المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17761 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



تفسير الآية (100-113) من سورة الصافات  
  
13428   02:53 صباحاً   التاريخ: 29-8-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الصاد / سورة الصافات /

قال تعالى : {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُو الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } [الصافات : 100 - 113] .

 

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

لما قدم الأرض المقدسة سأل إبراهيم ربه الولد فقال {رب هب لي من الصالحين} أي ولدا صالحا من الصالحين كما تقول أكلت من الطعام فحذف لدلالة الكلام عليه .

ثم أخبر سبحانه أنه استجاب لإبراهيم دعاءه بقوله {فبشرناه بغلام حليم} أي بابن وقور عن الحسن قال وما سمعت الله تعالى نحل عباده شيئا أجل من الحلم والحليم الذي لا يعجل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه وقيل الذي لا يعجل بالعقوبة قال الزجاج وهذه البشارة تدل على أن الغلام يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم ثم أخبر سبحانه أن الغلام الذي بشره به ولد له وترعرع بقوله {فلما بلغ معه السعي} أي شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم عن مجاهد والمعنى بلغ إلى أن يتصرف ويمشي معه ويعينه على أموره قالوا وكان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وقيل يعني بالسعي العمل لله والعبادة عن الحسن والكلبي وابن زيد ومقاتل {قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى} معنى رأى في الكلام على خمسة أوجه (أحدها) أبصر (والثاني) علم نحو رأيت زيدا عالما (والثالث) ظن كقوله تعالى إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا (والرابع) اعتقد نحو قوله :

وإنا لقوم ما نرى القتل سبة *** إذا ما رأته عامر وسلول

(والخامس) بمعنى الرأي نحو رأيت هذا الرأي وأما رأيت في المنام فمن رؤية البصر فمعنى الآية أن إبراهيم قال لابنه إني أبصرت في المنام رؤيا تأويلها الأمر بذبحك فانظر ما ذا تراه أو أي شيء ترى من الرأي ولا يجوز أن يكون ترى هاهنا بمعنى تبصر لأنه لم يشر إلى شيء يبصر بالعين ولا يجوز أن يكون بمعنى علم أو ظن أو اعتقد لأن هذه الأشياء تتعدى إلى مفعولين وليس هنا إلا مفعول واحد مع استحالة المعنى فلم يبق إلا أن يكون من الرأي والأولى أن يكون الله تعالى قد أوحى إليه في حال اليقظة وتعبده بأن يمضي ما يأمره به في حال نومه من حيث إن منامات الأنبياء لا تكون إلا صحيحة ولولم يأمره بذلك في حال اليقظة لما كان يجوز أن يعمل على ما يراه في المنام وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس منامات الأنبياء وحي وقال قتادة رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئا فعلوه وقال أبو مسلم رؤيا الأنبياء مع أن جميعها صحيحة ضربان ( أحدهما ) أن يأتي الشيء كما رأوه ومنه قوله سبحانه لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام الآية ( والآخر ) أن يكون عبارة عن خلاف الظاهر مما رأوه في المنام وذلك كرؤيا يوسف الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين وكان رؤيا إبراهيم من هذا القبيل لكنه لم يأمن أن يكون ما رآه مما يلزمه العمل به على الحقيقة ولا يسعه غير ذلك فلما أسلما أعلمه الله سبحانه أنه صدق الرؤيا بما فعله وفدى ابنه من الذبح بالذبح .

{قال يا أبت افعل ما تؤمر} أي ما أمرت به {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} أي ستصادفني بمشيئة الله وحسن توفيقه ممن يصبر على الشدائد في جنب الله ويسلم لأمره {فلما أسلما} أي استسلما لأمر الله ورضيا به وأطاعاه وقيل معناه سلم الأب ابنه لله وسلم الابن نفسه لله {وتله للجبين} أي اضطجعه على جبينه عن الحسن وقيل معناه وضع جبينه على الأرض لئلا يرى وجهه فتلحقه رقة الآباء عن ابن عباس وروي أنه قال اذبحني وأنا ساجد لا تنظر إلى وجهي فعسى أن ترحمني فلا تذبحني .

{وناديناه أن يا إبراهيم} تقديره ناديناه بأن يا إبراهيم أي بهذا الضرب من القول {قد صدقت الرؤيا} أي فعلت ما أمرت به في الرؤيا {إنا كذلك نجزي المحسنين} أي كما جزيناه بالعفو عن ذبح ابنه نجزي من سلك طريقهما في الإحسان بالاستسلام والانقياد لأمر الله {إن هذا لهو البلاء المبين} أي إن هذا لهو الامتحان الظاهر والاختبار الشديد وقيل إن هذا لهو النعمة الظاهرة وتسمى النعمة بلاء بسببها المؤدي إليها كما يقال لأسباب الموت هي الموت لأنها تؤدي إليه .

 واختلف العلماء في الذبيح على قولين ( أحدهما ) أنه إسحاق وروي ذلك عن علي (عليه السلام) وابن مسعود وقتادة وسعيد بن جبير ومسروق وعكرمة وعطا والزهري والسدي والجبائي والقول الآخر أنه إسماعيل عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي ومجاهد والربيع بن أنس والكلبي ومحمد بن كعب القرظي وكلا القولين قد رواه أصحابنا عن أئمتنا (عليهم السلام) إلا أن الأظهر في الروايات أنه إسماعيل ويعضده قوله بعد قصة الذبح {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} ومن قال إنه بشر بنبوة إسحاق فقد ترك الظاهر ولأنه قال في موضع آخر فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فبشره بإسحاق وبأنه سيولد له يعقوب فكيف يبشره بذرية إسحاق ثم يأمره بذبح إسحاق مع ذلك وقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ((أنا ابن الذبيحين)) ولا خلاف أنه من ولد إسماعيل والذبيح الآخر هو عبد الله أبوه .

وحجة من قال إنه إسحاق أن أهل الكتابين أجمعوا على ذلك وجوابه أن إجماعهم ليس بحجة وقولهم غير مقبول وروى محمد ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قال كنت عند عمر بن عبد العزيز فسألني عن الذبيح فقلت إسماعيل واستدللت بقوله {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} فأرسل إلى رجل بالشام كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه وكان يرى أنه من علماء اليهود فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك وأنا عنده فقال إسماعيل ثم قال والله يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أبوكم الذي كان من أمر الله فيه ما كان فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم .

وقال الأصمعي سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق أم إسماعيل فقال يا أصمعي أين ذهب عنك عقلك ومتى كان إسحاق بمكة وإنما كان بمكة إسماعيل وهو بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة لا شك فيه وقد استدل بهذه الآية من أجاز نسخ الشيء قبل وقت فعله فقال إن الله تعالى نهاه عن ذبحه بعد أن أمره به وقد أجيب عن ذلك بأجوبة :

(أحدها) أنه سبحانه لم يأمر إبراهيم بالذبح الذي هو فري الأوداج وإنما أمره بمقدمات الذبح من الإضجاع وتناول المدية وما يجري مجرى ذلك والعرب قد تسمي الشيء باسم مقدماته ولهذا قال {قد صدقت الرؤيا} ولوكان أمره بالذبح لكان إنما صدق بعض الرؤيا وأما الفداء بالذبح فلما كان يتوقعه من الأمر بالذبح ولا يمتنع أيضا أن يكون فدية عن مقدمات الذبح لأن الفدية لا يجب أن تكون من جنس المفدي أ لا ترى أن حلق الرأس قد يفدي بدم ما يذبح وكذلك لبس الثوب المخيط والجماع وغير ذلك .

(وثانيها) أنه (عليه السلام) إنما أمر بصورة الذبح وقد فعله لأنه فرى أوداج ابنه ولكنه كلما فرى جزءا منه وجاوزه إلى غيره عاد في الحال ملتحما فإن قلت إن حقيقة الذبح هو قطع مكان مخصوص تزول معه الحياة فالجواب أن ذلك غير مسلم لأنه يقال ذبح هذا الحيوان ولم يمت بعد ولو سلمنا أن حقيقة الذبح ذلك لكان لنا أن نحمل الذبح على المجاز للدليل الدال عليه .

(وثالثها) أن الله تعالى أمره بالذبح إلا أنه سبحانه جعل على عنقه صفحة من نحاس وكلما أمر إبراهيم السكين عليه لم يقطع أو كان كلما اعتمد على السكين انقلب على اختلاف الرواية فيه وهذا التأويل يسوغ إذا قلنا إنه كان مأمورا بما يجري مجرى الذبح ولا يسوغ إذا قلنا إنه أمر بحقيقة الذبح لأنه يكون تكليف لما لا يطاق .

ثم قال سبحانه {وفديناه بذبح عظيم} الفداء جعل الشيء مكان الشيء لدفع الضرر عنه والذبح هو المذبوح وما يذبح ومعناه أنا جعلنا الذبح بدلا عنه كالأسير يفدي بشيء واختلف في الذبح فقيل كان كبشا من الغنم عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير قال ابن عباس هو الكبش الذي تقبل من هابيل حين قربه وقيل فدي بوعل أهبط عليه من ثبير(2) عن الحسن ولم سمي عظيما فيه خلاف قيل لأنه كان مقبولا عن مجاهد وقيل لأن قدر غيره من الكباش يصغر بالإضافة إليه وقيل لأنه رعى في الجنة أربعين خريفا عن سعيد ابن جبير وقيل لأنه كان من عند الله كونه ولم يكن عن نسل وقيل لأنه فداء عبد عظيم .

{وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين} قد مضى تفسير ذلك {وبشرناه بإسحاق} أي بولادة إسحاق {نبيا من الصالحين} أي ولدا نبيا من جملة الأنبياء الصالحين وهذا ترغيب في الصلاح بأن مدح مثله في جلالته بالصلاح ومن قال إن الذبيح إسحاق قال يعني بشرناه بنبوة إسحاق وآتينا إسحاق النبوة بصبره {وباركنا عليه وعلى إسحاق} أي وجعلنا فيما أعطيناهما من الخير والبركة يعني النماء والزيادة ومعناه وجعلنا ما أعطيناهما من الخير دائما ثابتا ناميا ويجوز أن يكون أراد كثرة ولدهما وبقاءهم قرنا بعد قرن إلى أن تقوم الساعة {ومن ذريتهما} أي ومن أولاد إبراهيم وإسحاق {محسن} بالإيمان والطاعة {وظالم لنفسه} بالكفر والمعاصي {مبين} بين الظلم .

 

[القصة]

من ذهب إلى الذبيح إسحاق ذكر أن إبراهيم لما فارق قومه مهاجرا إلى الشام هاربا بدينه كما حكى الله سبحانه عنه بقوله إني ذاهب إلى ربي سيهدين دعا الله سبحانه أن يهب له ولدا ذكرا من سارة فلما نزل به أضيافه من الملائكة المرسلين إلى المؤتفكة وبشروه بغلام حليم قال إبراهيم حين بشر به هو إذا له ذبيح فلما ولد الغلام وبلغ معه السعي قيل له أوف بنذرك الذي نذرت فكان هذا هو السبب في أمره (عليه السلام) بذبح ابنه فقال إبراهيم (عليه السلام) عند ذلك لإسحاق انطلق نقرب قربانا لله وأخذ سكينا وحبلا ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام يا أبة أين قربانك فقال : {يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك} إلى آخره عن السدي .

وقيل : إن إبراهيم رأى في المنام أن يذبح ابنه إسحاق وقد كان حج بوالدته سارة وأهله فلما انتهى إلى منى رمى الجمرة هو وأهله وأمر سارة فزارت البيت واحتبس الغلام فانطلق به إلى موضع الجمرة الوسطى فاستشاره في نفسه فأمره الغلام أن يمضي ما أمره الله وسلما لأمر الله فأقبل شيخ فقال يا إبراهيم ما تريد من هذا الغلام قال أريد أن أذبحه فقال سبحان الله تريد أن تذبح غلاما لم يعص الله طرفة عين قط قال إبراهيم إن الله أمرني بذلك قال ربك ينهاك عن ذلك وإنما أمرك بهذا الشيطان فقال إبراهيم لا والله فلما عزم على الذبح قال الغلام يا أبتا خمر وجهي وشد وثاقي قال إبراهيم يا بني الوثاق مع الذبح والله لا أجمعهما عليك اليوم ورفع رأسه إلى السماء ثم انحنى عليه بالمدية وقلب جبرائيل المدية على قفاها واجتر الكبش من قبل ثبير واجتر الغلام من تحته ووضع الكبش مكان الغلام ونودي من ميسرة مسجد الخيف يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا بإسحاق إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين قال ولحق إبليس بأم الغلام حين زارت البيت فقال لها ما شيخ رأيته بمنى قالت ذاك بعلي قال فوصيف رأيته قالت ذاك ابني قال فإني رأيته وقد أضجعه وأخذ المدية ليذبحه قالت كذبت إبراهيم أرحم الناس فكيف يذبح ابنه قال فورب السماء ورب هذه الكعبة قد رأيته كذلك قالت ولم قال زعم أن ربه أمره بذلك قالت حق له أن يطيع ربه فوقع في نفسها أنه قد أمر في ابنها بأمر فلما قضت نسكها أسرعت في الوادي راجعة إلى منى واضعة يديها على رأسها وهي تقول يا رب لا تؤاخذني بما عملت بأم إسماعيل فلما جاءت سارة وأخبرت الخبر قامت إلى ابنها تنظر فرأت إلى أثر السكين خدشا في حلقه ففزعت واشتكت وكانت بدو مرضها الذي هلكت به رواه العياشي وعلي بن إبراهيم بالإسناد في كتابيهما .

ومن قال أن الذبيح إسماعيل فمنهم محمد بن إسحاق بن يسار وذكر أن إبراهيم كان إذ زار إسماعيل وهاجر حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة يروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى إذا بلغ معه السعي رأى في المنام أن يذبحه فقال له يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله عنه فقال يا أبت اشدد رباطي حتى لا اضطرب واكفف عني ثيابك حتى لا تنتضح من دمي شيئا فتراه أمي واشحذ شفرتك وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد فقال له إبراهيم نعم العون أنت يا بني على أمر الله ثم ذكر نحوا مما تقدم ذكره .

وروى العياشي بإسناده عن بريدة بن معاوية العجلي قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) كم كان بين بشارة إبراهيم (عليه السلام) بإسماعيل (عليه السلام) وبين بشارته بإسحاق قال كان بين البشارتين خمس سنين قال الله سبحانه فبشرناه بغلام حليم يعني إسماعيل وهي أول بشارة بشر الله بها إبراهيم في الولد ولما ولد لإبراهيم إسحاق من سارة وبلغ إسحاق ثلاث سنين أقبل إسماعيل (عليه السلام) إلى إسحاق وهو في حجر إبراهيم فنحاه وجلس في مجلسه فبصرت به سارة فقالت يا إبراهيم ينحي ابن هاجر ابني من حجرك ويجلس هو في مكانه لا والله لا تجاورني هاجر وابنها في بلاد أبدا فنحهما عني وكان إبراهيم مكرما لسارة يعزها ويعرف حقها وذلك لأنها كانت من ولد الأنبياء وبنت خالته فشق ذلك على إبراهيم واغتم لفراق إسماعيل (عليه السلام) فلما كان في الليل أتى إبراهيم آت من ربه فأراه الرؤيا في ذبح ابنه إسماعيل بموسم مكة فأصبح إبراهيم حزينا للرؤيا التي رآها فلما حضر موسم ذلك العام حمل إبراهيم هاجر وإسماعيل في ذي الحجة من أرض الشام فانطلق بهما إلى مكة ليذبحه في الموسم فبدأ بقواعد البيت الحرام فلما رفع قواعده خرج إلى منى حاجا وقضى نسكه بمنى ورجع إلى مكة فطافا بالبيت أسبوعا ثم انطلقا إلى السعي فلما صارا في المسعى قال إبراهيم (عليه السلام) لإسماعيل (عليه السلام) يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك في موسم عامي هذا فما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر فلما فرغا من سعيهما انطلق به إبراهيم إلى منى وذلك يوم النحر فلما انتهى به إلى الجمرة الوسطى وأضجعه لجنبه الأيسر وأخذ الشفرة ليذبحه نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إلى آخره وفدي إسماعيل بكبش عظيم فذبحه وتصدق بلحمه على المساكين .

وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سألته عن كبش إبراهيم (عليه السلام) ما كان لونه قال أملح أقرن ونزل من السماء على الجبل الأيمن من مسجد منى بحيال الجمرة الوسطى وكان يمشي في سواد ويأكل في سواد وينظر في سواد ويبعر في سواد ويبول في سواد وعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سأل عن صاحب الذبح قال هو إسماعيل وعن زياد بن سوقة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سألته عن صاحب الذبح فقال إسماعيل (عليه السلام) .

________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص319-327 .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} . بلغ إبراهيم (عليه السلام) من الكبر عتيا ، ولم يرزق ولدا ، فسأل ربه أن يهبه ذرية مؤمنة وخلفا صالحا {فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} .

وهو إسماعيل ، ما في ذلك ريب ، بشهادة القرآن الكريم ، ويأتي البيان مفصلا بعد تفسير الآيات التي نحن بصددها .

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى} .

الضمير المستتر في بلغ يعود إلى الغلام المذكور في الآية السابقة ، ونعني به إسماعيل ، وضمير معه يعود إلى إبراهيم . وقد رأى في منامه أنه يذبح أو يقدم على ذبح ولده ، ففهم من هذه الرؤيا ان اللَّه قد أمره بذبحه . . وفهم الأنبياء يقين ، ومن أجل هذا عزم من غير تردد على أن يحقق رؤياه بالفعل ، وأخبر ولده بعزمه وطلب منه أن يبدي رأيه في ذلك بعد النظر والتأمل .

{قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ} . أجابه على الفور لا رأي لي ولا أمر مع أمر اللَّه وأمرك . . يا أبت اذبحني فلا قيمة للحياة في جنب مرضاة اللَّه ومرضاتك . .

افصل يا أبت رأسي عن جسدي وأنت عندي البر الرحيم ما دمت تبغي وجه اللَّه وتستجيب لدعواه . . ثم أخذ إسماعيل يخفف عن أبيه ويهون عليه أمر الذبح ويقول :

{سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} . أتلقى الذبح رابط الجأش قوي اليقين .

{فَلَمَّا أَسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ونادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . لما مدّ إسماعيل عنقه للذبح وهوى عليه إبراهيم بسكينة مفوضا كل منهما أمره لمن له الأمر - جاء النداء من الآمر الأعلى : هذا تأويل رؤياك . .

انه العزم والاقدام منك على الذبح إخلاصا للَّه ، والانقياد من إسماعيل لأمر اللَّه طيب النفس ، أما الذبح بالذات فما هو بمقصود .

وتسأل : إذا كان الذبح غير مقصود فما هو الغرض من الأمر به ؟

الجواب : يرى البعض ان الغرض من ذلك ان يظهر اللَّه سبحانه للملأ والأجيال عظمة كل من إبراهيم وإسماعيل في تضحيته وإخلاصه للَّه ، فيكون موضع التقديس والتقدير إلى يوم يبعثون . وقال آخر : الغرض ان تبدل سارة غيرتها من هاجر أم إسماعيل ، وتكف قسوتها عن إبراهيم . . ونضيف نحن إلى هذين القولين ان اللَّه سبحانه أراد أيضا أن يضرب ذلك مثلا للمؤمن الحق وانه الذي يطيع اللَّه في كل شيء حتى في ذبح ولده وفلذة كبده ، ويومئ إلى هذا قوله تعالى : {إِنَّ هذا لَهُو الْبَلاءُ الْمُبِينُ} أي ان هذا العزم على التضحية بالنفس والأهل امتثالا لأمر اللَّه هو وحده المحكّ للمؤمن حقا وواقعا ، والحد الفاصل بينه وبين من يخيل إليه انه من المؤمنين وما هومن الايمان في شيء .

{وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} . المراد بالذبح المذبوح . وقيل كان كبشا ، وقال آخر : بل كان وعلا . . وأيا كان الفداء فنحن غير مسؤولين عن معرفة نوعه ، ولا تتصل هذه المعرفة بحياتنا من قريب أو بعيد . وطريف قول من قال إنه كان كبشا أملح ، ورعى في الجنة أربعين عاما ، وان إبراهيم (عليه السلام) أعطى طحاله وأنثييه لإبليس . . وإذا رعى في الجنة أربعين عاما فكم يكون وزنه يا ترى ؟

{وتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} . تقدم هذا النص في الآية 78 وما بعدها من هذه السورة نفسها .

{وبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وبارَكْنا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحاقَ} . هذه البشارة من اللَّه لإبراهيم بولد ثان انما هي جزاء على صبره وإقدامه على ذبح ولده طاعة للَّه . وفي قاموس الكتاب المقدس : ان سارة ولدت إسحاق ولها من العمر 90 سنة ، ولإبراهيم مائة سنة ، وان معنى إسحاق في العبرية يضحك . أما هاجر فقد ولدت إسماعيل ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة {ومِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} . والمحسن من هذه الذرية هو الذي اتبع ملة أبيه إبراهيم حنيفا ، والظالم من حاد عنها .

هل الذبيح إسماعيل أو اسحاق ؟

ذهب البعض إلى أن الذبيح - أي الذي أمر إبراهيم بذبحه – هو اسحاق وليس إسماعيل . . ولا مصدر لهذا القول إلا إسرائيليات كعب الأحبار وحسد اليهود لأبناء إسماعيل ، وليس هذا بكثير على بني إسرائيل ، أما الأدلة على أن الذبيح هو إسماعيل فهي :

أولا : قوله تعالى : {فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فإنه يدل بصراحة على أن المبشر به والساعي والذبيح صفات لموصوف واحد ، وهو الولد البكر لإبراهيم ، وبكر إبراهيم هو إسماعيل باتفاق المسلمين والنصارى واليهود ، فلقد جاء في التوراة الأصحاح 16 الآية 15 من سفر التكوين ما نصه بالحرف : (وكان إبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لابرام) أي إبراهيم ، وإذا عطفنا على هذا ما جاء في التوراة من السفر المذكور الأصحاح 17 الآية 17 وما بعدها : ان اللَّه لما بشّر إبراهيم بإسحاق من سارة سقط على وجهه وقال في قلبه : هل يولد لي وأنا ابن مائة سنة ، وسارة بنت تسعين ؟ . إذا جمعنا بين الآيتين تكون حصيلتهما ان إسماعيل هو الولد البكر ، وانه يكبر اسحق بأربعة عشر عاما ، وبينا ان البكر هو الذبيح ، فالذبيح - إذن - إسماعيل لا اسحق .

ثانيا : قوله تعالى : {وبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} حيث جاءت هذه البشارة لإبراهيم بإسحاق جزاء له على طاعته للَّه في ذبح ولده البكر ، كما قدمنا ، فلا بد - وهذه هي الحال - أن يكون زمن إسحاق متأخرا عن زمن الذبيح ، تماما كما يتأخر الثواب على العمل عن نفس العمل .

ثالثا : قوله تعالى في الآية 71 من سورة هود : فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ومِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ فإن اللَّه بشّر سارة بإسحاق وبولده يعقوب في آن واحد ، فكيف يأمر بذبح إسحاق بعد أن بشّر به وبنسله ؟ وما ذا تقول سارة عندما تسمع الأمر بذبح وليدها بعد أن سمعت البشارة به وبولده ؟ .

رابعا : لوكان الذبيح إسحاق لوجب أن يكون النحر والسعي ورمي الجمار في أرض الشام حيث كانت سارة وولدها إسحاق ، وليس بمكة حيث كانت هاجر وولدها إسماعيل .

_______________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص349-352 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {رب هب لي من الصالحين} حكاية دعاء إبراهيم (عليه السلام) ومسألته الولد أي قال : رب هب لي {إلخ} وقد قيده بكونه من الصالحين .

قوله تعالى : {فبشرناه بغلام حليم} أي فبشرناه أنا سنرزقه غلاما حليما وفيه إشارة إلى أنه يكون ذكرا ويبلغ حد الغلمان ، وأخذ الغلومة في وصفه مع أنه بلغ مبلغ الرجال للإشارة إلى حاله التي يظهر فيها صفة كماله وصفاء ذاته وهو حلمه الذي مكنه من الصبر في ذات الله إذ قال : {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} .

ولم يوصف في القرآن من الأنبياء بالحلم إلا هذا النبي الكريم في هذه الآية وأبوه في قوله تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ } [هود : 75] .

قوله تعالى : {فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى} إلخ الفاء في أول الآية فصيحة تدل على محذوف والتقدير فلما ولد له ونشأ وبلغ معه السعي ، والمراد ببلوغ السعي بلوغه من العمر مبلغا يسعى فيه لحوائج الحياة عادة وهوسن الرهاق ، والمعنى فلما راهق الغلام قال له يا بني (إلخ) .

وقوله : {قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك} هي رؤيا إبراهيم ذبح ابنه ، وقوله : {إني أرى} يدل على تكرر هذه الرؤيا له كما في قوله : { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى } [يوسف : 43] .

وقوله : {فانظر ما ذا ترى} هومن الرأي بمعنى الاعتقاد أي فتفكر فيما قلت وعين ما هو رأيك فيه ، وهذه الجملة دليل على أن إبراهيم (عليه السلام) فهم من منامه أنه أمر له بالذبح مثل له في مثال نتيجة الأمر ولذا طلب من ابنه الرأي فيه وهو يختبره بما ذا يجيبه؟ .

وقوله : {قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} جواب ابنه ، وقوله : {يا أبت افعل ما تؤمر} إظهار رضا بالذبح في صورة الأمر وقد قال : افعل ما تؤمر ولم يقل اذبحني إشارة إلى أن أباه مأمور بأمر ليس له إلا ائتماره وطاعته .

وقوله : {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} تطييب منه لنفس أبيه أنه لا يجزع منه ولا يأتي بما يهيج وجد الوالد عن ولده المزمل بدمائه ، وقد زاد في كلامه صفاء على صفاء إذ قيد وعده بالصبر بقوله : {إن شاء الله} فأشار إلى أن اتصافه بهذه الصفة الكريمة أعني الصبر ليس له من نفسه ولا أن زمامه بيده بل هومن مواهب الله ومننه إن يشأ تلبس به وله أن لا يشاء فينزعه منه .

قوله تعالى : {فلما أسلما وتله للجبين} الإسلام الرضا والاستسلام : والتل الصرع والجبين أحد جانبي الجبهة واللام في {للجبين} لبيان ما وقع عليه الصراع كقوله : {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } [الإسراء : 107] ، والمعنى فلما استسلما إبراهيم وابنه لأمر الله ورضيا به وصرعه إبراهيم على جبينه .

وجواب لما محذوف إيماء إلى شدة المصيبة ومرارة الواقعة .

قوله تعالى : {وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا} معطوف على جواب لما المحذوف ، وقوله : {قد صدقت الرؤيا} أي أوردتها مورد الصدق وجعلتها صادقة وامتثلت الأمر الذي أمرناك فيها أي إن الأمر فيها كان امتحانيا يكفي في امتثاله تهيؤ المأمور للفعل وإشرافه عليه فحسب .

قوله تعالى : {إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين} الإشارة بكذلك إلى قصة الذبح بما أنها محنة شاقة وابتلاء شديد والإشارة بهذا إليها أيضا وهو تعليل لشدة الأمر .

والمعنى : إنا على هذه الوتيرة نجزي المحسنين فنمتحنهم امتحانات شاقة صورة هينة معنى فإذا أتموا الابتلاء جزيناهم أحسن الجزاء في الدنيا والآخرة ، وذلك لأن الذي ابتلينا به إبراهيم لهو البلاء المبين .

قوله تعالى : {وفديناه بذبح عظيم} أي وفدينا ابنه بذبح عظيم وكان كبشا أتى به جبرئيل من عند الله سبحانه فداء على ما في الأخبار ، والمراد بعظمة الذبح عظمة شأنه بكونه من عند الله سبحانه وهو الذي فدى به الذبيح .

قوله تعالى : {وتركنا عليه في الآخرين} تقدم الكلام فيه .

قوله تعالى : {سلام على إبراهيم} تحية منه تعالى عليه ، وفي تنكير سلام تفخيم له .

قوله تعالى : {كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين} تقدم تفسير الآيتين .

قوله تعالى : {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} الضمير لإبراهيم (عليه السلام) .

واعلم أن هذه الآية المتضمنة للبشرى بإسحاق بوقوعها بعد البشرى السابقة بقوله : {فبشرناه بغلام حليم} المتعقبة بقوله : {فلما بلغ معه السعي} إلى آخر القصة ظاهرة كالصريحة أوهي صريحة في أن الذبيح غير إسحاق وهو إسماعيل (عليه السلام) وقد فصلنا القول في ذلك في قصص إبراهيم (عليه السلام) من سورة الأنعام .

قوله تعالى : {وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين} المباركة على شيء جعل الخير والنماء والثبات فيه أي وجعلنا فيما أعطينا إبراهيم وإسحاق الخير الثابت والنماء .

ويمكن أن يكون قوله : {ومن ذريتهما} إلخ قرينة على أن المراد بقوله : {باركنا} إعطاء البركة والكثرة في أولاده وأولاد إسحاق ، والباقي ظاهر .

____________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص127-131 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

الآية الأولى عكست أوّل طلب لإبراهيم (عليه السلام) من الباري عزّوجلّ ، إذ طلب الولد الصالح ، الولد الذي يتمكّن من مواصلة خطّه الرسالي ، ويتمم ما تبقّى من مسيرته ، وذلك حينما قال : (ربّ هب لي من الصالحين) .

إنّها حقّاً لعبارة جميلة (الولد الصالح واللائق) الصالح من حيث الإعتقاد والإيمان ، والصالح من حيث القول والعمل ، والصالح من جميع الجهات .

والذي يلفت النظر أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان قد طلب من الله في إحدى المرّات أن يجعله من مجموعة الصالحين ، كما نقل القرآن ذلك عن إبراهيم ، {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء : 83] فيما طلب من الله هنا أن يمنحه الولد الصالح ، حيث أنّ كلمة صالح تجمع كلّ الأشياء اللائقة والجيّدة في الإنسان الكامل .

فاستجاب الله لدعاء عبده إبراهيم ، ورزقه أولاداً صالحين (إسماعيل وإسحاق) وذلك ما وضحته الآيات التالية في هذه السورة (وبشّرناه بإسحاق نبيّاً من الصالحين) .

وبخصوص إسماعيل يقول القرآن الكريم : {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء : 85 ، 86]

 

وقوله تعالى : {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُو الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات : 101 ، 110] .

 

إبراهيم عند المذبح :

بحثنا في الآيات السابقة إنتهى عند هجرة إبراهيم (عليه السلام) من بابل بعد أن أدّى رسالته هناك ، وطلبه من الله أن يرزقه ولداً صالحاً ، إذ لم يكن له ولد .

وأوّل آية في هذا البحث تتحدّث عن الإستجابة لدعاء إبراهيم ، إذ قالت الآية : {فبشّرناه بغلام حليم} .

في الواقع إنّ ثلاثة بشائر جمعت في هذه الآية ، الاُولى أنّه سيرزق طفلا ذكراً ، والثانية أنّ هذا الطفل يبلغ سنّ الفتوّة ، أمّا الثالثة فهي أنّ صفته حليم .

وكلمة (حليم) تعني الذي لا يعجّل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه ، وقيل : الذي لا يعجّل بالعقوبة ، والذي له روح كبيرة وهو متسلّط على أحاسيسه .

ويرى «الراغب» في مفرداته أنّ كلمة حليم تعني الضابط نفسه في لحظة الإثارة والغضب ، وبسبب كون هذه الحالة تنشأ من العقل والإدراك ، فإنّ كلمة وعكس تعني ـ أحياناً ـ العقل والإدراك .

ولكن المعنى الحقيقي لكلمة حليم هو المعنى الأوّل الذي ذكرناه .

ويمكن الإستفادة من هذا الوصف في أنّ الله بشّر عبده إبراهيم في أنّه سيعطي إبنه إسماعيل عمراً يمكن وصفه فيه بالحليم ، كما أنّ الآيات التالية ستوضّح أنّ إسماعيل بيّن مرتبة حلمه أثناء قضيّة الذبح ، مثلما وضّح أبوه إبراهيم حلمه في أثناء قضيّة الذبح ، وأثناء إحراقه بالنار .

وكلمة (حليم) كرّرت (15) مرّة في القرآن المجيد ، وأغلبها وردت وصفاً لله ، عدا ثلاث موارد جاءت في وصف إبراهيم وإبنه إسماعيل من قبل القرآن الكريم ، والثالثة جاءت في وصف شعيب وعلى لسان الآخرين .

وكلمة (غلام) حسب إعتقاد البعض تطلق على كلّ طفل لم يصل بعد مرحلة الشباب ، والبعض يطلقها على الطفل الذي إجتاز عمره العشر سنوات ولم يصل بعد إلى سنّ البلوغ .

ويمكن الإستفادة من العبارات المختلفة الواردة بلغة العرب في أنّ كلمة (غلام) تطلق على الذكر الذي إجتاز مرحلة الطفولة ولم يصل بعد إلى مرحلة الشباب .

أخيراً ، ولد الطفل الموعود لإبراهيم وفق البشارة الإلهيّة ، وأثلج قلب إبراهيم الذي كان ينتظر الولد الصالح لسنوات طوال ، إجتاز الطفل مرحلة الطفولة وأضحى غلاماً . وهنا يقول القرآن : (فلمّا بلغ معه السعي) .

يعني أنّه وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع فيها السعي وبذل الجهد مع والده في مختلف اُمور الحياة وإعانته على اُموره .

وقال البعض : بأنّ (السعي) هنا يعني العمل لله والعبادة ، وبالطبع فإنّ كلمة (السعي) لها مفاهيم ومعان واسعة تشمل هذا المعنى أيضاً ، ولكنّها لا يقتصر معناها عليه . و(معه) تدلّ على أنّه كان يساعد والده في اُمور الحياة .

على كلّ حال ، فقد ذهب جمع من المفسّرين : إنّ عمر إسماعيل كان (13) عاماً حينما رأى إبراهيم ذلك المنام العجيب المحير ، والذي يدلّ على بدء إمتحان عسير آخر لهذا النّبي ذي الشأن العظيم ، إذ رأى في المنام أنّ الله يأمره بذبح إبنه الوحيد وقطع رأسه . فنهض من نومه مرعوباً ، لأنّه يعلم أنّ ما يراه الأنبياء في نومهم هو حقيقة وليس من وساوس الشياطين ، وقد تكرّرت رؤيته هذه ليلتين اُخريين ، فكان هذا بمثابة تأكيد على ضرورة تنفيذ هذا الأمر فوراً .

وقيل : إنّ أوّل رؤيا له كانت في ليلة التروية ، أي ليلة الثامن من شهر ذي الحجّة ، كما شاهد نفس الرؤيا في ليلة عرفة ، وليلة عيد الأضحى ، وبهذا لم يبق عنده أدنى شكّ في أنّ هذا الأمر هومن الله سبحانه وتعالى .

إمتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن ، إبراهيم الذي نجح في كافّة الإمتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس ، الإمتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الاُبوّة جانباً والإمتثال لأوامر الله بذبح إبنه الذي كان ينتظره لفترة طويلة ، وهو الآن غلام يافع قوي .

ولكن قبل كلّ شيء ، فكّر إبراهيم (عليه السلام) في إعداد إبنه لهذا الأمر ، حيث {قال يا بني إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك فانظر ماذا ترى} .

الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده ، والذي تعلم خلال فترة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة والده ، رحّب بالأمر الإلهي بصدر واسع وطيبة نفس ، وبصراحة واضحة قال لوالده : {قال ياأبت افعل ما تؤمر} .

ولا تفكّر في أمري ، فانّك {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} .

فما أعظم كلمات الأب والإبن وكم تخفي في بواطنها من الاُمور الدقيقة والمعاني العميقة ؟!

فمن جهة ، الأب يصارح ولده البالغ من العمر (13) عاماً بقضيّة الذبح ، ويطلب منه إعطاء رأيه فيها ، حيث جعله هنا شخصيّة مستقلّة حرّة الإرادة .

فإبراهيم لم يقصد أبداً خداع ولده ، ودعوته إلى ساحة الإمتحان العسير بصورة عمياء ، بل رغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضدّ النفس ، وجعله يستشعر حلاوة لذّة التسليم لأمر الله والرضى به ، كما إستشعر حلاوتها هو .

ومن جهة اُخرى ، عمد الإبن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أمر به ، إذ لم يقل له : إذبحني ، وإنّما قال له : افعل ما أنت مأمور به ، فإنّني مستسلم لهذا الأمر ، وخاصّة أنّه خاطب أباه بكلمة (ياأبت) كي يوضّح أنّ هذه القضيّة لا تقلّل من عاطفة الابن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرّة ، وأنّ أمر الله هو فوق كلّ شيء .

ومن جهة ثالثة ، أظهر أدباً رفيعاً اتّجاه الله سبحانه وتعالى ، وأن لا يعتمد أحد على إيمانه وإرادته وتصميمه فقط ، وإنّما يعتمد على إرادة ومشيئة الله ، وبعبارة اُخرى : أن يطلب توفيق الإستعانة والإستقامة من الله .

وبهذا الشكل يجتاز الأب وإبنه المرحلة الاُولى من هذا الإمتحان الصعب بإنتصار كامل .

ماذا يدور في هذا الوسط؟ القرآن الكريم لم يفصل مجريات الحدث ، وركّز فقط على النقاط الحسّاسة في هذه القصّة العجيبة .

كتب البعض : إنّ إسماعيل ساعد والده في تنفيذ هذا الأمر الإلهي ، وعمل على تقليل ألم وحزن والدته .

فعندما أخذه والده للذبح وسط الجبال الجرداء والحارقة في أرض (منى) قال إسماعيل لوالده :

ياأبت ، أحكم من شدّ الحبل كي لا تتحرّك يدي ورجلي أثناء تنفيذك الأمر الإلهي ، أخاف أن يقلّل ذلك من مقدار الجزاء الذي سأناله .

والدي العزيز اشحذ السكّين جيّداً ، وامرره بسرعة على رقبتي كي يكون تحمّل ألم الذبح سهلا بالنسبة لي ولك .

والدي قبل ذبحي اخلع ثوبي من على جسدي كي لا يتلوّث بالدم ، لأنّي أخاف أن تراه والدتي وتفقد عنان صبرها .

ثمّ أضاف : أوصل سلامي إلى والدتي ، وإن لم يكن هناك مانع أوصل ثوبي إليها كي يسلّي خواطرها ويهدّىء من آلامها ، لأنّها ستشمّ رائحة إبنها منه ، وكلّما أحسّت بضيق القلب ، تضعه على صدرها ليخفّف الحرقة الموجودة في أعماقها .

قربت اللحظات الحسّاسة ، فالأمر الإلهي يجب أن ينفّذ ، فعندما رأى إبراهيم (عليه السلام) درجة إستسلام ولده للأمر الإلهي إحتضنه وقبّل وجهه ، وفي هذه اللحظة بكى الإثنان ، البكاء الذي يبرز العواطف الإنسانية ومقدّمة الشوق للقاء الله .

القرآن الكريم يوضّح هذا الأمر في جملة قصيرة ولكنّها مليئة بالمعاني ، فيقول تعالى : {فلمّا أسلما وتلّه للجبين} (2) .

مرّة اُخرى تطرّق القرآن هنا بإختصار ، كي يسمح للقاريء متابعة هذه القصّة بإنشداد كبير .

قال البعض : إنّ المراد من عبارة (تلّه للجبين) هوأنّه وضع جبين ولده ـ طبقاً لإقتراحه ـ على الأرض ، حتّى لا تقع عيناه على وجه إبنه فتهيج عنده عاطفة الاُبوّة وتمنعه من تنفيذ الأمر الإلهي .

على أيّة حال كبّ إبراهيم (عليه السلام) إبنه على جبينه ، ومرّر السكّين بسرعة وقوّة على رقبة إبنه ، وروحه تعيش حالة الهيجان ، وحبّ الله كان الشيء الوحيد الذي يدفعه إلى تنفيذ الأمر ومن دون أي تردّد .

إلاّ أنّ السكّين الحادّة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة .

وهنا غرق إبراهيم في حيرته ، ومرّر السكّين مرّة اُخرى على رقبة ولده ، ولكنّها لم تؤثّر بشيء كالمرّة السابقة .

نعم ، فإبراهيم الخليل يقول للسكّين : إذبحي ، لكنّ الله الجليل يعطي أوامره للسكّين أن لا تذبحي ، والسكّين لا تستجيب سوى لأوامر الباري عزّوجلّ .

وهنا ينهي القرآن كلّ حالات الإنتظار وبعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة {وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين} .

إذ نمنحهم توفيق النجاح في الإمتحان ، ونحفظ لهم ولدهم العزيز ، نعم فالذي يستسلم تماماً وبكلّ وجوده للأمر الإلهي ويصل إلى أقصى درجات الإحسان ، لا يمكن مكافأته بأقلّ من هذا .

ثمّ يضيف القرآن الكريم {إنّ هذا لهو البلاء المبين} .

عمليّة ذبح الإبن البارّ المطيع على يد أبيه ، لا تعدّ عمليّة سهلة وبسيطة بالنسبة لأب إنتظر فترة طويلة كي يرزقه الله بهذا الإبن ، فكيف يمكن إماتة قلبه تجاه ولده؟ والأكثر من ذلك إستسلامه ورضاه المطلق ـ من دون أي إنزعاج ـ لتنفيذ هذا الأمر ، وتنفيذه كافّة مراحل العملية من بدايتها إلى نهايتها ، بصورة لا يغفل فيها عن أي شيء من الإستعداد لعملية الذبح نفسياً وعمليّاً .

والذي يثير العجب أكثر هو التسليم المطلق لهذا الغلام أمام أمر الله ، إذ استقبل أمر الذبح بصدر مفتوح وإطمئنان يحفّه اللطف الإلهي ، وإستسلام في مقابل هذا الأمر .

لذا فقد ورد في بعض الروايات أنّ جبرئيل هتف «الله أكبر» «الله أكبر» أثناء عمليّة الذبح لتعجّبه .

فيما هتف إسماعيل «لا إله إلاّ الله ، والله أكبر» .

ثمّ قال إبراهيم «الله أكبر ولله الحمد» (3) .

وهذه العبارات تشبه التكبيرات التي نردّدها في يوم عيد الأضحى .

ولكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصاً ، وتتحقّق أُمنية إبراهيم في تقديم القربان لله ، بعث الله كبشاً كبيراً إلى إبراهيم ليذبحه بدلا عن إبنه إسماعيل ، ولتصير سنّة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحجّ وتأتي إلى أرض (منى) {وفديناه بذبح عظيم} .

ما المراد بالذبح العظيم ؟

هل أنّه يقصد منه الجانب الجسمي والظاهري ؟

أو لأنّه كان فداء عن إسماعيل ؟

أو لأنّه كان لله وفي سبيل الله ؟

أو لأنّ هذه الاُضحية بعثها الله تعالى إلى إبراهيم ؟

المفسّرون قالوا الكثير بشأنها ، ولكن لا يوجد أي مانع يحول دون جمع كلّ ما هو مقصود أعلاه .

وإحدى دلائل عظمة هذا الذبح ، هو إتّساع نطاق هذه العملية سنة بعد سنة بمرور الزمن ، وحالياً يذبح في كلّ عام أكثر من مليون اُضحية تيمنّاً بذلك الذبح العظيم وإحياءاً لذلك العمل العظيم .

«فديناه» مشتقّة من (الفداء) وتعني جعل الشيء مكان الشيء لدفع الضرر عنه ، لذا يطلق على المال الذي يدفع لإطلاق سراح الأسير (الفدية) كما تطلق (الفدية) على الكفّارة التي يخرجها بعض المرضى بدلا عن صيامهم .

وبشأن كيفية وصول الكبش العظيم إلى إبراهيم (عليه السلام) ، أعرب الكثير من المفسّرين عن إعتقادهم في أنّ جبرئيل أنزله ، فيما قال البعض الآخر : إنّه هبط عليه من أطراف جبال (منى) ، ومهما كان فإنّ وصوله إلى إبراهيم كان بأمر من الله .

النجاح الذي حقّقه إبراهيم (عليه السلام) في الإمتحان الصعب ، لم يمدحه الله فقط ذلك اليوم ، وإنّما جعله خالداً على مدى الأجيال {وتركنا عليه في الآخرين} .

إذ غدا إبراهيم (عليه السلام) «اُسوة حسنة» لكلّ الأجيال ، و«قدوة» لكلّ الطاهرين ، وأضحت أعماله سنّة في الحجّ ، وستبقى خالدة حتّى تقوم القيامة ، إنّه أبو الأنبياء الكبار ، وإنّه أبو هذه الاُمّة الإسلامية ورسولها الأكرم محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

ولمّا إمتاز به إبراهيم (عليه السلام) من صفات حميدة ، خصّه الباري عزّوجلّ بالسلام (سلام على إبراهيم) .

نعم ، إنّا كذلك نجزي ونثيب المحسنين {كذلك نجزي المحسنين} جزاء يعادل عظمة الدنيا ، جزاء خالد على مدى الزمان ، جزاء يجعل من إبراهيم أهلا لسلام الله عزّوجلّ عليه .

وعبارة {كذلك نجزي المحسنين} تثير الإنتباه ، إذ أنّها أتت قبل عدّة آيات ، وتكرّرت ثانية هنا ، فهناك حتماً علّة لهذا التكرار .

المرحلة الاُولى ربّما كانت بسبب أنّ الله سبحانه وتعالى صادق على نجاح إبراهيم في الإمتحان الصعب ، وأمضى نتيجة قبوله ، وهذه بحدّ ذاتها أهمّ مكافأة يمنحها الله سبحانه وتعالى لإبراهيم ، ثمّ تأتي قضيّة (الفدية بذبح عظيم) و(بقاء إسمه وسنّته خالدين على مدى التاريخ) و(إرسال الباري عزّوجلّ سلامه وتحيّاته إلى إبراهيم) التي إعتبرت ثلاث نعم كبيرة منحها الله سبحانه وتعالى لعبده إبراهيم بعنوان أنّها مكافأة وجزاء للمحسنين .

 

وقوله تعالى : {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ

 

الآيات الثلاث المذكورة أعلاه هي آخر الآيات التي تواصل الحديث عن قصّة إبراهيم وإبنه وتكملها ، وفي الحقيقة إنّها دليل يوضّح ما مضى ، وفي نفس الوقت هي نتيجة له .

في البداية تصف الآية القرآنية الكريمة إبراهيم {إنّه من عبادنا المؤمنين} .

وفي الواقع إنّ هذه الآية دليل على ما ذكر فيما قبل ، كما توضّح حقيقة مفادها أنّ إيمان إبراهيم القوي دفعه إلى أن يضع كلّ وجوده وكيانه وحتّى إبنه العزيز البارّ ، في صحن الإخلاص فداءً لربّه سبحانه وتعالى .

نعم كلّ هذه هي من ثمار الإيمان ، وتجلّياته ، وما أعجب هذه الثمار والتجلّيات !!

هذا التعبير يعطي أبعاداً أوسع وأعمّ لما جرى لإبراهيم وإبنه ، ويخرج هذه المجريات من بعدها الشخصي والخاص ، ويوضّح أنّه أينما كان الإيمان كان هناك إيثار وحبّ وفداء وعفو ، وأنّ إبراهيم كان يختار كلّ ما يختاره الله ويريد كلّ ما أراده الله ، وكلّ مؤمن يستطيع أن يكون كذلك .

ثمّ تتناول هذه الآيات نعمة اُخرى من النعم التي وهبها الله تعالى لإبراهيم {وبشّرناه بإسحاق نبيّاً من الصالحين} .

فبالإنتباه إلى الآية (فبشّرناه بغلام حليم) التي ذكرناها في مقدّمة هذه الأحداث ، يتّضح بصورة جيّدة أنّ هاتين البشارتين تتعلّقان بولدين ، وبما أنّ البشرى الأخيرة وفق ما جاء في الآية تخصّ (إسحاق) ، فإنّ (الغلام الحليم) بالتأكيد هو(إسماعيل) فالذين يصرّون على أنّ الذبيح هو(إسحاق) عليهم أن يعرفوا أنّهم اعتبروا الآيتين تشيران إلى موضوع واحد مع هذا التفاوت ، وهو أنّ الآية الاُولى بشّرت بالولد والآية الثانية بشّرت بالنبوّة ، ولكن هذا المعنى مستبعد جدّاً ، والآيات المذكورة أعلاه تبيّن بوضوح أنّ البشارتين تتعلّقان بولدين .

على أيّة حال فإنّ بشرى النبوّة تكشف عن أنّ إسحاق يجب أن يبقى حيّاً وأن يؤدّي تكاليف ومهمّة النبوّة ، وهذا لا يتلاءم مع قضيّة الذبح .

مرّة اُخرى سنتطرّق إلى عظمة مرتبة الصالحين ، إذ وصفت الآية الكريمة إسحاق بأنّه (يجب أن يصبح نبيّاً وأن يكون من الصالحين) فكم هي رفيعة مرتبة الصالحين عند الله سبحانه وتعالى؟

الآية الأخيرة تتحدّث عن البركة التي أنزلها الباري جلّ وعلا على إبراهيم وإبنه إسحاق {وباركنا عليه وعلى إسحاق} .

ولكن البركة في أي شيء؟ لم يرد بهذا الشأن أي توضيح ، وكما هو معلوم فإنّ الفعل عندما يأتي بصورة مطلقة ومن دون أي قيد أو شرط ، فإنّه يعطي معنىً عاماً ، فبهذا تكون البركة شاملة لكلّ شيء ، في الحياة ، في الأجيال القادمة ، في التأريخ ، والرسالة ، وفي كلّ شيء .

فكلمة (بركة) مشتقّة من (برك) على وزن (درك) وتعني صدر البعير ، وعندما يضع صدره على الأرض يقال (برك البعير) .

وتدريجيّاً أعطت هذه الكلمة معنى الثبات وبقاء شيء ما ، ولهذا يطلق على المكان الذي فيه ماء ثابت ومستقر (بركة) في حين يقال لمّا كان خيره باقياً وثابتاً مبارك .

ومن هنا يتّضح أنّ الآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهيّة على إبراهيم وإسحاق وعلى اُسرتهم ، وإحدى البركات التي أنعم الله بها على إبراهيم وإسحاق أن جعل كلّ أنبياء بني إسرائيل من ذريّة إسحاق ، في حين أنّ نبي الإسلام العظيم هومن ذريّة إسماعيل .

وهذه البركات لا تشمل كلّ أفراد عائلة إبراهيم وعشيرته ، وإنّما تشمل ـ فقط ـ المؤمنين والمحسنين منهم ، إذ تقول الآية في آخرها {ومن ذريّتهما محسن وظالم لنفسه مبين} .

كلمة (محسن) جاءت هنا بمعنى المؤمن والمطيع لله ، وهل يتصوّر أنّ هناك إحسان وعمل حسن أرفع من هذا ؟

و(ظالم) جاءت هنا بمعنى الكافر والمذنب .

وعبارة (لنفسه) إشارة إلى الكفر وإرتكاب الذنوب يعدّ أوّلا ظلم للنفس ، الظلم الواضح والمكشوف .

فالآية المذكورة أعلاه تجيب اليهود والنصارى الذين افتخروا بكونهم من أبناء الأنبياء ، وتقول لهم : إنّ صلة القربى لوحدها ليست مدعاة للإفتخار ، إن لم ترافقها صلة في الفكر والإلتزام بالرسالة .

وكشاهد على هذا الكلام فقد ورد حديث لنبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب فيه بني هاشم «لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم» أي أنّهم مرتبطون بي رسالياً وأنتم مرتبطون بي جسدياً (4) .

______________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص284-303 .

2 ـ (تلّه) من مادّة (تلّ) وتعني في الأصل المكان المرتفع ، و(تلّه للجبين) تعني أنّه وضع أحد جوانب وجه إبنه على مكان مرتفع من الأرض .

(جبين) تعني أحد جانبي الجبهة أو الوجه ، وطرفي الوجه أو الجبهة يقال لهما (جبينان) .

3 ـ تفسير القرطبي ، وتفسير روح البيان .

4 ـ روح البيان ، المجلّد 7 ، الصفحة 479 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .