أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-8-2020
4661
التاريخ: 27-8-2020
12297
التاريخ: 27-8-2020
8386
التاريخ: 27-8-2020
3814
|
قال تعالى : {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُو الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوشَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى : 1 - 8] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
{حم} قد مضى تفسيره {عسق} قيل إنما فضلت هذه السورة من بين سائر الحواميم بعسق لأن جميعها استفتح بذكر الكتاب على التصريح به إلا هذه فذكر عسق ليكون دلالة على الكتاب دلالة التضمين وإن لم يدل عليه دلالة التصريح وهو معنى قول قتادة فإنه قال هو اسم من أسماء القرآن وقيل لأن هذه السورة انفردت بأن معانيها أوحيت إلى سائر الأنبياء فلذلك خصت بهذه التسمية وقال عطا : هي حروف مقطعة من حوادث آتية فالحاء من حرب والميم من تحويل ملك والعين من عدو مقهور والسين من الاستئصال بسنين كسني يوسف والقاف من قدرة الله في ملوك الأرض وسائر الأقوال في ذلك مذكورة في أول البقرة .
{كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك} أي كالوحي الذي تقدم يوحي إليك أخبار الغيب وما يكون قبل أن يكون وإلى الذين من قبلك من الأنبياء عن عطا عن ابن عباس قال وما من نبي أنزل الله عليه الكتاب إلا أنزل عليه معاني هذه السورة بلغاتهم وقيل معناه كهذا الوحي الذي يأتي في هذه السورة يوحي إليك لأن ما لم يكن حاضرا تراه صلح فيه هذا لقرب وقته وذلك لبعده في نفسه ومعنى التشبيه في كذلك أن بعضه كبعض في أنه حكمة وصواب بما تضمنه من الحجج والمواعظ والفوائد .
{الله} الذي تحق له العبادة {العزيز} القادر الذي لا يغالب {الحكيم} المحكم لأفعاله {له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي} المستعلي على كل قادر {العظيم} شأنه {تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن} أي تكاد كل واحدة من السماوات تنشق من فوق التي تليها من قول المشركين اتخذ الله ولدا استعظاما لذلك عن ابن عباس والحسن وقيل معناه تكاد السماوات يتشققن فرقا من عظمة الله وجلاله من فوقهن تقديره ممن فوقهن أي من عظمة من فوقهن عن الضحاك وقتادة والزجاج وقيل من فوقهن أي من فوق الأرضين وهذا على طريق التمثيل والمعنى لو كانت السماوات تنفطر لشيء لانفطرت لهذا .
{والملائكة يسبحون بحمد ربهم} أي ينزهونه عما لا يجوز عليه في صفاته ويعظمونه عما لا يليق به في ذاته وأفعاله وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) والملائكة ومن حول العرش يسبحون بحمد ربهم لا يفترون {ويستغفرون لمن في الأرض} من المؤمنين {ألا إن الله هو الغفور الرحيم} والمعنى ظاهر .
ثم أخبر سبحانه عن إمهاله الكفار بعد تقديم الإنذار فقال {والذين اتخذوا من دونه أولياء} أي آلهة عبدوها من دون الله يعني كفار مكة {الله حفيظ عليهم} أي حافظ عليهم أعمالهم لا يعزب شيء منها عنه ليجازيهم على ذلك كله {وما أنت} يا محمد {عليهم بوكيل} أي وما أنت بمسلط عليهم لتدخلهم في الإيمان قهرا وقيل معناه إنك لم توكل بحفظ أعمالهم وإنما بعثت نذيرا لهم داعيا إلى الله مبينا سبيل الرشد أي فلا يضيقن صدرك بتكذيبهم إياك وفيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا} أي ومثل ما أوحينا إلى من تقدمك من الأنبياء بالكتب التي أنزلناها عليهم بلغة قومهم أوحينا إليك قرآنا بلغة العرب ليفقهوا ما فيه .
{لتنذر أم القرى ومن حولها} أي لتنذر أهل أم القرى وهي مكة ومن حولها من سائر الناس وقرى الأرض كلها {وتنذر يوم الجمع} أي وتنذرهم يوم الجمع وهو يوم القيامة يجمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السماوات والأرضين فيوم الجمع مفعول ثان لتنذر وليس بظرف {لا ريب فيه} أي لا شك في كونه ثم قسم سبحانه أهل يوم الجمع فقال {فريق في الجنة وفريق في السعير} أي فريق منهم في الجنة بطاعتهم وفريق منهم في النار بمعصيتهم {ولوشاء الله لجعلهم أمة واحدة} أي ولوشاء الله أن يحملهم على دين واحد وهو الإسلام بأن يلجئهم إليه لفعله ولكنه لم يفعله لأنه يؤدي إلى إبطال التكليف والتكليف إنما يثبت مع الاختيار عن الجبائي وقيل إن معناه ولوشاء الله لسوى بين الناس في المنزلة بأن يخلقهم في الجنة ولكنه اختار لهم أعلى الدرجتين وهو استحقاق الثواب .
{ولكن يدخل من يشاء في رحمته} وهم المؤمنون {والظالمون ما لهم من ولي} يواليهم {ولا نصير} يمنع عنهم عذاب الله .
____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص36-39 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{حم عسق} . تقدم الكلام عن هذه الأحرف أو الكلمات في أول سورة البقرة ، وقال بعض المفسرين : ان {حم عسق} هما اسمان لهذه السورة لبيان فضلها على سائر الحواميم . وقال الرازي : ان الكلام في أمثال هذه الفواتح يضيق ، وفتح باب المجازفات مما لا سبيل إليه ، فالأولى أن يفوض علمها إلى اللَّه .
{كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . ان القوي القادر الذي يدبر الأمور وفق تقديره وحكمته قد أوحى إليك يا محمد والى الأنبياء من قبلك ان {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأَرْضِ وهُو الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . هو وحده مالك الكون بما فيه لا يملك معه أحد شيئا إلا ملكه {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} . المراد بالسماوات الكواكب العلوية ، وضمير فوقهن يعود إليها ، والمعنى ان الكواكب التي يعلو بعضها بعضا تكاد تنشق من قول من قال : ان للَّه أندادا . ومثله قوله تعالى : {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وتَنْشَقُّ الأَرْضُ وتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً} [مريم - 92] ج 5 ص 200 .
{والْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} . ولوكان للَّه أنداد لما سبّحت الملائكة بحمد اللَّه الذي لا إله سواه . قال الإمام علي (عليه السلام) : لوكان للَّه شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته {ويستغفرون} أي الملائكة {لمن في الأرض} من المؤمنين والتائبين كما في الآية 8 من سورة غافر : {يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} . {إِنَّ اللَّهً هُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} لا يمنع سائلا يسأله الرحمة والمغفرة أيا كان شريطة أن يسلك طريقهما ، وهو التوبة وصدق النية .
{والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} .
يقول سبحانه لنبيه : أنت مبلَّغ تبشّر وتنذر فقط ، واللَّه هو الذي يحصي على العباد أعمالهم وأقوالهم ومقاصدهم ويحاسبهم عليها . وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات . وليس من شك انه لا قسر ولا جبر على الايمان ، ولكن من يعتدي على حرمة الناس يجب تأديبه وردعه لأنه هو الذي انتهك حرمة نفسه ، وأيضا من يولد على الإسلام ثم يرتد عنه يجب قتله ، وكذا المسلم إذا ترك الصلاة أو الصوم تهاونا فإنه ينبه ويعزر ، فإن أصر يقتل بعد التنبيه الرابع .
وعلى هذا يتحتم تفسير الآيات التي قالت للنبي : ما أنت عليهم بوكيل ، يتحتم تفسيرها وتخصيصها بغير هذه الموارد وما إليها من المستثنيات ، أو نقول : انها نزلت في زمان ما كان النبي يملك فيه القوة الرادعة المؤدبة .
{وكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ومَنْ حَوْلَها} أي لتبدأ يا محمد أول ما تبدأ بالدعوة إلى الإسلام في بلدك مكة والبلدان التي حولها ، ثم تنتشر في أرجاء العالم ، كأية دعوة عامة تبتدئ حيث تولد ، ثم تنطلق إلى سائر الأقطار . انظر تفسير الآية 92 من سورة الأنعام ج 3 ص 225 {وتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} . يوم الجمع هو يوم القيامة الذي نفى سبحانه الريب عن وقوعه ، وميّز فيه أهل الجنة عن أهل النار ، وانما سمي يوم الجمع لأن الخلائق تجتمع فيه للحساب والجزاء : {ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود - 104] .
{ولَوشاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً} لو أن اللَّه حمل الناس على دين واحد بالقسر والجبر لزالت صفة الإنسانية عن الإنسان حيث يكون ، وهذه هي الحال ، بلا إرادة واختيار تماما كريشة في مهب الريح . وتقدم ذلك في الآية 48 من سورة المائدة والآية 93 من سورة النحل والآية 118 من سورة هود ، وتكلمنا عنه مفصلا عند تفسير الآية الأخيرة ج 4 ص 278 {ولكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ} وهم المؤمنون بدليل قوله تعالى : {وأَطِيعُوا اللَّهً والرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران - 132] . {والظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ ولا نَصِيرٍ} لأنهم استحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون .
_________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص510-512 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
تتكلم السورة حول الوحي الذي هو نوع تكليم من الله سبحانه لأنبيائه ورسله كما يدل عليه ما في مفتتحها من قوله : {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله} الآية وما في مختتمها من قوله : {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا إلخ} الآيات ، ورجوع الكلام إليه مرة بعد أخرى في قوله : {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا} الآية ، وقوله : {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} الآية ، وقوله : {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} الآية وما يتكرر في السورة من حديث الرزق على ما سيجيء .
فالوحي هو الموضوع الذي يجري عليه الكلام في السورة وما فيها من التعرض لآيات التوحيد وصفات المؤمنين والكفار وما يستقبل كلا من الفريقين في معادهم ورجوعهم إلى الله سبحانه مقصود بالقصد الثاني وكلام جره كلام .
والسورة مكية وقد استثني قوله : {والذين استجابوا لربهم} إلى تمام ثلاث آيات ، وقوله : {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} إلى تمام أربع آيات وسيجيء الكلام فيها إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : {حم عسق} من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل عدة من السور القرآنية ، وذلك من مختصات القرآن الكريم لا يوجد في غيره من الكتب السماوية .
وقد اختلف المفسرون من القدماء والمتأخرين في تفسيرها وقد نقل عنهم الطبرسي في مجمع البيان أحد عشر قولا في معناها : أحدها : أنها من المتشابهات التي استأثر الله سبحانه بعلمها لا يعلم تأويلها إلا هو .
الثاني : أن كلا منها اسم للسورة التي وقعت في مفتتحها .
الثالث : أنها أسماء القرآن أي لمجموعه .
الرابع : أن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقوله : {الم} معناه أنا الله أعلم ، وقوله : {المر} معناه أنا الله أعلم وأرى ، وقوله : {المص} معناه أنا الله أعلم وأفصل ، وقوله : {كهيعص} الكاف من الكافي ، والهاء من الهادي ، والياء من الحكيم ، والعين من العليم ، والصاد من الصادق ، وهو مروي عن ابن عباس ، والحروف المأخوذة من الأسماء مختلفة في أخذها فمنها ما هو مأخوذ من أول الاسم كالكاف من الكافي ، ومنها ما هو مأخوذ من وسطه كالياء من الحكيم ، ومنها ما هو مأخوذ من آخر الكلمة كالميم من أعلم .
الخامس : أنها أسماء لله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم تقول : الر وحم ون يكون الرحمن وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على تأليفها وهو مروي عن سعيد بن جبير .
السادس : أنها أقسام أقسم الله بها فكأنه هو أقسم بهذه الحروف على أن القرآن كلامه وهي شريفة لكونها مباني كتبه المنزلة ، وأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وأصول لغات الأمم على اختلافها .
السابع : أنها إشارات إلى آلائه تعالى وبلائه ومدة الأقوام وأعمارهم وآجالهم .
الثامن : أن المراد بها الإشارة إلى بقاء هذه الأمة على ما يدل عليه حساب الجمل .
التاسع : أن المراد بها حروف المعجم وقد استغنى بذكر ما ذكر منها عن ذكر الباقي كما يقال : أب ويراد به جميع الحروف .
العاشر : أنها تسكيت للكفار لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا للقرآن وأن يلغوا فيه كما حكاه القرآن عنهم بقوله : {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} الآية ، فربما صفروا وربما صفقوا وربما غلطوا فيه ليغلطوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلاوته ، فأنزل الله تعالى هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها استغربوها واستمعوا إليها وتفكروا فيها واشتغلوا بها عن شأنهم فوقع القرآن في مسامعهم .
الحادي عشر : أنها من قبيل تعداد حروف التهجي والمراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته هومن جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله تعالى ، وإنما كررت الحروف في مواضع استظهارا في الحجة ، وهو مروي عن قطرب واختاره أبو مسلم الأصبهاني وإليه يميل جمع من المتأخرين .
فهذه أحد عشر قولا وفيما نقل عنهم ما يمكن أن يجعل قولا آخر كما نقل عن ابن عباس في {الم} أن الألف إشارة إلى الله واللام إلى جبريل والميم إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وما عن بعضهم أن الحروف المقطعة في أوائل السور المفتتحة بها إشارة إلى الغرض المبين فيها كان يقال : إن {ن} إشارة إلى ما تشتمل عليه السورة من النصر الموعود للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، و{ق} إشارة إلى القرآن أو القهر الإلهي المذكور في السورة ، وما عن بعضهم أن هذه الحروف للإيقاظ .
والحق أن شيئا من هذه الأقوال لا تطمئن إليه النفس : أما القول الأول فقد تقدم في بحث المحكم والمتشابه في أوائل الجزء الثالث من الكتاب أنه أحد الأقوال في معنى المتشابه وعرفت أن الإحكام والتشابه من صفات الآيات التي لها دلالة لفظية على مداليلها ، وأن التأويل ليس من قبيل المداليل اللفظية بل التأويلات حقائق واقعية تنبعث من مضامين البيانات القرآنية أعم من محكماتها ومتشابهاتها ، وعلى هذا فلا هذه الحروف المقطعة متشابهات ولا معانيها المراد بها تأويلات لها .
وأما الأقوال العشرة الآخر فإنما هي تصويرات لا تتعدى حد الاحتمال ولا دليل يدل على شيء منها .
نعم في بعض الروايات المنسوبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) بعض التأييد للقول الرابع والسابع والثامن والعاشر وسيأتي نقلها والكلام في مفادها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى .
والذي لا ينبغي أن يغفل عنه أن هذه الحروف تكررت في سور شتى وهي تسع وعشرون سورة افتتح بعضها بحرف واحد وهي ص وق ون ، وبعضها بحرفين وهي سور طه وطس ويس وحم .
وبعضها بثلاثة أحرف كما في سورتي {الم} و{الر} و{طسم} وبعضها بأربعة أحرف كما في سورتي {المص} و{المر} وبعضها بخمسة أحرف كما في سورتي {كهيعص} و{حمعسق} .
وتختلف هذه الحروف أيضا من حيث أن بعضها لم يقع إلا في موضع واحد مثل {ن} وبعضها واقعة في مفتتح عدة من السور مثل {الم} و {الر} و {طس} و {حم} .
ثم إنك إن تدبرت بعض التدبر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات والراءات والطواسين والحواميم ، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين وتناسب السياقات ما ليس بينها وبين غيرها من السور .
ويؤكد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ كما في مفتتح الحواميم من قوله : {تنزيل الكتاب من الله} أوما هوفي معناه ، وما في مفتتح الراءات من قوله : {تلك آيات الكتاب} أوما هوفي معناه ، ونظير ذلك واقع في مفتتح الطواسين ، وما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه .
ويمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذا الحروف المقطعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطا خاصا ، ويؤيد ذلك ما نجد أن سورة الأعراف المصدرة بالمص في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات وص ، وكذا سورة الرعد المصدرة بالمر في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات والراءات .
ويستفاد من ذلك أن هذه الحروف رموز بين الله سبحانه وبين رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) خفية عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها وبين المضامين المودعة في السور ارتباطا خاصا .
ولعل المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف وقايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها إلى بعض تبين له الأمر أزيد من ذلك .
ولعل هذا معنى ما روته أهل السنة عن علي (عليه السلام) على ما في المجمع ، : أن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي . قوله تعالى : {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم - إلى قوله - العلي العظيم} مقتضى كون غرض السورة بيان الوحي بتعريف حقيقته والإشارة إلى غايته وآثاره أن تكون الإشارة بقوله : {كذلك} إلى شخص الوحي بإلقاء هذه السورة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكون تعريفا لمطلق الوحي بتشبيهه بفرد مشار إليه مشهود للمخاطب فيكون كقولنا في تعريف الإنسان مثلا هو كزيد .
وعليه يكون قوله : {إليك وإلى الذين من قبلك} في معنى إليكم جميعا ، وإنما عبر بما عبر للدلالة على أن الوحي سنة إلهية جارية غير مبتدعة ، والمعنى أن الوحي الذي نوحيه إليكم معشر الأنبياء - نبيا بعد نبي سنة جارية – هو كهذا الذي تجده وتشاهده في تلقي هذه السورة .
وقد أخذ جمهور المفسرين قوله : {كذلك} إشارة إلى الوحي لا من حيث نفسه بل من حيث ما يشتمل عليه من المفاد فيكون في الحقيقة إشارة إلى المعارف التي تشتمل عليها السورة وتتضمنها واستنتجوا من ذلك أن مضمون السورة مما أوحاه الله تعالى إلى جميع الأنبياء فهومن الوحي المشترك فيه ، وقد عرفت أنه لا يوافق غرض السورة ويأباه سياق آياتها .
وقوله : {العزيز الحكيم له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم} خمسة من أسمائه الحسنى ، وقوله : {له ما في السماوات وما في الأرض} في معنى المالك ، وهو واقع موقع التعليل لأصل الوحي ولكونه سنة إلهية جارية فالذي يعطيه الوحي شرع إلهي فيه هداية الناس إلى سعادة حياتهم في الدنيا والآخرة وليس المانع أن يمنعه تعالى عن ذلك لأنه عزيز غير مغلوب فيما يريد ، ولا هو تعالى يهمل أمر هداية عباده لأنه حكيم متقن في أفعاله ومن إتقان الفعل أن يساق إلى غايته .
ومن حقه تعالى أن يتصرف فيهم وفي أمورهم كيف يشاء ، لأنه مالكهم وله أن يعبدهم ويستعبدهم بالأمر والنهي لأنه على عظيم فلكل من الأسماء الخمسة حظه من التعليل ، وينتج مجموعها أنه وليهم من كل جهة لا ولي غيره .
قوله تعالى : {تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن} إلخ التفطر التشقق من الفطر بمعنى الشق .
الذي يهدي إليه السياق والكلام مسرود لبيان حقيقة الوحي وغايته وآثاره أن يكون المراد من تفطر السماوات من فوقهن تفطرها بسبب الوحي النازل من عند الله العلي العظيم المار بهن سماء سماء حتى ينزل على الأرض فإن مبدأ الوحي هو الله سبحانه والسماوات طرائق إلى الأرض قال تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون : 17] .
والوجه في تقييد {يتفطرن} بقوله : {من فوقهن} ظاهر فإن الوحي ينزل عليهن من فوقهن من عند من له العلو المطلق والعظمة المطلقة فلو تفطرن كان ذلك من فوقهن .
على ما فيه من إعظام أمر الوحي وإعلائه فإنه كلام العلي العظيم فلكونه كلام ذي العظمة المطلقة تكاد السماوات يتفطرن بنزوله ولكونه كلاما نازلا من عند ذي العلو المطلق يتفطرن من فوقهن لو تفطرن .
فالآية في إعظام أمر كلام الله من حيث نزوله ومروره على السماوات نظيره قوله : {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ : 23] في إعظامه من حيث تلقي ملائكة السماوات إياه ، ونظيره قوله : {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ } [الحشر : 21] في إعظامه على فرض نزوله على جبل ونظيره قوله : {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } [المزمل : 5] في استثقاله واستصعاب حمله .
هذا ما يعطيه السياق .
وقد حمل القوم الآية على أحد معنيين آخرين : أحدهما : أن المراد تفطرهن من عظمة الله وجلاله جل جلاله كما يؤيده توصيفه تعالى قبله بالعلي العظيم .
وثانيهما : أن المراد تفطرهما من شرك المشركين من أهل الأرض وقولهم : {اتخذ الرحمن ولدا} فقد قال تعالى فيه : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } [مريم : 90] فأدى ذلك إلى التكلف في توجيه تقييد التفطر بقوله : {من فوقهن} وخاصة على المعنى الثاني ، وكذا في توجيه اتصال قوله : {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} إلخ بما قبله كما لا يخفى على من راجع كتبهم .
وقوله : {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} أي ينزهونه تعالى عما لا يليق بساحة قدسه ويثنون عليه بجميل فعله ، ومما لا يليق بساحة قدسه أن يهمل أمر عباده فلا يهديهم بدين يشرعه لهم بالوحي وهو منه فعل جميل ، ويسألونه تعالى أن يغفر لأهل الأرض ، وحصول المغفرة إنما هو بحصول سببها وهو سلوك سبيل العبودية بالاهتداء بهداية الله سبحانه فسؤالهم المغفرة لهم مرجعه إلى سؤال أن يشرع لهم دينا يغفر لمن تدين به منهم فالمعنى والملائكة يسألون الله سبحانه أن يشرع لمن في الأرض من طريق الوحي دينا يدينون به فيغفر لهم بذلك .
ويشهد على هذا المعنى وقوع الجملة في سياق بيان صفة الوحي وكذا تعلق الاستغفار بمن في الأرض إذ لا معنى لطلب المغفرة منهم لمطلق أهل الأرض حتى لمن قال : {اتخذ الله ولدا} وقد حكى الله تعالى عنهم : {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [غافر : 7] فالمتعين حمل سؤال المغفرة على سؤال سببها وهو تشريع الدين لأهل الأرض ليغفر لمن تدين به .
وقوله : {ألا إن الله هو الغفور الرحيم} أي إن الله سبحانه لاتصافه بصفتي المغفرة والرحمة وتسميه باسمي الغفور الرحيم يليق بساحة قدسه أن يفعل بأهل الأرض ما ينالون به المغفرة والرحمة من عنده وهو أن يشرع لهم دينا يهتدون به إلى سعادتهم من طريق الوحي والتكليم .
قيل : وفي قوله : {ألا إن الله} إلخ إشارة إلى قبول استغفار الملائكة وأنه سبحانه يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة .
قوله تعالى : {والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل} لما استفيد من الآيات السابقة أن الله تعالى هو الولي لعباده لا ولي غيره وهو يتولى أمر من في الأرض منهم بتشريع دين لهم يرتضيه من طريق الوحي إلى أنبيائه على ما يقتضيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا ، ولازم ذلك أن لا يتخذ عباده أولياء من دونه ، أشار في هذه الآية إلى حال من اتخذ من دونه أولياء باتخاذهم شركاء له في الربوبية والألوهية فذكر أنه ليس بغافل عما يعملون وأن أعمالهم محفوظة عليهم سيؤاخذون بها ، وليس على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا البلاغ من غير أن يكون وكيلا عليهم مسئولا عن أعمالهم .
فقوله : {الله حفيظ عليهم} أي يحفظ عليهم شركهم وما يتفرع عليه من الأعمال السيئة .
وقوله : {وما أنت عليهم بوكيل} أي مفوضا إليك أعمالهم حتى تصلحها لهم بهدايتهم إلى الحق ، والكلام لا يخلو من نوع من التسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
قال تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى : 7 ، 8] .
فصل ثان من الآيات يعرف فيه الوحي من حيث الغاية المترتبة عليه كما عرفه في الفصل السابق بالإشارة إليه نفسه .
فبين في هذا الفصل أن الغرض من الوحي إنذار الناس وخاصة الإنذار المتعلق بيوم الجمع الذي يتفرق فيه الناس فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير إذ لولا الإنذار بيوم الجمع الذي فيه الحساب والجزاء لم تنجح دعوة دينية ولم ينفع تبليغ .
ثم بين أن تفرقهم فريقين هو الذي شاءه الله سبحانه فعقبه بتشريع الدين وإنذار الناس يوم الجمع من طريق الوحي لأنه وليهم الذي يحييهم بعد موتهم الحاكم بينهم فيما اختلفوا فيه .
ثم ساق الكلام فانتقل إلى توحيد الربوبية وأنه تعالى هو الرب لا رب غيره لاختصاصه بصفات الربوبية من غير شريك يشاركه في شيء منها .
قوله تعالى : {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها} الإشارة إلى الوحي المفهوم من سابق السياق ، وأم القرى هي مكة المشرفة والمراد بإنذار أم القرى إنذار أهلها ، والمراد بمن حولها سائر أهل الجزيرة ممن هو خارج مكة كما يؤيده توصيف القرآن بالعربية .
وذلك أن الدعوة النبوية كانت ذات مراتب في توسعها فابتدأت الدعوة العلنية بدعوة العشيرة الأقربين كما قال : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء : 214] ثم توسعت فتعلقت بالعرب عامة كما قال : {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت : 3] ثم بجميع الناس كما قال : {وأنزل إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} .
ومن الدليل على ما ذكرناه من الأمر بالتوسع تدريجا قوله تعالى : {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [ص : 86 ، 87] فإن الخطاب على ما يعطيه سياق السورة لكفار قريش يقول سبحانه إنه ذكر للعالمين لا يختص ببعض دون بعض ، فإذا كان للجميع فلا معنى لأن يسأل بعضهم - كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - بعضا عليه أجرا .
على أن تعلق الدعوة بأهل الكتاب وخاصة باليهود والنصارى من ضروريات القرآن ، وكذا إسلام رجال من غير العرب كسلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي من ضروريات التاريخ .
وقيل المراد بقوله : {من حولها} سائر الناس من أهل قرى الأرض كلها ويؤيده التعبير عن مكة بأم القرى .
والآية - كما ترى - تعرف الوحي بغايته التي هي إنذار الناس من طريق الإلقاء الإلهي وهو النبوة فالوحي إلقاء إلهي لغرض النبوة والإنذار .
قوله تعالى : {وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير} عطف على {تنذر} السابق وهومن عطف الخاص على العام لأهميته كأنه قيل : لتنذر الناس وتخوفهم من الله وخاصة من سخطه يوم الجمع .
وقوله : {يوم الجمع} مفعول ثان لقوله : {تنذر} وليس بظرف له وهو ظاهر ، ويوم الجمع هو يوم القيامة قال تعالى : {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ – الى ان قال - فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود : 103 - 105] .
وقوله : {فريق في الجنة وفريق في السعير} في مقام التعليل ودفع الدخل كأنه قيل : لما ذا ينذرهم يوم الجمع؟ فقيل : {فريق في الجنة وفريق في السعير} أي إنهم يتفرقون فريقين : سعيد مثاب وشقي معذب فلينذروا حتى يتحرزوا سبيل الشقاء والهبوط في مهبط الهلكة .
قوله تعالى : {ولوشاء الله لجعلهم أمة واحدة} إلى آخر الآية لما كانت الآية مسوقة لبيان لزوم الإنذار والنبوة من جهة تفرق الناس فريقين يوم القيامة كان الأسبق إلى الذهن من جعلهم أمة واحدة مطلق رفع التفرق والتميز من بينهم بتسويتهم جميعا على صفة واحدة من غير فرق وميز ، ولم تقع عند ذلك حاجة إلى النبوة والإنذار .
وقوله : {ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير} استدراك يبين فيه أن سنته تعالى جرت على التفريق ولم يشأ جعلهم أمة واحدة يدل على ذلك قوله : {يدخل من يشاء} الدال على الاستمرار ، ولم يقل : ولكن أدخل ونحوه .
وقد قوبل في الآية قوله : {من يشاء} بقوله : {والظالمون} فالمراد بمن يشاء غير الظالمين وقد فسر الظالمين يوم القيامة بقوله : {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون} [الأعراف - 45] فهم المعاندون المنكرون للمعاد .
وقوبل أيضا بين الإدخال في الرحمة وبين نفي الولي والنصير فالمدخلون في رحمته هم الذين وليهم الله ، والذين ما لهم من ولي ولا نصير هم الذين لا يدخلهم الله في رحمته ، وأيضا الرحمة هي الجنة وانتفاء الولاية والنصرة يلازم السعير .
فمحمل معنى الآية : أن الله سبحانه إنما قدر النبوة والإنذار المتفرع على الوحي لمكان ما سيعتريهم يوم القيامة من التفرق فريقين ، ليتحرزوا من الدخول في فريق السعير .
ولو أراد الله لجعلهم أمة واحدة فاستوت حالهم ولم يتفرقوا يوم القيامة فريقين فلم يكن عند ذلك ما تقتضي النبوة والإنذار فلم يكن وحي لكنه تعالى لم يرد ذلك بل جرت سنته على أن يتولى أمر قوم منهم وهم غير الظالمين فيدخلهم الجنة وفي رحمته ، ولا يتولى أمر آخرين وهم الظالمون فيكونوا لا ولي لهم ولا نصير ويصيروا إلى السعير لا مخلص لهم من النار .
فقد تحصل مما تقدم أن المراد بجعلهم أمة واحدة هو التسوية بينهم بإدخال الجميع في الجنة وإدخال الجميع في السعير أي أنه تعالى ليس بملزم بإدخال السعداء في الجنة والأشقياء في النار فلولم يشأ لم يفعل لكنه شاء أن يفرق بين الفريقين وجرت سنته على ذلك ووعد بذلك وهولا يخلف الميعاد ومع ذلك فقدرته المطلقة باقية على حالها لم تنسلب ولم تتغير فقوله : {وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه} إلى تمام الآيتين في معنى قوله في سورة هود : {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس} إلى تمام سبع آيات فراجع وتدبر .
وقيل : المراد بجعلهم أمة واحدة جعلهم مؤمنين جميعا داخلين في الجنة ، قال في الكشاف : والمعنى ولوشاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان ولكنه شاء مشيئة حكمة فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بمن يشاء أ لا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين ، ويترك الظالمين بغير ولي ولا نصير في عذابه .
واستدل على ما اختاره من المعنى بقوله تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [السجدة : 13] وقوله : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } [يونس : 99] والدليل على أن المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان قوله : {أ فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} .
وفيه أن الآيات - كما عرفت مسوقة لتعريف الوحي من حيث غايته وأن تفرق في الناس يوم الجمع : فريقين سبب يستدعي وجود النبوة والإنذار من طريق الوحي ، وقوله : {ولوشاء الله لجعلهم أمة واحدة} مسوق لبيان أنه تعالى ليس بمجبر على ذلك ولا ملزم به بل له أن لا يفعل ، وهذا المعنى يتم بمجرد أن لا يجعلهم متفرقين فريقين بل أمة واحدة كيفما كانوا ، وأما كونهم فرقة واحدة مؤمنة بالخصوص فلا مقتضى له هناك .
وأما ما استدل به من الآيتين فسياقهما غير سياق الآية المبحوث عنها ، والمراد بهما غير الإيمان القسري الذي ذكره وقد تقدم البحث عنهما في الكتاب .
وقيل : إن الأنسب للسياق هو اتحادهم في الكفر بأن يراد جعلهم أمة واحدة كافرة كما في قوله : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة : 213] فالمعنى : ولوشاء الله لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولا ينذرهم فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ولكن يدخل من يشاء في رحمته أي شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم فيتأثر به من تأثر فيوفقهم الله للإيمان والطاعات في الدنيا ويدخلهم في رحمته في الآخرة ، ولا يتأثر به الآخرون وهم الظالمون فيعيشون في الدنيا كافرين ويصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولي ولا نصير .
وفيه أولا : أن المراد من كون الناس أمة واحدة في الآية المقيس عليها ليس هو اتفاقهم على الكفر بل عدم اختلافهم في الأمور الراجعة إلى المعاش كما تقدم في تفسير الآية ، ولو سلم ذلك أدى إلى التنافي البين بين المقيسة والمقيس عليها لدلالة المقيسة على التفرق وعدم الاتحاد دلالة المقيس عليها على ثبوت الاتحاد وعدم التفرق .
ولو أجيب عنه بأن المقيس عليها تدل على كون الناس أمة واحدة بحسب الطبع دون الفعلية فلا تنافي بين الآيتين ، رد بمنافاته لما دل من الآيات على كون الإنسان مؤمنا بحسب الفطرة الأصلية كقوله تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس : 7 ، 8] .
وثانيا : أن فيه إخراجا لقوله : {ولكن يدخل من يشاء في رحمته} عن المقابلة مع قوله : {والظالمون} إلخ من غير دليل ، ثم تكلف تقدير ما يفيد معناه ليحفظ به ما يقيده الكلام من المقابلة .
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص5-18 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
تكادُ السماوات يَتَفَطّرن !
مرة اُخرى تواجهنا الحروف المقطّعة في مطلع السورة ، وهي هنا تنعكس بشكل مفصل ، إذ بين أيدينا خمسة حروف .
«حم» موجودة في بداية سبع سور قرآنية (المؤمن ، فصلت ، الشورى ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، والأحقاف) ولكن في سورة الشورى أُضيف إليها مقطع (عسق) .
وقد ذكرنا مراراً أنّ للمفسّرين آراءاً وبحوثاً كثيرة حول هذه الحروف ، يجملها صاحب مجمع البيان العلاّمة الطبرسي في أحد عشر قولا ، وقد ذكرنا أهم تلك الأقوال في مطلع الحديث عن سور : البقرة ، آل عمران ، والأعراف ، ومريم ، وغضضنا الطرف عن غير المهم منها .
ونذكر الآن بعضاً لا بأس به من هذه الأقوال بالرغم من عدم قيام دليل قاطع على صحتها .
فمنها قولهم أنّ هذه الحروف جاءت كأُسلوب للفت أنظار الناس إلى القرآن ، لأنّ المشركين والمعاندين كانوا قد تواصوا فيما بينهم على عدم استماع آيات الله ، خاصّة عندما كان رسول الله يقرؤها عليهم ، إذ كانوا يثيرون الضوضاء ، لذلك جاءت الحروف المقطعة (في 29 سورة قرآنية) لتكون أسلوباً جديداً في جلب الإنتباه .
وقد ذكر العلاّمة الطباطبائي إحتمالا آخر يمكن أن نضيفه إلى ما استخلصه العلاّمة الطبرسي من الأقوال الأحد عشر ليكون المجموع اثنا عشر تفسيراً .
وما ذكره العلامة الطباطبائي وإن كان مثله مثل غيره من الأقوال ممّا لم يقم الدليل القاطع عليه ، إلاّ أنّه من المفيد أن نستعرضه بإيجاز .
يقول العلاّمة الطباطبائي : «إنك إن تدبرت بعض التدبُّر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات والراءات والطواسين والحواميم ، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين ، وتناسب السياقات ما ليس بينها وبين غيرها من السور» .
«ويؤكّد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ ، كما في مفتتح الحواميم من قوله : {تنزيل الكتاب من الله} أو ما هو في معناه ، وما في مفتتح الراءات من قوله : {تلك آيات الكتاب} أو ما في معناه ، ونظير ذلك في مفتتح الطواسين ، وما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه» .
«ويمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذه الحروف المقطعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطاً خاصاً ، ويؤيد ذلك ما نجده في سورة الأعراف المصدّرة بـ «المص» في مضمونها كأنّها جامعة بين مضامين الميمات وص
[أي ما افتتح بـ «ألم» و «ص»] وكذا سورة الرعد المصدّرة بـ «المر» في مضمونها كأنّها جامعة بين مضامين الميمات والراءات» .
«ولعلّ المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف ، وقايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها إلى بعض ، لتبيّن له الأمر أزيد من ذلك» (2) .
وثمّة تفسير آخر أشرنا إليه سابقاً ، وهو احتمال أن تكون هذه الحروف إشارات ورموزاً لأسماء الخالق ونعمه وقضايا اُخرى .
مثلا ، في السورة التي نبحثها اعتبروا الحاء إشارة إلى الرحمن ، والميم إلى المجيد ، والعين إلى العليم ، والسين إلى القدوس ، والقاف إلى القاهر (3) .
يعترض البعض على هذا الكلام بقولهم : لوكان المقصود من الحروف المقطعة أن لا يعلم بها الآخرون فإنّ ذلك غير صحيح ، لأنّ هناك آيات اُخرى تصرّح بأسماء الله ، ولكن يجب الإنتباه إلى أنّ الرموز والإشارات لا تعني دائماً أن يبقى الموضوع أو المعنى سرّياً ، بل قد تكون أحياناً علامة للإختصار ، وهذا الأمر كان موجوداً سابقاً ، وهو مشهور في عصرنا الراهن ، بحيث أنّ أسماء العديد من المؤسسات والمنظمات الكبيرة ، تكون على شكل مجموعة مختصرة من الحروف المقطّعة التي يرمز كلُّ منها إلى جزء من الاسم الأصيل .
بعد الحروف المقطعة تتحدث الآية الكريمة عن الوحي ، فتقول : {كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} .
«كذلك» إشارة إلى محتوى السورة ومضامينها .
ومصدر الوحي واحد ، وهو علم الله وقدرته ، ومحتوى الوحي في الأصول والخطوط العريضة واحد أيضاً بالنسبة لجميع الأنبياء والرسالات ، بالرغم من أنّ هناك خصوصيات بين دعوة نبي وآخر بحسب حاجة الزمان والمسيرة التكاملية للبشر (4) .
وضروري أن نشير إلى أنّ الآيات التي نبحثها أشارت إلى سبع صفات من صفات الله الكمالية ، لكل منها دور في قضية الوحي بشكل معين ، ومن ضمنها الصفتان اللتان نقرؤهما في هذه الآية : {العزيز الحكيم} .
فعزته تعالى وقدرته المطلقة تقتضي سيطرته على الوحي ومحتواه العظيم . وحكمته تستوجب أن يكون الوحي الإلهي حكيماً متناسقاً مع حاجات الإنسان التكاملية في جميع الأمور والشؤون .
وتعبير «يوحى» دليل على استمرار الوحي منذ خلق الله آدم (عليه السلام) حتى عصر النّبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الفعل المضارع يفيد الإستمرار .
قوله تعالى : {له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم} .
إنّ مالكيته تعالى لما في السماء والأرض تستوجب ألاّ يكون غريباً عن مخلوقاته وما يؤول إليه مصيرها ، بل يقوم بتدبير أُمورها وحاجاتها عن طريق الوحي ، وهذه هي الصفة الثّالثة من الصفات السبع .
أمّا «العليّ» و«العظيم» اللذان هما رابع وخامس صفة لهُ (سبحانهُ وتعالى) في هذه الآيات ، فهما يشيران إلى عدم حاجته لأي طاعة أو عبودية من عباده ، وإنّما قام تعالى بتدبير أمر العباد عن طريق الوحي من أجل أن ينعم على عباده .
الآية التي بعدها تضيف : {تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن} (5) وذلك بسبب نزول الوحي من قبل الله ، أو بسبب التُهم الباطلة التي كان المشركون والكفّار ينسبونها إلى الذات المقدسة ويشركون الأصنام في عبادته .
ويتّضح ممّا سلف أنّ للجملة معنيين :
الأوّل : أنّها تختص بموضوع الوحي الذي هو حديث الآيات السابقة ، وهو في الواقع يشبه ما جاء في الآية (21) من سورة «الحشر» في قوله تعالى : {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [الحشر : 21] .
إنّه كلام الله الذي يزلزل السماوات عند نزوله وتكاد تتلاشى ، فلو أنّه نزل على الجبال لتصدّعت ، لأنّه كلام عظيم من خالق حكيم .
والويل لقلب الإنسان ، فهو الوحيد الذي لا يلين ولا يستسلم ، ويصر على عناده وتكبره .
التّفسير الثّاني : أنّ السماوات تكاد تتفطّر وتتلاشى بسبب شرك المشركين وعبادتهم للأصنام من دون الله ، بل هم يساوون بين أدنى الكائنات والموجودات وبين المبدأ العظيم خالق الكون جلَّ وعلا .
التّفسير الأوّل يناسب الآيات التي نبحثها والتي تنصب حول الوحي والتّفسير الثّاني يناسب ما نقرؤه في الآيتين (90 ، 91) من سورة «مريم» حيثُ يقول تعالى بعد أن يذكر قول الكفار ـ وقبح قولهم ـ باتخاذه ولداً(!!) : {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم : 90 ، 91] .
ومن الواضح أن ليس ثمّة تعارض بين التّفسيرين .
أمّا عن كيفية انفطار السماوات وانهدام الجبال وهي موجودات جامدة ، فقد ذكروا كلاماً وأقوالا متعدّدة في الموضوع تعرضنا لهافي نهاية حديثنا عن الآيتين المذكورتين من سورة مريم .
وإذا أردنا أن نقف على استخلاص عام لما قلناه هناك ، فيمكن أن نلاحظ أنّ مجموعة عالم الوجود من جماد ونبات وغير ذلك لها نوع من العقل والشعور ، بالرغم من عدم إدراكنا له ، وهم على هذا الأساس يسبحون الله ويحمدونه ، ويخضعون له ويخشعون لكلامه .
أوأن يكون التعبير كناية عن عظمة وأهمية الموضوع ، مثلما نقول مثلا : إنّ الحادثة الفلانية كانت عظيمة جدّاً وكأنّما انطبقت معها السماء على الأرض .
بقية الآية ، قوله تعالى : {والملائكة يسبحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض} .
أمّا الرابطة بين هذا الجزء من الآية والجزء الذي سبقه ، فهو وفقاً للتفسير الأوّل ـ أنّ الملائكة الذين هم حملة الوحي العظيم وواسطته ، يسبحون ويحمدون الله دائماً ، يحمدونه بجميع الكمالات ، وينزهونه عن جميع النواقص ، وعندما ينحرف المؤمنون أحياناً ، تقوم الملائكة بنصرهم ويطلبون المغفرة لهم من الله تعالى .
أمّا وفق التّفسير الثّاني ، فإنّ تسبيح الملائكة وحمدهم إنّما يكون لتنزيهه تعالى عما ينسب إليه من شرك ، وهم يستغفرون كذلك للمشركين الذين آمنوا وسلكوا طريق التوحيد ورجعوا إلى بارئهم جلّ جلاله .
وعندما تستغفر الملائكة لمثل هذا الذنب العظيم لدى المؤمنين ، فهي حتماً ـ ومن باب أولى ـ تستغفر لجميع ما لهم من ذنوب اُخرى . وقد يكون الإطلاق في الآية لهذا السبب بالذات .
نقرأ نظيراً لهذه البشرى العظيمة في الآية (7) من سورة المؤمن في قوله تعالى : {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر : 7] .
وأخيراً تشير نهاية الآية الكريمة إلى سادس وسابع صفة من صفات الله تبارك وتعالى ، وتنصب حول الغفران والرحمة ، وتتصل بقضية الوحي ومحتواه ، وبخصوص وظائف المؤمنين ، حيث يقول تعالى : {ألا إنّ الله هو الغفور الرحيم} .
وبهذا الترتيب أتمّت الآيات الكريمات الإشارة إلى مجموعة متكاملة من الأسماء الحسنى المختصة بالله تعالى والمرتبطة بالوحي .
وفي نهاية الآية ثمّة إشارة لطيفة إلى استجابة دعاء الملائكة بخصوص استغفارهم للمؤمنين ، بل أنّه تعالى يضيف الرحمة إلى صفة الغفور ممّا يدل على عظيم فضله .
أمّا عن مسألة الوحي فسيكون لنا كلام مفصل في نهاية هذه السورة إن شاء الله عندما نتحدّث عن الآيتين(51 ، 52) .
وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى : 6 - 8] .
انطلاقة من «أم القرى» :
تحدثت الآيات السابقة عن قضية الشرك ، لذلك فإنّ الآية الأولى في المجموعة الجديدة ، تتناول بالبحث نتيجة عمل المشركين وعاقبة أمرهم حيث يقول تعالى : (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم) .
حتى يحاسبهم في الوقت المناسب ، ويعاقبهم جزاء أعمالهم .
ثم تخاطب الآية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى : (وما أنت عليهم بوكيل) إنّ مسؤوليتك هي تبليغ الرسالة وإيصال نداء الله الى جميع العباد .
وثمّة في كتاب الله آيات اُخرى تشير إلى هذا المعنى :
قوله تعالى : { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية : 22] .
قوله تعالى : {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق : 45] .
قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } [الأنعام : 107] .
قوله تعالى : {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ } [المائدة : 99] .
إنّ هذه الآيات تبيّن حقيقة حرية العباد واختيارهم الطريق الذي يريدونه بإرادتهم وحريتهم ، لأنّ القيمة الحقيقة للإيمان والعمل الصالح تكمن في حرية الإختيار ، وليس للإيمان أو العمل الإجباري أي قيمة معنوية .
يعود القرآن إلى قضية الوحي مرّةً اُخرى ، وإذا كانت الآيات السابقة قد تحدّثت عن أصل الوحي ، فإنّ الكلام هنا ينصب حول الهدف النهائي له ، إذ يقول تعالى : {وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أُمّ القرى ومن حوله} و «اُمّ القرى» هي مكّة المكرمة ، ثمّ تنذر الناس من يوم القيامة وهو يوم الجمع الذي يجتمع فيه الناس للحساب والجزاء : {وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه} .
وفي ذلك اليوم ينقسم الناس إلى مجموعتين : {فريق في الجنّة وفريق في السعير} .
وقد يكون التعبير بـ «كذلك» إشارة إلى أنّهُ مثلما أوحينا إلى الأنبياء السابقين بلسانهم ، فإنّنا كذلك أوحينا إليك بلسانك ، هذا القرآن العربي .
وعليه تكون «كذلك» إشارة إلى : {وإلى الذين من قبلك} .
ويمكن أن تكون إشارة إلى ما بعدها ، يعني أنّا أوحيناه إليك بهذه الصورة قرآناً عربياً يهدف إلى الإنذار .
صحيح أنّنا نستفيد من نهاية الآية أيّ من قوله تعالى : {فريق في الجنّة وفريق في السعير} أنّ مسؤولية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هي التبشير والإنذار ، ولكن بسبب ما للإنذار من تأثير أعمق في نفوس الأفراد المعاندين والجهلة ، لذا فإنّ الآية استندت إلى «الإنذار» مرّتين فقط ، مع اختلاف بينهما ، إذ أنّ الكلام شمل في المرحلة الأولى إنذار المستمعين ، بينما شمل في الثانية تخويفهم من شيء يجب أن يخافوه ، يعني القيامة وما فيها من حساب وفضيحة ستكون مؤلمة وصعبة للغاية ، بسبب حضور الأشهاد والملائكة والناس (6) .
وقد يتساءل البعض هنا : إنّنا نستفيد من قوله تعالى : {لتنذر أم القرى ومن حولها} أنّ الهدف من نزول القرآن هو لإنذار أهل مكّة وأطرافها . أفلا يتنافى هذا المعنى مع مفهوم عالمية الإسلام ؟
الجواب على هذا الإستفهام يتمّ من خلال ملاحظة المعنى الذي تستبطنه (أُمّ القرى) .
إنّ كلمة «أُمّ القرى» وهي أحد أسماء مكّة المكرّمة ، مؤلّفة من كلمتين هما : «أُمّ» وتعني في الأصل الأساس والبداية في كلّ شيء ، ولهذا السبب تسمى الأُمّ بهذا الأسم لأنّها أساس وأصل الأبناء .
ثمّ كلمة «قرى» جمع «قرية» بمعنى أي منطقة معمورة أو مدينة ، سواء كانت المدينة كبيرة أم صغيرة ، أو مجرّد قرية .
وفي القرآن الكريم ثمّة أدلة كثيرة على هذا المعنى .
والآن لنرَ لماذا سمّيت «مكّة» بأُمّ القرى ؟
الرّوايات الإسلامية تصرّح بأنّ الأرض كانت في البداية مغطاة جميعها بالماء ، ثمّ بدأت اليابسة تظهر بشكل تدريجي من تحت هذه المياه . {تؤيد النظريات العلمية الآن هذا المعنى} .
ثمّ تخبرنا الرّوايات بأنّ منطقة الكعبة كانت أوّل منطقة ظهرت من تحت الماء ، ثمّ بدأت اليابسة بالإتساع من جوار الكعبة ، ويعرف ذلك بدحو الأرض .
وهكذا يتّضح أن مكّة هي أصل وأساس لجميع القرى والمدن على سطح الأرض ، لذا فمتى قيل (أُمّ القرى ومن حولها) فالمعنى سيشمل جميع الناس على سطح الكرة الأرضية (7) .
مضافاً إلى ذلك ، نحن نعرف أنّ الإسلام بدأ بالانتشار تدريجياً ، ففي البداية أمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإنذار المقرّبين إليه ، كما ورد في قوله تعالى : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء : 214] كي تتقوى قاعدة الإسلام وتصلب نواته ، ويكون أكثر قدرة واستعداداً للإنتشار .
ثم جاءت المرحلة الثانية المتمثلة بإنذار العرب ، كما ورد في قوله تعالى : {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [فصلت : 3](8) .
وكذلك في قوله تعالى : {وإنّه لذكر لك ولقومك} .
وعندما ترسخت أعمدة الإسلام بين هؤلاء القوم ، وقوي عوده أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأوسع من ذلك ، أن ينذر العالم والناس كافة ، كما نقرأ في أوّل سورة الفرقان في قوله تعالى : {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} وفي آيات اُخرى .
وبسبب هذا التكليف قام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بإرسال الرسائل إلى زعماء العالم خارج الجزيرة العربية ، ودعا كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم إلى الإسلام .
ووفق هذه التعليمات قام أتباعه من بعده بالدعوة إلى الإسلام في مختلف بقاع العالم ، ونشروا تعاليم الإسلام في جميع أرجاء المعمورة .
أمّا لماذا سمّي يوم القيامة بيوم الجمع؟ فهناك أقوال مختلفة منها :
بسبب ما يكون فيه من جمع بين الأرواح والأجساد .
أو بسبب الجمع بين الإنسان وعمله .
أو بسبب الجمع بين الظالم والمظلوم .
ولكن يظهر أنّ السبب يتمثل في الجمع بين الخلائق من الأولين والآخرين كما نقرأ ذلك واضحاً في قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الواقعة : 49 ، 50] .
وبما أن قوله تعالى : {فريق في الجنّة وفريق في السعير} يقسّم الناس إلى فئتين ، فإنّ الآية التي بعدها تضيف : {ولوشاء الله لجعلهم أمة واحدة} على الهداية .
إلاّ أنّ الإيمان الإجباري ليست له قيمة ، وكيف يمكن لمثل هذا الإيمان أن يكون معياراً للكمال الإنساني؟
إنّ التكامل الحقيقي هو أن يسير الإنسان بإرادته وبمنتهى الإختيار والحرية .
إنّ الآيات القرآنية مليئة بأدلة حرية الإنسان ، ومثل هذا الإختيار هوما يميّز الإنسان عادة عن غيره من الكائنات الأُخرى ، وإذا سلبت منه إرادته واختياره فكأنما سلبت منهُ إنسانيتهُ .
وكما أن سمة الحرية والإختيار طريق إلى التكامل ، فهي أيضاً سنّة إلهية لا قبل التغيير .
ولكن العجيب أمر البعض الذين ما زالوا على عقيدة الجبر ، وهم يدعون أتباعهم للأنبياء ، في حين أنّ قبول الجبر يساوي في الواقع نفي مضمون دعوة جميع الأنبياء ، فلا معنى للتكليف حينئذ ، ولا للحساب والسؤال والجواب ، ولا النصيحة والموعظة ، وبشكل أولى الثواب والعقاب !
ومع عقيدة الجبر لا معنى لتردُّد الإنسان في أعماله ، ولا معنى لندمه وعزيمته على تصحيح الأخطاء !
تشير الآية بعد ذلك إلى وصف أهل الجنّة والسعادة حيال أهل النّار ، فيقول تعالى : {ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير} .
وعندما يشخّص أهل النّار بوصف «الظلم» فيبيّن أنّ المراد من «من يشاء» في الجملة الأولى هم المجموعة التي لا ترتكب الظلم .
وعلى هذا الأساس يكون أهل العدل هم أصحاب الجنّة في مقابل أهل الظلم الذي هم أهل النّار .
ولكن ينبغي الإنتباه إلى أنّ «ظالم» هنا ، وفي العديد من الآيات القرآنية الأُخرى لها معنى واسع ولا تشمل الذين يظلمون غيرهم فقط ، بل تشمل الذين يظلمون أنفسهم أيضاً ، وتشمل المنحرفين عقائدياً ، وهل هناك ظلم أعلى من الشرك والكفر؟
يقول لقمان لابنه وهو يعظه : {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13] .
وفي آية اُخرى نقرأ قوله تعالى : {ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون} .
وقال بعضهم في الفرق بين «ولي» و«نصير» أنّ «الولي» الذي يقوم بمساعدة الإنسان دون طلبه . أما النصير فأعم من ذلك (9) .
ويحتمل أن تشير كلمة «ولي» إلى المشرف الذي يقوم بالحماية والمساعدة بحكم ولايته ودون أي طلب .
أمّا «النصير» فالذي يقوم بنصر الإنسان ومساعدته بعد أن يطلب العون .
___________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص233-243 .
2 ـ الميزان ، للعلاّمة محمد حسين الطباطبائي ، المجد18 ، صفحة 8 ـ 9 .
3 ـ يستفاد هذا التّفسير عن حديث للإمام الصادق(عليه السلام) . يراجع تفسير القرطبي ، المجلد 9 ، صفحة 5822 .
4 ـ بالرغم من الكلام الكثير للمفسّرين حول المشار إليه في اسم الإشارة «كذلك» لكن يظهر أنّ المشار إليه هو نفس هذه الآيات النازلة على النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لذا يكون مفهوم الآية : إنّ الوحي هو بهذا الشكل الذي أنزله الله عليك وعلى الأنبياء السابقين ، وقد استخدم اسم الإشارة للبعيد بالرغم من قرب المشار إليه ، وذلك للتعظيم والإحترام .
5 ـ «يتفطرن» من كلمة «فطر» على وزن «سطر» وتعني في الأصل الشق الطولي .
6 ـ ينبغي الإنتباه ، إلى أنّ (تنذر) تتعدى إلى مفعولين ، وفي الآية مورد البحث ذكر مفعولها الأوّل في الجملة الأولى ، والثّاني في الجملة الثانية . وقد يصحب المفعول الثّاني بالباء فيقال : أنذره بذلك .
7 ـ جاء هذا التعبير في سورة الأنعام كذلك الآية (92) وقد ذكرنا هناك توضيحاً أوسع ، فليراجع .
8 ـ فصلت ، الآية 3 ، إنّ ما قلناه هو في حال اعتبارنا كلمة (عربي) بمعنى اللغة العربية ، أمّا إذا فسرناها بالمعنى الفصيح فسيكون للآية مفهوم آخر .
9 ـ يلاحظ ذلك في مجمع البيان ، المجلد 8 ، صفحة 779 . ذيل الآية (22) من العنكبوت .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|