ما مدى رصانة وقوة علم الحديث والجرح والتعديل عند التشيع ؟ وهل يتبعون الاسلوب العلمي الصحيح في التعامل مع الروايات ؟ |
3224
10:46 صباحاً
التاريخ: 22-10-2020
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-10-2020
1068
التاريخ: 2024-10-27
76
التاريخ: 2024-10-27
62
التاريخ: 2024-10-27
114
|
السؤال : فيما يلي موضوع أحسبه نشر جديداً ، ولم أجد في الإنترنت ، أو فيما بين يدي جواباً مُعدّاً عليه ، وقد طرح هذا السؤال جديداً في أكثر من منتدى حوار ، أرجو أن تساهموا في الإجابة عليه ، وجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين ألف خير.
نصّ الشبهة :
علم الحديث عند الرافضة.
من المعروف أنّ أيّ مذهب ـ سواءً كان فقهيّاً أو اعتقادياً ـ يعتمد على الأحاديث في تحديد أحكامه وعقائده ، حتّى في تفسير القرآن ، فإنّ المذاهب تعتمد على أحاديث أسباب النزول وتفسير الآيات.
وأهل السنّة والجماعة ـ عمالقة الحديث وعظماء الجرح والتعديل ـ قاموا بوضع أُسس وقواعد غاية في الدقّة لجمع الأحاديث وتصحيحها ، فبنوا معتقداتهم ومذهبهم على الصحيح فقط من الأحاديث.
وسنبيّن في هذا البحث إن شاء الله : أنّ الشيعة ليس لهم علم معتبر في جمع الأحاديث ، إنّما بنوا مذهبهم على الأحاديث الضعيفة والمنكرة والموضوعة من قبل فاسدين المذاهب ، وأصحاب الفتن والكذّابين ، فلا يعرف صحيحهم من ضعيفهم ، ولا يعرف مصدر عقائدهم ولا شرائعهم ، بل هو دين إعلاميّ تطوّر عبر الزمن من كثرة الأحاديث الموضوعة فيه.
الجرح والتعديل عند الشيعة :
لم يكن للشيعة كتاب في أحوال الرجال حتّى ألّف الكاشانيّ في المائة الرابعة كتاباً لهم في ذلك ، وهو كتاب غاية في الاختصار ، وقد أورد فيه أخباراً متعارضة في الجرح والتعديل ، وليس في كتب رجالهم الموجودة إلاّ حال بعض رواتهم ، كما أنّ المتتبع لأخبار رجالهم يجد أنّه كثيراً يوقع غلط واشتباه في أسماء الرجال ، أو آبائهم أو كناهم أو ألقابهم.
وقد كان التأليف في أُصول الحديث وعلومه معدوماً عندهم ، حتّى ظهر زين الدين العامليّ الملقّب عندهم بالشهيد الثاني ، المتوفّى سنة 965 هـ.
فيقول شيخهم الحائريّ : ومن المعلومات التي لا يشكّ فيها أحد أنّه لم يصنّف في دراية الحديث من علمائنا قبل الشهيد الثاني ـ مقتبس الأثر 3 / 73 ـ.
فتصوّروا معي يا إخوة ، علم الحديث يؤلّف فيه في القرن التاسع من الهجرة ، فالزمن الذي سبق هذا ( 900 سنة ) يتعبّد الناس بأحاديث لا يعرف صحّتها من ضعفها؟! فعلام قام هذا المذهب يا ترى؟ وقد كثر الوضع على رسول الله صلى الله عليه وآله ، والأئمّة من بعده في العصور المتقدّمة!! حتّى علم الجرح والتعديل المستحدث فيه تناقضات واختلافات ما الله بها عليم ، حتّى قال شيخهم الفيض الكاشانيّ : في الجرح والتعديل وشرايطهما اختلافات وتناقضات واشتباهات لا تكاد ترتفع بما تطمئن إليه النفوس كما لا يخفى على الخبير بها ـ الوافي 1 / 11 ـ.
فإذا كان هذا اعتراف شيخ الجرح والتعديل عندهم؟ فهل نثق نحن في أحاديث القوم؟ واسمعوا معي الآن المصيبة الكبرى : يقول الحرّ العامليّ معرّفاً الحديث الصحيح : ( بل يستلزم ضعف الأحاديث كلّها عند التحقيق ، لأنّ الصحيح ـ عندهم ـ : ما رواه العدل ، الإماميّ ، الضابط ، في جميع الطبقات ).
ولم ينصّوا على عدالة أحد من الرواة إلاّ نادراً ، وإنّما نصّوا على التوثيق ، وهو لا يستلزم العدالة قطعاً ، بل بينهما عموم من وجه ، كما صرّح به الشهيد الثاني وغيره.
ودعوى بعض المتأخّرين : أنّ الثقة بمعنى العدل الضابط ممنوعة ، وهو مطالب بدليلها.
وكيف؟ وهم مصرّحون بخلافها ، حيث يوثقون من يعتقدون فسقه ، وكفره ، وفساد مذهبه؟! وسائل الشيعة 30 / 260.
فنستنتج من كلام العامليّ أنّ :
1 ـ أحاديث الشيعة كلّها ضعيفة.
2 ـ لم ينصّ المصحّحين للأحاديث على عدالة الراوي ، إنّما نصّوا على التوثيق فقط.
3 ـ وثّق العلماء الفسّاق والكفّار ، وأصحاب المذاهب الفاسدة!!
والجرح والتعديل المستحدث يلزم تخطئة جميع الطائفة حسب قول العامليّ : إنّ الاصطلاح الجديد يستلزم تخطئة جميع الطائفة المحقّة ، في زمن الأئمّة ، وفي زمن الغيبة ، كما ذكره المحقّق في أُصوله ، حيث قال : أفرط قوم في العمل بخبر الواحد ، إلى أن قال : واقتصر بعض عن هذا الإفراط ، فقالوا : كلّ سليم السند يعمل به ، وما علم أنّ الكاذب قد يصدق ، ولم يتفطّن أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة ، وقدح في المذهب ، إذ لا مصنّف إلاّ وهو يعمل بخبر المجروح ، كما يعمل بخبر العدل ـ وسائل الشيعة 30 / 259 ـ.
فبعد هذا الكلام كلّه نعلم أنّه ليس للشيعة ناقة ولا بعير في التصحيح والتضعيف ، وأنّهم لو أرادوا إلزام أنفسهم بالصحيح فقط من أحاديثهم لصدموا بعدم وجود أحاديث صحيحة بمقاييس أهل السنّة الدقيقة للحديث الصحيح.
فلجأ علماءهم لتوثيق الكذّابين والمجاهيل للخروج من هذا المأزق ، ولأختصر على الشيعة المسافة ، أتركهم مع قول شيخهم يوسف البحرانيّ الذي لخّص الحلّ في سطور : قال يوسف البحرانيّ : الواجب إمّا الأخذ بهذه الأخبار ، كما هو عليه متقدّمو علمائنا الأبرار ، أو تحصيل دين غير هذا الدين ، وشريعة أُخرى غير هذه الشريعة لنقصانها وعدم تمامها ؛ لعدم الدليل على جملة أحكامها ، ولا أراهم يلتزمون شيئاً من الأمرين ، مع أنّه لا ثالث لهما في البيّن ، وهذا بحمد الله ظاهر لكلّ ناظر ، غير متعسّف ولا مكابر ـ لؤلؤة البحرين : 47 ـ.
إذاً فعلى الشيعيّ أن يأخذ الأحاديث كما هي دون النظر في صحّتها ، وإلاّ فليحصل دين غير هذا الدين!! لأنّه ليس كامل ولا دليل عليه!!
رجال الشيعة :
ولقد لخّص شيخ الطائفة الطوسيّ أحوال رجالهم باعتراف مهمّ ، يقول فيه : إنّ كثيراً من مصنّفي أصحابنا ينتحلون المذاهب الفاسدة ، ومع هذا أنّ كتبهم معتمدة ـ الفهرست للطوسي : 24 ـ.
وكما قلنا سابقاً ، يقول الحرّ العامليّ على ثقات الشيعة : يوثّقون من يعتقدون فسقه ، وكفره ، وفساد مذهبه؟! ـ وسائل الشيعة 30 / 260 ـ.
أي وربّي ، أهؤلاء هم ثقات الرواة عند الشيعة؟؟ وسنفرد موضوعاً آخر لاحقاً يتحدّث عن أوثق رواة الشيعة بالتفصيل ، ومدى كذبهم وفسادهم.
وقال : ومثله يأتي في رواية الثقات الأجلاء ـ كأصحاب الإجماع ، ونحوهم ـ عن الضعفاء ، والكذّابين ، والمجاهيل ، حيث يعلمون حالهم ، ويروون عنهم ، ويعملون بحديثهم ، ويشهدون بصحّته ـ وسائل الشيعة 30 / 206 ـ.
هل من عاقل يسمع ويعقل ما يقال؟ بعد معرفتنا بحال الثقات ، نعرف الآن حال الذين روي الثقات عنهم ، وهم الضعفاء والمجاهيل بل والكذّابين!! بل يرى الحرّ العامليّ أنّ الثقات يعلمون حال هؤلاء ، ومع ذلك يصحّحون أحاديثهم.
هل بعد هذا الكلام يؤمن الأخذ من أحاديث الشيعة والتعبّد بها؟
سبب تأليف علم الحديث عند الشيعة :
إنّ تقسيم الشيعة للأحاديث إلى صحيح وضعيف كان في القرن السابع ، كما يقول الحرّ العامليّ : إنّ هذا الاصطلاح مستحدث ، في زمان العلاّمة ، أو شيخه ، أحمد ابن طاووس ، كما هو معلوم ، وهم معترفون به ـ وسائل الشيعة 30 / 262 ـ فما السبب يا ترى في وضعهم لهذا العلم بعد أن كان مهملاً؟
إنّ من الملاحظ ، أنّ هذا العلم ظهر عند الشيعة موافقاً لحملة شيخ الإسلام ابن تيمية في التشنيع على الشيعة ، حيث أنّ ليس لديهم علم في الرجال.
ويظهر هذا جلياً في قول العامليّ ـ إمام الجرح والتعديل عند القوم ـ : والذي لم يعلم ذلك منه ، يعلم أنّه طريق إلى رواية أصل الثقة الذي نقل الحديث منه ، والفائدة في ذكره مجرد التبرّك باتصال سلسلة المخاطبة اللسانية ، ودفع تعيير العامّة الشيعة بأنّ أحاديثهم غير معنعنة ، بل منقولة من أُصول قدمائهم! ـ وسائل الشيعة 30 / 258 ـ.
فهنا يبيّن الحرّ العامليّ ـ الذي هو المفروض أن يكون علاّمة في الجرح والتعديل ـ أنّ وضع السند فقط لدفع اتهامات أهل السنّة والجماعة ، إنّما أصل تصحيحهم هو ناقل الحديث الثقة ، ولا يلزم ثقة المنقول عنهم!!
فعلم الحديث عندهم ما هو إلاّ تقليداً للسنّة ، وهنا الدليل :
يقول شيخهم الحائريّ : ومن المعلومات التي لا يشكّ فيها أحد أنّه لم يصنّف في دراية الحديث من علمائنا قبل الشهيد الثاني ، وإنّما هو من علوم العامّة ـ يعني بالعامّة أهل السنّة ـ مقتبس الأثر 3 / 73.
ويقول الحرّ العامليّ : أنّ طريقة المتقدّمين مباينة لطريقة العامّة ، والاصطلاح الجديد موافق لاعتقاد العامّة ، واصطلاحهم ، بل هو مأخوذ من كتبهم كما هو ظاهر بالتتبع ، وكما يفهم من كلام الشيخ حسن ، وغيره ـ وسائل الشيعة 30 / 259 ـ.
ولعمري إنّ هذا لاعتراف خطير ، فنفهم من هذا الكلام أنّ الدافع لتأليف علم للأحاديث ليس هو الوصول إلى صحّة الحديث بقدر ما هو توقّي نقد المذهب من قبل الخصوم والدفاع.
ولهذا كثر الاختلاف : وطبعاً نتيجة لعدم التفريق بين الصحيح والضعيف ، واختلاط الحابل بالنابل في دين الاثني عشرية ، كثر الاختلاف في كتبهم ، والتناقض ، حتّى في الأُمور العقدية ، تصوّروا؟!
فقد تألّم شيخهم محمّد بن الحسن الطوسيّ كثيراً لما آلت إليه كتبهم وأحاديثهم من التضاد والاختلاف والمنافاة والتباين ، وقال : لا يكاد يتّفق خبر إلاّ وبازائه ما يضادّه ، ولا يسلم حديث إلاّ وفي مقابلته ما ينافيه ـ تهذيب الأحكام 1 / 2 ـ.
وأيضاً الفيض الكاشانيّ صاحب الوافي اشتكى من ذلك كثيراً ، فقال : تراهم يختلفون في المسألة الواحدة على عشرين قولاً ، أو ثلاثين قولاً أو أزيد ؛ بل لو شئت أقول لم تبق مسألة فرعية لم يختلفوا عليها ، أو في بعض متعلّقاتها ـ الوافي المقدمة : 9 ـ.
تصوّروا يا إخوة ، قول أكبر علمائهم بأنّه لا توجد مسألة إلاّ اختلف فيها ، وكان هذا إلاّ لعدم وجود مرجع صحيح يرجعون إليه.
واسمعوا ما جاء به الكشّي : اشتكى الفيض بن المختار إلى أبي عبد الله ، قال : جعلني الله فداك ، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم؟ فقال : ( وأي الاختلاف )؟ فقال : إنّي لأجلس في حلقهم بالكوفة ، فأكاد أشكّ في اختلافهم في حديثهم ... فقال أبو عبد الله : ( أجل هو ما ذكرت أنّ الناس أولعوا بالكذب علينا ، وإنّ أحدث أحدهم بالحديث ، فلا يخرج من عندي ، حتّى يتأوّله على غير تأويله ، وذلك أنّهم لا يطلبون بحديثنا وحبّنا ما عند الله ، وإنّما يطلبون الدنيا ، وكلّ يحبّ أن يدعى رأساً ) ـ اختيار معرفة الرجال : 135 ، بحار الأنوار 2 / 246 ـ.
خاتمة : إنّي أهيب بكلّ شيعي باحث عن الحقّ ، وليس التعصّب الأعمى ، أن يتأمّل هذه الحقائق.
ويعرف الأُسس التي بني عليها دينه ، وأنّ جميع الأحاديث والأخبار التي على أساسها وضع المذهب هي أخبار ضعيفة ، وأحاديث مكذوبة ، وضعها الكذّابين والفاسدين على أهل بيت النبوّة.
فكيف للشيعي أن يتأكّد من صحّة صلاته أو وضوءه؟ أو أيّ من العبادات والتشريعات؟ وهو لا يعرف صحيح الحديث من ضعيفه.
نرى دائماً الشيعة يستدلّون بكتب أهل السنّة والجماعة ، ولكنّهم لا يسألون أنفسهم ، لماذا يحاول مشائخهم إبعادهم عن كتب الشيعة!!
فليسأل الشيعيّ نفسه ، من ردّ على كتاب البرقعي ـ الذي كان من أقران الخمينيّ ـ عندما ضعّف جميع أحاديث الكافي مستخدماً مقاييس الشيعة في التصحيح والتضعيف ، ومستدلاً بكتب المجلسيّ ، وهذا في كتابه الذي هزّ الرافضة ـ كتاب كسر الصنم ـ وما ردّكم على كتاب : طريق الاتحاد لحيدر علي قلمداران القمّيّ ، حين عرض جميع الأدلّة على الإمامة ، ونقضها واحدة تلو الأُخرى.
وأسأل نفسك ، لماذا دخلنا في القرن الرابع عشر هجري ، ولم يؤلّف كتاب واحد يحوي الصحيح من أحاديثكم؟ وادخلوا عليكم الأكاذيب والحيل لإبعادكم عن هذه الفكرة.
وما كان هذا إلاّ لعدم وجود أحاديث صحيحة عندكم.
نسأل الله أن يرينا الحقّ حقّاً ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
الجواب : إنّ المسائل التي ذكرت تطلب جوابهاً مستعجلاً ، ليست من المسائل الجديدة إذ لم تجد جوابها في الإنترنت ، وإنّها طروحات قديمة مغرضة ، تثار ضدّ الشيعة الإمامية بين آونة وأُخرى ، لغرض إيقاع الفرقة ، وصدّ التيار الذي بدأ يكتسح الأشواك أمامه ، حتّى بلغ السيل الربى ، فتصاعد عدد المستبصرين إلى الآلاف بفضل الوعي الإسلاميّ الصحيح ، وهذا ما يغيظ الذين هم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا.
أيّها الشيخ الطالب للحقّ : اعلم أيّدك الله ورعاك ، إنّا كشيعة امامية لو فعلنا ما فعلوا لزاد النار أواراً ، لكنّنا استعملنا عقولنا ، وقلنا لهم : بيننا وبينكم كتاب الله ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو يقول : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر: 7] ، وإن ما آتانا به الرسول وأمرنا بالتمسّك به قوله صلى الله عليه وآله : ( إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبداً ) (1) ، وهذا هو المعروف بحديث الثقلين.
وقد صدع به صلى الله عليه وآله في ستّة مواطن تأكيداً على أهمّيته ، منها يوم الطائف ، ويوم عرفة ، ومسجد الخيف بمنى ، ويوم الغدير ، وقبل موته بأيّام يسيرة ، وسادسها في حجرته وقد غصّت بأصحابه ، وفي هذا الموقف قال صلى الله عليه وآله : ( أيّها الناس إنّي خلّفت فيكم كتاب الله وسنّتي وعترتي أهل بيتي ، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيّع لسنّتي ، والمضيّع لسنّتي كالمضيّع لعترتي ، أمّا أنّ ذلك لن يفترقا حتّى ألقاه على الحوض ) (2).
فنحن والحمد لله تمسّكنا بهم ، وأخذنا بأحاديثهم ، كما أخذنا بأحاديثه صلى الله عليه وآله حتّى ما صحّ ذلك عنه صلى الله عليه وآله وعنهم عليهم السلام ، ولذلك موازيننا موازين العلماء لمعرفة الحقّ ، وتمييز الصحيح عن غيره كما سيأتي بيانه.
ولم نشطح كغيرنا ممّن غالا بإفراط وقال : إنّ صحيح البخاريّ أصحّ كتاب بعد كتاب الله ، وهذه المقولة تعني أنّ متون روايات البخاريّ هي في حجّيتها كحجّية ألفاظ القرآن الكريم ، إلاّ أنّها تأتي بعدها في الرتبة ، وهذه دعوى خطيرة ، والأُولى أن نسمّيها فطيرة فالآيات القرآنيّة كلّها بألفاظها قطعية الصدور ، وحجّة على المسلمين إلى يوم الدين ، أمّا روايات البخاريّ فإنّها أخبار آحاد ، فهي ظنّية الصدور فضلاً عن دلالتها ، وأغلبها مرويّ بالمعنى ، وكثيراً منها ما قطّعه البخاريّ ، فتجد الحديث الواحد مروياً في عدّة أبواب ، وعدّة كتب يختلف زيادة ونقصاناً ، مع اتحاد الراوي ، على أنّا لو وافقناهم في تسمية صحيح البخاريّ بالجامع للأحاديث النبويّة بتمام معنى الكلمة ، لتخلّف عن ذلك المعنى الدقيق في عرضه الحوادث والسير والمغازي ومواقف صحابية ، بل وحتّى أحاديث النساء ، مثل قصّة أُمّ زرع وأبي زرع ، فأين هذا من الحديث النبويّ الشريف.
إذاً ، فتصوّر عصمة متون صحيح البخاريّ تصوّر عاميّ خاطئ ، وقد ردّ ذلك غير واحد من أعلام أهل السنّة المحدثين فضلاً عن المتقدّمين من محمّد رشد رضا صاحب المنار ، وإلى ناصر الدين الألبانيّ في مقدّمة شرح العقيدة الطحاويّة وغيرهما.
أمّا عن أسانيده فرجاله ـ وإن قال المقدسيّ في الرجل يخرج عنه في الصحيح : هذا جاز القنطرة ، بل وهذا من الاسفاف في القول ـ فإنّ فيهم من لا تلتقيّ بذمّه الشفتان ، وحسبك أن ترجع إلى مقدّمة فتح الباري لابن حجر ، لتجد بنفسك العدد الضخم ، ممّن جرّحه علماء الجرح والتعديل ، فقد قال : ( أنّ الذين انفرد البخاريّ بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضع وثلاثون رجلاً ، المتكلّم فيهم بالضعف منهم ثمانون رجلاً ، والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاريّ ستمائة وعشرون رجلاً ، المتكلّم فيه بالضعف منهم مائة وستون رجلاً ) (3).
وإذا قرأت تراجمهم ـ وقد ساقهم ابن حجر على حروف الهجاء ـ لوجدت فيهم متروكاً ، منكر الحديث غير مرضيّ ، ليس بثقة ولا مأمون ، مجهول ، كان يعلم المجان والمجون ، فهذه كلّها فيمن اسمه أحمد ، فما بالك ببقية الأسماء في سائر الحروف ، فأقرأ وأضحك ، وشرّ البلية ما يضحك.
إنّ الزاعم يتحامل بغير حقّ على الشيعة ، فينقل كلمات يقتطعها من جملة كلام لو نقله بتمامه لأفاد على عكس مرامه ، ومهما يكن فإنّ الزاعم من رجال التهويش والتشويش ، وجاهلاً حتّى بمذهبه ، فلو لم يكن كذلك لعرف أنّ انقسام الفقهاء في الحديث ـ كان من عهد التابعين واتباعهم من أئمّة المذاهب ـ إلى مدرستين.
1 ـ مدرسة الرأي ومركزها الكوفة في العراق ، وزعيمها ربيعة الرأي ، سمّي بذلك لأنّه كان يعرف بالرأي والقياس وهو من التابعين ، ومن أعلام هذه المدرسة أبو حنيفة إمام الأحناف.
2 ـ مدرسة الحديث والأثر ، ومركزها المدينة المنوّرة ، وإمام المالكيّة مالك ابن أنس من أعلامها.
ولم يكن الخلاف بين المدرستين حول حجّية الحديث النبويّ الشريف ، فجميعهم يقبلون على الحديث إن ثبت عندهم وصحّ لديهم ، فهو حجّة يجب اتباعه عند الجميع ، لكن الذي ميّز المدرستين هو المنهج في قبول الحديث وردّه.
فمدرسة الحديث تقبل كلّ ما جاء من طرق معتبرة سنداً عندهم ، أي ما كان سلسلة رواته عدولاً ثقات ، وإن كان خبر آحاد ، بغضّ النظر عن موافقته للكتاب أو مخالفته ، وسواء وافق عمل وسيرة المسلمين أم لا ، بل اكتفى مالك حتّى بعمل أهل المدينة فجعله مصدراً من مصادر التشريع في الحكم.
بينما مدرسة الرأي ترفض هذا المنهج ، ولها منهج أشدّ دقّة وسداداً ، حيث تنظر الحديث متناً وسنداً ، ومدى توافقه مع القرآن الكريم أو آثار الصحابة ، ولهم في ذلك قواعد بنوا عليها منهجهم في النقد ، ففي المتن يردّونه مادام يخالف الكتاب أو آثار الصحابة ، حتّى ولو رواه مثلاً البخاريّ أو مسلم أو غيرهما بسند اعتمده أهل الحديث.
وما أكثر الشواهد على ردّ أحاديث وردت في البخاريّ ، كان أبو حنيفة قد نقدها وردّها ، فجاء البخاريّ فأخرجها في صحيحه ، وهنا نسأل الأحناف اليوم لمن يتبّعون في تلك الأحاديث قبولاً وردّاً ، لإمامهم أبي حنيفة إذ ردّها قبل خلق البخاريّ؟ أو للبخاري الذي رواها في صحيحه وهم يقدّسون صحيحه بإفراط؟
وقبل أن نفيض بذكر تلك الأحاديث إذ لا حاجة بنا إلى ذكرها ، لكن أردنا أن نعلم الزاعم المهرّج ، أنّ انقسام الفقهاء إلى مدرستين ، مدرسة رأي ومدرسة أثر كان من عهد التابعين ، واستمر الحال على ذلك حتّى بعد تميّز المذاهب الأربعة من أهل السنّة ، وكذلك كان الشيعة الإمامية.
فقد حصل الانقسام بين فقهائهم منذ عهد الأئمّة عليهم السلام وما بعده ، فاتسعت أخيراً الهوة بين المحدّثين ـ الإخباريّين ـ والأُصوليّين ، فكان لكلّ منهم منهج خاصّ في قبول الحديث ونقده ، وقد أدلى كلّ فريق بحجّته على صحّة رأيه ، فكان النقض والإبرام هو الذي وسّع شقّة الخصام ، وكلّ من الفريقين لا ينكر حجّية الحديث ، ولكن في أسلوب التعامل معه من حيث السند ، فضلاً عن سلامة المتن في عدم مخالفة الكتاب ، وروايات العرض على الكتاب عند التعارض هي ميزان القبول والردّ.
وهذا ما أخذ به حتّى أبو يوسف القاضي ـ تلميذ أبي حنيفة ـ عن إمام الشيعة أبي جعفر الباقر عليه السلام ، فقد قال : فعليك من الحديث بما تعرف العامّة ، وإيّاك والشاذّ منه ، فإنّه حدّثنا ابن أبي كريمة عن أبي جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه دعا اليهود فسألهم ، فحدّثوه حتّى كذّبوا على عيسى ، فصعد النبيّ صلى الله عليه وآله المنبر ، فخطب الناس فقال : ( إنّ الحديث سيفشو عنّي ، فما أتاكم عنّي يوافق القرآن فهو عنّي ، وما أتاكم عنّي يخالف القرآن فليس منّي ) (4).
فالاختلاف في المنهج عند من باب الاجتهاد لديه مفتوح أيسر من غيره من سدّ باب الاجتهاد ، وبقي يتوحّل ويتحمّل بين آراء المدرستين ، فليس من العقل أن يخوض من لا دراية له في إثارة مسائل لا يحسن الخوض فيها ويهاجم من يقول : أخذت ديني عمّن أمرني ربّي تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله بالأخذ منه ، وأمرني بإتباعه ، فأعملت جهدي حين وصلتني الأحاديث عن أهل بيت العصمة ، وقد مرّت عليها قرون وأكثرها أخبار آحاد ، ورواها أُناس كثيرون ، إلاّ أنّهم لم يكونوا جميعاً بالمستوى المطلوب شأنهم ، شأن الرواة عند غير الشيعة ، ففيهم العدل الضابط الإمامي ، وفيهم من هو دونه.
ولمّا كان التوثيق يجامع غير الإمامي وغير العدل فلا مانع في الأخذ بحديثه ، ما لم يصادم كتاباً أو سنّة ثابتة ، وهذا ليس فيه ما يشهر بقائله ، بل هذه سيرة العلماء في جميع المذاهب.
ولو أنّ الزاعم من أيّ مذهب كان اطلع على ما يقوله الإمام النوويّ في شرحه على صحيح مسلم ، باب صحّة الاحتجاج بالحديث المعنعن ، لم يهاجم الشيعة بأنّ ليس لهم علم معتبر في جمع الأحاديث ، فإذا لم يكن لديهم علم كما زعم ، فمن أين للنووي أن يقول : وأمّا خبر الواحد : فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر ، سواء كان الراوي له واحداً أو أكثر ، واختلف في حكمه.
فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين ، فمن بعدهم من المحدّثين والفقهاء وأصحاب الأُصول : ( أنّ خبر الواحد الثقة حجّة من حجج الشرع يلزم العمل بها ، ويفيد الظنّ ولا يفيد العلم ، وأنّ وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل ، وذهبت القدرية ـ يقصد المعتزلة ـ والرافضة ـ يقصد الشيعة الإمامية ـ وبعض أهل الظاهر إلى أنّه لا يجب العمل به ، ثمّ منهم من يقول منع العمل به دليل العقل ، ومنهم من يقول : منع دليل الشرع ) (5).
إذاً ليس غرض الزاعم إلا التشويش والتحريش ، وسوف أذكر لك أنّ الشيعة هم أقدم في تدوين الحديث وعلومه من غيرهم ، ولكن الزاعم الكاذب يفتري عليهم بما هم منه براء فالله حسبه ، ولا علينا أن لا نجيبه ، لكن كرامة لك يا شيخ نقول : إنّ زعم الزاعم بأنّ الشيعة ليس لهم علم معتبر في جمع الأحاديث ، فهذا زعم باطل ، ولو أنصف الزاعم نفسه قبل غيره لم يقل هذا.
فلنسأله عن صحيح البخاريّ ـ وهو عنده أصحّ كتاب بعد كتاب الله ـ كم هي الأحاديث التي أخرجها فيه عن كتاب علي؟ وعليه أن يراجع باب كتابة العلم ، وباب إثم من تبرّأ من مواليه ، وفي نفس صحيح البخاريّ في أبواب العلم : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم : أُنظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله فاكتبه ....
فاسأل من هذا الزاعم : من كان أقدم زماناً في حفظ الحديث وتدوينه ، علي عليه السلام أُم عمر بن عبد العزيز؟ فشهادة الإمام عليه السلام كانت سنة 41 هـ ، ووفاة عمر بن عبد العزيز سنة 101 هـ ، فكتاب فيه تدوين الحديث النبويّ عند الشيعة قبل أن يكون للسنّة كتاب مدوّن فيه بأكثر من ستين سنة ، وكتاب الإمام علي عليه السلام بقي متداولاً عند الأئمّة عليهم السلام ، ثمّ عند أصحابهم أحاديث ذلك الكتاب.
ولو أنّه راجع كتاب ( تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ) للسيّد حسن الصدر ، لكان يطّلع فيه على نصوص منقولة من مصادر مقبولة عند الفريقين ، تثبت أنّ السبق كان للشيعة في تدوين الحديث ، فإنّ أوّل من جمع الحديث النبويّ بعد الإمام علي عليه السلام هو أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال النجاشيّ في ترجمته : ( ولأبي رافع كتاب السنن والأحكام والقضايا ) (6) ، ثمّ ذكر إسناده إليه باباً باباً ، الصلاة والصيام ، والحجّ والزكاة والقضايا.
وإذا عرفت أنّ وفاة أبي رافع كانت في أوّل خلافة علي عليه السلام على الصحيح ، كما يقول ابن حجر في ( التقريب ) ، وأوّل خلافته كانت سنة 35 هـ ، فلا اقدم من أبي رافع بالتأليف بالضرورة.
وأوّل من صنّف في الآثار هو سلمان المحمّدي ، ثمّ أبو ذر ، ثمّ الأصبغ بن نباتة ، ثمّ عبيد الله بن أبي رافع ، وهذا كان كاتب علي عليه السلام وهو ثقة ، كما يقول ابن حجر في ( التقريب ) ، وهكذا استمر الشيعة في التأليف من عهد الصحابة ، ثمّ التابعين وتابعي التابعين ، وتجد أسماء تأليفهم في الحديث والتفسير والآثار والرجال وسائر فنون المعرفة ، راجع ( تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ) هذا جواب ( علم الحديث عند الرافضة ).
وأمّا جواب ( الجرح والتعديل عند الشيعة ) فلا نطيل المقام عنده ، وحسب الزاعم الكذوب مراجعة كتاب ( ميزان الاعتدال ) للذهبي ، و ( لسان الميزان ) لابن حجر العسقلانيّ ، ليرى كم هم رجال الشيعة الذين ورد تراجمهم في الكتابين؟ ومن أين أخذا المعلومات عنهم؟ خصوصاً الثاني : فإنّ ( انتخاب الحسان من لسان الميزان ) وهو اسم كتاب لبعضهم ، استخرج فيه أسماء الشيعة الذين ذكرهم ابن حجر العسقلانيّ ، وترجمهم اعتماداً على مصادر شيعية في الرجال ، وفيها مصنّفات في الجرح والتعديل ، فذكر منها : فهرست النجاشيّ ، وفهرست الطوسيّ ، وفهرست ابن بابويه ، ورجال ابن أبي طي ، ورجال ابن عقدة ، وغيرهم.
فليراجع الزاعم ليرى أنّه قد بلغ عدد الرجال الحسان ( 725 ) رجلاً ، كلّهم نقل ابن حجر تراجمهم من مصادر شيعية في الرجال جرحاً وتعديلاً ، ومع هذا فلم يستوف جميع المصادر ، فكيف يقول الزاعم : ( لم يكن للشيعة كتاب في أحوال الرجال حتّى ألف الكاشانيّ في المائة الرابعة كتاباً لهم في ذلك ، وهو كتاب غاية في الاختصار ، وقد أورد فيه أخباراً متعارضة في الجرح والتعديل )؟
وأحسب أنّ سهواً حصل في تسمية الكاشانيّ لجعله من أهل المائة الرابعة ، فإنّ الكاشانيّ هو ملاّ محسن الفيض صاحب الوافي وغيره ، وهو متوفّى سنة 1091 هـ ، فهو من أهل المائة الحادية عشرة لا المائة الرابعة ، إذ ليس هو المراد قطعاً ، ولعلّ المراد الكشّي الذي هو من أعلام المائة الرابعة ، ولكن مع ذلك لو سلّمنا أنّه المراد في المقام ، فزعم الزاعم باطل ، لأنّ قبله من رجال الشيعة الذين لهم كتب في الرجال ، وتناولوا فيها بيان أحوالهم جماعة ، نذكر منهم ولو على سبيل الاستقصاء ، بل للتذكرة لمن يخشى.
فمنهم الحسن بن فضّال الكوفي ، المتوفّى سنة 224 هـ ، ترجمه النجاشيّ وعدّ من كتبه كتاب الرجال.
ومنهم الحسن بن محبوب السراد ، المتوفّى سنة 224 هـ ، كما أرّخه الكشّي له كتاب المشيخة ، وكتاب معرفة رواة الأخبار ، كما في معالم العلماء لابن شهر آشوب.
ومنهم أبو عبد الله محمّد بن خالد البرقي ، الذي كان من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام ، المتوفّى سنة 203 هـ ، وقد ذكره ابن النديم في الفهرست في أوّل الفنّ الخامس من المقالة السادسة في أخبار فقهاء الشيعة ، وعدّ تصانيفه كتاب الرجال في ذكر من روى عن أمير المؤمنين عليه السلام.
ومنهم علي بن الحكم بن الزبير النخعي الأنباري أبو الحسن الغرير ، وكان تلميذ ابن أبي عميرة ، وعن كتابه في الرجال نقل ابن حجر في لسان الميزان بعض تراجم الشيعة ، منها في ترجمة حسان بن أبي عيسى الصيقلي ، الراوي عنه الحسن بن علي بن يقطين ، ومنها في ترجمة إبراهيم بن سنان ، ومنها في ترجمة إبراهيم بن عبد العزيز ، وأنّهما من أصحاب الصادق عليه السلام.
ومنهم أحمد بن محمّد البرقي ، المتوفّى سنة 274 أو سنة 280 هـ ، له كتاب الرجال ، وقد وصلت نسخته إلينا وهو مطبوع.
فكلّ هؤلاء وغيرهم من لم نأت على ذكرهم قبل الكشّي ، وقد تناولوا أحوال الرجال جرحاً وتعديلاً وتاريخاً ، ولكن الأعمى عن الحقّ لا يريد أن يبصر الحقيقة.
وأمّا قوله : ( وقد كان التأليف في أُصول الحديث وعلومه معدوماً عندهم ، حتّى ظهر زين الدين العامليّ الملقّب عندهم بالشهيد الثاني ، المتوفّى سنة 965 هـ.
فيقول شيخهم الحائري : ومن المعلومات التي لا يشكّ فيها أحد أنّه لم يصنّف في دراية الحديث من علمائنا قبل الشهيد الثاني ).
فالجواب : أنّه زعم باطل باعتراف أئمّة أهل الحديث من العامّة ، وذلك أنّ أوّل من تصدّر لمعرفة علوم الحديث هو الحاكم ابن البيع النيسابوريّ ، وقد نصّ في ( كشف الظنون ) في باب حرف الميم ما نصّه : ( معرفة علوم الحديث أوّل من تصدّر له الحاكم أبو عبد الله محمّد بن عبد الله الحافظ النيسابوريّ ، المتوفّى سنة خمس وأربعمائة ... ).
وهو خمسة أجزاء مشتملة على خمسين نوعاً ، وتبعه في ذلك ابن الصلاح ، فذكر من أنواع الحديث خمسة وستين نوعاً.
وقال : فأوّل من تصدّر له الحاكم أبو عبد الله ، وعمل عليه أبو نعيم مستخرجاً ، ثمّ جاء الخطيب فعمل الكتابين وهما الجامع لأخلاق الراوي ، وآداب السامع ، والكفاية في معرفة قوانين الرواية.
إذا عرفت هذا ، فقد نصّ السمعاني وابن تيمية والذهبيّ على تشيّع الحاكم المذكور.
قال الذهبيّ في ترجمة الحاكم : ( قال ابن طاهر : سألت أبا إسماعيل الأنصاريّ عن الحاكم ، فقال : ثقة في الحديث ، رافضي خبيث ، ثمّ قال ابن طاهر : كان شديد التعصّب للشيعة في الباطن ، وكان يظهر التسنّن في التقديم والخلافة ، وكان منحرفاً عن معاوية وآله ، متظاهراً بذلك ولا يعتذر منه.
قلت ـ والقائل الذهبيّ ـ أمّا انحرافه عن خصوم علي فظاهر ، أمّا أمر الشيخين فمعظّم لهما بكلّ حال ، فهو شيعي لا رافضي ) (7).
فقد بان كذب زعمه : ( وقد كان التأليف في أُصول الحديث وعلومه معدوماً عندهم ، حتّى ظهر زين الدين العامليّ الملقّب عندهم بالشهيد الثاني ) ، وأيضاً فإنّ السيّد جمال الدين أحمد بن موسى بن طاووس المتوفّى 673 هـ ، وهو أُستاذ العلاّمة الحلّيّ ، هو واضع الاصطلاح الجديد للإمامية في صحيح الحديث وحسنه وموثقه وضعيفه ، كما نصّ عليه كلّ علماء الرجال في ترجمته قدس سره.
ويأتي بعده السيّد علي بن عبد الحميد الحسيني النجفي صاحب شرح أُصول دراية الحديث ، وهو من علماء المائة الثامنة ، ويروي عن العلاّمة الحلّيّ وهو أُستاذ ابن فهد الحلّيّ ، وهؤلاء الأعلام كلّهم قبل زمان الشهيد الثاني المتوفّى 965 هـ ، فأين صار زعمه؟
وأمّا ما نقله عن الحائري ففيه تلبيس وغموض ، وعلى فرض صحّته فهو وهم منه يدفعه الوجدان ، وكذلك ما نقله عن الفيض الكاشانيّ ، فإنّه ـ الفيض لمّا كان من المحدثين ـ فقد قال في تصويب طريقة القدماء في تقسيم الحديث ، ونقد طريقة السيّد ابن طاووس ، والعلاّمة ومن تبعهما في تقسيم الحديث إلى الأقسام الثالثة : الصحيح والحسن والموثّق.
فقد قال : ( قد اصطلح متأخّروا فقهائنا على تنويع الحديث المعتبر في صحيح وحسن وموثّق ، فإن كان جميع سلسلة سنده أماميين ممدوحين بالتوثيق سمّوه صحيحاً ، أو أماميين ممدوحين بدونه كلاّ أو بعضاً مع توثيق الباقي سمّوه حسناً ، أو كان كلاّ أو بعضاً غير أماميين مع توثيق الكلّ سمّوه موثّقاً ) (8).
وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه ، كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم ، التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمة عليهم السلام.
وتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعد ، بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة ، وكوجوده في أصل معروف الأنساب إلى أحد الجماعة ، الذين اجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمّد بن مسلم والفضيل بن يسار ، أو على تصحيح ما يصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ويونس بن عبد الرحمن.
أو على العمل بروايتهم كعمّار الساباطي ونظرائه ، وكإدراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومين عليهم السلام فأثنوا على مؤلّفيها ككتاب عبيد الله الحلبي ، الذي عرض على الإمام الصادق عليه السلام ، وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على الإمام العسكريّ عليه السلام.
وكأخذه من أحد الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإمامية ، ككتاب الصلاة لجرير بن عبد الله السجستانيّ ، وكتب بُني سعيد وعلي بن مهزيار ، أو من غير الإمامية ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري.
وقد جرى صاحبا كتابي الكافي والفقيه على متعارف المتقدّمين في إطلاق الصحيح على ما يركن إليه ، ويعتمد عليه ، فحكما بصحّة جميع ما أورداه في كتابيهما من الأحاديث ، وإن لم يكن كثير منه صحيحاً على مصطلح المتأخّرين.
إلى أن قال : ( وعلى هذا جرى العلاّمة والشهيد في مواضع من كتبهما مع أنّهما الأصل في الاصطلاح الجديد ، وربما يقال : الباعث لهم على العدول عن طريقة القدماء طول المدّة ، واندراس بعض الأُصول المعتمدة ، والتباس الأحاديث المأخوذة من الأُصول المعتمدة ، بالمأخوذة من غير المعتمدة ... ).
إلى أن قال : ( وبعد فإنّ في الجرح والتعديل وشرائطهما اختلافات وتناقضات واشتباهات لا يكاد ترتفع بما تطمئن إليه النفوس ، كما لا يخفى على الخبير بها ، فالأولى الوقوف على طريقة القدماء ، وعدم الاعتناء بهذا الاصطلاح المستحدث رأساً وقطعاً ، والخروج عن هذه المضايق.
نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء ، فاحتجنا إلى الترجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعديل المنقولين عن المشايخ فيهم ، ونبني الحكم على ذلك ، كما أشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح ، بقولهم عليهم السلام : ( فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما وأصدق في الحديث ) ، وهو أحد وجوه التراجيح المنصوص عليها ... ).
هذا ما قاله الفيض قدس سره ، نقلته باقتضاب لأكشف زعم الكذّاب حين أخذ فقرة من كلامه اقتطعها عمّا سبقها ، ولحق بها ما أخلّ بالمعنى الذي أراده الفيض فلاحظ ، فهل في هذا دلالة على عدم الوثوق بالأحاديث كما زعم الزاعم.
ثمّ إنّ قوله : ( واسمعوا معي الآن المصيبة الكبرى يقول الحرّ العامليّ معرّفاً الحديث الصحيح ، بل يستلزم ضعف الأحاديث كلّها عند التحقيق ، لأنّ الصحيح ـ عندهم ـ ما رواه العدل الإمامي الضابط في جميع الطبقات ، ولم ينصّوا على عدالة أحد من الرواة ... ) ، ألا مسائل هذا الزاعم الكاذب كيف يتسق التعريف للحديث الصحيح مع الابتداء بحرف بل الدال على الإضراب.
قال في القاموس : ( وبل حرف إضراب ، إن تلاها جملة كان معنى الإضراب ، إمّا الإبطال كـ {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] ، وأمّا الانتقال من غرض إلى غرض آخر ( فَصَلَّى {فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [الأعلى:15- 16] ، وإن تلاها مفرد فهي عاطفة ، ثمّ إن تقدّمها أمر أو إيجاب كاضرب زيداً بل عمراً ، أو قام زيد بل عمرو ، فهي تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه ، وإن تقدّمها نفي أو نهي فهي لتقرير ما قبلها على حاله ، وجعل ضدّه لما بعدها ، وأجيز أن تكون ناقلة معنى النفي والنهي إلى ما بعدها ، فيصحّ ما زيد قائماً بل قاعداً وبل قاعد ... ) (9).
أقول : إنّما ذكرت للقارئ أوّلاً أحكام بل ، ليرى بنفسه كيف يكون الدجل والتضليل عند الزاعم الكاذب ، فهل ما نسب إلى الحرّ العامليّ بقوله : ( بل يستلزم ضعف الأحاديث كلّها عند التحقيق ... ) ، يكون هذا معرّفاً للحديث الصحيح؟ أليس كان اللازم وواجب الأمانة نقل الكلام السابق على بل ليصحّ فيه الإضراب؟
ثمّ إنّ بقية ما ذكره من كلام الحرّ العامليّ ، لأنّ الصحيح ـ عندهم ـ ما رواه العدل الإمامي الضابط في جميع الطبقات ، ولم ينصّوا على عدالة أحد من الرواة إلاّ نادراً ، وإنّما نصّوا على التوثيق ، وهو لا يستلزم العدالة قطعاً ، بل بينهما عموم من وجه ، كما صرّح به الشهيد الثاني وغيره.
ودعوى بعض المتأخّرين أنّ الثقة بمعنى العدل الضابط ممنوعة ، وهو مطالب بدليلها ، وكيف وهم مصرّحون بخلافها ، وحيث يوثّقون من يعتقدون فسقه ، وكفره وفساد مذهبه ، فهذا لا يدلّ على ما استنتجه حيث قال : ( فنستنتج من كلام العامليّ أنّ :
1 ـ أحاديث الشيعة كلّها ضعيفة.
2 ـ لم ينصّ المصحّحين ـ كذا والصواب المصحّحون ـ للأحاديث على عدالة الراوي ، إنّما نصّوا على التوثيق فقط.
3 ـ وثّق العلماء الفسّاق والكفّار وأصحاب المذاهب الفاسدة ... ).
ليس بهذا التضليل واللف والدوران والخداع تبحث الحقائق ، إنّها لمصيبة كبرى ، ومهما يكن ، فإنّي أعرض للقارئ باختصار ماذا أراد الحرّ العامليّ بكلامه الذي أساء الزاعم الكاذب نقله :
( إنّ الحرّ العامليّ ـ وهو فقيه محدّث ـ ذكر في خاتمة كتابه ـ تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ـ عدّة فوائد ، كانت الفائدة التاسعة : في ذكر الأدلّة على صحّة أحاديث الكتب المعتمدة تفصيلاً ووجوب العمل بها ، بعد أن ذكر في الفائدة السادسة مثل ذلك إجمالاً ، وساق في هذه الفائدة ـ التاسعة ـ اثنين وعشرين وجهاً ، حاول إثبات مرامه ما أمكنه في تقوية طريقة القدماء ، ونقد المصطلح الجديد.
وقد رتّب تلك الوجوه بحيث أنّ بعضها ليس بمعزل عمّا سبقه ، فلابدّ لمن أراد فهمها أن يحيط بها جميعاً لفهمها ، وما نقله الزاعم إنّما هو فقرات من الوجه الرابع عشر الذي هو مترتّب فهماً على الثالث عشر ، والآن اذكر منهما ما يتبيّن به الحقّ ، قال : الثالث عشر : أنّ الاصطلاح الجديد يستلزم تخطئة جميع الطائفة المحقّقة في زمن الأئمّة ....
الرابع عشر ـ يعني الاصطلاح الجديد ـ يستلزم ضعف أكثر الأحاديث التي قد علم نقلها من الأُصول المجمع عليها ، لأجل ضعف بعض رواتها ، أو جهالتهم ، أو عدم توثيقهم ... بل يستلزم ـ الاصطلاح الجديد ـ ضعف الأحاديث كلّها عند التحقيق ، لأنّ الصحيح ـ عندهم ـ : ما رواه العدل الإمامي ، الضابط في جميع الطبقات ... ).
ثمّ قال الحرّ : ( وإنّما المراد بالثقة ، من يوثق بخبره ، ويؤمن منه الكذب عادة ، والتتبع شاهد به ، وقد صرّح بذلك جماعة من المتقدّمين والمتأخّرين ، ومن معلوم ـ الذي لا ريب فيه عند منصف ـ : أنّ الثقة تجامع الفسق ، بل الكفر.
وأصحاب الاصطلاح الجديد قد اشترطوا ـ في الراوي ـ العدالة ، فيلزم من ذلك ضعف جميع أحاديثنا لعدم العلم بعدالة أحد منهم إلاّ نادراً ، ففي إحداث هذا الاصطلاح غفلة من جهات متعدّدة كما ترى ) (10).
أقول : إنّ الزاعم لمّا كان غرضه التهويش والتشويش ، عمد إلى نقل كلام المحدّثين ـ الإخباريّين ـ في ردّ ونقد المصطلح الجديد في تمييز الحديث ، وليته نقله كما هو بحذافيره ، ليتبيّن للقارئ وجه الحقيقة ، ولكنّه بتر الكلام فشوّه الحقيقة ، ولقد نقد الأُصوليون تلك الحجج بوجوه واضحة ، وردود حاسمة ، حتّى أنّ السيّد الخوئيّ قدس سره قال في مقدّمة كتابه معجم رجال الحديث : ( وقد ذكر صاحب الوسائل لإثبات ما ادعاه من صحّة ما أودعه في كتابه من الأخبار ، وصدورها من المعصومين عليهم السلام وجوها ، سمّاها أدلّة ، ولا يرجع شيء منها إلى محصّل ، ولا يترتّب على التعرّض لها والجواب عنها غير تضييع الوقت ... ) (11).
كما شجب مسلك الإخباريّين في الأخذ بجميع ما في الكتب الأربعة ـ الكافي والفقيه والتهذيب والاستبصار ـ بل وألحق بعضهم الأخذ ببقية ما وصل إلينا من كتب القدماء ، كالمحاسن وبصائر الدرجات وبقية الأُصول الأربعمائة ، فقد شجب ذلك المسلك غير واحد من أعلام الأُصوليّين ، وإنّ في مقدّمة كتاب وسائل الشيعة للسيّد محسن الأعرجي الكاظمي ما يفني ويغني ، ولم يكن من دونه الشيخ محمّد حسن البار فروشي المازندرانيّ ، المتوفّى 1345 هـ في كتاب نتيجة المقال : 65 ، وغيرهم.
ولو كان الزاعم صادقاً في غرضه لنقل كلام الأُصوليّين أيضاً في نقدهم لحجج الإخباريّين ، ولتبيّن للقارئ الحقّ ، وأنّ لا نقاش لدى كلّ فريق في صحّة الخبر عند قيام الحجّة على صدقه ، إلاّ أنّ مسالكهم تختلف في تنويع الحديث ، فالقدماء لقرب عهدهم بالأئمّة الأطهار عليهم السلام كان من السهل عليهم تحصيل القطع بصدور الأحاديث عنهم عليهم السلام لكثرة القرائن الدالّة على ذلك ، فلا حاجة إلى التفتيش عن رجال السند ، كي يضطرّوا إلى هذا التنويع ، وهذا ما لا ينكره الأخباريون ولا الأُصوليون.
أمّا المتأخّرون ، فلمّا بعد زمانهم عن زمان صدور الحديث ، وخفيت عليهم تلك القرائن الدالّة على صدق الحديث ، فقد رأوا أن لا مناص لهم من تنويع الحديث بلحاظ السند وصفات الراوي ، ومن أراد مزيداً من الإيضاح فليرجع إلى ما تقدّم ذكره من المصادر وغيرها ، وفي حجّية خبر الواحد في أبحاث الأُصول ، ليتبيّن له أنّ الزاعم الكاذب غرضه التهويش والتشويش.
يدلّك على ذلك ما ذكره أخيراً من خبر الفيض بن المختار نقلاً عن البحار عن الكشّي ، فهو خبر ضعيف أوّلاً ، وثانياً لم ينقله بنصّه لئلا يعرف القارئ مدى خيانته في النقل ، وإليك الحديث عن مصدره الأوّل الكشّي : ( محمّد بن قولويه قال : حدّثني سعد بن عبد الله قال : حدّثني محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، عن محمّد بن سنان ، عن المفضّل بن عمر قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يوماً ، ودخل عليه الفيض بن المختار ، فذكر له آية من كتاب الله عزّ وجلّ تأوّلها أبو عبد الله عليه السلام.
فقال له الفيض : جعلني الله فداك ، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم؟ قال : ( وأيّ الاختلاف يا فيض )؟ فقال له الفيض : إنّي لأجلس في حلقهم بالكوفة فأكاد أشكّ في اختلافهم في حديثهم ، حتّى ارجع إلى المفضّل بن عمر فيوقفني من ذلك على ما تستريح إليه نفسي ، ويطمئن إليه قلبي.
فقال أبو عبد الله عليه السلام : ( أجل هو كما ذكرت يا فيض ، إنّ الناس قد أولعوا بالكذب علينا ، إنّ الله افترض عليهم لا يريد منهم غيره ، وإنّي أحدّث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتّى يتأوّله على غير تأويله ، وذلك أنّهم لا يطلبون بحديثنا وبحبّنا ما عند الله ، وإنّما يطلبون به الدنيا ، وكلّ يحبّ أن يدّعي رأساً ، أنّه ليس من عبد يرفع نفسه إلاّ وضعه الله ، وما من عبد وضع نفسه إلاّ رفعه الله وشرّفه ، فإذا أردت بحديثنا فعليك بهذا الجالس ) ، وأومأ إلى رجل من أصحابه ، فسألت أصحابنا عنه ، فقالوا : زرارة بن أعين ) (12).
فهذا الخبر في سنده محمّد بن سنان ، وهو مختلف فيه توثيقاً ، ولو أغمضنا النظر عن السند ، فليس في المتن ما يستوجب التشهير بالشيعة كما يروم الزاعم ، بل على العكس ففيه مدح ، وفيه دلالة على أنّ هناك فئة تتورّع في سماع الحديث فلا تقبله من كلّ أحد لاحتياطهم ، ومنهم الفيض بن المختار.
كما دلّ على أنّ أُناساً يحتسبون على الشيعة من الفرق الضالّة ، يسمعون الحديث فيأوّلونه على غير تأويله ، فلامهم أبو عبد الله عليه السلام.
ودلّ أيضاً على أنّ هناك من هو مأمون على الحديث ، مثل زرارة الذي أومأ إليه أبو عبد الله عليه السلام ، ودلّ الفيض على الأخذ منه ، فأين ما يروم الزاعم التشهير به على الشيعة؟
ولست في المقام بصدد ذكر ما عند المذاهب الأُخرى من مفارقات ومنابذات ، ولكن هل للزاعم الذي يهيب بالشيعيّ أن يتأمّل ما ذكره وسمّاه بالحقائق!!
فهل هو تأمّل في تراثه؟ ورآه خلوا من العيب ، ولا يتطرّقه الريب ، فرمى بيوت الآخرين بالأحجار ، وما درى أنّ بيته من زجاج ، ثمّ هل له أن يجيب من يقول له : أنّ الصحاح الست عندكم أصحّها صحيح البخاريّ ، وهو فيما تزعمون أصحّ كتاب بعد كتاب الله ، وفي هذا الصحيح من سفاسف الحديث المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وآله ما يسقطه عن الاعتبار ، وليس صحيح مسلم من دونه في هذه الجهة.
وإلى القارئ نماذج قليلة ممّا فيه مخالفة لكتاب الله تعالى ، والثابت من سنّة نبيّه صلى الله عليه وآله ، فنهيب بالسنّي بما أهاب به الزاعم للشيعي أن ينظر في تراثه من جديد ، فالحاجة ماسّة إلى إعادة النظر لتنكشف الحقائق أمامه ، ولا أدعوه إلى هدم السنّة ، فإنّ ذلك هدم للدين ، ولكن عليه أن يتورّع في أخذ معالم دينه عمّن يكون حجّة بينه وبين ربّه تعالى ، وفي ذلك عودة إلى الذات الصحيحة التي تدعو إلى نبذ العقل التسليمي النقلي ، كما نبذه عمر بن الخطّاب حين نقد أبا هريرة على كثرة حديثه ، بل وحتّى ضربه بالدرّة.
أليس عمر خليفة المسلمين؟ وأبو هريرة راوية الإسلام كما يسمّونه؟ فليس في الرجوع إلى الذات الصحيحة ما يستدعي تعطيل العقل الواعي ، بل بالعكس فهو ـ الرجوع إلى الذات الصحيحة ـ ينبذ العنف والتشنّج ، ويشارك في معرفة الصحيح من التراث المقبول على ضوء الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فقد حدّث أبو يوسف القاضي ـ صاحب أبي حنيفة ـ قال : حدّثنا ابن أبي كريمة ، عن أبي جعفر ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه دعا اليهود فسألهم ، فحدّثوه حتّى كذبوا على عيسى ، فصعد النبيّ المنبر ، فخطب الناس فقال : ( إنّ الحديث سيفشو عنّي ، فما أتاكم عنّي يوافق القرآن فهو عنّي ، وما أتاكم عنّي مخالفاً القرآن فليس عنّي ) (13).
إنّ النصوص التي نسبت إلى النبيّ الكريم هي نصوص أحادية ، رواها شخص واحد أو شخصان ، ثمّ ولا أحد يستطيع أن يؤكّد ويجزم أنّ تلك الأحاديث هي بألفاظها نفسها كما نطقها النبيّ الكريم.
ولنختم الكلام مع الزاعم الكاذب مهما كان ، ومن يكن من أهل المذاهب ، نسأله ما رأيه فيما قاله شيخ إسلامه ابن تيمية وقد ترّحم عليه ، وهو من أهل الأثر ذوي المشرب الظاهريّ ، يرى الصحّة القطعية ، وإفادة العلم لكلّ ما اتفق عليه الشيخان ، إلاّ أنّه مع ذلك يقرّر قائلاً : ( وكما أنّهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ ، فإنّهم أيضاً يضعّفون من حديث الثقة الصدق الضابط أشياء تبيّن لهم أنّه غلط فيها بأمور ويستدلّون بها ، ويسمّون هذا علم علل الحديث ، وهو من أشرف علومهم ، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط ، وغلط فيه ، وغلطه فيه عرف أمّا بسبب ظاهر كما عرّفوا أنّ النبيّ تزوّج ميمونة وهو حلال ـ أي من الإحرام ـ وأنّه صلّى في البيت ركعتين ، وجعلوا رواية ابن عباس تزوّجها حراماً ـ أي وهو محرم ـ ، ولكونه لم يصل ممّا وقع فيه الغلط ، وكذلك أنّه اعتمر أربع عمر.
وعلموا أنّ قول ابن عمر أنّه اعتمر في رجب ممّا وقع فيه الغلط ، وعلموا أنّه تمتّع وهو آمن من حجّة الوداع ، وإنّ قول عثمان لعلي : كنّا يومئذ خائفين ، ممّا وقع فيه الغلط ، وأنّ ما وقع في بعض طرق البخاريّ : أنّ النار لا تمتلئ حتّى ينشئ الله لها خلقاً آخر ، ممّا وقع فيه الغلط ، وهذا كثير ) (14).
وقوله : ( وأنّ ما وقع في بعض طرق البخاريّ : أنّ النار لا تمتلئ ... ) ، يشير إلى رواية صحيح البخاريّ ، بسنده عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وآله قال : ( اختصمت الجنّة والنار إلى ربّهما ، فقالت الجنّة : يا ربّ ، ما لها لا يدخلها إلاّ ضعفاء الناس وسقطهم ، وقالت النار : يعني أوثرت بالمتكبّرين ، فقال الله تعالى للجنّة : أنت رحمتي ، وقال للنار : أنت عذابي أصيب بك من أشاء ، ولكلّ واحدة منكما ملؤها.
قال : فأمّا الجنّة فإنّ الله لا يظلم من خلقه أحداً ، وإنّه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها ، فتقول : هل من مزيد؟ ثلاثاً ، حتّى يضع فيها قدمه ، فتمتلئ ويرد بعضها إلى بعض ، وتقول : قط قط قط ) (15).
قال ابن حجر : وقد قال جماعة من الأئمّة : أنّ هذا الموضع مقلوب ، جزم ابن القيّم بأنّه غلط ، واحتجّ بأنّ الله تعالى أخبر بأنّ جهنّم تمتلئ من إبليس وأتباعه ، وكذا أنكر الرواية شيخنا البلقيني ، واحتج بقوله تعالى : {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف: 49] (16).
فليقرأ السنّي هذا بإمعان ، وليعرف عمّن يأخذ دينه ، من كتاب هو عيبة سفاسف لا الجامع الصحيح كما سمّوه ، ممّا وقع فيه الغلط , وهذا كثير.
أقول للزاعم الجواب : أرأيت كيف حمل شيخ إسلامك على رموز أعلامك ، وكشف الغطاء عن بعض موارد الغلط والشطط عند زوامل الأسفار ، الذين يرون في صحيح البخاريّ أنّه أصحّ كتاب بعد كتاب الله؟
ولم يسلم صحيح مسلم من نقد ابن تيمية ، فقد قال في كتابه : ( وممّا قد يسمّى صحيحاً ما يصحّحه علماء الحديث ، وآخرون يخالفونهم في تصحيحه ، فيقولون : هو ضعف ليس بصحيح ، مثل ألفاظ رواها مسلم في صحيحه ، ونازعه في صحّتها غيره من أهل العلم ، إمّا مثله أو دونه أو فوقه ، فهذا لا يجزم بصدقه إلاّ بدليل ، مثل حديث ابن وعلة عن ابن عباس : أنّ رسول الله قال : ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) ، فإنّ هذا انفرد به مسلم عن البخاريّ ، وقد ضعّفه الإمام أحمد وغيره ، وقد رواه مسلم ) (17).
ثمّ ذكر عدّة موارد أُخرى ، ولا أُريد أن أطيل الوقوف عند هذا الباب ، فإنّه لا يخلو منه كتاب غير كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وكم من دراسات حديثة صدرت حول كتابي البخاريّ ومسلم وغيرهما من بقية الصحاح ، فأبانت عن الأخطاء والأوهام في المتون والأسانيد في تلك الكتب التي يسمّونها أصحابها والمتعبّدون بالأخذ بما فيها بالصحاح ، وهي فيها من الشاذّة والمردودة لنكارة فيها سنداً أو متناً.
وتعجبني كلمة الإمام الحافظ المحدّث العلاّمة أبي الفيض أحمد بن محمّد ابن الصدّيق الغماري الحسني ، المتوفّى 1380 هـ ، قالها في خاتمة كتابه ـ المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير : 136 ، بعد أن ذكر العمدة في معرفة الحديث الموضوع ـ : ومنها وجود النكارة الظاهرة في متنه بركاكة اللفظ أو مخالفة المعنى للثابت المعروف ، وإن كان سنده صحيحاً.
قال : ( ومنها أحاديث الصحيحين ، فإنّ فيها ما هو مقطوع ببطلانه فلا تغتر بذلك ، ولا تتهيّب الحكم عليه بالوضع لما يذكرونه من الإجماع على صحّة ما فيهما ، فإنّها دعوى فارغة لا تثبت عند البحث والتمحيص ، فإنّ الإجماع على صحّة جميع أحاديث الصحيحين غير معقول ولا واقع ... ).
نقلاً بواسطة نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث ، إسماعيل الكردي ، وقد أقرّه على ذلك الشيخ ناصر الدين الألبانيّ المحدّث المشهور في مقدّمة كتابه آداب الزفاف : 60 ، بعد ذكره عبارة الغماري تلك : وذه إمّا لا يشكّ فيه كلّ باحث متمرّس في هذه العلم ، وقد كنت ذكرت نحوه في مقدّمة شرح الطحاويّة ... الخ.
وقال الألبانيّ في إرواء الغليل 5 / 33 : ( وأمّا القول بأنّ من روى له البخاريّ فقد جاوز القنطرة ، فهو لا يلتفت إليه أهل التحقيق ، كأمثال ابن حجر العسقلانيّ ، ومن له اطلاع لابأس به على كتاب التقريب يعلم صدق ما نقول ).
وأخيراً : فأنا أهيب بكلّ سنّي باحث عن الحقّ ، وليس التعصّب الأعمى ، أن يتأمّل هذه الحقائق ، ويعرف الأُسس التي بنى عليها دينه ، وأنّ الأحاديث التي في الصحاح ، وخصوصاً في الصحيحين فيها أخبار ضعيفة وشاذّة ومنكرة ، بل وموضوعة ، بمعنى أنّها أحاديث مكذوبة ، وضعها الكذّابون والمفسدون لأغراض مهينة ومشينة ، فليتق الله ربّه ولا تخدعه زبرجة الألقاب ، والله هو الهادي إلى الصواب.
وأمّا ما جاء في آخر المسائل : من ردّ على كتاب البرقعي ، وكتاب حيدر علي قلمداران القمّيّ : فالجواب لو أراد الشيعة أن ينصبوا أنفسهم للردّ على كلّ كتاب يتناولهم بالسبّ والتهريج ، لأضاعوا أوقاتهم في غير فائدة ، فإنّ سماسرة الأقلام المشتراة في كلّ زمان ومكان ليس عندهم من جديد ما يفيد ، بل هو أجزاء طعام الآخرين من الأوّلين السابقين ، وما صدر عن أعلام الشيعة في جواب أُولئك يكفي.
____________
1 ـ فضائل الصحابة : 15 ، الجامع الكبير 5 / 328 ، تحفة الأحوذيّ 10 / 196 ، المصنّف لابن أبي شيبة 7 / 418 ، كتاب السنّة : 337 و 629 ، السنن الكبرى للنسائيّ 5 / 45 و 130 ، خصائص أمير المؤمنين : 93 ، المعجم الصغير 1 / 135 ، المعجم الأوسط 4 / 33 و 5 / 89 ، المعجم الكبير 3 / 66 و 5 / 154 و 166 و 170 و 182 ، شرح نهج البلاغة 9 / 133 ، نظم درر السمطين : 232 ، كنز العمّال 1 / 172 و 186 ، تفسير القرآن العظيم 4 / 122 ، المحصول 4 / 170 ، الإحكام للآمدي 1 / 246 ، الطبقات الكبرى 2 / 194 ، علل الدارقطنيّ 6 / 236 ، أنساب الأشراف : 111 و 439 ، البداية والنهاية 5 / 228 ، السيرة النبويّة لابن كثير 4 / 416 ، سبل الهدى والرشاد 11 / 6 و 12 / 232 ، ينابيع المودّة 1 / 74 و 95 و 99 و 105 و 112 و 119 و 123 و 132 و 345 و 349 و 2 / 432 و 438 و 3 / 65 و 141 و 294 ، النهاية في غريب الحديث والأثر 1 / 211 و 3 / 177 ، لسان العرب 4 / 538 و 11 / 88 ، تاج العروس 7 / 245.
2 ـ مسند زيد بن علي : 404.
3 ـ مقدمة فتح الباري : 9.
4 ـ الأُم 7 / 358.
5 ـ شرح صحيح مسلم 1 / 131.
6 ـ رجال النجاشيّ : 6.
7 ـ تذكرة الحفّاظ 3 / 1045.
8 ـ الوافي : 11.
9 ـ القاموس المحيط 3 / 338.
10 ـ وسائل الشيعة 30 / 259.
11 ـ معجم رجال الحديث 1 / 33.
12 ـ اختيار معرفة الرجال 1 / 347.
13 ـ الأُم 7 / 358.
14 ـ مجموع الفتاوى 13 / 352.
15 ـ صحيح البخاريّ 8 / 186.
16 ـ فتح الباري 13 / 368.
17 ـ مجموع الفتاوى 18 / 17.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|