أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-9-2020
3990
التاريخ: 9-9-2020
4019
التاريخ: 9-9-2020
5717
التاريخ: 5-9-2020
5208
|
قال تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى } [طه: 49 - 56]
{قال} لهما فرعون {فمن ربكما} أي: فمن ربك وربه {يا موسى} وإنما قال ربكما على تغليب الخطاب وقيل: تقديره فمن ربكما يا موسى وهارون فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر اختصارا ولتسوي رءوس الآي وأراد به فمن أي جنس من الأجناس ربكما حتى أفهمه فبين موسى أنه تعالى ليس له جنس وإنما يعرف سبحانه بأفعاله { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} معناه أعطى كل شيء خلقته أي صورته التي قدرها له {ثم هدى} أي: هداه إلى مطعمه ومشربه ومنكحه وغير ذلك من ضروب هدايته عن مجاهد وعطية ومقاتل وقيل: معناه أعطى كل شيء مثل خلقه أي زوجة من جنسه ثم هداه لنكاحه عن ابن عباس والسدي وقيل: معناه أعطى خلقه كل شيء من النعم في الدنيا مما يأكلون ويشربون وينتفعون به ثم هداهم إلى طرق معايشهم وإلى أمور دينهم ليتوصلوا بها إلى نعم الآخرة عن الجبائي .
{قال} فرعون { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى } أي: فما حال الأمم الماضية فإنها لم تقر بالله وما تدعوإليه بل عبدت الأوثان ويعني بالقرون الأولى مثل قوم نوح وعاد وثمود فـ{قال} موسى {علمها عند ربي} أي: أعمالهم محفوظة عند الله يجازيهم بها والتقدير علم أعمالهم لها عند ربي {في كتاب} يعني اللوح المحفوظ والمعنى أن أعمالهم مكتوبة مثبتة عليهم وقيل المراد بالكتاب ما يكتبه الملائكة وقيل أيضا أن فرعون إنما قال فما بال القرون الأولى حين دعاه موسى إلى الإقرار بالبعث أي فما بالهم لم يبعثوا.
{لا يضل ربي} أي: لا يذهب عليه شيء وقيل: معناه لا يخطىء ربي {ولا ينسى} من النسيان عن أبي مسلم أي: لا ينسى ما كان من أمرهم بل يجازيهم بأعمالهم وقيل: معناه لا يغفل ولا يترك شيئا عن السدي ثم زاد في الأخبار عن الله تعالى فقال: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} أي: فرشا ومهادا أي: فراشا {وسلك لكم فيها سبلا} والسلك إدخال الشيء في الشيء والمعنى أدخل لكم أي لأجلكم في الأرض طرقا تسلكونها وقال ابن عباس سهل لكم فيها طرقا { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } يعني المطر وتم الإخبار عن موسى.
ثم أخبر الله سبحانه عن نفسه فقال موصولا بما قبله من الكلام {فأخرجنا به} أي: بذلك الماء {أزواجا} أي: أصنافا {من نبات شتى} أي: مختلفة الألوان أحمر وأبيض وأخضر وأصفر وكل لون منها زوج وقيل مختلفة الألوان والطعوم والمنافع فمنها ما يصلح لطعام الإنسان ومنها ما يصلح للتفكه ومنها ما يصلح لغير الإنسان من أصناف الحيوان {كلوا} أي: مما أخرجنا لكم بالمطر من النبات والثمار {وارعوا أنعامكم} أي: وأسيموا مواشيكم فيما أنبتناه بالمطر واللفظ للأمر والمراد الإباحة والتذكير بالنعمة.
{إن في ذلك} أي: فيما ذكر {لآيات} أي: دلالات {لأولي النهى} أي لذوي العقول الذين ينتهون عما حرم الله عليهم عن الضحاك وقيل لذوي الورع عن قتادة وقيل: لذوي التقى عن ابن عباس {منها خلقناكم} أي: من الأرض خلقنا أباكم آدم (عليه السلام) {وفيها نعيدكم} أي: وفي الأرض نعيدكم إذا أمتناكم {ومنها نخرجكم تارة أخرى} أي دفعة أخرى إذا حشرناكم {ولقد أريناه} يعني فرعون {آياتنا كلها} يعني الآيات التسع أي: معجزاتنا الدالة على نبوة موسى {فكذب} بجميع ذلك {وأبى} أن يؤمن به وقيل: معناه فجحد الدليل وأبى القبول ولم يرد سبحانه بذلك جميع آياته التي يقدر عليها ولا كل آية خلقها وإنما أراد كل الآيات التي أعطاها موسى .
_______________
1- تفسير مجمع البيان،الطبرسي،ج7،ص26-28.
{ قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى} . ذهب موسى وهارون إلى فرعون ، وقالا كما أمرهما اللَّه تعالى : انا رسولا ربك ، وقد جئناك بالحجة والدليل على صدقنا ونبوتنا ، فان دخلت في دين اللَّه فلك الأمان من غضبه ونقمته ، وإلا فأنت من الهالكين . . وهذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها فرعون كلمة ربك ، فهو لا يعترف بأن له ربا لأنه بزعمه هو الرب الأعلى ، ولهذا سأل موسى : من هو هذا الرب الذي أرسلك إليّ ؟ ووجه الخطاب في ربكما لموسى وهارون معا لأنهما قالا له : إنا رسولا ربك ، أما النداء فخصه بموسى لأنه صاحب الدعوة وهارون تابع .
{ قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى } . قال موسى لفرعون جوابا على سؤاله : ربنا هو الذي خلق الخلائق ، فصورها فأحسن صورها دون أن يستعين على ذلك بأحد ، وهو الذي فطر كل مخلوق على الوظيفة التي تحفظ كيانه وبقاءه ، قال الإمام علي ( عليه واله وسلم ) : « ألا تنظرون إلى صغير ما خلق اللَّه كيف خلقه ، وأتقن تركيبه ، وخلق السمع والبصر ، وسوى له العظم والبشر » .
وكأنّ موسى يقول لفرعون : ان الرب هو الذي يخلق الأشياء من لا شيء ، فأين أنت من هذا ؟ تماما كما حدث لإبراهيم ( عليه السلام ) مع النمرود : « قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهً يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ » - 258 البقرة .
{ قالَ » - فرعون - « فَما بالُ الْقُرُونِ الأُولى } . المراد بالقرون الأولى قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم الخالية التي كانت تعبد الأصنام من دون اللَّه ، وأراد فرعون بهذا السؤال الرد على موسى بأنه لو كان هناك إله بالأوصاف التي ذكرت لعبدته الأمم السابقة ، مع العلم بأنها كانت تعبد الأصنام . . وهذا الجواب يحمل معه الدليل على نقضه وفساده لأن الاستدلال على نفي الإله الحق بعبادة من عبد الأصنام تماما كالاستدلال بعمى الخفاش على عدم وجود الشمس .
{ قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي ولا يَنْسى } . أجاب موسى فرعون بأني لست علَّام الغيوب حتى أخبرك عن الأمم البائدة ، فاللَّه وحده هو الذي أحاط بكل شيء علما ، وعلمه دائم لا يعتريه التغيير والتبديل : « يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ ونَسُوهُ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » - 6 المجادلة .
وتسأل : ان موسى يعلم علم اليقين أن عبدة الأصنام كانوا على ضلال ، فلما ذا قال لفرعون : اللَّه أعلم بهم ، ولم يقل : كانوا على ضلال ؟
الجواب : لو قال : ان القرون الأولى كانوا ضالين لطالبه فرعون بالدليل الذي يقتنع به السامعون أو يكون حجة دامغة لا يستطيعون إنكارها ، وموسى لا يملك هذا الدليل ، ولذا أجاب فرعون بما لا يطالبه بالدليل عليه .
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً } تقدم الكلام مفصلا عن بسط الأرض ومدها ومهدها في ج 4 ص 374 عند تفسير الآية 3 من سورة الرعد { وسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً } طرقا تسلكونها لبلوغ مآربكم{ وأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى }. تقدم نظيره في الآية 99 من سورة الأنعام ج 3 ص 234 .
{ كُلُوا وارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهى } . المراد بالآيات الدلائل على وجود اللَّه تعالى ، وأولو النهى أهل العقول والبصائر ، وخصهم اللَّه سبحانه بالذكر لأنهم يدركون الحقائق إذا كانوا مجردين عن الأهواء والأغراض ، وفي الحديث ان رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) قال : ان خياركم أولو النهى . فقالوا : ومن أولو النهى يا رسول اللَّه ؟ قال : أولو الأخلاق الحسنة ، والأحلام الرزينة ، والمتعاهدون للفقراء واليتامى والجيران ، يطعمون الطعام ، ويفشون السلام في العالم .
{ مِنْها خَلَقْناكُمْ وفِيها نُعِيدُكُمْ ومِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى } . الإنسان ابن الأرض بجسمه ، فهي المادة الأولى لتكوينه ، ومنها طعامه وشرابه ، وعليها ذهابه وإيابه ، قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) : « الأرض أمكم ، وهي برة بكم » . أجل ، هي أمنا لأنّا منها ولدنا ، وهي برة بنا لأنها تغذينا كما ترضع الأم وليدها . ثم نعود إلى الأرض بعد الموت ، ونصير ترابا كما كنا من قبل ، ثم نحيا ثانية للحساب والجزاء .
{ ولَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وأَبى } . الهاء في أريناه لفرعون ، والمراد بالآيات المعجزات التي أظهرها اللَّه سبحانه على يد موسى ، ودلت دلالة واضحة على صدقه ونبوته ، ولكن أية جدوى من الآيات والنذر إذا اصطدمت بالمنافع والمصالح ؟ .
_____________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 221
فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) يذكر فيه خبر ذهاب موسى وهارون (عليهما السلام) إلى فرعون وتبليغهما رسالة ربهما في نجاة بني إسرائيل، وقد فصل في الآيات خبر ذهابهما إليه وإظهارهما آيات الله ومقابلة السحرة وظهور الحق وإيمان السحرة وأشير إجمالا إلى إسراء بني إسرائيل وشق البحر واتباع فرعون لهم بجنوده وغرقهم.
قوله تعالى:{ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} حكاية لمحاورة موسى وفرعون وقد علم مما نقله تعالى من أمره تعالى لهما أن يذهبا إلى فرعون ويدعواه إلى التوحيد ويكلماه في إرسال بني إسرائيل معهما، ما قالا له فهو محذوف وما نقل من كلام فرعون جوابا دال عليه.
ويظهر مما نقل من كلام فرعون إنه علم بتعريفهما أنهما معا داعيان شريكان في الدعوة غير أن موسى هو الأصل في القيام بها وهارون وزيره ولذا خاطب موسى وحده وسأل عن ربهما معا.
وقد وقع في كلمة الدعوة التي أمرا بأن يكلماه بها{ نَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ } إلخ، لفظ{ربك} خطابا لفرعون مرتين وهو لا يرى لنفسه ربا بل يرى نفسه ربا لهما ولغيرهما كما قال في بعض كلامه المنقول منه:{أنا ربكم الأعلى:} النازعات: 24، وقال:{ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}: الشعراء: 29، فقوله:{فمن ربكما} - وكان الحري بالمقام أن يقول فمن ربي الذي تدعيانه ربا لي؟ أوما يقرب من ذلك - يلوح إلى أنه يتغافل عن كونه سبحانه ربا له كأنه لم يسمع قولهما{ربك} ويسأل عن ربهما الذي هما رسولان من عنده.
وكان من المسلم المقطوع عند الأمم الوثنيين أن خالق الكل حقيقة هي أعلى من أن يقدر بقدر وأعظم من أن يحيط به عقل أو وهم فمن المستحيل أن يتوجه إليه بعبادة أو يتقرب إليه بقربان فلا يؤخذ إلها وربا بل الواجب التوجه إلى بعض مقربي خلقه بالعبادة والقربان ليقرب الإنسان من الله زلفى ويشفع له عنده فهؤلاء هم الآلهة والأرباب وليس الله سبحانه بإله ولا رب وإنما هو إله الآلهة ورب الأرباب فقول القائل: إن لي ربا إنما يعني به أحد الآلهة من دون الله وليس يعني به الله سبحانه ولا يفهم ذلك من كلامه في محاوراتهم.
فقول فرعون:{فمن ربكما} ليس إنكارا لوجود خالق الكل ولا إنكار أن يكون له إله كما يظهر من قوله:{ويذرك وآلهتك}: الأعراف: 127، وإنما هو طلب منه للمعرفة بحال من اتخذاه إلها وربا من هو غيره؟ وهذا معنى ما تقدم أن فرعون يتغافل في قوله هذا عن دعوتهما إلى الله سبحانه وهما في أول الدعوة فهو يقدر ولو كتقدير المتجاهل أن موسى وأخاه يدعوانه إلى بعض الآلهة التي يتخذ فيما بينهم ربا من دون الله فيسأل عنه، وقد كان من دأب الوثنيين التفنن في اتخاذ الآلهة يتخذ كل منهم من يهواه إلها وربما بدل إلها من إله فتلك طريقتهم وسيأتي قول الملإ:{ويذهبا بطريقتكم المثلى} نعم، ربما تفوه عامتهم ببعض ما لا يوافق أصولهم كنسبة الخلق والتدبير إلى نفس الأصنام دون أربابها.
فمحصل مذهبهم أنهم ينزهون الله تعالى عن العبادة والتقرب وإنما يتقربون استشفاعا إليه ببعض خلقه كالملائكة والجن والقديسين من البشر، وكان منهم الملوك العظام عند كثير منهم يرونهم مظاهر لعظمة اللاهوت فيعبدونهم في عرض سائر الآلهة والأرباب وكان لا يمنع ذلك الملك الرب أن يتخذ إلها من الآلهة فيعبده فيكون عابدا لربه معبودا لغيره من الرعية كما كان رب البيت يعبد في بيته عند الروم القديم وكان أكثرهم من الوثنية الصابئة، فقد كان فرعون موسى ملكا متألها وهو يعبد الأصنام وهو الظاهر من خلال الآيات الكريمة.
ومن هنا يظهر ما في أقوال كثير من المفسرين في أمره قال في روح المعاني،: ذهب بعضهم إلى أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا واستدلوا عليه بعدة من الآيات.
وبأن ملكه لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ألا ترى أن موسى (عليه السلام) لما هرب إلى مدين قال له شعيب (عليه السلام): لا تخف نجوت من القوم الظالمين فكيف يعتقد أنه إله العالم؟ وبأنه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا وكل عاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم ومن كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر.
ومن الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات والأرض وما بينهما واختلفوا في كيفية جهله.
فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع أصلا، ولعله كان يقول بعدم احتياج الممكن إلى مؤثر وأن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ذي مقراطيس وأتباعه.
ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ويحتمل أنه كان من عبدة الأصنام، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة، وأما دعاؤه لنفسه بالربوبية فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره. انتهى بنحو من التلخيص.
وأنت بالرجوع إلى حاق مذهب القوم تعرف أن شيئا من هذه الأقوال والمحتملات ولا ما استدلوا عليه لا يوافق واقع الأمر.
قوله تعالى:{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } سياق الآية - وهي واقعة في جواب سؤال فرعون:{فمن ربكما يا موسى} - يعطي أن{خلقه} بمعنى اسم المصدر والضمير للشيء فالمراد الوجود الخاص بالشيء.
والهداية إراءة الشيء الطريق الموصل إلى مطلوبه أوإيصاله إلى مطلوبه ويعود المعنيان في الحقيقة إلى معنى واحد وهو نوع من إيصال الشيء إلى مطلوبه إما بإيصاله إليه نفسه أو إلى طريقه الموصل إليه.
وقد أطلق الهداية من حيث المهدي والمهدي إليه، ولم يسبق في الكلام إلا الشيء الذي أعطي خلقه فالظاهر أن المراد هداية كل شيء - المذكور قبلا - إلى مطلوبه ومطلوبه هو الغاية التي يرتبط بها وجوده وينتهي إليها والمطلوب هو مطلوبه من جهة خلقه الذي أعطيه ومعنى هدايته له إليها تسييره نحوها كل ذلك بمناسبة البعض للبعض.
فيئول المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كل شيء بما جهز به في وجوده من القوى والآلات وبين آثاره التي تنتهي به إلى غاية وجوده فالجنين من الإنسان مثلا وهو نطفة مصورة بصورته مجهز في نفسه بقوى وأعضاء تناسب من الأفعال والآثار ما ينتهي به إلى الإنسان الكامل في نفسه وبدنه فقد أعطيت النطفة الإنسانية بما لها من الاستعداد خلقها الذي يخصها وهو الوجود الخاص بالإنسان ثم هديت وسيرت بما جهزت به من القوى والأعضاء نحو مطلوبها وهو غاية الوجود الإنساني والكمال الأخير الذي يختص به هذا النوع.
ومن هنا يظهر معنى عطف قوله:{هدى} على قوله:{أعطى كل شيء خلقه} بثم وأن المراد التأخر الرتبي فإن سير الشيء وحركته بعد وجوده رتبة وهذا التأخر في الموجودات الجسمانية تدريجي زماني بنحو.
وظهر أيضا أن المراد بالهداية الهداية العامة الشاملة لكل شيء دون الهداية الخاصة بالإنسان، وذلك بتحليل الهداية الخاصة وتعميمها بإلقاء الخصوصيات فإن حقيقة هداية الإنسان بإراءته الطريق الموصل إلى المطلوب والطريق رابطة القاصد بمطلوبه فكل شيء جهز بما يربطه بشيء ويحركه نحوه فقد هدي إلى ذلك الشيء فكل شيء مهدي نحوكماله بما جهز به من تجهيز والله سبحانه هو الهادي.
فنظام الفعل والانفعال في الأشياء وإن شئت فقل: النظام الجزئي الخاص بكل شيء والنظام العام الجامع لجميع الأنظمة الجزئية من حيث ارتباط أجزائها وانتقال الأشياء من جزء منها إلى جزء مصداق هدايته تعالى وذلك بعناية أخرى مصداق لتدبيره، ومعلوم أن التدبير ينتهي إلى الخلق بمعنى أن الذي ينتهي وينتسب إليه تدبير الأشياء هو الذي أوجد نفس الأشياء فكل وجود أو صفة وجود ينتهي إليه و يقوم به.
فقد تبين أن الكلام أعني قوله:{ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } مشتمل على البرهان على كونه تعالى رب كل شيء لا رب غيره فإن خلقه الأشياء وإيجاده لها يستلزم ملكه لوجوداتها - لقيامها به - وملك تدبير أمرها.
وعند هذا يظهر أن الكلام على نظمه الطبيعي والسياق جار على مقتضى المقام فإن المقام مقام الدعوة إلى التوحيد وطاعة الرسول وقد أتى فرعون بعد استماع كلمة الدعوة بما حاصله التغافل عن كونه تعالى ربا له، وحمل كلامهما على دعوتهما له إلى ربهما فسأل: من ربكما؟ فكان من الحري أن يجاب بأن ربنا هو رب العالمين ليشملهما وإياه وغيرهم جميعا فأجيب بما هو أبلغ من ذلك فقيل:{ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } فأجيب بأنه رب كل شيء وأفيد مع ذلك البرهان على هذا المدعى، ولو قيل: ربنا رب العالمين أفاد المدعى فحسب دون البرهان، فافهم ذلك.
وإنما أثبت في الكلام الهداية دون التدبير مع كون موردهما متحدا كما تقدمت الإشارة إليه لأن المقام مقام الدعوة والهداية والهداية، العامة أشد مناسبة له.
هذا هو الذي يرشد إليه التدبر في الآية الكريمة، وبذلك يعلم حال سائر التفاسير التي أوردت للآية: كقول بعضهم: إن المراد بقوله:{خلقه} مثل خلقه وهو الزوج الذي يماثل الشيء، والمعنى: الذي خلق لكل شيء زوجا، فيكون في معنى قوله:{ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}.
وقول بعضهم: إن المراد بكل شيء أنواع النعم وهو مفعول ثان لأعطى وبالخلق المخلوق وهو مفعول أول لأعطى، والمعنى: الذي أعطى مخلوقاته كل شيء من النعم.
وقول بعضهم: إن المراد بالهداية الإرشاد والدلالة على وجوده تعالى ووحدته بلا شريك، والمعنى: الذي أعطى كل شيء من الوجود ما يطلبه بلسان استعداده ثم أرشد ودل بذلك على وجود نفسه ووحدته.
والتأمل فيما مر يكفيك للتنبه على فساد هذه الوجوه فإنما هي معان بعيدة عن السياق وتقييدات للفظ الآية من غير مقيد.
قوله تعالى:{ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى } قيل: البال في الأصل بمعنى الفكر ومنه قولهم: خطر ببالي كذا، ثم استعمل بمعنى الحال، ولا يثنى ولا يجمع، وقولهم: بآلات، شاذ.
لما كان جواب موسى (عليه السلام) مشتملا على معنى الهداية العامة التي لا تتم في الإنسان إلا بنبوة ومعاد إذ لا يستقيم دين التوحيد إلا بحساب وجزاء يتميز به المحسن من المسيء ولا يتم ذلك إلا بتمييز ما يأمر تعالى به مما ينهى عنه وما يرتضيه مما يسخطه، على أن كلمة الدعوة التي أمرا أن يؤدياها إلى فرعون مشتملة على الجزاء صريحا ففي آخرها:{ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } والوثنيون منكرون لذلك عدل فرعون عن الكلام في الربوبية - وقد انقطع بما أجاب به موسى - إلى أمر المعاد والسؤال عنه بانيا على الاستبعاد.
فقوله:{ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى } أي ما حال الأمم والأجيال الإنسانية الماضية الذين ماتوا وفنوا لا خبر عنهم ولا أثر كيف يجزون بأعمالهم ولا عامل في الوجود ولا عمل وليسوا اليوم إلا أحاديث وأساطير؟ فالآية نظيرة ما نقل عن المشركين في قوله:{ وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ:} الم السجدة: 10، وظاهر الكلام أنه مبني على الاستبعاد من جهة انتفاء العلم بهم وبأعمالهم للموت والفوت كما يشهد به جواب موسى (عليه السلام).
قوله تعالى:{ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى } أجاب (عليه السلام) عن سؤاله بإثبات علمه تعالى المطلق بتفاصيل تلك القرون الخالية فقال:{علمها عند ربي} فأطلق العلم بها فلا يفوته شيء من أشخاصهم وأعمالهم وجعلها عند الله فلا تغيب عنه ولا تفوته، وقد قال تعالى:{وما عند الله باق} ثم قيد ذلك بقوله:{في كتاب} - وكأنه حال من العلم - ليؤكد به أنه مثبت محفوظ من غير أن يتغير عن حاله وقد نكر الكتاب ليدل به على فخامة أمره من جهة سعة إحاطته ودقتها فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فيئول معنى الكلام إلى أن جزاء القرون الأولى إنما يشكل لو جهل ولم يعلم بها لكنها معلومة لربي محفوظة عنده في كتاب لا يتطرق إليه خطأ ولا تغيير ولا غيبة وزوال.
وقوله:{ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى } نفي للجهل الابتدائي والجهل بعد العلم على ما نقل عن بعضهم ولكن الظاهر أن الجملة مسوقة لنفي الجهل بعد العلم بقسميه فإن الضلال هو قصد الغاية بسلوك سبيل لا يؤدي إليها بل إلى غيرها فيكون الضلال في العلم هو أخذ الشيء مكان غيره وإنما يتحقق ذلك بتغير المعلوم من حيث هو معلوم عما كانت عليه في العلم أولا، والنسيان خروج الشيء من العلم بعد دخوله فيه فهما معا من الجهل بعد العلم، ونفيه هو المناسب لإثبات العلم أولا فيفيد مجموع الآية أنه عالم بالقرون الأولى ولا سبيل إليه للجهل بعد العلم فيجازيهم على ما علم.
ومن هنا يظهر أن قوله:{ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} من تمام بيان الآية كأنه دفع دخل مقدر كأنما قيل: إنها وإن علم بها يوما فهي اليوم باطلة الذوات معفوة الآثار لا يتميز شيء منها من شيء فأجيب بأن شيئا منها ومن آثارها وأعمالها لا يختلط عليه تعالى بتغير ضلال ولا يغيب عنه بنسيان، ولذا أوردت الجملة مفصولة غير معطوفة.
وقد أثبت العلم ونفى الجهل عنه تعالى بعنوان أنه رب لتكون فيه إشارة إلى برهان المدعى وذلك أن فرض الربوبية لا يجامع فرض الجهل بالمربوب إذ فرض ربوبيته المطلقة لكل شيء - والرب هو المالك للشيء المدبر لأمره - يستلزم كون الأشياء مملوكة له قائمة الوجود به من كل جهة وكونها مدبرة له كيفما فرضت فهي معلومة له، ولو فرض شيء منها مجهولا له عن ضلال أو نسيان أو جهل ابتدائي فذلك الشيء أيا ما كان وأينما تحقق مملوك له قائم الوجود به مدبر بتدبيره لا حاجب بينهما ولا فاصل وهو الحضور الذي نسميه علما وقد فرضناه مجهولا أي غائبا عنه هذا خلف.
وقد أضاف الرب إلى نفسه في الآية في موضعين ثانيهما من وضع الظاهر موضع المضمر على ما قيل ولم يقل:{ربنا} كما في الآية السابقة لأن السؤال السابق إنما كان عن ربهما الذي يدعوان إليه فأجيب بما يطابقه فكان معناه بحسب المقام: الرب الذي أدعو أنا وأخي إليه هو كذا وكذا، وأما في هذه الآية فقد سئل عن أمر يرجع إلى القرون الأولى والذي يصفه هو موسى فكان المعنى الرب الذي أصفه عليم بها، والذي يفيد هذا المعنى هو{ربي} لا غير فتأمل فيه فهو لطيف.
والنكتة في{ربي} الثاني هي نظيرة ما في{ربي} الأول وفي كونه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر تأمل لفصل الجملة.
وقد اختلفت أقوال المفسرين في تفسير الآيتين بالوجوه والاحتمالات اختلافا كثيرا أضربنا عن ذكرها لعدم جدوى فيها ومن أعجبها قول كثير منهم أن قول فرعون لموسى:{ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} سؤال عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة سأل موسى عن ذلك ليصرفه عن ما هو فيه من التكلم في أصول المعارف الإلهية وإقامة البرهان على صريح الحق في مسائل المبدأ والمعاد مما ينكره الوثنية ويشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأولين وأخبار الماضين، وجواب موسى:{علمها عند ربي} إلخ، محصله إرجاع العلم بها إلى الله وأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب.
قوله تعالى:{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا - إلى قوله - لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى } قد عرفت أن لسؤاله{ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ؟} ارتباطا بما وصف الله به من الهداية العامة التي منها هداية الإنسان إلى سعادته في الحياة وهي الحياة الخالدة الأخروية وكذا الجواب عنه بقوله:{علمها عند ربي} إلخ مرتبط فقوله:{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا } مضى في الحديث عن الهداية العامة وذكر شواهد بارزة من ذلك.
فالله سبحانه أقر الإنسان في الأرض يحيا فيها حياة أرضية ليتخذ منها زادا لحياته العلوية السماوية كالصبي يقر في المهد ويربى لحياة هي أشرف منه وأرقى، وجعل للإنسان فيها سبلا ليتنبه بذلك أن بينه وبين غايته وهو التقرب منه تعالى والدخول في حظيرة الكرامة سبيلا يجب أن يسلكها كما يسلك السبل الأرضية لمآربه الحيوية وأنزل من السماء ماء وهو ماء الأمطار ومنه مياه عيون الأرض وأنهارها وبحارها فأنبت منه أزواجا أي أنواعا وأصنافا متقاربة شتى من نبات يهديكم إلى أكلها ففي ذلك آيات تدل أرباب العقول إلى هدايته وربوبيته تعالى.
فقوله:{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا } إشارة إلى قرار الإنسان في الأرض لإدامة الحياة وهو من الهداية، وقوله:{ وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا } إشارة إلى مسالك الإنسان التي يسلكها في الأرض لإدراك مآربه وهو أيضا من الهداية، وقوله:{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } إشارة إلى هداية الإنسان والإنعام إلى أكل النبات لإبقاء الحياة، وفيه هداية السماء إلى الإمطار وماء الأمطار إلى النزول والنبات إلى الخروج.
والباء في{به} للسببية وفيه تصديق السببية والمسببية بين الأمور الكونية، والمراد بكون النبات أزواجا كونها أنواعا وأصنافا متقاربة كما فسره القوم أوحقيقة الإزدواج بين الذكور والإناث من النبات وهي من الحقائق التي نبه عليها الكتاب العزيز.
وقوله:{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} فيه التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير، قيل: والوجه فيه ما في هذا الصنع العجيب وإبداع الصور المتشتتة والأزواج المختلفة على ما فيها من تنوع الحياة من ماء واحد، من العظمة والصنع العظيم لا يصدر إلا من العظيم والعظماء يتكلمون عنهم وعن غيرهم من أعوانهم وقد ورد الالتفات في معنى إخراج النبات بالماء في مواضع من كلامه تعالى كقوله:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا }: فاطر: 27، وقوله:{ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ }: النمل: 60، وقوله:{ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ:} الأنعام: 99.
وقوله:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى } النهى جمع نهية بالضم فالسكون: وهو العقل سمي به لنهيه عن اتباع الهوى.
قوله تعالى:{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } الضمير للأرض والآية تصف ابتداء خلق الإنسان من الأرض ثم إعادته فيها وصيرورته جزء منها ثم إخراجه منها للرجوع إلى الله ففيها الدورة الكاملة من هداية الإنسان.
قوله تعالى:{ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى } الظاهر أن المراد بالآيات العصا واليد وسائر الآيات التي أراها موسى فرعون أيام دعوته قبل الغرق كما مر في قوله:{ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي } فالمراد جميع الآيات التي أريها وإن لم يؤت بها جميعا في أول الدعوة كما أن المراد بقوله:{فكذب وأبى} مطلق تكذيبه وإبائه لا ما أتى به منهما في أول الدعوة.
___________
1- تفسير مجمع البيان ،الطباطبائي،ج14،ص133-140.
مَن ربّكما؟
لقد حذف القرآن المجيد هنا ـ وكما هي طريقته ـ بعض المطالب التي يمكن فهمها بمعونة الأبحاث الآتية، وتوجّه مباشرةً إلى محاورة موسى وهارون مع فرعون، والمبحث في الواقع هكذا:
إنّ موسى بعد تلقّى الوحي والرسالة، وخطّة عمل كاملة في كيفيّة التعامل مع فرعون، تحرّك من تلك الأرض المقدّسة، والتقى أخاه هارون ـ على حدّ قول المفسّرين ـ قرب مصر، ثمّ توجّها معاً نحو فرعون، وتمكّنا من الدخول إلى قصر فرعون الاُسطوري برغم المشاكل الكثيرة.
فلمّا أصبح موسى أمام فرعون وجهاً لوجه، أعاد تلك الجمل الدقيقة المؤثّرة التي علّمه الله إيّاها أثناء الأمر بالرسالة: { إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}. واعلم أيضاً { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}.
فلمّا سمع فرعون هذا الكلام، كان أوّل ردّ فعله أن { قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى }. والعجيب أنّ فرعون المغرور والمعجب بنفسه لم يكن مستعدّاً حتّى أن يقول: من ربّي الذي تدّعيانه؟ بل قال: من ربّكما؟!
فأجابه موسى مباشرةً بجواب جامع جدّاً، وقصير في الوقت نفسه، عن الله: { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } ففي هذه العبارة الموجزة إشارة إلى أصلين أساسيين من الخلقة والوجود، وكلّ واحد منهما دليل وبرهان مستقل يوصل إلى معرفة الله:
الأوّل: إنّ الله سبحانه قد وهب لكلّ موجود ما يحتاجه، وهذا أمرٌ في غاية الأهميّة ممّا يقتضي تأليف عدّة كتب، بل إنّ كثيراً من الكتب قد اُلّفت في هذا المجال.
إنّنا إذا دقّقنا قليلا في النباتات والحيوانات التي تعيش في كلّ منطقة، سواء الطيور، أو الحيوانات البحرية، أو الحشرات والزواحف، فسنرى أنّ لكلّ منها إنسجاماً تامّاً مع محيطها الذي تعيش فيه، وكلّ ما تحتاجه فهو موجود تحت تصرّفها، فإنّ هيكل الطيور قد هيّئها للطيران من ناحية شكلها ووزنها وحواسها المختلفة، وكذلك تكوين وبناء الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار.
والثّاني: مسألة هداية وإرشاد الموجودات، وقد جعلها القرآن بإستعماله (ثمّ) في الدرجة الثّانية بعد تأمين الإحتياجات.
إنّ من الممكن أن يمتلك الإنسان أي شيء من أسباب الحياة، إلاّ أنّه يجهل كيفيّة الإستفادة منها، والمهمّ أن يعرف طريقة إستعمالها، وهذا هو الشيء الذي نراه في الموجودات المختلفة بوضوح، وكيف أنّ كلاًّ منها يستغلّ طاقته بصورة دقيقة في إدامة حياته، كيف يبني بيتاً، وكيف يتكاثر، وكيف يربّي أولاده ويخفيهم ويبعدهم عن متناول الأعداء، أو يعلمهم كيف يواجهون الأعداء؟
والبشر ـ أيضاً ـ لديهم هذه الهداية التكوينيّة، إلاّ أنّ الإنسان لمّا كان موجوداً يمتلك عقلا وشعوراً، فقد جعل الله سبحانه هدايته التكوينيّة مع هدايته التشريعيّة بواسطة الأنبياء متلازمة ومتزامنة، بحيث إنّه إذا لم ينحرف عن ذلك الطريق، فإنّه سيصل حتماً إلى مقصده. وبتعبير آخر فإنّ الإنسان نتيجة لإمتلاكه العقل والإرادة، فإنّ له واجبات ومسؤوليات، وبعد ذلك مناهج تكامليّة ليس للحيوانات مثلها، ولذلك فإنّه إضافة إلى الهداية التكوينيّة محتاج إلى الهداية التشريعيّة.
وخلاصة القول: إنّ موسى (عليه السلام) يريد أن يفهم فرعون أنّ عالم الوجود هذا غير منحصر فيك، ولا في أرض مصر، ولا يختص بالحاضر أو الماضي، فإنّ لهذا العالم ماضياً ومستقبلا لم أكن ولم تكن فيه، وتلاحظ مسألتان أساسيتان في هذا العالم: تأمين الحاجات، ثمّ إستغلال الطاقات والقوى في طريق رقي الموجودات، فإنّها تستطيع جيداً أن تدلّك على ربّنا، وتعرفّك به، وكلّما أمعنت النظر في هذا المجال فستحصل على دلالات وبراهين كثيرة على عظمته وقدرته.
فلمّا سمع فرعون هذا الجواب الجامع الجميل، ألقى سؤالا آخر { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى }. وهناك بحث بين المفسّرين في مراد فرعون من هذه الجملة، فقد أظهروا وجهات نظر مختلفة!
1 ـ فقال بعضهم: إنّ موسى(عليه السلام) لمّا ذكر في آخر جملة من كلامه شمول العذاب الإلهي للمكذّبين بالتوحيد، فإنّ فرعون سأل: إذن فلماذا لم يبتل أُولئك الأقوام المشركين الماضين، بمثل هذا العذاب؟
2 ـ وقال بعض: إنّ موسى لمّا قال: إنّ ربّ العالم هو ربّ الجميع، سأل فرعون: فلماذا كان الأسلاف من قومنا وكلّ الأقوام الماضية مشركين؟ فهذا يبيّن أنّ الشرك وعبادة الأصنام ليس عملا خاطئاً!
3 ـ وقال آخرون: لمّا كان معنى كلام موسى هو أنّ الجميع سينال نتيجة أعماله في النهاية، وسيُعاقب أُولئك الذين عصوا الأوامر الإلهيّة، فسأل فرعون: فما هو مصير الأقوام الماضية الذين هلكوا واندثروا؟
على كلّ حال، أجابه موسى (عليه السلام) بقوله: { قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}(2) وبناءً على هذا فإنّ حساب هؤلاء وكتبهم محفوظة، وسينالون في النهاية ثواب وعقاب أعمالهم، فإنّ الحافظ لهذا الحساب هو الله الذي لا يخطىء ولا ينسى، وبملاحظة ما بيّنه موسى من أصل التوحيد والتعريف بالله، فإنّ من الواضح جدّاً أنّ حفظ هذا الحساب لدى من أعطى كلّ موجود حاجته بدقّة، ثمّ هداه ليس أمراً صعباً.
وللمفسّرين آراء مختلفة في الفرق بين (لا يضلّ) و (لا ينسى) إلاّ أنّ الظاهر هو أن (لا يضلّ) إشارة إلى نفي أي نوع من الخطأ من قبل الله سبحانه، و (لا ينسى) إشارة إلى نفي النسيان، أي أنّه سبحانه لا يشتبه في حساب الأفراد عند بداية العمل، ولا يبتلى بنسيان حفظ حسابهم وأعمالهم، وعلى هذا فإنّ موسى قد نبّه بصورة ضمنيّة على إحاطة علم الله بكلّ شيء، لينتبه فرعون إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ أي شيء من عمله لا يخفى على الله وإن كان بمقدار رأس الإبرة، وسوف ينال عقابه أو ثوابه.
في الحقيقة، إنّ الإحاطة العلمية لله هي نتيجة الكلام الذي قاله موسى من قبل، وهو أنّ الله الذي أعطى كلّ موجود حاجته ثمّ هداه، مطّلع على حال كلّ أحد، وكلّ شيء.
ولمّا كان جانب من حديث موسى (عليه السلام) حول مسألة التوحيد ومعرفة الله، فإنّه يبيّن هنا فصلا آخر في هذا المجال، فيقول: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى }. وفي مجموع هذه الآية إشارة إلى أربعة أنواع من نعم الله الكبرى.
1 ـ الأرض التي هي مهد إستقرار الإنسان ومهاده، ويستطيع الإنسان العيش عليها براحة وأمان ببركة قانون الجاذبية، وكذلك الطبقة الغازية العظيمة التي تحيط بالأرض.
2 ـ الطرق والسبل التي أوجدها الله في الأرض، والتي تربط جميع مناطقها بعضها بالبعض الآخر، كما رأينا غالباً وجود طرق ووديان بين سلسلة الجبال التي تناطح السّماء يستطيع الإنسان أن يمرّ من خلالها ويصل إلى مقصده.
3 ـ الماء الذي هو أساس الحياة، ومصدر كلّ البركات، والذي اُنزل من السّماء.
4 ـ الأعشاب والنباتات المختلفة التي تخرج من الأرض بفعل هذا الماء، ويشكّل قسم منها المواد الغذائية للإنسان، وقسم يستفيد منه الإنسان في صنع الأدوية، وقسم آخر يصنع ملابسه، وقسم آخر لوسائل الحياة كالأبواب، وحتّى البيوت التي تبنى من الخشب، والسفن، وكثير من وسائط النقل الاُخرى، بل يمكن القول: إنّ هذه النعم الأربع الكبرى تشكّل حسب الترتيب الذي ورد في الآية أولويّات حياة الإنسان، فقبل كلّ شيء يحتاج الإنسان إلى محلّ سكن وهدوء، وبعده إلى طرق المواصلات، ثمّ الماء، ثمّ المحاصيل الزراعية.
ثمّ أشار إلى خامس النعم وآخرها من سلسلة النعم الإلهيّة هذه، فقال: {كلوا وارعوا أنعامكم}، وهو إشارة إلى ثرواتكم ومنتوجاتكم الحيوانيّة، والتي تشكّل جانباً مهمّاً من المواد الغذائية والملابس ووسائل الحياة، هي أيضاً من بركات هذه الأرض وذلك الماء النازل من السّماء.
وفي النهاية، وبعد أن أشار إلى كلّ هذه النعم، قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى }.
ممّا يستحقّ الإنتباه أنّ «النهى» جمع «نهية» وهي في الأصل مأخوذة من مادّة «نهي» مقابل الأمر، وتعني العقل الذي ينهى الإنسان عن القبائح والسيّئات، وهذه إشارة إلى أنّ كلّ تدبّر وتفكّر من أجل فهم أهميّة هذه الآيات ليس كافياً، بل إنّ العقل والفكر المسؤول هو الذي يستطيع أن يدرك ويطلع على هذه الحقيقة.
وبما أنّ هذه الآيات دلّلت على التوحيد بخلق الأرض ونعمها، فقد بيّنت مسألة المعاد بالإشارة إلى الأرض في آخر آية من هذه الآيات أيضاً فقالت: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } وإنّه لتعبير بليغ حقّاً، ومختصر أيضاً، عن ماضي البشر وحاضره ومستقبله، فكلّنا قد جئنا من التراب، وكلّنا نرجع إلى التراب، ومنه نبعث مرّةً أُخرى!
إنّ رجوعنا إلى التراب، أو بعثنا منه أمر واضح تماماً، لكن في كيفيّة بدايتنا من التراب تفسيران: الأوّل: إنّنا جميعاً من آدم وآدم من تراب. والآخر: إنّنا أنفسنا قد خلقنا من التراب، لأنّ كلّ المواد الغذائية التي كوّنت أجسام آبائنا واُمّهاتنا قد أخذت من هذا التراب.
ثمّ إنّ هذا التعبير ينبّه كلّ العتاة المتمردّين، والمتّصفين بصفات فرعون، كي لا ينسوا من أين أتوا، وإلى أين يذهبون؟ فلماذا كلّ هذا الغرور والعصيان والطغيان من موجود كان بالأمس تراباً، وسيكون غداً تراباً أيضاً؟
{ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى } ومن المسلّم أنّ المراد من هذه الآيات هنا ليس كلّ المعجزات التي ظهرت على يد موسى (عليه السلام) طيلة حياته في مصر. بل مرتبطة بالمعجزات التي أراها فرعون في بداية دعوته، معجزة العصا، واليد البيضاء، ومحتوى دعوته السماوية الجامعة، والتي كانت بنفسها دليلا حيّاً على أحقّيته، ولذلك تطالعنا بعد هذه الحادثة مسألة المواجهة بين السّحرة وموسى (عليه السلام) ومعجزاته الجديدة.
_____________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص143-149.
2- لقد ذكر «كتاب» هنا بصيغة النكرة، وهذه إشارة إلى عظمة الكتاب الذي تثبت فيه أعمال العباد، كما نقرأ في آية أُخرى: (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها) الكهف ـ 49.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|