتل من جهة إلى جهة أخرى ليتمكن من عدوه ويبادر إلى إلقاء الكيد عليه ، والتحيز هو أخذ الحيز وهو المكان ، والفئة القطعة من جماعة الناس ، والتحيز إلى فئة أن ينعطف المقاتل عن الانفراد بالعدو إلى فئة من قومه فيلحق بهم ويقاتل معهم .
والبواء الرجوع إلى مكان واستقرار فيه ، ولذا قال الراغب : أصل البواء مساواة الاجزاء في المكان خلاف النبوة الذي هو منافاة الاجزاء . انتهى فمعنى قوله : {بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} أي رجع ومعه غضب من الله .
فمعنى الآيتين : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا لقاء زحف أو زاحفين للقتال فلا تفروا منهم ومن يفر منهم يومئذ أي وقتئذ فقد رجع ومعه غضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير إلا أن يكون فراره للتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة فلا بأس به .
قوله تعالى : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} إلى آخر الآية التدبر في السياق لا يدع شكا في أن الآية تشير إلى وقعة بدر وما صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رميهم بكف من الحصا ، والمؤمنون بوضع السيف فيهم وقتلهم القتل الذريع ، وذيل الآية أعني قوله : وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا يدل على أن الكلام جار مجرى الامتنان منه تعالى ، وقد أثبت تعالى عين ما نفاه في جملة واحدة أعني قوله : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} .
فمن جميع هذه الشواهد يتحصل أن المراد بقوله : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} نفى أن تكون وقعة بدر وما ظهر فيها من استئصال المشركين والظهور عليهم والظفر بهم جارية على مجرى العادة والمعروف من نواميس الطبيعة ، وكيف يسع لقوم هم شرذمة قليلون ما فيهم على ما روى الا فرس أو فرسان وبضعة أدرع وبضعة سيوف ، أن يستأصلوا جيشا مجهزا بالأفراس والأسلحة والرجال والزاد والراحلة ، هم أضعافهم عدة ولا يقاسون بهم قوة وشدة ، وأسباب الغلبة عندهم ، وعوامل البأس معهم ، والموقف المناسب للتقدم لهم .
إلا ان الله سبحانه بما أنزل من الملائكة ثبت أقدام المؤمنين وأرعب قلوب المشركين ، وألقى الهزيمة بما رماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحصاة عليهم فشملهم المؤمنين قتلا وأسرا فبطل بذلك كيدهم وخمدت أنفاسهم وسكنت أجراسهم .
فبالحري أن ينسب ما وقع عليهم من القتل بأيدي المؤمنين والرمي الذي شتت شملهم وألقى الهزيمة فيهم إليه سبحانه دون المؤمنين .
فما في الآية من النفي جار مجرى الدعوى بنوع من العناية ، بالنظر إلى استناد القتل بأطرافها إلى سبب إلهي غير عادى ، ولا ينافي ذلك استنادها بما وقع فيها من الوقائع إلى أسبابها القريبة المعهودة في الطبيعة بأن يعد المؤمنون قاتلين لمن قتلوا منهم ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم راميا لما رماه من الحصاة .
وقوله : {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} الظاهران ضمير {مِنْهُ} راجع إلى الله تعالى ، والجملة لبيان الغاية وهى معطوفة على مقدر محذوف ، والتقدير : إنما فعل الله ما فعل من قتلهم ورميهم لمصالح عظيمة عنده ، وليبلى المؤمنين ويمتحنهم بلاء وامتحانا حسنا أو لينعم عليهم بنعمة حسنة ، وهو إفناء خصمهم وإعلاء كلمة التوحيد بهم وإغناؤهم بما غنموا من الغنائم .
وقوله : {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تعليل لقوله : {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ} أي إنه تعالى يبليهم لأنه سميع باستغاثتهم عليم بحالهم فيبليهم منه بلاء حسنا .
والتفريع الذي في صدر الآية : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} الخ متعلق بما يتضمنه الآيات السابقة : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} إلى آخر الآيات من المعنى ، فإنها تعد منن الله عليهم من انزال الملائكة وامدادهم بهم وتغشيه النعاس إياهم وامطار السماء عليهم وما أوحى إلى الملائكة من تأييدهم وتثبيت أقدامهم والقاء الرعب في قلوب أعدائهم ، فلما بلغ الكلام هذا المبلغ فرع عليه قوله : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} .
وعلى هذا فقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ} إلى قوله {وبِئْسَ الْمَصِيرُ} معترضة متعلقة بقوله : {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} أو بمعناه المفهوم من الجمل المسرودة ، وقوله : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} الخ متصل بما قبله بحسب النظم .
وربما يذكر في نظم الآية وجهان آخران :
أحدهما : ان الله سبحانه لما أمرهم بالقتل في الآية المتقدمة ذكر عقيبها ان ما كان من الفتح يوم بدر وقهر المشركين انما كان بنصرته ومعونته تذكيرا للنعمة .
ذكره أبو مسلم .
والثاني : انهم لما أمروا بالقتال ثم كان بعضهم يقول : أنا قتلت فلانا وأنا فعلت كذا نزلت الآية على وجه التنبيه لهم لئلا يعجبوا بأعمالهم . وربما قيل : ان الفاء في قوله فلم تقتلوهم} لمجرد ربط الجمل بعضها ببعض . والوجه ما قدمناه .
قوله تعالى : {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} قال في المجمع : {ذَلِكُمْ} موضعه رفع ، وكذلك {أَنَّ اللَّهَ} في موضع رفع ، والتقدير : الامر ذلكم والامر ان الله موهن ، وكذلك الوجه فيما تقدم من قوله : {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} ، ومن قال : ان {ذَلِكُمْ} مبتدء و {فَذُوقُوهُ} خبره فقد أخطأ لان ما بعد الفاء لا يكون خبرا لمبتدء ، ولا يجوز : زيد فمنطلق ، ولا : زيد فاضربه إلا ان تضمر {هذا} تريد : هذا زيد فاضربه . انتهى . فمعنى الآية : الامر ذلكم الذي ذكرناه والامر ان الله موهن كيد الكافرين .
قوله تعالى : {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} إلى آخر الآية . ظاهر الآية بما تشتمل عليه من الجمل المسرودة كقوله : {وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وقوله : {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ} الخ ان تكون الخطاب فيه للمشركين دون المؤمنين باشتمال الكلام على الالتفات للتهكم ، وهو المناسب لقوله في الآية السابقة : {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} .
فالمعنى : إن طلبتم الفتح وسألتم الله أيها المشركون ان يفتح بينكم وبين المؤمنين فقد جاءكم الفتح بما أظهر الله من الحق يوم بدر فكانت الدائرة للمؤمنين عليكم ، وإن تنتهوا عن المكيدة على الله ورسوله فهو خير لكم وان تعودوا إلى مثل ما كدتم نعد إلى مثل ما أوهنا به كيدكم ، ولن تغنى عنكم جماعتكم شيئا ولو كثرت كما لم تغن في هذه المرة وان الله مع المؤمنين ولن يغلب من هو معه .
وبهذا يتأيد ما ورد ان ابا جهل قال يوم بدر حين اصطف الفريقان أو حين التقى الفئتان : اللهم ان محمدا أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فانصر عليه ، وفى بعض الروايات - وهو الأنسب - كما في المجمع عن أبي حمزة قال أبو جهل : اللهم ربنا ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم .
وذكر بعضهم : ان الخطاب في الآية للمؤمنين ، ووجهوا مضامين جملها بما لا يرتضيه الذوق السليم ، ولا جدوى للإطالة بذكرها والمناقشة فيها فمن أراد ذلك فعليه بالمطولات .
__________________
1- تفسير الميزان الطباطبائي ، ج9 ، ص29-32 .
الفرار من الجهاد ممنوع !
كما ذكرنا في تفسير الآيات السابقة ، فإنّ الحديث عن قصّة معركة بدر وألطاف الله الكثيرة على المسلمين الأوائل من أجل أن يتّخذ منه المسلمين العبرة والدرس في المستقبل ، لذلك فإنّ هذه الآيات توجه خطابها للمؤمنين وتأمرهم أمراً عاماً بالقتال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} . ، و{لَقِيتُمُ} من مادة (اللقاء) بمعنى الإِجتماع والمواجهة ، وتأتي في أكثر أحيان بمعنى المواجهة في ميدان الحرب .
و{الزّحف} في الأصل بمعنى الحركة إِلى أمر ما بحيث تسحب الأقدام على الأرض كحركة الطفل قبل قدرته على المشي ، أو الإِبل المرهقة التي تخط أقدامها على الأرض أثناء سيرها ، ويطلق على الجيش الجرار الذي يشاهد من بعيد وكأنّه يحفر الأرض أثناء مسيره .
واستخدام كلمة (زحف) ـ في الآية آنفاً ـ تشير إِلى أنّه بالرغم من أنّ عدوكم قوي وكثير ، وأنتم قليلون ، فلا ينبغي لكم الفرار من ساحة الحرب ، وكما كان عدوكم كثيراً في ميدان بدر فثبتّم وانتصرتم .
فالفرار من الحرب يعدّ في الإِسلام من كبائر الذنوب ، إلاّ أنّ ذلك مرتبط ـ كما نبيّن بعض الآيات ـ بكون الأعداء ضِعفي عدد المسلمين ، وسنبحث هذا الأمر بعون الله في الآيتين (65) و(66) من هذه السورة . ولذلك تذكر الآية بعدها جزاء من يفر من ميدان الحرب مع الإِشارة لمن يستثنون منهم فتقول : {ومن يُولّهم يومئذ دُبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله} .
وكما نرى فقد استثنت الآية صورتين من مسألة الفرار ، ظاهرهما أنّهما من صورة الفرار ، غير أنّهما في الحقيقة والواقع صورتان للقتال والجهاد .
الصورة الأُولى : عُبّر عنها بـ {«متحرّفاً لقتال} و«متحرف» من مادة (التحرّف) أي الإِبتعاد جانباً من الوسط نحو الأطراف والجوانب ، والمقصود بهذه الجملة هو أنّ المقاتلين يقومون بتكتيك قتالي إزاء الأعداء ، فيفرون من أمامهم نحو الأطراف ليلحقهم الأعداء : ثمّ يغافلوهم في توجيه ضربة قوية إليهم واستخدام فن الهجوم والإِنسحاب المتتابع وكما يقول العرب : (الحرب كرّ وفرّ) .
الصورة الثّانية : أن يرى المقاتل نفسه وحيداً في ساحة القتال ، فينسحب للإلتحاق بأخوأنه المقاتلين وليهجم معهم من جديد على الأعداء .
وعلى كل حال ، فلا ينبغي تفسير هذا التحريم بشكل جاف يتنافى وأساليب الحروب وخدعها ، والتي هي أساس كثير من الإِنتصارات .
وتُختتم الآية محل البحث بالقول : إنّ جزاء من يفرّ مضافاً إِلى استحقاقه لغضب الله فانّ مصيره إِلى النّار : {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
والفعل «باء» مشتق من «البواء» ومعناه الرجوع وإِتّخاذ المنزل ، جذره في الأصل يعني تصفية محل ما وتسطيحه ، وحيث إنّ الإِنسان إذا نزل في محل عدله وسطحه ، فقد جاءت هذه الكلمة هنا بهذا المعنى . وفي الآية إشارة إِلى أنّ غضب الله مستمر ودائم عليهم ، فكأنّهم قد اتّخذوا منزلا عند غضب الله .
وكلمة «المأوى» في الأصل معناها «الملجأ» وما نقرؤه في الآية ، محل البحث {وَمَأْوَاهُ جَهَنم} فهو إشارة إِلى أنّ الفارين يطلبون ملجأ ومأوى من فرارهم لينقذوا أنفسهم من الهلكة ، إِلاّ أنّ ما يحصل هو خلاف ما يطلبون ، إذ ستكون جهنم مأواهم ، وليس ذلك في العالم الآخر فحسب ، بل هو في هذا العالم إذ سيحترقون في جهنم الذلة والإِنكسار والضياع .
ولذا فقد جاء في «عيون الأخبار» عن الإِمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في جواب أحد أصحابه حين سأله عن فلسفة تحريم الفرار من الجهاد فقال : «وحرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين ، والإِستخفاف بالرسل والأئمّة العادلة عليهم السلام ، وترك نصرتهم على الأعداء ، والعقوبة على إنكار ما دعوا إليه من الإِقرار بالرّبوبية وإظهار العدل وترك الجور وإماتة الفساد ، لما في ذلك من جرءة العدوّ على المسلمين ، وما يكون من السبي والقتل وإبطال دين الله عزّ وجلّ وغيره من الفساد» . (2)
ومن ضمن الإِمتيازات الكثيرة التي كانت عند الإِمام علي(عليه السلام) ، وربّما يشير إِلى نفسه أحياناً ليكون نبراساً للآخرين قوله «إِنّي لم أفر من الزحف قطّ ، ولم يبارزني أحد إلاّ سقيت الأرض من دمه» (3) .
والعجيب أنّ بعض المفسّرين من أهل السنة يصرّ على أنّ حكم الآية السابقة يختص بمعركة بدر ، وأنّ التهديد والوعيد من الفرار من الجهاد يتعلق بالمقاتلين في بدر فحسب ، مع أنّه لا يوجد دليل في الآية على هذا التخصيص ، بل لها مفهوم عام يشمل كل المقاتلين والمجاهدين .
وفي الرّوايات والآيات كثير من القرائن الذي يؤيد هذا المعنى «ولهذا الحكم شروط طبعاً سنتناولها نعالجها في الآيات المقبلة من هذه السورة إن شاء الله» .
ولئلا يصاب المسلمون بالغرور في إنتصارهم ، ولئلا يعتمدوا على قواهم الجسمية فحسب ، وليذكروا الله في قلوبهم دائماً ، وليتعلقوا به طلباً لألطافه ، فإنّ الآية التّالية تقول : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} .
لقد ورد في الرّوايات والتفاسير أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي يوم بدر : أعطني حفنة من تراب الأرض وحصاها ، فناوله علي ذلك ، فرمى النّبي جهة المشركين بذلك التراب وقال : {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . (4)
قالوا : كان لهذا الفعل أثر معجز إذ وقع ذلك التراب على وجوه المشركين وعيونهم فملأهم رعباً .
لاشك أنّ الظاهر يشير إِلى أنّ النّبي وأصحابه هم الذين أدّوا هذا الدور في معركة بدر ، لكن القرآن يقول : إنكم لم تفعلوا ذلك أوّلا ، لأنّ القدرات الروحية والجسمية والإِيمانية التي هي أصل تلك النتائج كلها من عطاء الله وقد تحركتم بقوة الله وفي سبيل الله . وثانياً قد حصلت في ساحة بدر معاجز كثيرة أشرنا إليها سابقاً ، وقد بعثت في نفوس المجاهدين القوّة ، وإنهارت بها قوى المشركين ومعنوياتهم ، وكان كل ذلك بألطاف الله سبحانه .
وفي الحقيقة فإنّ الآية محل البحث تشير إِلى لطيفة في مذهب «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» لأنّها في الوقت الذي تخبر عن قتل المسلمين للكافرين ، وتقول إنّ النّبي رمى التراب بوجوه المشركين تسلب منهم كل هذه الأُمور (فتأمل بدقّة) .
ولا شك في عدم وجود تناقض في مثل هذه العبارة ، بل الهدف هو القول بأنّ هذا الفعل كان منكم ومن الله أيضاً ، لأنّه كان بإرادتكم والله منحكم القوة والمدد .
وبناء على ذلك فإنّ الذين اعتقدوا بمذهب الجبر مستدلين بهذه الآية فإنّ الردّ عليهم موجود في الآية ذاتها .
والذين قالوا بوحدة الوجود مستدلين بهذه الآية فإنّ الردّ عليهم موجود في الآية بأُسلوب لطيف ، لأنّه إِذا كان المراد بأنّ الخالق والمخلوق واحد ، فلا ينبغي أن ينسب الفعل إِليهم تارةً وينفي عنهم تارةً أُخرى ، لأنّ النسبة ونفيها دليل على التعدد ، وإذا تجردت الأفكار عن الحكم المسبق والتعصب المقيت لرأينا أن الآية لا ترتبط بأىَّ من المذاهب الضّالة ، بل هي تشير إِلى المذهب الوسط «أمر بين أمرين» فحسب .
وهذه الإِشارة لأجل هدف تربوي ، وهو إِزالة الغرور وآثاره ، إذ يقع ذلك عادة في الأفراد بعد الإِنتصارات .
وتشير الآية في ختامها إِلى لطيفة مهمّة أُخرى ، وهي أنّ ساحة بدر كانت ساحة امتحان وإختبار ، إذ تقول : {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} .
والبلاء معناه الإختبار في الأصل ، غاية ما في الأمر تارة يكون بالنعم فيسمى بلاءً حسناً ، وتارةً بالمصائب والعقاب فيسمّى بلاءً سيئاً ، كما تشير إِلى ذلك الآية (168) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} .
لقد شاء الله أن يذيق المؤمنين في أوّل مواجهة مسلحة بينهم وبين أعدائهم طعم النصر ، وأن يجعلهم متفائلين للمستقبل ، وهذه الموهبة الإِلهية كانت إختباراً لهم جميعاً ، وإلاّ أنّه لا ينبغي لهم أن يغتروا بهذا الإِنتصار أبداً ، فتكون النتيجة سلبية ، وذلك بأن يروا عدوهم حقيراً وينسوا بناء ذواتهم ويغفلوا عن الإِعتماد على الله .
لهذا فإنّ الآية تختتم بهذه الجملة {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
أي أنّ الله سمعَ صوت استغاثة النّبي والمؤمنين ، واطلع على صدق نياتهم ، فأنزل ألطافه عليهم جميعاً ونصرهم على عدوّهم ، وأنّ الله يعامل عباده بهده المعاملة حتى في المستقبل ، فيطلع على ميزان صدق نياتهم وإخلاصهم واستقامتهم ، فالمؤمنون المخلصون ينتصرون أخيراً ، والمراؤن المدعون ينهزمون ويفشلون .
وفي الآية التالية يقول سبحانه تعميماً لهذا الموضوع وأنّ مصير المؤمنين والكفار هو ماسمعتم ، فيقول : {ذلكم} (5) ثمّ يعقب القرآن مبيناً العلّة {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} .
{إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}
لقد جرى بحث كثير بين المفسّرين حول الذين توجهت إليهم الآية بالحديث ، فبعضهم يعتقد بأنّهم المشركين ، لأنّهم قبل خروجهم من مكّة إِلى بدر اجتمعوا حول الكعبة وضربوا على ستائرها (لغرورهم واعتقادهم بأنّهم على الحق) . وقالوا : «اللّهم أنصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين» (6) .
وروي أنّ أباجهل دعا فقال : (اللهم ربّنا ديننا القديم ودين محمّد الحديث ، فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فأنصر أهله اليوم) (7) . . . ولذلك فقد نزلت هذه الآية لتقول لهم : {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} .
والذي يبعد هذا التّفسير أن الحديث في الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية موجه للمؤمنين ، فيستبعد أن تكون بينها آية واحدة تتحدث مع المشركين ، ويضاف لذلك الإِرتباط المعنوي الموجود بين مضامين كل هذه الآيات ـ ولذلك اعتبر بعض المفسّرين أنّ المخاطبين في الآية هم المؤمنون ، وأحسن صورة لتفسير الآية على هذا الوجه هي :
لقد حصل بين بعض المؤمنين جدال حول تقسيم الغنائم بعد واقعة بدر ـ كما رأينا ـ ونزلت آيات توبخهم وتضع الغنائم تحت تصرف شخص الرّسول كاملا (صلى الله عليه وآله وسلم) فقام بتقسيمها بينهم بالتساوي ، بغية تربيتهم وتعليمهم ، ثمّ ذكّرهم بحوادث بدر وكيف نصرهم الله على عدوّهم القوي .
وهذه الآية تتابع الحديث عن الموضوع نفسه فتخاطب المسلمين وتقول لهم : إنّكم إذا سألتم الله الفتح والنصر فسوف يستجيب لكم وينصركم ، وإذ تركتم الإِعتراض والجدال عند النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبذلك مصلحتكم ، وإذا عدتم لنفس الأُسلوب من الإِعتراض فسنعود نحن أيضاً ، ونترككم وحيدين في قبضة الأعداء وحتى إذا كان عددكم كثيراً فبدون نصرة الله لن تقدروا أن تعملوا أي شيء ، وإنّ الله مع المؤمنين المخلصين والطائعين لأوامره وأوامر نبيّه .
وهكذا يستفاد من الآيات وخاصّة من إلقاء اللوم على المسلمين لبعض مخالفتهم ، وكذلك سياق الايات السابقة وما فيها من أواصر وروابط معنوية واضحة ، فإن التّفسير الثّاني يكون أقرب إِلى النظر . . . .
________________
1- تفسير الامثل ، مكارم الشيرازي ، ج5،ص31-37 .
2 ـ نور الثقلين ، ج 2 ، ص 138 .
3 ـ نور الثقلين ، ج 2 ، ص 139 .
4 ـ راجع نور الثقلين،ج2 ، ص140 .
5 ـ في الحقيقة أن هذا الكلمة إشارة إِلى جملة مقدرة هي «ذلكم الذي سمعتم هو حال المؤمنين والكافرين . . .» .
6 ـ هذه الجملة في الحقيقة «ذلكم الذي سمعتم هو حال المؤمنين والكافرين» .
7 ـ مجمع البيان وتفاسير أُخرى .
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|