أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-8-2020
5349
التاريخ: 23-8-2020
3307
التاريخ: 22-8-2020
3196
التاريخ: 16-8-2020
48790
|
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 61 - 65]
ذكر سبحانه قصة آدم (عليه السلام) وإبليس فقال: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} قد مر تفسيره في سورة البقرة { قال } إبليس: { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} وهو استفهام بمعنى الإنكار أي كيف أسجد له وأنا أفضل منه وأصلي أشرف من أصله وفي هذا دلالة على أن إبليس فهم من ذلك تفضيل آدم على الملائكة ولولا ذلك لما كان لامتناعه من السجود وجه وإنما جاز أن يأمرهم سبحانه بالسجود لآدم (عليه السلام) ولم يجز أن يأمرهم بالعبادة له لأن السجود يترتب في التعظيم حسب ما يراد به وليس كذلك العبادة التي هي خضوع بالقلب ليس فوقه خضوع لأنه يترتب في التعظيم لجنسه يبين ذلك أنه لوسجد ساهيا لم يكن له منزلة في التعظيم على قياس غيره من أفعال الجوارح.
{ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أي: قال إبليس أ رأيت يا رب هذا الذي فضلته علي يعني آدم (عليه السلام) { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي: لئن أخرت أجل موتي { لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} أي: لأغوين ذريته وأقودنهم معي إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحنكها إذا شد فيها حبل تجر به إلا القليل الذين تعصمهم وهم المخلصون عن أبي مسلم وقيل: لأحتنكنهم أي: لأستولين عليهم عن ابن عباس وقيل: لأستاصلنهم بالإغواء من احتناك الجراد الزرع وهو أن يأكله ويستأصله عن الجبائي وإنما طمع الملعون في ذلك لأن الله سبحانه أخبر الملائكة أنه سيجعل في الأرض من يفسد فيها فكأن العلم قد سبق له بذلك عن الجبائي وقيل: لأنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فقال: إن أولاده أضعف منه عن الحسن.
{ قال } الله سبحانه له على وجه الاستهانة والاستصغار { اذهب } يا إبليس { فمن تبعك منهم } أي: من ذرية آدم (عليه السلام) واقتفى أثرك وقبل منك { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا } أي: موفرا كاملا لا نقصان فيه عن الاستحقاق { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي: واستزل من استطعت منهم أضلهم بدعائك ووسوستك من قولهم صوت فلان بفلان إذا دعاه وهذا تهديد في صورة الأمر عن ابن عباس ويكون كما يقول الإنسان لمن يهدده اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك وإنما جاء التهديد في صورة الأمر لأنه بمنزلة أن يؤمر الغير بإهانة نفسه وقيل بصوتك أي بالغناء والمزامير والملاهي عن مجاهد وقيل كل صوت يدعى به إلى الفساد فهومن صوت الشياطين { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } أي: أجمع عليهم ما قدرت عليه من مكايدك وأتباعك وذريتك وأعوانك وعلى هذا فيكون الباء مزيدة في بخيلك وكل راكب أوماش في معصية الله من الإنس والجن فهو من خيل إبليس ورجله وقيل هو من أجلب القوم وجلبوا أي صاحوا أي صح بخيلك ورجلك واحشرهم عليهم بالإغواء { وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} وهو كل مال أصيب من حرام وأخذ بغير حقه وكل ولد زنا عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقيل: إن مشاركتهم في الأموال أنه أمرهم أن يجعلوها سائبة وبحيرة وغير ذلك وفي الأولاد أنهم هودوهم ونصروهم ومجسوهم عن قتادة وقيل: إن كل مال حرام أوفرج حرام فله فيه شرك عن الكلبي وقيل إن المراد بالأولاد تسميتهم عبد شمس وعبد الحرث ونحوهما وقيل هو قتل الموءودة من أولادهم والقولان مرويان عن ابن عباس.
{ وعدهم } أي: ومنهم البقاء وطول الأمل وأنهم لا يبعثون وكل هذا زجر وتهديد في صورة الأمر { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} هذا إخبار من الله عز وجل أن مواعيد الشيطان تكون غرورا أي يزين لهم الخطأ أنه صواب وهو اعتراض { إن عبادي } يعني الذين يطيعونني أضافهم إلى نفسه تشريفا لهم { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي: قوة ونفاذ لأنهم يعلمون أن مواعيدك باطلة فلا يغترون بها وقيل معناه لا سلطان لك على جميع عبادي إلا في الوسوسة والدعاء إلى المعصية فأما في أن تمنعهم عن الطاعة وتحملهم على المعصية جبرا وكرها فلا عن الجبائي { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} أي: حافظا لعباده من شرك .
_______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي، ج6،ص268-270.
2- راجع الجزء الاول من هذا التفسير .
{ وإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } تقدم مع التفسير في الآية 34 من البقرة ج 1 ص 82 ، والآية 11 من الأعراف ج 3 ص 307 .
تقديم الأفضل على المفضول :
{ قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } إبليس يحتجّ بصلف ووقاحة ، ويقول للعلي الأعلى : من هو هذا الذي فضلته علي ؟ . وبأي شيء جعلته أكرم وأكمل ؟ .
بل العكس هو الصحيح { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } - 12 الأعراف . . برر الخبيث منطقه بأمر أرسله إرسال المسلَّمات ، وهو أنه أفضل وأكمل ، وإذا كان إبليس أفضل فكيف يسجد للمفضول أي لمن هو دونه . .
أليس معنى الأمر بالسجود لآدم ان المفضول مقدم عند اللَّه على الأفضل ، وغير الأكمل على الأكمل ؟ .
وقد غالط إبليس في منطقه هذا لأنه ليس أفضل من آدم ، بل العكس هو الصحيح ، بل لا فضل له ولا فيه على الإطلاق ، وعليه فان اللَّه لم يقدم المفضول كما زعم إبليس . . وأي عقل يجيز على اللَّه أن يقرب الأبعد ، ويبعد الأقرب ؟ .
وقد خفيت هذه الحقيقة على المعتزلة والأشاعرة ، حيث قالوا : يجوز تقديم المفضول على الأفضل ( المواقف ج 8 ص 373 ) .
وقال الأشاعرة : ان العقل يجيز على اللَّه أن يعاقب المطيع ، ويثيب العاصي لأنه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء ( المواقف ج 8 ص 195 ) .
أما الشيعة الإمامية فقالوا : ان العقل لا يجيز على اللَّه ان يعاقب المحسن ، ويجيز عليه العفوعن المسئ ، تماما كما يجوز لصاحب الحق أن يعفوعنه كلا أوبعضا . وقالوا أيضا : لا يجيز العقل تقديم المفضول لأنه في رتبة أدنى ، والأفضل في رتبة أعلى بحسب الترتيب الطبيعي ، فجعل الأعلى أدنى ، والأدنى أعلى مخالف لمنطق العقل والطبيعة .
{ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً } . إبليس يهدد بالانتقام لنفسه من ذرية آدم لا لشيء إلا لأن اللَّه كرمه عليه ، ينتقم منهم بأن يقودهم معه إلى معصية اللَّه ، كما تقاد الدابة بحنكها إلا القليل منهم ، وهم من آمن وأخلص . .
ثم يطلب إبليس من اللَّه أن يمهله ويمد في حياته ليغوي ويفسد ، فاستجاب اللَّه لطلبه و{ قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً } . لما هدد إبليس باغواء الآدميين هدده اللَّه ومن اتبعه من الغاوين ، وقال له : افعل ما شئت وليتبعك في الضلالة والغواية من أراد ، فاني لا أكره أحدا على طاعة ولا معصية . . وأزود الجميع بالقدرة والعقل والإرادة ، وأبين لهم طريق الخير وطريق الشر ، أنهي عن هذا وآمر بذاك ، فمن امتثل وأطاع فان الجنة هي المأوى ، ومن تمرد وعصى فان جهنم مثوى للعاصين يجزون فيها جزاء تاما ، لا نقصان فيه عما يستحقون .
{ واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ } .
استفزز استخف واستنهض ، والجلبة الصياح . . ولا جنود حقيقة لإبليس ، بعضهم راكب ، وبعضهم راجل ، وانما هذا كناية عن المفسدين وأرباب الأهواء ، والخائنين والعملاء . وفي نهج البلاغة ، { احذروا ان يستفزكم - الشيطان - بندائه وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد وأغرق لكم بالنزع الشديد } . وقال الشيخ محمد عبده معلقا على ذلك بقوله : { يستفزكم يستنهضكم لما يريد ، فان تباطأتم عليه أجلب عليكم بخيله ورجله ، والمراد بهم أعوان السوء } . وتقدم نظير ذلك في سورة الأعراف ، الآية 84 وما بعدها ج 3 ص 308 . واجبنا هناك عن ثلاثة تساؤلات ، وهي :
هل خاطب اللَّه إبليس مباشرة أوبالواسطة ؟ . وهل الغواية من اللَّه أومن إبليس ؟ . ولما ذا أمهله اللَّه وهو يعلم أن في إمهاله فسادا وإفسادا ؟ . فراجع .
{ وشارِكْهُمْ فِي الأَمْوالِ والأَوْلادِ } . المشاركة في الأموال كناية عن كل مال يؤخذ من غير حق ، كالسلب والنهب والربا والغش وثمن الخيانة والعمالة ، أوينفق في غير وجهه ، كالاسراف وفي الخمر والميسر والمظاهر الفارغة ، أما المشاركة في الأولاد فهي كناية عن الزنا وقتل الأولاد خوف الفقر والعار ، وتربيتهم تربية فاسدة { وعِدْهُمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً } . ووعد الغرور هو إلباس الباطل ثوب الحق ، والخطأ لباس الصواب ، مثل أن يوسوس الشيطان لمن يؤمن باللَّه واليوم الآخر ، ويقول له : لا تخف من المعصية فان اللَّه كريم وغفار . .
وما زلت في مقتبل العمر ، وغدا تستغفر وتتوب . . وفي بعض الأخبار أن إبليس وسوس لعابد من بني إسرائيل أن يذنب ويتوب ليقوى على العبادة .
{ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } . تقدم مع التفسير في سورة الحجر الآية 42 .
______________
التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 61-63.
قوله تعالى:{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} قال في المجمع،: قال الزجاج: طينا منصوب على الحال بمعنى أنك أنشأته في حال كونه من طين، ويجوز أن يكون تقديره من طين فحذف{من} فوصل الفعل، ومثله قوله:{أن تسترضعوا أولادكم} أي لأولادكم وقيل: إنه منصوب على التميز. انتهى.
وجوز في الكشاف، كونه حالا من الموصول لا من المفعول{خلقت} كما قاله الزجاج، وقيل: إن الحالية على أي حال خلاف الظاهر لكون{طينا} جامدا.
وفي الآية تذكير آخر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقصة إبليس وما جرى بينه وبين الله سبحانه من المحاورة عند ما عصى أمر السجدة ليتثبت فيما أخبره الله من حال الناس أنهم لم يزالوا على الاستهانة بأمر الله والاستكبار عن الحق وعدم الاعتناء بآيات الله ولن يزالوا على ذلك فليذكر قصة إبليس وما عقد عليه أن يحتنك ذرية آدم وسلطه الله يومئذ على من أطاعه من بني آدم واتبع دعوته ودعوة خيله ورجله ولم يستثن في عقده إلا عباده المخلصين.
فالمعنى: واذكر إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس - فكأنه قيل: فما ذا صنع؟ أو فما ذا قال؟ إذ لم يسجد؟ فقيل: إنه أنكر الأمر بالسجدة وقال أ أسجد - والاستفهام للإنكار - لمن خلقته من طين وقد خلقتني من نار وهي أشرف من الطين.
وفي القصة اختصار بحذف بعض فقراتها، والوجه فيه أن السياق اقتضى ذلك فإن الغرض بيان العلل والعوامل المقتضية لاستمرار بني آدم على الظلم والفسوق فقد ذكر أولا أن الأولين منهم لم يؤمنوا بالآيات المقترحة والآخرون بانون على الاقتداء بهم ثم ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن هناك من الفتن ما سيفتنون به ثم ذكره بما قصه عليه من قصة آدم وإبليس وفيها عقد إبليس أن يغوي ذرية آدم وسؤاله أن يسلطه الله عليهم وإجابته تعالى إياه على ذلك في الغاوين فليس بمستبعد أن يميل أكثر الناس إلى سبيل الضلال وينكبوا على الظلم والطغيان والإعراض عن آيات الله وقد أحاطت بهم الفتنة الإلهية من جانب والشيطان بخيله ورجله من جانب.
قوله تعالى:{ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} الكاف في{أ رأيتك} زائدة لا محل لها من الإعراب وإنما تفيد معنى الخطاب كما في أسماء الإشارة، والمراد بقوله:{هذا الذي كرمت علي} آدم (عليه السلام) وتكريمه على إبليس تفضيله عليه بأمره بالسجدة ورجمه حيث أبى.
ومن هنا يظهر أنه فهم التفضيل من أمر السجدة كما أنه اجترى على إرادة إغواء ذريته مما جرى في محاورته تعالى الملائكة من قولهم:{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}: البقرة: 30، وقد تقدم في تفسير الآية ما ينفع هاهنا.
والاحتناك على ما في المجمع، - الاقتطاع من الأصل، يقال: احتنك فلان ما عند فلان من مال أوعلم إذا استقصاه فأخذه كله، واحتنك الجراد المزرع إذا أكله كله وقيل: إنه من قولهم: حنك الدابة بحبلها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به، والظاهر أن المعنى الأخير هو الأصل في الباب، والاحتناك الإلجام.
والمعنى: قال إبليس بعد ما عصى وأخذه الغضب الإلهي رب أرأيت هذا الذي فضلته بأمري بسجدته ورجمي بمعصيته أقسم لئن أخرتني إلى يوم القيامة وهو مدة مكث بني آدم في الأرض لألجمن ذريته إلا قليلا منهم وهم المخلصون.
قوله تعالى:{ قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} قيل: الأمر بالذهاب ليس على حقيقته وإنما هو كناية عن تخليته ونفسه كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد، وقيل: الأمر على حقيقته وهو تعبير آخر لقوله في موضع آخر:{اخرج منها فإنك رجيم} والموفور المكمل فالجزاء الموفور الجزاء الذي يوفى كله ولا يدخر منه شيء، ومعنى الآية واضح.
قوله تعالى:{ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} إلى آخر الآية الاستفزاز الإزعاج والاستنهاض بخفة وإسراع، والإجلاب كما في المجمع، السوق بجلبة من السائق والجلبة شدة الصوت، وفي المفردات،: أصل الجلب سوق الشيء يقال: جلبت جلبا قال الشاعر:{وقد يجلب الشيء البعيد الجواب} وأجلبت عليه صحت عليه بقهر، قال الله عز وجل:{ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} انتهى.
والخيل - على ما قيل - الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه ويطلق على الفرسان مجازا، والرجل بالفتح فالكسر هو الراجل كحذر وحاذر وكمل وكامل وهو خلاف الراكب، وظاهر مقابلته بالخيل أن يكون المراد به الرجالة وهم غير الفرسان من الجيش.
فقوله:{ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي استنهض للمعصية من استطعت أن تستنهضه من ذرية آدم - وهم الذين يتولونه منهم ويتبعونه كما ذكره في سورة الحجر - بصوتك، وكأن الاستفزاز بالصوت كناية عن استخفافهم بالوسوسة الباطلة من غير حقيقة، وتمثيل بما يساق الغنم وغيره بالنعيق والزجر وهو صوت لا معنى له.
وقوله:{ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي وصح عليهم لسوقهم إلى معصية الله بأعوانك وجيوشك فرسانهم ورجالتهم وكأنه إشارة إلى أن قبيله وأعوانه منهم من يعمل ما يعمل بسرعة كما هو شأن الفرسان في معركة الحرب ومنهم من يستعمل في غير موارد الحملات السريعة كالرجالة، فالخيل والرجل كناية عن المسرعين في العمل والمبطئين فيه وفيه تمثيل نحو عملهم.
وقوله:{ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} الشركة إنما يتصور في الملك والاختصاص ولازمه كون الشريك سهيما لشريكه في الانتفاع الذي هو الغرض من اتخاذ المال والولد فإن المال عين خارجي منفصل من الإنسان وكذا الولد شخص إنساني مستقل عن والديه، ولو لا غرض الانتفاع لم يعتبر الإنسان مالية لمال ولا اختصاص بولد.
فمشاركة الشيطان للإنسان في ماله أو ولده مساهمته له في الاختصاص والانتفاع كأن يحصل المال الذي جعله الله رافعا لحاجة الإنسان الطبيعية من غير حله فينتفع به الشيطان لغرضه والإنسان لغرضه الطبيعي، أو يحصله من طريق الحل لكن يستعمله في غير طاعة الله فينتفعان به معا وهو صفر الكف من رحمة الله وكأن يولد الإنسان من غير طريق حله أو يولد من طريق حله ثم يربيه تربية غير صالحة ويؤدبه بغير أدب الله فيجعل للشيطان سهما ولنفسه سهما، وعلى هذا القياس.
وهذا وجه مستقيم لمعنى الآية وجامع لما ذكره المفسرون في معنى الآية من الوجوه المختلفة كقول بعضهم الأموال والأولاد التي يشارك فيها الشيطان كل مال أصيب من حرام وأخذ من غير حقه وكل ولد زنا كما عن ابن عباس وغيره.
وقول آخر: إن مشاركته في الأموال أنه أمرهم أن يجعلوها سائبة وبحيرة وغير ذلك وفي الأولاد أنهم هودوهم ونصروهم ومجسوهم كما عن قتادة.
وقول آخر: إن كل مال حرام وفرج حرام فله فيه شرك كما عن الكلبي، وقول آخر: إن المراد بالأولاد تسميتهم عبد شمس وعبد الحارث ونحوهما، وقول آخر: هو قتل الموءودة من أولادهم كما عن ابن عباس أيضا، وقول آخر: إن المشاركة في الأموال الذبح للآلهة كما عن الضحاك إلى غير ذلك مما روي عن قدماء المفسرين.
وقوله:{ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} أي ما يعدهم إلا وعدا غارا بإظهار الخطإ في صورة الصواب والباطل على هيئة الحق فالغرور مصدر بمعنى اسم الفاعل للمبالغة.
قوله تعالى:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} المراد بعبادي أعم من المخلصين الذين استثناهم إبليس بقوله:{إلا قليلا} بل غير الغاوين من اتباع إبليس كما قال في موضع آخر:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}: الحجر: 42 والإضافة للتشريف.
وقوله:{ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} أي قائما على نفوسهم وأعمالهم حافظا لمنافعهم متوليا لأمورهم فإن الوكيل هو الكافل لأمور الغير القائم مقامه في تدبيرها وإدارة رحاها، وبذلك يظهر أن المراد به وكالته الخاصة لغير الغاوين من عباده كما مر في سورة الحجر.
وقد تقدمت أبحاث مختلفة حول قصة سجدة آدم نافعة في هذا المقام في مواضع متفرقة من كلامه تعالى كسورة البقرة وسورة الأعراف وسورة الحجر.
_____________
1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج13،ص116-119.
مكر إِبليس:
هَذِهِ الآيات تُشير إِلَى قضية امتناع إِبليس عن إطاعة أمر الله في السجود لآدم(عليه السلام)، والعاقبة السيئة التي انتهى إِليها.
إنّ طرح هَذِهِ القضية بعد ما ذُكِرَ عن المشركين المعاندين هو إشارة ـ في الواقع ـ إِلى أنَّ الشيطان يعتبر نموذجاً كاملا للإِستكبار والكفر والعصيان. ثمّ انظروا إِلى أين وَصلت عاقبته، لذا فإِنَّ مَن يتبعهُ سيصير إِلى نفس العاقبة.
إضافة إِلى ذلك، فإنَّ إصرار الضالين عميان القلوب على مخالفة الحق، لا يعتبر مدعاةً للعجب والدهشة، لأنَّ الشيطان استطاع ـ وفقاً لما يُستفاد مِن هَذِهِ الآيات ـ أن يغويهم بواسطة عدَّة طرق، وَفي الواقع حقق فيهم قولته {لأغوينهم أجمعين إِلاَّ عبادك مِنهم المخلصين}(الحجر ،39و40).
الآية تقول: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ}. لقد قُلنا سابقاً في نهاية الآيات الخاصّة بخلق آدم(عليه السلام): إِنَّ هَذِهِ السجدة التي أمر الله تعالى بها هي في الحقيقة نوع مِن الخضوع والتواضع بسبب عظمة خلق آدم(عليه السلام) وَتميزه عن سائر الموجودات، أو هي سجود للخالق جلّ وعلا في قبال خلقه لهَذا المخلوق المتميز.
وقلنا هُناك أيضاً: إِنَّ إِبليس وَبرغم ذكره هُنا ـ استثناءاًـ مَع الملائكة، إِلاَّ أنَّهُ ـ بشهادة القرآن ـ لم يكن مِن الملائكة، بل كانَ مخلوقاً مادياً ومِن الجن، وَقد أصبحَ في صف الملائكة بسبب عبادته لله.
على كل حال، فقد سيطر الكبر والغرور على إِبليس وتحكّمت الأنانية في عقله، ظناً مِنهُ بأنَّ التراب والطين اللذان يعتبران مصدراً لكل الخيرات وَمنبعاً للحياة أقل شأناً وأهمية عن النّار، لذا اعترض على الخالق جلَّ وَعلا وَقال: { قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًاً}.
وَلكنَّهُ عِندما طُرِدَ ـ إِلى الأبد ـ مِن حضرة الساحة الإِلهية بسبب استكباره وَطغيانه في مقابل أمر الله له، قال: { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}.(2)
«أحتنكن» مشتقّة مِن «احتناك» وَهي تعني قطع جذور شيء ما، لذا فعندما يأكل الجراد المزروعات تقول العرب: احتنكَ الجراد الزرع، لذا فإنَّ هذا القول يشير إِلى أن إِبليس سيحرف كل بني آدم عن طريق الله وَطاعته، إِلاَّ القليل مِنهم. وَيحتمل أن تكون كلمة (احتنكن) مُشتقة مِن (حنك) وَهي المنطقة التي تحت البلعوم، فعندما يوضع الحبل في رقبة الحيوان تقول العرب (احتنك الدابة)، وَفي الواقع، فإنَّ الشيطان يريد أن يقول بأنَّهُ سيضع حبل الوسوسة في أعناق الناس وَيجرهم إِلى طريق الغواية والضلال.
وهكذا كان، فقد أعطي الشيطان إمكانية البقاء والفعالية حتى يتحقق الإختبار للجميع، وَيكون وجوده سبباً لتمحيص واختبار المؤمنين الحقيقيين لأنّ الإنسان يشتدّ عزمه عِندما تهاجمهُ الحوادث وَيقوى عوده في مُواجهة الأعداء، لذلك قالت الآية: { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}. وبهذه الوسيلة للإِختبار ينكشف الفاشل مِن الناجح في الإِمتحان الإِلهي الكبير.
ثمّ ذكرت الآيات بعد ذلك ـ بأُسلوب جميل ـ الطرق التي ينفذ مِنها الشيطان والأساليب التي يستخدمها في الوسوسة والإغواء فقالت:
{ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ...}
{ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ...}
{ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ...}
{وَعدهم...}
ثمّ يجيء التحذير الإِلهي: { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا...}.
ثمّ اعلم أيّها الشيطان: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ...} { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا}.
______________
1- تفسير الامثل، ناصر مكارم الشيرازي،ج7،ص335-337.
2 ـ ذهب المفسّرين إلى إِنَّ حرف الكاف في كلمة (أرأيتك) زائد، أو هو حرف للخطاب وَقد جاء للتأكيد، وَجملة (أرأيتك) بمعنى (أخبرني) جوابها محذوف وَتقديرها (أخبرني عن هَذا الذي كرمته عليّ، لم كرمته عليّ وَقد خلقتني مِن نار؟). وَلكن هُناك احتمال آخر، وَهو أنَّ (أرأيت) هي في نفس معناها الأصلي وَلا يوجد محذوف في الجملة، وَبشكل عام تعطي هذا المعنى: هل لاحظت هذا الموجود الذي فضلته عليّ، فإذا أبقيتني على قيد الحياة سترى بأنّي سأضل أكثر أبنائه. (إحتمال الثّاني أوفق في تركيب الآية وَمعناها).
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|