المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17607 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
2024-11-01
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
2024-11-01
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01



قصة تهشيم الأصنام  
  
3204   06:03 مساءً   التاريخ: 13-12-2020
المؤلف :  الدكتور محمود البستاني
الكتاب أو المصدر :  قصص القران الكريم دلاليا وجماليا 
الجزء والصفحة : ج2،ص 41- 61.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي ابراهيم وقومه /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-2-2016 23760
التاريخ: 9-10-2014 1649
التاريخ: 2024-08-29 237
التاريخ: 9-10-2014 1986

 

قلنا: إنّ قصة إبراهيم (عليه السلام) أو تهشيم الأصنام تتميّز عن سائر قصص السورة

بكونها ذات تفصيلات وطول وعناصر حوارية مثيرة ممّا تجعل لها أهمية خاصة.

إذن لنتحدث عنها ، فنقول:

تبدأ قصةُ إبراهيم (عليه السلام) في سورة الأنبياء على النحو الآتي:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}

إنّ هذه المُقدّمة القصصيّة تُشدّد على إبراز ظاهرة الرُشد الذي يَسِمُ شخصيةَ إبراهيم (عليه السلام) ممّا يعني من حيث البناء العماري للاُقصوصة أنّ محتوياتها ستُصاغ وفاقاً لمنطق المعرفة الحقّة التي يتعامل إبراهيمُ من خلالها مع أحداث القصة و مواقفها وشخوصها .

وبالفعل فإنّ أوّل موقف تصوغه القصةُ في هذا الصدد إنّما يتصل:

بطريقة اللغة التي واجَهَ بها إبراهيم أباه وقومَه العاكفين على عبادة التماثيل .

وبطريقة السلوك الذي مارَسَه حيال التماثيل المذكورة .

 

وبطريقة المناقشة المنطقية التي أتمّها معهم ، وهي جميعاً لغةً وسلوكاً ومحاجّةً تُفصح عن الرشد الذي يسم شخصيته (عليه السلام) .

والآن لِنتقدّم إلى تفصيلات المواقف والأحداث التي بدأها القسمُ الأوّل من القصة بالحوار الآتي:

{إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ}

{مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟}

وفي البدء يحسن بنا أن نلفت انتباه المتلقّي إلى أنّ اُقصوصة إبراهيم ستحوم بأكملها على قضية التماثيل وما يرافقها من أحداث ومواقفَ وشخوص ، دون أن تتجاوزها إلى قضايا اُخرى .

وهذا يعني أنّ الاُقصوصة من حيث الشكل والمضمون تتميّز ببناء هندسي خاص قائم على وحدة الموضوع من جانب ، وعلى صياغة الأحداث والمواقف والشخوص التي تصبّ في الوحدة الموضوعية المذكورة ، وفق خطوط تتنامى وتتلاحم بنحو بالِغ الإثارة فنّياً وفكرياً من جانب آخر .

وواضحٌ أنّ هذا النحوَ من الصياغة القصصية يتميّز عن منحىً صياغي آخر تتوفّر القصةُ القرآنيةُ الكريمةُ عليه ، حينما تُحقّقه من خلال الوحدة الفكرية التي تعني أنّ موضوعات مختلفةٌ تطرحها القصةُ أمام المتلقّي ، لكنها تصب في رافد فكريّ يوحّد بين الموضوعات المختلفة .

المهمّ أنّ النصَّ القرآنيّ الكريم يسلك طرائق شتّى في صياغة الأقاصيص ، ينطوي كلٌّ منها على إمتاع جمالي وفكريٍّ بالغ الإثارة . ومنها هذا المنحى القائم على وحدة الموضوع في قصة إبراهيم ، قبال المنحى القائم على وحدة الفكر في أقاصيص اُخرى عن إبراهيم نفسه ، أوعن الأبطال الآخرين .

* * *

والآن لِنتابع القسم الأوّل من هذه الاُقصوصة التي تحوم على موضوع واحد هو: التماثيل ، واستجابة إبراهيم (عليه السلام) حيالها ، فيما تجسّدت أولا في استجابته الثائرة على أبيه وقومه ، مخاطباً إيّاهم:

{مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟}

إنّ المتلقّي يظلّ في بداية الأمر مُتردّداً في استخلاص نوع الاستجابة الصادرة عن إبراهيم (عليه السلام) حيال هذه الأصنام .

هل هي استجابةٌ غاضبةٌ ؟ أم هي استجابةٌ ساخرة ؟ أم هي مزيجٌ منهما ؟

لا شك أنّ أيّة استجابة من الأشكال الثلاثة تنطوي على دلالة ممتعة فنّياً وفكرياً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ صياغة الأحداث والمواقف ، إنّما تتلوّن وفقاً لنمط الاستجابة الصادرة نه (عليه السلام) ، وصِلة ذلك من حيث المبنى الجمالي بالمقدمة القصصية التي شدّدت على سمة الرشد في شخصية إبراهيم (عليه السلام) .

إنّ أحداث القصة ومواقفها ستكشف في البعض منها عن أنّ استجابته (عليه السلام)كانت غاضبةً مثلما كانت ساخرة أيضاً في البعض آخر منها ، ممّا نتوقع حيناً من أن تكون الاستجابة مزيجاً من الغضب والسخرية ، أو غضباً في بعض المواقف ، وسخريةً في الآخر منها ، . . . أو أنّنا أساساً لا نملك يقيناً حاسماً على تحديد ذلك .

المهمّ ، في الحالات كلّها يظلّ هذا النمطُ من الصياغة الفنّية لاستجابة إبراهيم حيال التماثيل وانطوائها ـ من جانب ـ على نمطين من الاستجابة: الغاضبةِ والساخرةِ ، . . . ثمّ تردّدنا في معرفة ما إذا كانت السخرية والغضب سلوكين يمتزجان بعضاً بالآخر في كلّ المواقف والأحداث ، أم ينفصلان في موقف دون آخر مثلا . . .

أقول: هذا النمط من الصياغة الفنّية لاستجابة إبراهيم (عليه السلام) لم يكن مجرّد ظاهرة جمالية تستثير أحاسيسنا في نطاق محدود أو عابر بقدر ما ينطوي الأمر على خطورة فنّية وفكرية ، تدلّنا على طرائق السلوك التي ينبغي أن نختطّها في التعامل مع الظواهر التي تواجهنا ، بحيث تترك فاعليّةً لها قيمتُها في ميدان التعامل .

والآن فإنّ أوّل استجابة صادرة عن إبراهيم (عليه السلام) حيال التماثيل ، لا تكشف لنا عن نمط الاستجابة ، بل يظلّ الأمر ملفّعاً بغموض فني ، تبدأ الأحداث اللاحقة بتبيين ذلك فيما بعد .

ولكن قبل أن نبيّن ذلك ينبغي أن نتابع جواب قومه حيال السؤال الذي وجّهه إلى أبيه وقومه ، بقوله

{مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟}

لقد أجابه القوم بما يلي:

{قَالُوا: وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}

وهنا ، أجابهم إبراهيم (عليه السلام) مباشرة:

{قَالَ: لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ في ضَلاَل مُبِين}

ثمّ أجابه القومُ ، أيضاً:

{قَالُوا: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ}

وعندها أجابهم مباشرة:

{قَالَ: بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ الذي فَطَرَهُنَّ}

{وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}

إلى هنا فإنّ هذه السلسلة من الحوارات المتبادلة بين إبراهيم وقومه ، تدع المتلقّي متردداً في تحديد ما إذا كان ابراهيمُ غاضباً في مواجهته للقوم ، أم ساخراً ، أم غاضباً وساخراً في آن واحد ؟

ممّا لا شك فيه ، أنّ القوم بصفتهم مجموعةً من الأغبياء والحمقى قدّموا إجابات مثيرة للسخرية ، حينما قدّموا أوّلا إجابة تدلّ على تخلّفهم الفكري من أنّهم وجدوا آباءَهم عَبَدةَ تماثيل ، فاقتفوا آثارَهم ، . . . وحينما قدّموا ثانياً إجابةً تدلّ على حماقتهم في التساؤل الذي مزجوه بالسخرية في قولهم:

{أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ}

إنّ تقديم مثل هذه الاستجابة الحمقاء ، قد تستدعي نمطاً من الاستجابة التي يُواجهُهُم إبراهيمُ بها ، بحيث تتناسب مع الموقف ، ممّا يعني أنّ ابراهيم (عليه السلام) سيمارس سلوكاً ساخراً حيالهم فيما بعد .

وهذا ما سنراه فعلا في مواقف لاحقة من القصة ، مع ملاحظة أنّ الغضبَ للّه قد غلّف سلوكَ إبراهيم أيضاً بنحو بالغ الشدّة ، على نحو ما سنوضّحه لاحقاً .

* * *

يتضمّن القسمُ الأوّل من قصة إبراهيم (عليه السلام) ، موقعاً يحوم على مناقشة أبيه قومه في عبادتهم للتماثيل .

ويُلاحَظ أنّ إبراهيم (عليه السلام) وجّه خطاباً مشتركاً لأبيه وقومه ، دون أن يُفرد لأبيه خطاباً خاصاً ، أو منفصلا عن الخطاب الذي وجّهه للقوم ، بل تمّ توجيه الخطاب على النحو الآتي:

{إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ: مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟}

والسؤال هو: لماذا جاء ذِكرُ الأب في سياق الخطاب الموجّه للقوم من حيث المبنى الفنّي للحوار ؟

إنّ إفراد الأب في هذا الصدد ينطوي على سمة فنّية ، هي التشدّد على ما يُسمّى بدافع البنوّة نحو الأب ، أو القربى نحو العمّ ، بصفة أنّ آزر هو عمّه وليس أباه ، والمهمّ هو لفت الانتباه إلى أنّ العاطفة النَسَبيّة مع أنّها موضع أهمية كبيرة في نطاق العلاقات، لكنها في نطاق التعامل مع السماء ينبغي ألاّ تحتجز الفرد من إلغاء العاطفة المذكورة ، بل ينبغي الإتجاه إلى السماء فحسب والالتزام بمبادئها .

وهناك سمةٌ فنّيةٌ ثانية وراء إفراد الأب في سياق الخطاب الموجّه للقوم .

فالمُلاحَظ أنّ إبراهيم تسلّم جواباً من قومه على هذا النحو:

{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}

فهذا الجواب يتضمّن دلالةً واضحةً إلى أنّ الأبناء قد وجدوا آباءَهم عاكفين على الأصنام ، أي أنّهم مقلّدون ومُحاكون لآبائهم ، دون أن يمارسوا عمليّة تفكير في هذا الموقف .

وهذا يعني أنّ الوعي أو الرشد غائبٌ عن أذهانهم تماماً .

إنّ ما نودّ من لفت الانتباه إليه ، هو أنّ القصة قد استخدمت طريقةً فنّيةً غير مباشرة ، أي: طريقةً قائمةً على فسح المجال للقارئ أو السامع أن يستكشف بنفسه بعض الدلالات المهمّة التي يستهدفها النص من وراء هذا الحوار الفنّي ، دون أن توضّحها القصةُ ذاتُها .

الدلالة التي تستهدفها القصةُ ، هي أنّ إبراهيم (عليه السلام) قد ترك تقليد الآباء في عبادتهم للأصنام ، بدليل أ نّه وجّه اعتراضاً لأبيه .

ولا يغب عن بالنا ، أنّ القصة في مقدّمتها قد وسَمَت إبراهيم بصفة الرُشد ، فقالت:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ}

ثمّ تقدّمت الآن بطريقة فنّية غير مباشرة بتوضيح هذه الصفة ، حيث أبانت من خلال الاعتراض الذي وجّهه إبراهيم (عليه السلام) إلى أبيه وقومه على عبادتهم للتماثيل ، . . . ومن خلال الإجابة التي تقدّم بها القوم من أنّهم وجدوا آباءهم عابدين للتماثيل ، وأنّهم مقلّدون لآبائهم في هذا الموقف . . . أبانت من خلال ذلك كلّه أنّ إبراهيم (عليه السلام) لم يكن مقلّداً لأبيه وقومه ، بل كان رشيداً متّصفاً بسمة الرّشدالتي تعني عدم انغلاق الفكر ، أوسذاجته .

إذن هناك دلالتان فنيّتان يستوحيهما القارئ أو السامع من الإجابة التي تقدّم بها القوم:

{قَالُوا: وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}

الدلالة الاُولى: أنّ إبراهيم (عليه السلام) لم يقلّد آباءه ، بدليل أنـّه وجّه اعتراضاً لهم .

الدلالة الثانية: أن إبراهيم (عليه السلام) موسومٌ بسمة الرُشد ، طالما لم يقتصّ أفكار الآباء ، بل اتّسم بــ «الرشد» الذي جعلته مقدّمةُ القصة سمةً أو طابعاً لشخصية إبراهيم (عليه السلام)الذي ستحوم كلّ أحداث القصة على مصاديق الرشد الذي تتّسم به شخصيتُه (عليه السلام) .

* * *

والآن لِنتابع مواقف القصة من خلال الحوار المتبادَل بين إبراهيم وقومه ، بعد أن أوضحنا كلاّ من البناء العضوي للحوار ، وصلته بمقدّمة القصة .

لقد خاطبهم إبراهيم أوّلا:

{مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}

فأجابوه:

{وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}

ثمّ ردّ عليهم:

{لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ في ضَلاَل مُبِين}

 

وهذا الردّ يعكس بُعداً آخر من طابع الرُشد الذي يتّسم به إبراهيم (عليه السلام) ، حيث أوضح بأنّ المقلَّد والمقلِّد في ضلال مبين ، بصفة أنّ المقلَّد وهم الآباء لم يصدروا عن فكر صائب رشيد في عبادتهم للتماثيل طالما يعبدون ما لا ينفعهم شيئاً ولا يضرّهم ، . . . وطالما يعبدون ما لا يملك حتّى فاعلية النطق .

وأمّا المقلِّد وهم الأبناء فيتّسمون بنفس الطابع الضالّ ماداموا مجرّد مقلّدين لم ينتبهوا إلى حقيقة الموقف الذي سار الآباءُ عليه .

طبيعيّاً لم تتحدّث القصة القرآنيةُ بنحومباشر عن هذه التفصيلات ، بل إنّ هذه التفصيلات المتصلة بعبادة ما «لاينطق» ، وما «لا ينفع شيئاً أو يضرّ» . . . هذه التفصيلات سنجدها في تضاعيف القصة عبر أحداث ومواقف لاحقة ، . . . بيد أنّ القارئ أو السامع يكتشف بنفسه أصداء هذه الدلالات عندما يتابع القصة . . . مثلما يكتشف القيمة الفنّية لمثل هذا المنحى من صياغة الحوار الذي يقدّم جواباً مُجملا مثل :

{أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ في ضَلاَل مُبِين}

ثمّ يفصّل ويوضّح ما هو مجملٌ في الأجزاء اللاحقة من القصة مُحقّقاً بذلك إمتاعاً جمالياً للمُتلقّي عندما يواجه مثل هذه العمارة الفنّية التي خضعت القصةُ لها .

* * *

والآن بعد أن ألمح إبراهيم (عليه السلام) إلى القوم بأنّهم وآباؤهم في ضلال مبين ، . . .

ماذا كانت الإجابةُ من قِبَلِهم ؟

{قَالُوا: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ}

إنّ ممّا يثير السخرية ، أن تجيء الإجابة باهتةً ساذجةً تتوافق ونمطَ العقلية أو الثقافة التي تغلّف هؤلاء القوم .

فما داموا مقلِّدين بلا إعمال للفكر ، . . . حينئذ نتوقع أن يُخيَّلَ إليهم أنّ إبراهيم كان لاعباً هازلا في اعتراضه على عبادة الأصنام ، لأنّ مثل هذا الاعتراض يزلزل اُسس التقليد الذي طُبعت أذهانُهم عليه .

ومع ذلك فإنّ إبراهيم تبعاً لسمة الرُشد الذي طبع شخصيته ، أجابهم بمايلي:

{قَالَ: بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ الذي فَطَرَهُنَّ}

{وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}

إنّ الفقرة الأخيرة: (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) تؤكّد من جديد سمة الرشد الذي طبع شخصيّته . . . مثلما تؤكّد يقينه التامّ بالقضيّة التي يتحرك من خلالها ، ثائراً على قومه .

وبالفعل تبدأ ثورتُه على الواقع الفاسد متمثلة أوّلا في قَسَم لفظي:

{وَتَاللّهِ ، لاََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}

ثمّ في ممارسة عمليّة ، ثانياً:

{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً ، إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}

إنّ أحداث القصة تبدأ فيما يسمى بــ : التأزّم في لغة الأدب القصصي ، تبدأ من القَسَم الذي أعلنه أو أضمَره حسب بعض النصوص المفسّرة ، بأن يكيد أصنامَهم ، وتبلغ ذروتَها أو تأزّمها في تهشيمه فعلا للأصنام ، وفي جعلها قِطَعاً قطعاً ، أو حُطاماً .

والآن فإنّ القِسْمَ الثاني من القصة يبدأ مع قَسَم إبراهيم بأن يكيد الأصنام ، ومع تحطيمه الفعلي للأصنام بأكملها عدا الصنم الكبير منها .

ولكن ينبغي أن نتعرّف على تفصيلات هذا الحَدثَ الخَطير ، بدءً من القسَمَ ، مروراً بتهشيمه للأصنام ، وانتهاءً بتركه كبير الأصنام .

ثُمّ تعليل ذلك كلّه فنياً وفكريّاً ، وصلته بمقدّمة القصة وقسمِها الأوّل .

يبدأ القسمُ الثاني من قصة إبراهيم (عليه السلام) في سورة الأنبياء بحادثة تهشيمه للأصنام .

وقد سبق حادثة التهشيم ، قَسَمٌ باللّه بأن يكيد الأصنام .

إنّ هذه الحادثة تنطوي ـ بوضوح ـ على دلالة فكرية تتصل بشجاعة إبراهيم (عليه السلام) ، وبثقته باللّه ، وبتحسيس الآخرين أنّ التعامل مع اللّه ينبغي ألاّ يَعُوقه الخوف من أيّ ظالم مهما عَتا وتجبّر ، ومهما بلغت قوته .

ومثلما أشارت بعض النصوص المفسّرة عن أهل البيت (عليهم السلام) بما مؤدّاه: من أنّ إبراهيم (عليه السلام) بلغت شجاعته الذروة ، حين كان وحده يقف قبال الآلاف من عبدة الأصنام ، . . . وحتّى من الزاوية النفسية الخالصة ، فإنّ الوحشة لم تُداخل الخوفَ حينما كانت وحدة إبراهيم حتى من أبيه: عمّه الذي لم يحتج إلى عاطفته .

 

إذن مثل هذه الشجاعة المستمدّة من الركون إلى اللّه ، تظلّ أمراً لافتاً للانتباه ، . . . وبخاصّة أنّها ـ أي الشجاعة المذكورة ـ سيُصاحبها يقينٌ مماثلٌ كما سنرى في القسم الثالث من القصة ، عبر حادثة إلقاء إبراهيم في النار ، . . . يقينٌ برعاية اللّه في المواقف كلّها على تنوّع مستوياتها ، سواء أكان ذلك متصلا بمجابهة أعداد ضخمة من الطواغيت ، أم كان متصلا بمجابهة نار تحرق الجسد بطبيعتها .

المهم أنّ وضوح مثل هذه الدلالة الفكرية ، يظلّ متصلا بسمة الرشد التي وسَمَ اللّه بها إبراهيم (عليه السلام) ، فيما تفصح هذه السمة عن مدى الوعي الذي غلّف إبراهيم (عليه السلام) في ثقته بالسماء ، ومعرفته بقدراتها غير المحدودة ، حيث أمدّته بشجاعة بالغة المدى في ممارسته تحطيم الأصنام وحده قبال الآلاف ، وفي يقينه بالسماء في حادثة إلقائه في النار على نحو ما سنتحدّث عنه لاحقاً .

* * *

وحين نتجه إلى واقعة تهشيمه للأصنام ، نلحظ أنّ النصوص المفسّرة تُقدّم تفصيلات قد اختزلها النص القصصي ، فيما لا حاجة إلى سردها فنّياً ، مادام الأمر يتّصل بابراز دلالة خاصة ، هي عملية تحطيم الأصنام وما يرافقها من شجاعة ، ثمّ ما يرافقها من دلالات اُخرى تظلّ في الصميم من اهتمامات إبراهيم (عليه السلام)وحرصِه على إبرازها أمام الوثنيّين ، بغية كشف السذاجة والغفلة التي تطبع عقولهم .

على أنّ حادثة تحطيم الأصنام قد رافَقَها موقفٌ وحادثٌ آخر ، ينبغي الوقوف عندهما مليّاً ، مادمنا أمام نصٍّ قرآني عظيم لا يرسم موقفاً أو حَدَثاً جانبياً ، إلاّ إذا انطوى على دلالة فنّية كبيرة أو دلالة نفسيّة متصلتين بالبناء الهندسي للقصة .

أمّا الموقف ، فهو قول إبراهيم (عليه السلام): {لاََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} ، قبل أن يَقْدِم على كسر الأصنام .

وأمّا الحادثة فهي: إبقاؤُه كبير الأصنام سالماً ، دون أن يحطّمه .

لا شك أنّ كلاّ من الموقف والحادثة ، يرتبطان عضوياً أحدهما بالآخر . مثلما يرتبطان بمواقف سابقة في القصة ، كما يرتبطان بمواقف لاحقة في القصة أيضاً .

ويمكننا ملاحظة هذا الإحكام الهندسي وجماليته الفائقة في القصة ، حين نشرع بتوضيح كلٍّ من ملابسات الموقف والحادثة: موقف كيده للأصنام ، وحادثة إبقائه كبير الأصنام .

أمّا الموقف ، فتقول النصوص المفسّرة عنه: إنّه ممارسة لفظية وجّهها لِعَبدَة التماثيل من أ نّه سيكيد لها بنحو أو بآخر .

وظاهرُ النص القصصي الكريم يسندُ مثل هذه الممارسة اللفظية الموجّهة إلى القوم ، وبخاصة أنّها قد اقترنت بِقَسَمِهِ باللّه من أ نّه سيكيد الأصنام ، ممّا يعني أنّ القَسَم موجّهٌ لاُولئك الذين سخروا منه حينما تساءلوا: أجادٌ أم هازلٌ أنت يا إبراهيم في اعتراضك على تماثيلنا ؟

بيد أنّ بعض النصوص المفسّرة ، تذهب إلى أنّ إبراهيم قد أسرّ ذلك على قومه ، ولم يوجّه خطابه إلاّ إلى واحد من القوم فحسب .

وأيّاً كان الأمر ، فإنّ المهمّ هو أنّ إبراهيم كان في صدد القيام بكيد محدّد سيعكس أثره من الزاوية الفنّية على مواقف لاحقة من القصة ، كما سنرى .

* * *

كان إبراهيم غاضباً للّه عبر رؤيته غفلة القوم وعكوفهم على التماثيل . وكان ـ فيما يبدو ـ ساخراً من اُولئك أيضاً عندما مزج الغضب بالسخرية ، قائلا: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون .

وتبعاً لذلك قرّر إبراهيم أن يعمل كيداً بالنسبة إلى الأصنام حتّى يعرّفهم حقيقة ما هم عليه من الضلال المبين .

وفعلا أقسم باللّه أوّلا:

{لاََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}

وبدأ بتنفيذ العملية ذات يوم ، مستثمراً فرصة أحد الأعياد عند القوم وخروجهم من مساكنهم ، وها هو يحمل فأساً في يده ويبدأ ـ في ثقة الفارس الشجاع الذي لا تضاهيه شجاعة ـ بتكسير الأصنام واحداً بعد آخر ، غير مُبال بالنتائج المترتبة على هذا العمل الخطير ، مادام واثقاً أنـّه يكسّر مجموعة أصنام لا تضرّ ولا تنفع ، . . . لا تعي ولا تنطق . . . وما دام واثقاً أ نّه حيال قوم غافلين ، منعزلين عن السماء . . . ومادام واثقاً ـ وهذا هو مكمن الخطورة ـ أ نّه يستمدّ فاعليّـته من السماء التي لا تكفّ لحظةً عن إمداده بالقوة ، . . . بالمعطيات . . . بالإنقاذ .

وفعلا ، تَمّ كُلّ شيء .

لكنه أبقى صنماً واحداً هو: كبير الأصنام ، فيما تقول النصوص المفسّرة: إنّ إبراهيم (عليه السلام)أبقاه وقد علّق الفأس في عنقه دون أن يهشّمه . وكان موقعه في مقدّمة الأصنام .

ثمّ عاد القومُ من تجوالهم في يوم العيد .

لكنهم فُوجئوا بما لم يدر في حُسبانهم .

لقد وجدوا تماثيلهم مهشمةً جميعاً ، خلا التمثال الكبير ، . . . التمثال المُعلم الذي وُضِعَ الفأسُ في عنقه .

مثل هذه الحادثة لم تمرّ على القوم دون مبالاة ، بل إنّها ستحدث لديهم ردّ فعل له دلالته في أذهانهم دون أدنى شك .

وطبيعيّاً أن يتساءلوا ـ بادئ ذي بدء ـ عن هوية الفاعل ، عن الشخصيّة التي تجرّأت على القيام بمثل هذه العمليّة .

لقد تساءلوا بمرارة ساذجة ، قائلين:

{مَن فَعلَ هذا بآلهتنا}

ويبدو أنّ البعض منهم كان على وعي وتذكّر بأنّ إبراهيم كان مُعارضاً ، منتقداً تماثيلهم وعكوفهم عليها ، . . . أو على الأقلّ قد سمع البعضُ منهم أنّ إبراهيم (عليه السلام) أقسم ذات يوم بأن يكيد أصنامهم .

ولذلك أجاب البعضُ منهم على سؤال البعض منهم ، قائلين:

{سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}

 

إذن عرف القوم أنّ البطل هو إبراهيم (عليه السلام) .

إلى هنا ، فإنّ الأحداث والمواقف تمضي على نحوها المذكور .

ولكن هناك إجابة خاصة أعدّها إبراهيم لمواجهة الموقف ، وقبلَ ذلك هناك أسرارٌ وسماتٌ وخصائص فنّية ينبغي أن نقف عندها حيال صياغة القصة بنحوها المذكور .

عندما هَشّم إبراهيمُ (عليه السلام) تماثيلَ القوم ، وتعرّفوا على شخصيّـته بدأت الأحداثُ والمواقفُ تأخذ منعطفاً خطيراً في هيكل القصة .

فالقوم ـ وهم مشدودون إلى أصنامهم ـ لا يُعقل أن يقفوا حيال البطل إبراهيم موقف المتفرّج ، أو حتّى موقف المُعاتِب الذي لا يُثير ضجيجاً قبل إقدامه على الجريمة ، جريمة إلقائه في محرقة خاصة .

ولذلك اقترحوا ما يلي:

{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}

وفعلا جيء بالبطل إلى مشهد يغصّ بالناس . . . ووجّهوا إليه هذا السؤال:

{أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ؟}

وأجابهم إبراهيم (عليه السلام) على الفور ، إجابةً ذكيّةً أعدّ لها إعداداً خاصاً من قبل ، حينما أقسم باللّه أنـّه ليكيدنّ أصنامهم لقد أجابهم ساخراً وأنّها لَسخريةُ الحقّ من الباطل ، أجابهم قائلا:

{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْألُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ}

بهذه الإجابة تتكشّف أبنيةُ القصة وخطوطها الهندسية في ترابط بعضها بالآخر ، وفي إنارة أحدها للآخر . . .

فالقارئ أو السامع سيُدرك على الفور بعض السمات الفنّية وراء هيكل القصة .

إنّه ، أي القارئ أو السامع سيُدرك على الفور أنّ إبراهيم (عليه السلام) عندما قال ذات يوم:

{تَاللّهِ لاََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}

فإنّه لم يقُل هذا عَبثاً ، بل إنّ القصة قدّمت مثلَ هذا الكلام ، ليُشكّل تمهيداً لــ فعل لاحق تكشفه تضاعيف القصة فيما بعد .

وهل هناك كيدٌ أشدّ وقعاً على النفوس من أن يقوم إبراهيم بتحطيم الأصنام ، ثمّ يقول للقوم: إسألوهم عن الفاعل إن كانوا ينطقون .

أليس من حقّ إبراهيم (عليه السلام) من الزاوية الفنّية في صياغة القصة ، أن يناقش القوم في البداية قائلا:

{مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}

ثمّ بعد أن يستمع إلى إجابتهم الهزيلة:

{وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}

ثمّ بعد إجابتهم الساخرة:

{أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ}

أليس من حقّ إبراهيم ـ بعد تسلّمه مثل هذه الإجابات التي تحيا في غفلة من العقل ـ أن يواجههم بكيد يتناسب مع الغفلة العقلية التي يحيونها ، غفلة العكوف على أصنام لا تعي ولا تنطق ؟

إنّ من حقّه أن يفعل ذلك ، وأن يقدّم لهم إجابةً ساخرة كلّ السخرية ، داعية الإشفاق كلّ الإشفاق عليهم ، قائلا لهم:

{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ}

وهذا كلّه فيما يتصل بالموقف الساخر .

* * *

أمّا ما يتصل فنّياً بحادثة إبقاء الصنم الكبير سالماً دون أن يناله التحطيم ، فإنّ الأمر يبدوواضحاً تماماً من حيث الموقع الهندسي لهذه الحادثة بهيكل القصة .

فلقد أبقى إبراهيم (عليه السلام) . . . أبقى صنماً كبيراً في مقدّمة الأصنام ، بُغية أن يكون لهذا الحادث دلالة فنّية من حيث بناء القصة ودلالة فكرية من حيث سلوك إبراهيم ، هذه الدلالة هي: أنّ تحطيم الأصنام من الممكن أن يقترن في أذهان هؤلاء الحمقى ، بأنّها قد أصبحت في حكم العَدَم ، وإلى أنّ بقاء واحد منها حيّاً من الممكن أن يسعفَهم بالإجابة على أسئلتهم ، بل يمكن الذهاب ـ بنحو أو بآخر من أنحاء الاستخلاص الفنّي ـ أنّ إبقاء الصنم الكبير سيحسم الاُمور تماماً ، عندما يعي القوم ـ ولو للحظة ـ أنّ الصنم الكبير لا يملك قابليةً على النطق أبداً . . . وفي هذا كفايةٌ لتحسيس القوم بواقع الغفلة التي يحيونها .

ولكن السؤال: هل أنّ القوم اتّعظوا بهذه الحادثة أم لا ؟

إنّ القصة ذاتها تجيب على هذا السؤال .

إذن فلنتابع الموقف . . .

* * *

تقول القصةُ ساردة ردّ الفعل الذي أحدثته إجابةُ إبراهيم (عليه السلام) لدى القوم ، بعد أن قال لهم:{فَاسْألُوهُمْ ـ أي الأصنام ـ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ}.

{فَرَجَعُوا إلى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ}

{ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون}

لقد افحم القوم تماما ، حينما تنبهوا إلى حقيقة الأمر ، وأدركوا أن الصنم لا يملك قابلية على النطق .

وعندها اضطروا إلى مواجهة الحقيقة ، وتيقنوها في أعماقهم تماما للدرجة التي خاطب بعضهم بعضا ، فقالوا:

{إنكم أنتم الظالمون}

أكثر من ذلك ، لقد تملكهم الخجل تماما للدرجة التي طأطأوا من خلالها رؤوسهم ، مضطرين إلى الإقرار بحجة إبراهيم (عليه السلام) حيث خاطبوه:

{لقد علمت ما هؤلاء ينطقون}

إن مثل هذا الإقرار يعد نصرا ضخما دون أدنى شك في ميدان الفكر قد أعد له إبراهيم إعدادا ذكيا حتى انتهى به إلى هذا المطاف .

ولذلك تحدث إبراهيم (عليه السلام) ـ بعد هذه الواقعة ـ بلغة المنتصر وليس بلغة من يحاول إقناع القوم ، قائلا لهم:

{أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم}

{اف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون}

وواضح أن هذا التعقيب جاء مناسبا للموقف الجديد ، مادام الأمر فيما يتصل بالمنغلقين ذهنيا لا يحقق فاعليته المنشودة المتمثلة في عبادة ما لا ينفع شيئا ولا يضر ، إلا بعد تقديم ممارسة تحطيم الأصنام ، وإبقاء الكبير منها ، ومطالبة القوم بتوجيه السؤال إلى الصنم في التعرف على هوية الفاعل .

* * *

بهذا الموقف الذي أعقب حادثة تكسير الأصنام وإبقاء الكبير منها ، وإقرار القوم بغفلتهم ، وظلمهم . . . ينتهي القسم الثاني من قصة إبراهيم .

ثم يواجهنا القسم الثالث منها ، وهو القسم الذي تختتم به القصة .

وقبل أن نتعرف على المواقف والأحداث التي يتضمنها هذا القسم من القصة ، يواجهنا السؤال الآتي:

إذا كان إبراهيم (عليه السلام) قد حقق انتصارا ملحوظا في حادثة تحطيم الأصنام ، وانتزع من القوم إقرارا بخطأ ما هم عليه ، فهل إن ذلك يعني أن القوم قد رجعوا إلى رشدهم ، وتركوا فعلا عبادة التماثيل ؟ أم إن البعض منهم فحسب ، قد اهتدى إلى الحقيقة وبقي الآخرون على ضلالهم ؟

إن القسم الأخير من القصة يجيب على هذا السؤال مع ملاحظة أن الحمقى من الصعب أن يستسلموا للواقع . وتبعا لذلك نتوقع من عبدة التماثيل وسائر الذين يحيون في غفلة من الله ألا يكفوا عن إيقاع الأذى بكل الشخوص الخيرة التي تدعوهم إلى عبادة الله .

بيد أنهم غافلون أيضا عن أن السماء لن تدع عبادها المخلصين في قبضة من يكيدون لهم ، بل تتدخل لإنقاذهم على نحو ما سنلحظه في تعامل القوم مع إبراهيم (عليه السلام) ، وإنقاذ السماء لهذه الشخصية المصطفاة بنحو من المعجز المذهل كما ستوضحه القصة .

يبدأ القسم الأخير من قصة إبراهيم (عليه السلام) ، بحادثة إلقائه في النار .

فبالرغم من أن إبراهيم (عليه السلام) قد أفحم القوم وجعلهم يخاطب بعضهم بعضا بأنهم ظالمون في عكوفهم على التماثيل ، وبالرغم من أنهم نكسوا على رؤوسهم خجلا من الخطاب الذي وجهه إبراهيم (عليه السلام) إليهم بقوله:

{فاسألوهم إن كانوا ينطقون}

وبالرغم من أنهم أقروا أمام إبراهيم (عليه السلام)بقولهم عن هذه الأصنام:

{لقد علمت ما هؤلاء ينطقون}

بالرغم من ذلك كله ، فإن القوم أبوا إلا أن يلحقوا الأذى بإبراهيم (عليه السلام) مادام قد تجرأ على تهشيم أصنامهم .

لقد اقترحوا في غوغائية تدعو إلى الإشفاق ، وفي هياج الرعاع الذين ألغوا حتى المسكة الصغيرة من التفكير اقترحوا ما يلي:

{قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين}

إلى هنا فإن أحداث القصة تبدأ بالتأزم وتبلغ ذروتها من ذلك . فالقضية تتصل بتدبير جريمة كان من الممكن أن تتم بنحو آخر ، كالقتل مثلا وهو الاسلوب الاعتيادي في العقاب ، لكنهم يقترحون نمطا آخر ، . . . إنه الإحراق في النار . . .

لقد خيل إليهم أن إحراق إبراهيم (عليه السلام) في النار يضع حدا لأى تصرف حيال أوثانهم التي عكفوا عليها . . . فلعله ـ أي الإحراق ـ نظرا لتميزه بإثارة لافتة للإنتباه مثلا ، أو نظرا لتساوقه مع طبيعة أعماقهم التي طبعتها القسوة ، . . . وهي قسوة تبحث ـ دون أدنى شك ـ عن اسلوب مطبوع بنفس الانغلاق الذهني الذي قادهم إلى عبادة ما لا ينطق ولا يعي ، بحيث يحقق مثل هذا الاسلوب من الانتقام مزيدا من التلذذ بتعذيب الآخرين ، وهو تلذذ يطبع الشخصيات السادية التي نزعت الرحمة منها تماما .

المهم أن الوحش الكامن في أعماق هؤلاء القوم ، بدأ يتلذذ فعلا بمشهد الإحراق الذي تصفه النصوص المفسرة على نحو يبتعث الإثارة حقا .

* * *

تقول النصوص المفسرة: إن القوم بدأوا بجمع الحطب من هنا وهناك .

أكثر من ذلك . . . بدأوا يتسابقون في بذل الأموال لتهيئة الحطب .

وإنه لمرأى مثير حقا ، حينما نجد أن نزعة التلذذ بالتعذيب تستاقهم كالخراف إلى البحث عن الحطب بأية وسيلة كانت ، تلهفا إلى مشهد الإحراق الذي سيصعد من تلذذهم بتعذيب إبراهيم (عليه السلام) .

وتبلغ نزعة التلذذ بالتعذيب ذروتها عند كبير خرافهم نمرود ، حيث بني له بناء خاص لينظر إلى إبراهيم (عليه السلام) كيف تأخذه النار .

حتى آزر أب إبراهيم أو عمه ـ كما تقول بعض النصوص المفسرة ـ كان في موقف المتلذذ بتعذيبه ، مستغلا هذه الواقعة في ثنيه عن سلوكه الثائر على مهزلة عبادة الأصنام ، ممارسا حياله بعض أنماط التعذيب البدني .

وأيا كان الأمر ، فإن مشهد الإحراق بدأ في مرحلته العملية ، لكن البطل إبراهيم لا يلوي على شيء ، لقد ضجت الأرض والسماء من هول الجريمة . . . ولسان حالها يقول: ليس على ظهر الأرض أحد يعبد الله غير إبراهيم . . . فهل ستحرقه النار ؟

حتى أن جبرئيل ـ تقول بعض النصوص المفسرة ـ قال لإبراهيم: هل لك إلي من حاجة ؟ بيد أن البطل أجابه بلغة الواثق بالله ، . . . بلغة غير الآبه بالدنيا وما فيها ، . . . أجابه بهذه اللغة العظيمة: «أما إليك فلا !! وأما إلى رب العالمين ، فنعم» .

هذه الإجابة تحسم كل شيء ، . . . إنها تلغي كل القوى ، . . . تتجه إلى القوة الوحيدة . . . الله . . .

وفعلا ، . . . كانت السماء عند حسن ظن إبراهيم (عليه السلام) .

* * *

إن بلوغ القصة ذروة تأزمها سيظل عند حدث الإحراق كما هو واضح . مثلما سيظل عند تفصيلاته التي سكت النص القصصي عنها تماما ، تاركا ذلك لنصوص التفسير التي اكتفت بالتفصيلات التي قدمناها . أو لنقل: تاركا ذلك للقارئ أو السامع الذي سيستخلص بوضوح أن عملية الإحراق قد تحققت فعلا ، لكنه لم يتعرف بعد على نتائجها .

وها هي الواقعة ، عند بلوغها ذروة التأزم ، تعقبها ـ حسب لغة الأدب القصصي ـ لحظة الإنارة التي ستحسم كل شيء وتضع خاتمة للقصة .

إنها خاتمة تقوم على عنصر المفاجأة المذهلة ، . . . إنها: المفاجأة الآتية:

{قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم}

إن هذه الحادثة المذهلة التي ختم النص بها قصة إبراهيم (عليه السلام) تبعث الاثارة والدهشة التي ما بعدها من دهشة ، لكنها ـ في منطق السماء التي لا حدود لرعايتها ، . . . لا حدود لمعطياتها التي تغدقها على عبادها المصطفين الذين يخلصون في عبادتهم للسماء ـ هذه الدهشة ستأخذ طابع الوضوح في ذهن القارئ أوالسامع .

ألسنا نتوقع أن تكون السماء عند حسن ظن إبراهيم (عليه السلام) ؟ . . . ذلك ما نتوقعه كل التوقع!!

* * *

ولنتابع هذه الخاتمة القصصية:

{قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم}

هذه البيئة القصصية للنار منطوية كما هو واضح على عنصري البرد والسلام . . .

النص القصصي ساكت عن التفصيلات .

المهم أ نه في صدد تبيين المعجز ، وكفى .

بيد أن النصوص المفسرة تسرد التفصيلات:

ومنها: أن الحرارة تبدلت بردا ، وهذا ما يصرح النص القصصي به بوضوح .

ومنها: أن البيئة تحولت إلى روضة خضراء .

ومنها: أن قميصا وبساطا قد انزلا إليه . . .

والمهم أن النجاة غلفت حياة البطل ، وكفى بهذه عظة ودلالة .

والمهم أيضا أن القارئ أو السامع ، له أن يدقق في ملابسات الموقف ، وأن يستخلص ما عسى أن يكون رد الفعل لدى الطغاة الخراف الذين جمعوا قواهم في حطب وهم يتطلعون في قمة تلذذهم بتعذيب البطل إلى تحقيق اللذة المنكرة ، لكنهم يفاجؤون بالنار وقد تحولت بردا وسلاما!!

لقد بهت الذين كفروا حينما لطمهم البطل بقوله:

{فاسألوهم إن كانوا ينطقون}

والآن يواجههم البطل بهذا الحادث المعجز المذهل ، فما عسى أن يكون رد الفعل حيال ذلك ؟

كان أبسط رد فعل لكبير خرافهم نمرود أن طرد آزر عنه ، كما تقول بعض النصوص المفسرة . . .

لكننا ما عسى أن نتوقع من الاستجابة العامة لديهم ؟

إن أبسط ذلك ، يمكننا أن نتوقعه متمثلا في خفوت وانطفاء كل تلك الآمال المتوحشة التي صعدتها نزعة التلذذ بتعذيب الآخرين ، ثم وقوعهم باهتين ، يلفهم دوار الهزيمة ، الخذلان ، والضياع ، والتمزق . . .

ولعل تعقيب السماء على الحادثة المذكورة ، بقولها:

{وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين}

لعل هذه الفقرة التي ختمت القصة بها تحسم كل شيء ، وترسم لنا مبلغ الهزيمة التي لحقت بهؤلاء القوم .

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .