أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-6-2016
3459
التاريخ: 27-8-2019
2383
التاريخ: 20-3-2017
26741
التاريخ: 2023-02-09
5490
|
مبدآن جوهريان:
لم يضع الفقه الإسلامي، في أي مذهب من مذاهبه، نظرية عامة في السبب، وهو في ذلك إنما يتمشى مع صناعته المألوفة، لا بصوغ نظريات عامة، بل بورد من التطبيقات التفصيلية ما يمكن معه، عن طريق التحليل ثم عن طريق التأصيل، استخلاص من هذه النظرية .
وباستقراء هذه التطبيقات التفصيلية يمكن أن نستخلص مبدأين جوهريين : أولا: السبب، وإن كان أمرا ذاتيا، إلا أنه يجب أن يكون داخلا في صيغة العقد يتضمنه التعبير عن الإرادة ، على النحو الذي رأيناه في الفقه الألماني
ثانيا : مشروعية السبب ليست بالأمر الثابت في جميع الأحوال. فهناك حالات تختلف فيها الأنظار في هذه المشروعية، بل هناك حالات تطورت فيها فكرة المشروعية، فما كان غير مشروع من قبل أصبح الآن مشروعة، وما كان مشروعا أصبح غير مشروع. ونبحث كلا من هذين المبدأين.
المطلب الأول
السبب يجب أن يكون داخلا في صيغة العقد يتضمنه التعبير عن الإرادة
المبدأ العام بشقيه
السبب بمعنى الباعث لا يبحث عنه خارج العقد، بل يجب أن يكون موجودة في صيغة العقد ذاتها، داخلا في دائرة التعاقد. فلا بد أن يتضمنه التعبير عن الإرادة، إذ هو جزء من هذا التعبير لا ينفصل عنه، وبذلك لا يعتد بالباعث إذا لم تتضمنه صيغة العقد أو التعبير عن الإرادة .
ويجب إذن الوقوف عند الإرادة الظاهرة وما تضمنته من بواعث ودوافع. لا يجوز أن نجاوز هذه الإرادة الظاهرة للبحث في النوايا الخفية. فإذا كانت الإرادة الظاهرة لا تتضمن باعثا غير مشروع، فالعقد صحيح، ويجاز بحكم الظاهر دون بحث عن النية. وفي كتاب "الأم " للشافعي عبارة قوية في هذا المعنى إذ يقول («الأم، 3/ 65):
"أصل ما أذهب إليه أن كل عقد كان صحيحا في الظاهر لم أبطله بتهمة ولا بعادة بين المتبايعين وأجزته بصحة الظاهر، وأكره لهما النية إذا كانت النية لو أظهرت كانت تفسد البيع، وكما أكره للرجل أن يشتري السيف على أن يقتل به، ولا يحرم على بائعه أن يبيعه ممن يراه أنه يقتل به ظلمة، لأنه قد لا يقتل به، ولا أفسد عليه هذا البيع. وكما أكره للرجل أن يبيع العنب ممن يراه أنه يعصره خمرة، ولا أفسد عليه البيع إذا باعه إياه، لأنه باعه حلالا، وقد يمكن ألا يجعله خمرا أبدا، وفي صاحب السيف ألا يقتل به أحدا أبدا. لو نكح رجل امرأة عقدا صحيحا وهو ينوي ألا يمسكها إلا يوما أو أقل أو أكثر، لم أفسد النكاح، وإنما أفسده أبدا بالعقد الفاسد".
فالمبدأ العام يتكون إذن من شقين:
أولا: يعتد بالسبب أي الباعث إذا تضمنته صيغة العقد أو التعبير عن الإرادة .
ثانيا : لا يعتد بالسبب أي الباعث إذا لم تتضمنه صيغة العقد .
فنستعرض التطبيقات التفصيلية لهذا المبدأ العام في كل من شقيه، في المذهبين الحنفي والشافعي، وبخاصة في المذهب الحنفي حيث تكثر النصوص .
1. يعتد بالسبب إذا تضمنته صيغة العقد
كيف تتضمن صيغة العقد السبب أي الباعث:
أظهر ما تتضمن صيغة العقد السبب هو أن يذكر السبب صراحة في صيغة العقد، فيكشف المتعاقدان ببيان واضح عن الباعث الدافع لهما على التعاقد، فإن كان هذا الباعث مشروعا فالعقد صحيح، وإن كان غير مشروع فالعقد باطل.
ولكن ليس من الضروري أن يكون ذكر السبب صريحة في صيغة العقد، بل يجوز أن بذكر السبب ضمنا ، ويستخلص عادة من طبيعة المحل، فإذا كانت طبيعة المحل يستدل منها أن السبب الذي دفع إلى التعاقد غير مشروع، فالعقد باطل، وهنا يستدل على السبب بالمحل.
وقد يتميز السبب عن المحل، فيكون المحل مشروعة ولكن السبب غير مشروع
فتستعرض بعض النصوص في كل من هذه الأحوال الثلاث :
الحالة الأولى - السبب مذكور صراحة في صيغة العقد:
جاء في البدائع، (4/ ۱۹۰):
"ولا تجوز إجارة الإماء للزنا، لأنها إجارة على المعصية. وقيل: فيه نزل قوله تعالى وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (النور: ۳۳)، وروي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنه نهى عن مهر البغي وهو أجر الزانية على الزنا». وواضح من هذا النص أن صيغة العقد قد تضمنت صراحة الباعث الدافع على الإجارة وهو سبب غير مشروع، ومن ثم كان عقد الإجارة باطلا وجاء في البدائع، أيضا (5/169 )
" ولو اشتري قمرية على أنها تصوت، أو طيرا على أنه يجيء من مكان بعيد، أو كبشا على أنه نطاح، أو ديكا على أنه مقاتل، فالبيع فاسد عند أبي حنيفة رحمه الله ، وهو إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله ... لأن هذه صفات يتلهى بها عادة، والتلهي محظور، فكان هذا شرطة محظورة، فوجب فساد البيع... ولو اشترى جارية على أنها مغنية على سبيل الرغبة فيها، فالبيع فاسد، لأن التغنية صفة محظورة لكونها لهوة، فشرطها في البيع بوجب فساده، ولو اشترى جارية على أنها مغنية على وجه إظهار العيب، جاز البيع، لأن هذا البيع بشرط البراءة عن هذا العيب ، فصار كما لو باعها بشرط البراءة عن عيب آخر، فإن وجدها لا تغني لا خيار له، لأن الغناء في الجواري عيب فصار كما لو اشتري على أنه معيب فوجده سليما». وهنا نرى في وضوح كيف أن الشيء الواحد قد يكون باعثة غير مشروع، وقد يكون شرطة مشروعة، تبعا لنية المتعاقدين. ففي المثل المتقدم يشتري الجارية على أنها مغنية، وقد ورد ذكر الباعث صراحة في صيغة العقد على هذا النحو. فإن كان الغرض من ذكره أن المشتري يكشف عن غرضه من أنه يريد الجارية مغنية للتلهي بها، فإن هذا الباعث غير مشروع، ويكون العقد فاسدا، أما إذا كان الغرض هو النقيض من ذلك، فإن الجارية مغنية وهذا في نظر المتعاقدين عيب فيها، فأراد البائع أن يبرأ من هذا العيب
فاشترط البراءة على المشتري فقبل، فإن الباعث على التعاقد هنا لا يكون غير مشروع، ويكون العقد صحيحة. والفرق بين هاتين الصورتين يظهر فيما إذا انكشف بعد البيع أن الجارية غير مغنية . ففي الصورة الأولى يكون قد فات على المشتري غرضه، والعقد على كل حال فاسد من الأصل . أما في الصورة الثانية فانكشاف أن الجارية غير مغنية معناه أنها سليمة من العيب الذي شرط البائع البراءة منه، والعقد صحيح منذ البداية كما قدمنا، ويبقى صحيحة لأن المشتري قد اشترى شيئا على أنه معيب فظهر سليمة، وهذا من شأنه أن يؤكد صحة العقد.
وجاء في الزيلعي، (5/125) ولا يجوز (الاستئجار) على الغناء والنوح والملاهي، لأن المعصية لا يتصور استحقاقها بالعقد، فلا يجب عليه الأجر من غير أن يستحق هو على الأجر شيئا، إذ المبادلة لا تكون إلا باستحقاق كل واحد منهما على الآخر، لو استحق عليه للمعصية لكان ذلك مضافة إلى الشارع من حيث أنه شرع عقدا موجبا للمعصية تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لأن الأجير والمستأجر مشتركان في منفعة ذلك في الدنيا فتكون الإجارة على محل هو فيه شريك، ذكره في النهاية، معزيا إلى الذخيرة». وإن أعطاه الأجر وقبضه ، لا يحل له ويجب عليه رده إلى صاحبه. وفي المحيط في كتاب الاستحسان إذا أخذ المال من غير شرط يباح، لأنه أعطاه المال عن طوع من غير عقده.
وجاء في الفتاوى الخانية» (۲/ ۳۲۲ وما بعدها): ارجل استأجر فحلا لينزيه ، لا يجوز ذلك ولا أجر فيه، وكذا النائحة والمغنية ... وإن استأجر المسلم ذميا ليبيع له خمرا أو ميتا أو دما لا يجوز .... ولو استأجر رجلا لينحت له أصناما أو ليزخرف له بيئة بالتماثيل فلا أجر له، كما لو استأجر نائحة أو مغنية".
الحالة الثانية . السبب مستخلص من طبيعة المحل:
وقد يكون السبب، كما قدمنا، مذكورة ضمنة في صيغة العقد، بأن يكون مستخلصة من طبيعة المحل، فيعتد به لأن المتعاقدين قد كشفا ضمنا عن الباعث لهما على التعاقد، ونورد في هذا المعنى النصوص الآتية :
جاء في البدائع (5/ 143): «وأما القرد فعن أبي حنيفة رضي الله عنه روايتان. وجه رواية عدم الجواز أنه غير منتفع به شرعا، فلا يكون مالا كالخنزير. ووجه رواية الجواز أنه إن لم يكن منتفعة به بذاته، يمكن الانتفاع بجلده . والصحيح هو الأول، لأنه لا يشتري للانتفاع بجلده عادة، بل للهو به، وهو حرام، فكان هذا بيع الحرام للحرام، وإنه لا يجوزه. فهنا قد استخلص الباعث على التعاقد من طبيعة المحل، فالقرد لا يشتري للانتفاع بجلده عادة ، بل للهو به، فكان هذا بيع الحرام للحرام.
وجاء في البدائع ( 144 / 5 ): ويجوز بيع آلات الملاهي من البربط والطبل والمزمار والدف ونحو ذلك عند أبي حنيفة ، ولكنه يكره. وعند أبي يوسف ومحمد لا ينعقد بيع هذه الأشياء، لأنها آلات معدة للتلهي بها موضوعة للفسق والفساد، فلا تكون أموالا، فلا يجوز بيعها. ولأبي حنيفة رحمه الله أنه يمكن الانتفاع بها من جهة أخرى بأن تجعل ظروفه لأشياء ونحو ذلك من المصالح، فلا تخرج عن كونها أموالا، وقولهما أنها آلات للتلهي والفسق، قلنا: نعم لكن هذا لا يوجب سقوط ماليتها كالمغنيات والقيان وبدن الفاسق وحياته وماله، وهذا لأنها كما تصلح للتلهي تصلح الغيرة، (فبقيت) على ماليتها بجهة إطلاق الانتفاع بها لا بجهة الحرمة ، ولو كسرها إنسان ضمن عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يضمن. وعلى هذا الخلاف بيع النرد والشطرنج. والصحيح قول أبي حنيفة رضي الله عنه، لأن كل واحد منهما منتفع به شرعا من وجه آخر بأن يجعل صنجات الميزان، فكان مالا من هذا الوجه، فكان محلا للبيع مضمونة بالإتلاف... فهنا اختلف الإمام مع صاحبيه، ولكنهم لم يختلفوا، فيما نرى، في المبدأ الأساسي الذي نحن بصدده من أن الباعث إذا تضمنته صبغة العقد اعتد به، بل هم متفقون في ذلك. ولكن الصاحبين قد ذهبا إلى أن آلات الملاهي هي البربط والطبل والمزمار والدف والنرد والشطرنج هي آلات معدة بطبيعتها للتلهي موضوعة للفسق والفساد، فاستخلصا بذلك من طبيعة المحل الباعث على التعاقد، بل هما ذهبا إلى أبعد من ذلك. فخلطا السبب بالمحل، وأنكرا على هذه الآلات أن تكون أموالا، فلا يجوز بيعها، وحرص أبو حنيفة على التمييز ما بين السبب والمحل، فآلات الملاهي عنده أموال لم تسقط ماليتها لمجرد أنها تصلح للتلهي، فكما تصلح للتلهي تصلح لغيره، فقد تجعل ظروفا لأشياء كما قد يجعل الترد والشطرنج صنجات للميزان. فلما بيعت هذه الأشياء ولم يذكر صراحة في صيغة العقد الباعث على بيعها. ولم يمكن استخلاص هذا الباعث من طبيعة المال لما قدمنا من أنه يصلح للأغراض غير المشروعة وللأغراض المشروعة، فقد اعتبر أبو حنيفة الباعث غير متضمن في صيغة العقد لا صراحة ولا ضمنا ، فلم يعتد به وصحح العقد. فالمبدأ إذن متفق عليه بين الإمام وصاحبيه ، وإنما الخلاف في التطبيق، على أننا نرى أن الصاحبين قد استصحبا المألوف من طبيعة | الأشياء، ولا نراهما قد تجوزا إذ اعتبرا أن آلات الملاهي أشياء موضوعة للتلهي في أصلها. وأما استعمالها في حالات قليلة ظروفا أو صنجات فهذا نادر، والنادر لا حكم له، وحكم هذه الأشياء هو حكم القرد قد ينتفع بجلده، ولكنه في الأصل إنما ينتفع به للتلهي، ولذلك كان بيعه غير جائز في الرواية التي صححت عن أبي حنيفة نفسه فيما قدمناه .
الحالة الثالثة . تميز السبب عن المحل:
وقد يكون المحل مشروعة في ذاته، ولكن السبب يكون غير مشروع، فبتميز السبب عن المحل. وإذا كان السبب ظاهرا في صيغة العقد، فإنه يعتد به، ويكون العقد باطلا لعدم مشروعية السبب. وأظهر تطبيق لذلك هو التعاقد على أن يؤجر شخص على القيام بواجب، فالقيام بواجب محل مشروع والأجرة في ذاتها أمر مشروع، ولكن الأجرة على أمر مشروع سببها غير مشروع إذ لا أجر على واجب. ونورد بعض النصوص في هذا المعنى:
جاء في جامع المفصولين» (۱/ ۲6۸): "الإجارة على عمل يجب عليه لم تجز" .
وجاء في القدوري" (96): «إن استأجرها وهي زوجته أو معتدته لترضع ولدها، لم يجز، لأن الإرضاع مستحق عليها ديانة». وجاء في «الزيلعي ( ۱۲ / ۳ -۱۳) تفصيل لذلك فيما يأتي: «ولا تجبر أمه لترضع، أي لا تجبر أم الصغير على إرضاع ولدها لما ذكرنا أن النفقة على الأب، والإرضاع نفقة له فكان على الأب ... وذكر الخصاف أن الأب إذا لم يكن له مال ولا للولد مال تجبر عليه، وتجعل الأجرة دينا عليه كما في نفقته، ويحمل هذا القول على ما إذا طلقها وانقضت عدتها. قال رحمه الله : لا أمه لو منكوحة أو معتدة، أي لا يجوز استئجار أم الصبي إذا كانت تحته أو في عدته، لأن الإرضاع مستحق عليها ديانة، قال الله تعالى: (والولد ضعن أولدهن ) [البقرة: ۲۳۳] الآية، وهو أمر بصيغة الخبر وهو آيد. فلا يجوز أخذ الأجر عليه، ولهذا لا يجوز أن تأخذ الأجرة على خدمة البيت من الكنس وغيره، وإنما لا تجبر عليه لاحتمال عجزها فعذرت، فإذا أقدمت عليه ظهرت قدرتها فلا نعذر ... ولو استأجر منكوحته لترضع ولده من غيرها، جاز لأنه لم يجب عليها | إرضاعها. فهنا الإرضاع مستحق ديانة . أي واجب . على الزوجة المعتدة، فالاتفاق معها على أجر لذلك هو أجر على واجب، وهذا لا يجوز.
وجاء في الفتاوى الخانية» (۲/ ۳۲۲ وما بعدها): «أمير العسكر إذا قال لمسلم أو ذمي: إن قتلت ذلك الفارس فلك مائة درهم، فقتله، لا شيء له، لأن هذا في باب الجهاد والطاعة، فلا يستحق الأجر، كما لو استؤجر ليؤم الناس أو يؤذن. وقال محمد رحمه الله تعالى: إن قال ذلك الذمي، يجب الأجر. ولو كانوا قتلى، فقال الأمير من قطع رؤوسهم فله عشرة دراهم، جاز، لأن هذا الفعل ليس بجهاد بخلاف الأول، ولو استأجر الأمير ذميا أو مسلمة ليقتل أسيرة حربيا كان في بده، فقتله، لا شيء له. وقال محمد رحمه الله تعالى : يجب الأجر المسمى، كما يجب بذبح الشاة وضرب العبد». فالمسألة إذن تدور حول الأجر على الواجب، فما كان واجبة لا يؤخذ عليه أجر، فإن أخذ الأجر كان السبب غير مشروع ولا يجوز العقد.
٢. لا يعتد بالسبب إذا لم تتضمنه صيغة العقد المجرد
ويبدو أن الفقه الإسلامي يعرف العقد المجرد في حالات خاصة محدودة. والعقد المجرد هو، كما قدمنا، عقد جرد من سببه فلا يعتد فيه بالسبب، مثل ذلك عقد الكفالة، فهو عقد مجرد في الفقه الإسلامي، بل هو أكثر تجريدة منه في الفقه الغربي الحديث. فقد رأينا أن للكفيل في التقنين المدني المصري (م ۷۸۲) أن يتمسك بجميع الأوجه التي يحتج بها المدين، ولكن التزام الكفيل نحو الدائن لا يتأثر بالعلاقة ما بين الكفيل والمدين، ولا يجوز للكفيل أن يتمسك ضد الدائن بالدفوع التي له أن يتمسك بها ضد المدين. أما في الفقه الإسلامي، فإن التزام الكفيل مجرد إلى مدى أبعد من ذلك، فلا يستطيع الكفيل أن يحتج على الدائن بالأوجه التي يحتج بها المدين . جاء في «المبسوط للسرخسي (20/85 ) في هذا المعنى ما يأتي: «إذا كفل رجل من رجل بألف درهم بأمره، ثم غاب الأصيل، فادعى الكفيل أن الألف من ثمن خمر، فإنه ليس بخصم في ذلك، لأنه التزم المطالبة بكفالة صحيحة، والمال يجب على الكفيل بالتزامه الكفالة ، وإن لم يكن واجبة على الأصيل». ونرى من ذلك أن التزام الكفيل مجرد إلى حد أن الكفيل لا يستطيع أن يحتج على الدائن بأن الدين غير مشروع لأنه ثمن خمر، وقد كان المدين يستطيع أن يحتج بذلك على الدائن، والفقه الغربي الحديث يبيح للكفيل، كما قدمنا، أن يحتج على الدائن بالأوجه التي يحتج بها المدين، فيجوز للكفيل في المثل الذي نحن بصدده أن يحتج على الدائن بعدم مشروعية الدين لأنه ثمن شيء غير مشروع. ولكن الفقه الإسلامي بنحو منحى آخر، فيعتبر أن الكفيل قد التزم التزامه مجردة بالكفالة، فالتزامه مستقل عن التزام المدين وليس له بعد أن التزم التزامه مجردة بكفالة صحيحة، أن يحتج ببطلان التزام المدين(1) .
عقود لم تتضمن ذكر السبب فلا يعتد به :
وهناك عقود لم تتضمن صيغتها ذكر السبب بمعنى الباعث، لا صراحة ولا ضمنة، فلا يبحث عن السبب خارج العقد، ولا يعتد به، بل يكون العقد صحيحة مستقلا عن السبب. ونورد بعض النصوص في هذا المعنى:
جاء في مختصر الطحاوي، (۲۸۰): ومن كان له عصير فلا بأس عليه بيعه، وليس عليه أن يقصد بذلك إلى من يأمنه أن يتخذه خمرة دون من بخاف ذلك عليه، لأن العصير حلال، فبيعه حلال كبيع ما سواه من الأشياء الحلال مما ليس على بائعها الكشف عما يفعله المشتري فيها.. فهنا يبيع الرجل العصير من العنب إلى مشتر، ولا يذكر في العقد، لا صراحة ولا ضمنا، أن المشتري يقصد من العصير اتخاذه خمرة، فالبيع صحيح حتى لو تبين أن المشتري قصد اتخاذه خمرة، ذلك أن الباعث هنا، وإن كان غير مشروع، لم يذكر في العقد، فلا يعتد به .
وجاء في البدائع» (4/ ۱۸۹): " ولو استأجر ذمي من مسلم بيعة ليصلي فيها لم يجز، لأنه استئجار لفعل المعصية، وكذا لو استاجر ذمي من ذمي لما قلنا. ولو استأجر الذمي دارة من مسلم، وأراد أن يصلي فيها من غير جماعة، أو يتخذها مصلى للعامة، فقد ذكرنا حكمه فيما تقدم) . وقد ذكر صاحب البدائع، فيما تقدم (4/176 ) ما يأتي : غير أن الذمي إن استأجر دارا من مسلم في المصر، فأراد أن يتخذها مصلى للعامة ويضرب فيها بالناقوس، له ذلك، ولرب الدار وعامة المسلمين أن يمنعوه من ذلك من طريق الحسبة لما فيه من إحداث شعائر لهم وفيه نهاون بالمسلمين واستخفاف بهم، كما يمنع من إحداث ذلك في دار نفسه في أمصار المسلمين، قال النبي صلى الله عليه واله وسلم لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة، أي لا يجوز إخصاء الإنسان ولا إحداث الكنيسة في دار الإسلام في الأمصار . ولا يمنع أن يصلي فيها بنفسه من غير جماعة ، لأنه ليس فيه ما ذكرناه من المعنى، ألا ترى أنه لو فعل ذلك في دار نفسه لا يمنع منه ، ولو كانت الدار بالسواد، ذكر في الأصل أنه لا يمنع من ذلك، لكن قيل إن أبا حنيفة إنما أجاز ذلك في زمنه لأن أكثر أهل السواد في زمنه كانوا أهل الذمة من المجوس، فكان لا يؤدي ذلك إلى الإهانة والاستخفاف بالمسلمين، وأما اليوم فالحمد لله عز وجل فقد صار السواد كالمصر، فكان الحكم فيه كالحكم في المصر، وهذا إذا لم يشرط ذلك في العقد، فأما إذ شرط بأن استأجر ذمي دارا من مسلم في مصر من أمصار المسلمين ليتخذها مصلي للعامة، لم تجز الإجارة لأنه استئجار على المعصية، وكذا لو
استأجر ذمي من ذمي دارة ليفعل ذلك لما قلناه " . فهنا نجد المبدأ مطبقة في كثير من الوضوح. فالذمي الذي يستأجر من المسلم أو من الذمي دارة ليتخذها مصلى للعامة، يكون قد ذكر في العقد الباعث الذي دفعه إلى هذا الاستئجار ، وهو باعث غير مشروع، فلا يجوز العقد، أما الذمي الذي يستأجر من المسلم أو من الذمي دارة في المصر، ثم هو لا يذكر في العقد أنه استأجرها ليجعلها مصلى للعامة وظهر بعد الإيجار أنه قصد إلى ذلك، فإن الباعث لم يذكر في العقد، فلا يعتد به، ولا يؤثر في صحة الإيجار . ولا يمنع الذمي في هذه الحالة من الصلاة في الدار من غير جماعة ، أما إذا نفذ تصده واتخذ الدار مصلى للجماعة، فيمنع من عامة المسلمين، لا عن طريق بطلان عقد الإيجار فعقد الإيجار كما قدمنا صحيح قائم، بل عن طريق الحسبة لأن ما يفعل معصية فيها استخفاف بالمسلمين. وإذا كانت الدار في السواد، وكان غير المسلمين كثرة لا قلة، فإنه لا يجوز مع ذلك أن يذكر في العقد أن الدار تتخذ مصلى للعامة، وإن ذكر ذلك في العقد غير جائز . أما إذا | لم يذكر ، فالعقد يكون صحيحة ولا يعتد بالباعث الذي لم يذكر، وإذا اتخذ المستأجر الدار مصلي للعامة وكثرتهم غير مسلمين فلا يمنع من ذلك كما رأينا في النص.
ومثل ذلك أيضا الزواج بالمحلل، فإن ذكر في عقد الزواج شرط التحليل، كان العقد باطلا عند أبي يوسف، لأن الباعث غير مشروع، وقد ذكر في العقد فيعتد به ويبطل الزواج . وإن لم يذكر في العقد شرط التحليل، فالزواج صحيح، ولا يعتد بالباعث لأنه لم يذكر في العقد " (2) وكذلك بيع العينة . والباعث عليه الربا غير أن الباعث لا يذكر في العقد فلا يعتد به . صحيح عند الصاحبين وفي مذهب الشافعي(3) .
المطلب الثاني فكرة المشروعية واختلاف النظر فيها وتطورها
فكرة المشروعية فكرة غير ثابتة:
على أن فكرة المشروعية ليست أمرة ثابتة، بل هي قد تختلف فيها الأنظار ثم هي فكرة تتطور، فما كان غير مشروع بالأمس قد يكون مشروعة اليوم، وما كان مشروعا من قبل قد يكون بعد ذلك غير مشروع. فننظر أولا في بعض الحالات التي تختلف فيها الأنظار في فكرة المشروعية، ثم ننظر كيف تتطور هذه الفكرة من زمن إلى زمن.
حالات تختلف فيها الأنظار في المشروعية:
نورد هنا بعض النصوص حيث نجد الفقهاء تختلف أنظارهم فيما إذا كان السبب بعنبر مشروعة أو غير مشروع: جاء في البدائع ( 4/190 ): «ومن استأجر حمالا يحمل له الخمر، فله الأجر في قول أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد لا أجر له، كذا ذكر في الأصل. وذكر في الجامع الصغيره أنه يطيب له الأجر في قول أبي حنيفة، وعندهما يكره لهما أن هذه إجارة على المعصية، لأن حمل الخمر معصية لكونه إعانة على المعصية، وقد قال الله عز وجل:" لا تعاونوا على الاثم و العدوان " (المائدة : ۲)، ولهذا لعن الله تعالى عشرة منهم حاملها والمحمولة إليه، ولأبي حنيفة أن نفس الحمل ليس بمعصية، بدليل أن حملها للإراقة والتخليل مباح. وكذا ليس بسبب للمعصية وهو الشرب، لأن ذلك يحصل بفعل فاعل مختار، وليس الحمل من ضرورات الشرب، فكانت سبية محضة فلا حكم له كعصير العنب وقطفه، والحديث محمول على الحمل بنية الشرب وبه نقول: إن ذلك معصية ويكره أكل أجرته" .
وجاء في الفتاوي الخانية، (۲/ ۳۲۲ وما بعدها): " ذمي استأجر مسلما ليحمل له خمرا، جاز في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما يجوز استئجار الكنائس. وقال صاحباه : لا يجوز . وعلى هذا الخلاف إذا استأجر الذمي دابة من مسلم أو سفينة لينقل عليها الخمر . وإن استأجر ذمي ذميا لذلك، جاز . وكذا الاستئجار لرعي الخنازير، وإن استأجر المسلم ذميا ليبيع له خمرة أو ميتة أو دمة، لا يجوز، وإن استأجر الذمي مسلمة لحمل ميتة من الطريق أو جلد مينة إلى موضع الدباغة، جاز في قولهم، وكذا لو استأجره لعصر العنب ... ولو استأجر الذمي من مسلم بيتا يبيع فيه الخمر، جاز عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولا بأس لمسلم أن يؤاجر داره من ذمي ليسكنها، وإن شرب فيها الخمر أو عبد فيها الصليب أو أدخل فيها الخنازير، فذلك لا يلحق بالمسلم كمن باع غلاما ممن يقصد به الفاحشة أو باع جارية ممن يأتيها في غير المأتى أو لا يستبرئها. ولو استأجر المسلم من الذمي بيعة ليصلي فيها لم يجيز . وكذا أهل الذمة إذا استأجروا ذميا ليصلي بهم أو ليضرب لهم ناقوسا، لا يجوز، ولو أجر المسلم نفسه من المجوس ليوقد لهم النار لا بأس عندهم، لأن التصرف في النار والانتفاع بها مباح بخلاف الانتفاع بالخمر وحمل الخمر عندهم... ولو استأجر رجلا ... لينحت له طنبورة أو بربطا ففعل، طاب له الأجر، إلا أنه يأثم به . وكذا لو استأجر رج ليكتب له غناء بالفارسية أو بالعربية طاب له الأجر. وكذا لو بني بالأجر بيعة أو كنيسة لليهود والنصارى، طاب له الأجر، وكذا لو كتب لامرأة كتابة إلى حبيبها بأجر. ولو استأجر مشاطة لتزيين العروس، قالوا: لا يطيب لها الأجر إلا أن يكون على وجه الهدية بغير شرط ولا تقاض. قال مولانا رحمه الله تعالى وينبغي أن الإجارة إذا كانت مؤقتة وكان العمل معلومة ولم تنقش التماثيل والصور، جازت الإجارة ويطيب لها الأجر، لأن تزيين العروس مباح. أهل بلدة ثقلت عليهم المؤونات ، فاستأجروا رجلا بأجر معلوم ليذهب إلى السلطان ويرفع القصة ليخفف عنهم السلطان نوع تخفيف، وأخذ الأجر من عامة أهل البلدة من الأغنياء والفقراء، قالوا: إن كان بحال لو ذهب إلى بلدة السلطان يتهيأ له إصلاح الأمر في يوم أو بومين جازت الإجارة، وإن كان بحال لا يحصل المقصود في يوم أو يومين وإنما يحصل في مدة، فإن وقتوا للإجارة وقتا جازت الإجارة وله كل المسمى، وإن لم يوقتوا فسدت الإجارة وكان له أجر المثل على أهل البلدة على قدر مؤونتهم ومنافعهم، وقال بعضهم: لا تصح هذه الإجارة على كل حال ... وأجمعوا على أن الاستئجار على تعليم الفقه باطل... ولو استؤجر رجل لغسل الميت لا يجوز ... ولو استؤجر لحمل الجنازة، إن لم يكن هناك من يحملها لا يجوز لأنه تعين في إقامة الحسبة ، وإن كان هناك من يحملها جاز ... اختلف المشايخ في الدلالة في النكاح هل يكون لها أجر : قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله تعالى لا أجر لها، لأنه لا منفعة للزوج من كلامها بغير عقد، وإنما منفعة الزوج في العقد، والعقد ما قام بها، وقال غيره من المشايخ لها أجر مثلها، لأن معظم الأمر في النكاح يقوم بالدلالة، فإن النكاح لا يكون إلا بمقدمات تكون من الدلالة، فكان لها أجر المثل، بمنزلة الدلال في البيع فإنه يستحق الأجر وإن كان البيع يكون من صاحب المتاع" .
ونحن نرى هذا النص المفصل يعرض لطائفة من الحالات يناقش فيها مشروعية السبب، فتارة يجزم بأن السبب مشروع أو غير مشروع، وطورة يبين أن المشروعية مختلف فيها بين الفقهاء
فاستئجار الذمي مسلمة لحمل ميتة على الطريق أو جلد مينة إلى موضع الدباغة. أو لعصر العنب ، أو لبيع الخمر، وإيجار المسلم الدار من دمي يسكنها وإن شرب فيها الخمر أو عبد فيها الصليب أو أدخل فيها الخنازير(4) كل هذا جائز. لأنه لا يلحق المسلم، أما استئجار المسلم الذمي ليبيع خمرة أو ميتة أو دما فلا يجوز، لأن هذا يلحق المسلم. ويجوز إيجار المسلم نفسه من المجوس ليوقد لهم النار، كما بجوز استئجار الرجل ليكتب غناء بالفارسية أو بالعربية(5) ، أو لبناء بيعة أو كنيسة لليهود أو النصارى أو الكتابة كتاب من امرأة إلى حبيبها.
ولا يجوز استئجار المسلم أو الذمي من الذمي بيعة البصلي فيها، ولا استئجار المغنية أو النائحة ولا الاستئجار على تعليم الفقه أو لغسل الميت أو لحمل الجنازة إن لم يكن هناك من يحملها لأن كل هذا واجب ولا أجر على واجب(6) .
وهناك خلاف بين الفقهاء في استئجار المسلم لحمل الخمر، أو لنقله، أو لرعي الخنازير. فالصاحبان لا يجيزان ذلك لأن الإجارة هنا إعانة على المعصية وأبو حنيفة يجيزه لأن العمل في ذاته ليس بمعصية ولا يتحتم أن يكون سببا للمعصية، والخلاف قائم أيضا في استئجار مشاطة التزيين العروس، فمن الفقهاء من يرى أن تزيين العروس لا يؤخذ عليه أجر وإنما تقبل فيه الهدية ، ومنهم من يرى أن تزيين العروس مباح فيؤخذ عليه الأجر، ويختلف الفقهاء في استئجار رجل ليحمل ظلامة قوم إلى السلطان، فمنهم من يرى الجواز ما دام أن الإجارة قد حدد لها وقت معين، ومنهم من لا يجيز الإجارة على هذا العمل. ويختلف الفقهاء أخيرة في الدلالة في النكاح، وهذا ما سميناه في الفقه الغربي بعقد الوساطة في الزواج، فمن الفقهاء من يجيزها لأن الزواج لا يكون إلا بمقدمات تأتي من الدلالة، ومنهم من لا يجيزها لأن الدلالة لا تعقد الزواج بنفسها وإنما يقوم بالعقد الزوجان (7)
تطور فكرة المشروعية:
وفكرة المشروعية تتطور كما قدمنا، فما كان غير مشروع من قبل فد بصبح مشروعة، وما كان مشروعة، قد يصبح غير مشروع.
فقد كان تعليم القرآن لا يجوز الأجر عليه، ثم جاز بعد ذلك. جاء في الفتاوى الخانية (2/326 ): وإن استأجر رجلا لتعليم القرآن، لا تصح الإجارة عند المتقدمين ولا أجر له، بين لذلك وقتا أو لم يبين . ومشايخ بلخ رحمهم الله تعالي جوزوا هذه الإجارة، حتى حكي عن محمد بن سلام رحمه الله تعالى أنه قال : أقضي بتسمير باب الوالد بأجرة المعلم. وقال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله تعالى إنما كره المتقدمون الاستئجار لتعليم القرآن وكرهوا أخذ الأجر على ذلك، لأنه كان للمعلمين عطيات في بيت المال في ذلك الزمان وكان لهم زيادة رغبة في أمر الدين وإقامة الحسبة، وفي زماننا انقطعت عطياتهم وانتقضت رغائب الناس في أمر الآخرة ، فلو اشتغلوا بالتعليم مع الحاجة إلى مصالح المعاش لاختل معاشهم، فقلنا بصحة الإجارة ووجوب الأجرة للمعلم، بحيث لو امتنع الوالد عن إعطاء الأجر حبس فيه، وإن لم يكن بينهما شرط، يؤمر الوالد بتطييب قلب المعلم وإرضائه. وهذا بخلاف المؤذن والإمام، لأن ذلك لا يشغل الإمام والمؤذن على أمر المعاش، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى إن مشايخ بلخ جوزوا الإجارة على تعليم القرآن وأخذوا في ذلك قبول أهل المدينة، وأنا أفتي بجواز الاستئجار ووجوب المسمى».
وجاء في الزيلعي (5/124-125 ): «والأذان والحج والإمامة وتعليم القرآن والفقه، يعني لا يجوز أخذ الأجرة على هذه الأشياء. وقال الشافعي رحمه الله يجوز في كل ما لا يتعين على الأجير، لأنه استئجار على عمل معلوم غير متعين عليه فيجوز، وكونه عبادة لا ينافي ذلك، ألا ترى أنه يجوز الاستئجار على بناء المسجد وأداء الزكاة وكتابة المصحف والفقه. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: «اقرأوا القرآن ولا تأكلوا بها، وعهد عليه الصلاة والسلام إلى عثمان بن ابي العاص : وإن اتخذت مؤذنة فلا تأخذ على الأذان أجرة، ولأن القربة مني وقت كانت للعامل فلا يجوز له أن يأخذ الأجر على عمل وقع له كما في الصوم والصلاة، ولأن التعليم مما لا يقدر عليه المعلم إلا بمعنى من جهة المتعلم فيكون ملتزمة ما لا يقدر على تسليمه فلا يجوز بخلاف بناء المسجد وأداء الزكاة وكتابة المصحف والفقه فإنه يقدر عليها الأجير، وكذا الأجر يكون للأمر الوقوع الفعل عنه نيابة ولهذا لا تشترط أهلية المأمور فيها بل أهلية الآمر حتى جاز أن يستأجر الكافر فيها ولا يجوز فيما نحن فيه، والأصل فيه أن كل شيء جاز أن يستأجر الكافر عليه جاز أن يستأجر عليه المسلم، وما لا فلا. قال رحمه الله : والفتوى اليوم على جواز الاستئجار التعليم القرآن، وهو مذهب المتأخرين من مشايخ بلخ، استحسنوا ذلك وقالوا: بنى أصحابنا المتقدمون الجواب على ما شاهدوا من قلة الحفاظ ورغبة الناس فيهم وكانت لهم عطيات في بيت المال وافتقاد من المتعلمين في مجازاة الإحسان بالإحسان من غير شرط مروءة يعينونهم على معاشهم ومعادهم، وكانوا يفتون بوجوب التعليم خوفا من ذهاب القرآن وتحريضا على التعليم حتى ينهضوا لإقامة الواجب فيكثر حافظ القرآن . وأما اليوم فقد تغير ذلك كله ، واشتغل الحفاظ بمعاشهم، وقل من يعلم حسبة ، ولا يتفرغون له أيضا فإن حاجتهم تمنعهم من ذلك، فلو لم يفتح لهم باب التعليم بالأجر الذهب القرآن، فأفتوا بجواز ذلك لذلك ورأوه حسنة. وقالوا: الأحكام قد تختلف باختلاف الزمان، ....
كذلك قد يكون الأمر مشروعة، فيصبح غير مشروع، وقد سبق أن نقلنا عن «البدائع، (5/176) ما يأتي: «ولو كانت الدار التي استأجرها الذي من المسلم واتخذها مصلي للعامة) بالسواد، ذكر في الأصل أنه لا يمنع من ذلك، لكن قيل إن أبا حنيفة إنما أجاز ذلك في زمنه لأن أكثر أهل السواد في زمانه كانوا أهل الذمة من المجوس، فكان لا يؤدي ذلك إلى الإهانة والاستخفاف بالمسلمين. وأما اليوم فالحمد لله عز وجل فقد صار السواد كالمصر، فكان الحكم فيه كالحكم في المصر"
___________
1- ومع ذلك فالرهن لضمان أجرة المغنية أو النائحة باطل «الأشباه والنظائر، لابن نجيم (135).
2- وقد لخص الأستاذ محمد يوسف موسى المذهب الحنفي في زواج المحلل على الوجه الآتي:
يرى الإمام أبو حنيفة : أنه كان يشرط التحليل كما أن قال الزوج الثاني حين العقد: تزوجتك لأحلك لزوجك السابق، كان العقد صحيحة، لأن عقد الزواج لا تبطله الشروط الفاسدة ، فتحل الزوجة إذن لزوجها الأول بعد دخول الثاني بها وطلاقها منه، إلا أنه مكروه تحريما لقول الرسول صلى الله عليه واله وسلم : " لعن الله المحلل والمحلل له» . وعند أبي يوسف هو عقد فاسد، لأنه زواج مؤقت وأصل الزواج أن يكون دائما، وإذن فلا تحل للأول بعد تطابق الثاني لها، وعند محمد هو عقد صحيح، إلا أنه لا يحل الزوجة لزوجها الأول بعد مفارقة الأول لها عقابا له، لأنه استعجل طلاقها من الثاني ، وهذا كله إذا كان الزواج الثاني قد عقد بشرط التحليل أما إذا لم يقع على هذا الشرط، وإن كان هو القصد، فلا يكون مكروها، وتحل به لزوجها الأول. وعلى أن واحدة من الفقهاء، وهو السروجي يذكر أن الثابت عادة كالثابت نصأ، أي فيصير شرط التحليل كأنه منصوص عليه في العقد فيكره. والأموال ونظرية العقد في الفقه الإسلامي، فقرة 427/300 ) ، انظر أيضا في هذا الموضوع الزيلعي 3/259 ابن عابدين (۳/ 554 . 555).
3- بيع العينة هو حيلة للقرض بالربا، فيشتري شخص من آخر شيئا بثمن مؤجل، ثم يبيعه نفس الشيء بثمن معجل أقل من الثمن الأول، والفرق ربا ... وقد يوسط المتعاقدان بينهما ثالثة، فيشتري أحد المتعاقدين من الأخر الشيء بثمن مؤجل، ثم يبيعه إلى الوسيط بثمن معجل أقل، ويبيع الوسيط الشيء إلى بائعه الأول بنفس الثمن المعجل الذي اشتري به. فهنا الباعث هو الربا، ولا يأثر في العقد عند الحنفية والشافعية لأنه غير ظاهر في صيغة العقد. أما عند الحنابلة والمالكية فهو باطل، اعتداد بالباعث ولو لم يظهر في صيغة العقد . ويلخص الأستاذ محمد يوسف موسى حكم بيع العينة في المذاهب المختلفة على الوجه الآتي: اذهب بعض الفقهاء، ومنهم: الإمام الشافعي ، إلى أن هذا العقد جائز، لأن ركنه من الإيجاب والقبول الصحيحين قد تحقق ، ولا عبرة بالنية التي لا ترفعها لعدم وجود ما يدل عليها. وأما الثمن الذي باع به المشتري للعين، وهو ثمن أقل مما اشتراها به، نهر في رأي الشافعي ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها، فجاز من بائعها، كما لو باعها بمثل ثمنها. أما في مذهب الأحناف ، فقد أجاز أبو يوسف هذا البيع بلا كراهة، وإجازة محمد مع الكراهة حتى اثر عنه أنه قال : هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ذميم، اخترعه أكلة الربا. وعند الإمام نفسه هو عقد فاسد إن خلا من توسط ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض. وابن حنبل يرى ومثله الإمام مالك أن هذا العقد يقع باطلا». «الأموال ونظرية العقد في الفقه الإسلامي، فقرة (428-429 )ص (300-302) .
4- والمبدأ الذي يجيز إيجار المسلم الدار من ذمي ليسكنها وإن شرب فيها الخمر أو عبد فيها الصليب أو أدخل فيها الخنازير، لا يجيز على النقيض من ذلك، للذمي أن يوصي بمال له لبناء مسجد إذ العبرة في الحالتين بما بدين به المسلم، والذمي إنما يعامل بديانته. فدينه يجيز له شرب الخمر وإدخال الخنازير في داره ويوجب عليه عبادة الصليب، ومن ثم جاز للمسلم أن يؤجر داره للذمي لهذه الأغراض، فهي جائزة عند الذمي، ولا شيء منها يلحق المسلم. ودين الذي لا يجيز له أن يبني مسجدة، فوصيته بمال لبناء مسجد وصية باطلة. وقد أشار الأستاذ شكري قرداحي إلى هذا الحكم الأخير في الفقه الإسلامي في كتابه المعروف القانون والأخلاق، (2/291)، وأشار إلى نص فقهي بورد هذا الحكم على الوجه الآتي: اوثانيها أن يوصي بما هو معصية عندهم قربة عندنا ، كما لو أوصى أن يجعل داره مسجدة ... فهي باطلة بالإجماع اعتبارا لاعتقادهم، لأننا نعاملهم بديانتهم، مجمع الأنهر، (2/717).
5- ويأخذ الأستاذ بدر ديب على هذا الحكم تعارضه مع الحكم القاضي بعدم جواز إجارة المغنية (بحث في نظرية الباعث في المذهب الحنفي) (۱۹۷).
6- ويلاحظ الأستاذ بدر و ديب آن فقهاء الحنفية لا يجيزون في عقد الإيجار ما يجيزون في عقد البيع، لأن عقد الإيجار إنما ورد على خلاف القياس ورخص فيه استحسانا، فكان يسيرأ عليهم سحب هذه الرخصة في كل ما يكون مظنة لعدم المشروعية (بحث في نظرية الباعث في المذهب الحنفي) (۲۳۱).
7- ويقول الأستاذ صبحي محمصاني في هذا الصدد ما يأتي: لا يجوز لأبوي الزوجة أو أحد أقاربها أن يأخذ من الزوج دراهم أو أي شيء كان لقاء تزويجها أو تسليمها، وقد قال ابن البزار : إن هذا نوع من الرشوة: الفتاوى البزازية»، (154-155) بهامش الهندية، وهو حكم متفق عليه عند الحنفيين وغيرهم، ويطبق على الأقارب وغير الأقارب، فقد سئل صاحب الفتاوي الخيرية» في رجل تزوج زوجة تتعرض له شخص يقول : هذه فلاحتي وأطلب عليها خلعة، هل يجوز أن يحكم بذلك أم لا.. فأجاب : يحرم عليه ذلك بإجماع المسلمين: «الفتاوي الخيرية»، (۲۸۱). وشبيه بهذه المسألة ما أستقر عليه اجتهاد القضاء في أوروبا من تحريم السمسرة في أمور الزواج ، باعتبارها ترتكز على سبب غير مشروع و مخالف للآداب» («النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية" (2/98) بقيت المقامرة، وهذه غير مشروعة بداهة في الفقه الإسلامي، وكذلك الرمان من الجانبين غير مشروع فلو تراهن المتسابقان على أن من يفوز منهما على صاحبه يأخذ منه مبلغا من المال، لم يجز ذلك. ولكن يجوز للغير أن يتعهد بإجازة الفائز من المتسابقين، ويكون هذا تشجيعا للفائز وليس رهانا كما يجوز لأحد المتسابقين أن بعد صاحبه إذا فاز عليه إجازته، والذي لا يجوز هو، كما قدمنا، أن يعد كل من المتسابقين الآخر بإجازته إذا هو فاز، فإن هذا يكون رهانة المجمع الأنهر، (2/549-550 ) الأستاذ شكري قرداحي في القانون والأخلاق،(368-369) .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|