أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-8-2020
5332
التاريخ: 20-8-2020
16983
التاريخ: 20-8-2020
3564
التاريخ: 21-8-2020
2801
|
قال تعالى : {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم : 8 - 16] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
حث سبحانه على التفكر والتدبر فيما يدل على توحيده من خلق السماوات والأرض ثم في أحوال القرون الخالية والأمم الماضية فقال {أ ولم يتفكروا في أنفسهم} أي في حال الخلوة لأن في تلك الحالة يتمكن الإنسان من نفسه ويحضره ذهنه وقيل معناه أ ولم يتفكروا في خلق الله أنفسهم والمعنى أ ولم يتفكروا فيعلموا وحذف لأن في الكلام دليلا عليه {ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} قال الزجاج معناه إلا للحق أي لإقامة الحق ومعناه للدلالة على الصانع والتعريض للثواب {وأجل مسمى} أي ولوقت معلوم توفى فيه كل نفس ما كسبت وقيل معناه خلقها في أوقات قدرها اقتضت المصلحة خلقها فيها ولم يخلقها عبثا عن الجبائي .
( سؤال ) قالوا كيف يعلم المتفكر في نفسه إن الله سبحانه لم يخلق شيئا إلا بالحق وكيف يعلم الآخرة ( جواب ) قلنا إذا علم بالنظر في نفسه أنه محدث مخلوق وإن له محدثا قديما قادرا عالما حيا وأنه لا يفعل القبيح وأنه حكيم علم أنه لم يخلقه عبثا وإنما خلقه لغرض وهو التعريض للثواب وذلك لا يتم إلا بالتكليف فلا بد إذا من الجزاء فإذا لم يوجد في الدنيا فلا بد من دار أخرى يجازى فيها ويعلم إذا خلق ما لا ينتفع بنفسه فلا بد أن يكون الغرض أن ينتفع الحي به .
{وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} أي بلقاء جزاء ربهم وبالبعث وبيوم القيامة لجاحدون غير معترفين ثم نبههم سبحانه دفعة أخرى فقال {أ ولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} من الأمم {كانوا أشد منهم قوة} فهلكوا وبادوا فيعتبروا بهم لعلمهم أنهم أهلكوا بتكذيبهم {وأثاروا الأرض} أي وقلبوها وحرثوها بعمارتها عن مجاهد {وعمروها أكثر مما عمروها} أي أكثر مما عمرها هؤلاء الكفار لأنهم كانوا أكثر أموالا وأطول أعمارا وأكثر أعدادا فحفروا الأنهار وغرسوا الأشجار وبنوا الدور وشيدوا القصور ثم تركوها وصاروا إلى القبور وإلى الهلاك والثبور .
{وجاءتهم رسلهم بالبينات} أي أتتهم رسلهم بالدلالات من عند الله وفي الكلام حذف تقديره فجحدوا الرسل وكذبوا بتلك الرسل فأهلكهم الله بالعذاب {فما كان الله ليظلمهم} بأن يهلكهم من غير استحقاق {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بأن جحدوا رسل الله وأشركوا معه في العبادة سواه حتى استحقوا العذاب عاجلا وآجلا {ثم كان عاقبة الذين أساءوا} إلى نفوسهم بالكفر بالله وتكذيب رسله وارتكاب معاصيه {السوأى} أي الخلة التي تسوء صاحبها إذا أدركها وهي عذاب النار عن ابن عباس وقتادة {أن كذبوا ب آيات الله وكانوا بها يستهزءؤن} أي لتكذيبهم ب آيات الله واستهزائهم بها .
ثم ذكر سبحانه قدرته على الإعادة فقال {الله يبدؤا الخلق ثم يعيده} أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا {ثم إليه ترجعون} فيجازيهم بأعمالهم {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} أي يوم تقوم القيامة ييأس الكافرون من رحمة الله تعالى ونعمة التي يفيضها على المؤمنين وقيل يتحيرون وتنقطع حججهم بظهور جلائل آيات الآخرة التي يقع عندها علم الضرورة {ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء} أي لم يكن لهم من أوثانهم التي عبدوها ليشفعوا لهم شفعاء تشفع لهم أو تدفع عنهم كما زعموا أنا نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى {وكانوا بشركائهم كافرين} يعني أن المشركين يتبرءون من الأوثان وينكرون كونها آلهة ويقرون بأن الله لا شريك له عن الجبائي وأبي مسلم .
{ويوم تقوم الساعة} أي تظهر القيامة {يومئذ يتفرقون} فيصير المؤمنون أصحاب اليمين والمشركون أصحاب الشمال فيتفرقون تفرقا لا يجتمعون بعده وقال الحسن لئن كانوا اجتمعوا في الدنيا ليتفرقن يوم القيامة هؤلاء في أعلى عليين وهؤلاء في أسفل السافلين وهو قوله {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون} أي في الجنة ينعمون ويسرون سرورا يبين لهم عليهم عن قتادة ومجاهد ومنه قيل كل حبرة تتبعها عبرة والروضة البستان المتناهي منظرا وطيبا وقال ابن عباس يحبرون أي يكرمون وقيل يلذذون بالسماع عن يحيي بن أبي كثير والأوزاعي .
أخبرنا أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن أحمد البيهقي قال أخبرنا جدي الإمام أبوبكر أحمد بن الحسين البيهقي قال حدثنا أبوسعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد قال أخبرنا أبو الحسن علي بن بندار قال حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن القرباني قال حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن خالد بن معدان عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ((ما من عبد يدخل الجنة إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور العين تغنيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجن وليس بمزمار الشيطان ولكن بتمجيد الله وتقديسه)) .
وعن أبي الدرداء قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يذكر الناس فذكر الجنة وما فيها من الأزواج والنعيم وفي القوم أعرابي فجثا لركبتيه وقال يا رسول الله هل في الجنة من سماع قال ((نعم يا أعرابي إن في الجنة نهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة)) .
قال الراوي : سألت أبا الدرداء بم يتغنين قال بالتسبيح وعن إبراهيم إن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا [هذا الحديث ليس في بعض النسخ وفي أكثرها موجود] .
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين منها كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها سموا وأوسطها محلة ومنها تنفجر أنهار الجنة فقام إليه رجل وقال يا رسول الله إني رجل حبب إلي الصوت فهل لي في الجنة صوت حسن فقال أي والذي نفسي بيده إن الله تعالى يوحي إلى شجرة في الجنة أن أسمعي عبادي الذين اشتغلوا بعبادتي وذكري عن عزف البرابط والمزامير فترفع صوتا لم يسمع الخلائق بمثله قط من تسبيح الرب)) .
ثم أخبر عن حال الكافرين فقال {وأما الذين كفروا وكذبوا ب آياتنا ولقاء الآخرة} أي بدلائلنا وبالبعث يوم القيامة {فأولئك في العذاب محضرون} أي فيه محصلون ولفظة الإحضار لا تستعمل إلا فيما يكرهه الإنسان يقال أحضر فلان مجلس القضاء إذا جيء به لما لا يؤثره ومنه حضور الوفاة .
________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص46 -51 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{أَولَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأَرْضَ وما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وأَجَلٍ مُسَمًّى} . اللَّه حكيم لا يخلق شيئا إلا بالحق ، والعبث في حقه محال ، وهو قادر على إعادة الإنسان إلى الحياة بعد انتهاء أجله المحدد له . ومن تدبر عظمة الكون يدرك حكمة اللَّه في خلقه ، ويدرك قدرته على إحياء الموتى لأن خلق السماوات والأرض أعظم من إعادة الإنسان بعد الموت : {أَولَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهً الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ ولَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} - 33 الأحقاف . {وإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ} بأنه قادر على الإعادة جهلا منهم بأن القادر على الإبداء قادر أيضا على الإعادة لأن السبب فيهما واحد ، إمكانا وامتناعا .
{أَولَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} . تقدم مثله في الآية 137 من سورة آل عمران ج 2 ص 159 {وأَثارُوا الأَرْضَ وعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . كانت الأمم السابقة أكثر حضارة وتقدما من العرب في الزراعة والعمران ، ولما ظلموا أنفسهم بكفرهم وتكذيبهم الرسل أخذهم اللَّه بالعذاب والهلاك . . ألا يخشى الذين كذبوا محمدا أن يصيبهم ما أصاب الذين كانوا أقوى وأرقى .
{ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُونَ} .
جاءتهم رسلهم بالبينات لينقذوهم من الضلالة والغواية ، فأمعنوا في الإساءة إليهم تكذيبا واستهزاء ، فكان جزاؤهم سوء العذاب وبئس المصير {اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تقدم في الآية 19 من سورة العنكبوت وغيرها .
{ ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} . في هذا اليوم يعلم المجرمون انه لا أمل ولا حيلة لمن أسلف المعصية ، وسوّف التوبة ، فتذهلهم مرارة اليأس لأنهم أمعنوا في الضلالة وأصروا عليها {ولَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ} . كان لهم شركاء في الدنيا يتبعونهم في الضلال والفساد جهلا وتقليدا ، ويرجون نفعهم وشفاعتهم يوم القيامة حتى إذا برزوا للَّه جميعا ورأوا العذاب وأيقنوا ان لا شريك ولا شفيع تبرأ المتبوع من التابع ، والقائد من المقود . وتقدم مثله في الآية 166 من سورة البقرة ج 1 ص 255 .
{ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} ضمير يتفرقون يعود إلى أهل الجنة وأهل النار ، أي انهم كانوا في الدنيا يلتقون ويجتمعون في الأندية والأسواق والمعاهد والمعابد وغيرها ، أما يوم القيامة فلا اجتماع بينهم ولا لقاء {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا ولِقاءِ الآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ} . يخرج اللَّه الخلائق غدا من الأجداث ويجمعهم لما يريد من مسألتهم ، ثم يجعلهم فريقين : أهل الشر وأهل الخير ، فينعم على هؤلاء بمقام كريم وجنة نعيم ، وينتقم من أولئك بنزل من حميم وتصلية جحيم .
__________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج8 ، ص 132-133 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى} إلخ المراد من خلق السماوات والأرض وما بينهما - وذلك جملة العالم المشهود - بالحق أنها لم تخلق عبثا لا غاية لها وراءها بأن يوجد ويعدم ثم يوجد ثم يعدم من غير غرض وغاية فهو تعالى إنما خلقها لغاية تترتب عليها .
ثم إن العالم بأجزائها ليس بدائم الوجود غير منقطع الآخر حتى يحتمل كون كل جزء لاحق غاية للجزء السابق وكل آت خلفا لماضيه بل هو بأجزائه فان بائد فهناك غاية مقصودة من خلق العالم ستظهر بعد فناء العالم وهذا المعنى هو المراد بتقييد قوله : {ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما} بقوله : {وأجل مسمى} بعد تقييده بقوله : {إلا بالحق} .
فقوله : {أ ولم يتفكروا في أنفسهم} الاستفهام للتعجيب ، وكونهم في أنفسهم استعارة كنائية عن فراغ البال وحضور الذهن كأنهم عند اشتغالهم بأمور الدنيا وسعيهم للمعيشة وتشوش البال يغيبون عن أنفسهم فيكونون عند حضور الذهن حاضرين مستقرين في أنفسهم فيكون تفكرهم حينئذ مجتمعا غير متفرق فيهديهم إلى الحق ويرشدهم إلى الواقع .
وقيل : المراد بتفكرهم في أنفسهم أن يتفكروا في خلق أنفسهم وأن الواحد منهم محدث والمحدث - بالفتح - يحتاج إلى محدث - بالكسر - قديم حي قادر عليم حكيم فلا يخلق ما يخلق عبثا بل لغاية مطلوبة وليست تعود إليه نفسه لغناء المطلق بل إلى الخلق وهو الثواب ولا يكون إلا لصالح العمل فلا بد من دين مشرع يميز العمل الصالح من السيىء فلا بد من دار يمتحنون فيها وهي الدنيا ودار يثابون فيها وهي الآخرة .
وفيه أن الجملة أعني قوله : {أ ولم يتفكروا في أنفسهم} صالح في نفسه لأن يراد منها هذا المعنى لكن اتصال قوله : {ما خلق الله السماوات} إلخ ، بها يأباه لاستلزامه بطلان الاتصال لعدم الارتباط بين صدر الآية وذيلها على هذا التقدير .
وقوله : {ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى} هو الفكر الذي يجب عليهم أن يمعنوا فيه النظر في أنفسهم وتقريره على ما تقدم أن الله سبحانه ما خلق هذا العالم كلا ولا بعضا إلا خلقا ملابسا للحق أو مصاحبا للحق أي لغاية حقيقية لا عبثا لا غاية له ولا إلى أجل معين فلا يبقى شيء منها إلى ما لا نهاية له بل يفنى وينقطع وإذا كان كل من أجزائه والمجموع مخلوقا ذا غاية تترتب عليها وليس شيء منها دائم الوجود كانت غايته مترتبة عليه بعد انقطاع وجوده وفنائه ، وهذا هو الآخرة التي ستظهر بعد انقضاء الدنيا وفنائها .
وقوله : {وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} مسوق سوق التعجيب كما بدأت الآية باستفهام التعجيب ، والمراد بلقاء الله هو الرجوع إليه في المعاد ، وقد عبر عنه باللقاء ليزداد كفرهم به عجبا فكيف يمكن أن يبتدئوا منه ثم لا ينتهوا إليه ، ولذلك أكده بإن إشارة إلى أن الكفر بالمعاد من شأنه في نفسه أن لا يصدق به .
قوله تعالى : {أ ولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} إلى آخر الآية ، لما ذكر كفر كثير من الناس بالمعاد وذلك أمر يلغو معه الدين الحق ذكرهم حال الأمم الكافرة وما انتهت إليه من سوء العذاب لعلهم يعتبرون بها فيرجعوا عما هم عليه من الكفر .
وإثارة الأرض قلبها ظهر البطن للحرث والتعمير ونحو ذلك .
وقوله : {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي بالكفر والمعاصي .
قوله تعالى : {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون} بيان لما انتهى إليه أمر أولئك الظالمين ولذا عبر بثم ، و{عاقبة} بالنصب خبر كان واسمه {السوآى} قدم الخبر عليه لإفادة الحصر و{أساءوا} مقطوع عن المتعلق بمعنى عملوا السوء ، والسوآى الخلة التي يسوء صاحبها والمراد بها سوء العذاب و{أن كذبوا بآيات الله} بحذف لام التعليل والتقدير لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها .
والمعنى : ثم كان سوء العذاب هو الذي انتهى إليه أمر أولئك الذين عملوا السوء لم تكن لهم عاقبة غيرها لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها .
وقيل : إن {السوآى} مفعول لقوله : {أساءوا} وخبر كان هو قوله : {أن كذبوا} إلخ ، والمراد أن المعاصي ساقتهم إلى الكفر بتكذيب آيات الله والاستهزاء بها .
وفيه : أنه في نفسه معنى صحيح لكن المناسب للمقام هو المعنى الأول لأن المقام مقام الاعتبار والإنذار والمناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب لا انتهاء معاصيهم المتفرقة إلى التكذيب والاستهزاء الذي هو أعظمها .
قوله تعالى : {الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون} بعد ما ذكر الحجة وتكذيب كثير من الناس لخص القول في نتيجتها وهو أن البدء والعود بيده سبحانه وسيرجع إليه الجميع ، والمراد بالخلق المخلوقون ، ولذا أرجع إليه ضمير الجمع في ترجعون .
قوله تعالى : {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} ذكر حال المجرمين بعد قيام الساعة وهي ساعة الرجوع إليه تعالى للحساب والجزاء ، والإبلاس اليأس من الله وفيه كل الشقاء .
قوله تعالى : {ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين} يريد أنهم على يأسهم من الرحمة من ناحية أعمالهم أنفسهم آيسون من آلهتهم الذين اتخذوهم شركاء لله فعبدوهم ليشفعوا لهم عند الله كما كانوا يقولون في الدنيا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله وكانوا بعبادة شركائهم كافرين ساترين .
قوله تعالى : {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون - إلى قوله - محضرون} قال في المجمع : الروضة البستان المتناهي منظرا وطيبا . انتهى .
وقال في المفردات : الحبر الأثر المستحسن - إلى أن قال - وقوله عز وجل : {في روضة يحبرون} أي يفرحون حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم . انتهى .
والمراد بتفرق الخلق يومئذ تميز المؤمنين الصالحين من المجرمين ودخول هؤلاء النار ودخول أولئك الجنة على ما يشير إليه الآيتان التاليتان .
ولزوم هذا التميز والتفرق في الوجود هو الذي أخذه الله سبحانه حجة على ثبوت المعاد حيث قال : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الجاثية : 21] .
_______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج16 ، ص128-130 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
عاقبة المسيئين :
كان الكلام في آخر آية من البحث السابق عن السطحيين وأصحاب الظاهر ، حيث كان أفق فكرهم لا يتجاوز حدود الدنيا والعالم المادي . . وكانوا جاهلين بما وراء الطبيعة ويوم القيامة .
أمّا في هذه الآيات ـ محل البحث ـ والآيات المقبلة ، فيقع الكلام على مطالب متنوعة حول المبدأ والمعاد ، فتبدأ هذه الآيات أولا على صورة استفهام فتقول : {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض إلاّ بالحق وأجل مسمى} .
أي : لو أنّهم فكروا جيداً ورجعوا إلى عقلهم في الحكم ووجدانهم ، لكانوا يطلعون جيداً على هذين الأمرين :
أوّلا : إنّ العالم خلق على أساس الحق ، وتحكمه أنظمة هي دليل على أنّ الخالق لهذا العالم ذو علم مطلق وقدرة كاملة .
وثانياً : هذا العالم يمضي إلى الزوال ، وحيث أن الخالق الحكيم لا يمكن أن يخلقه عبثاً ، فيدل ذلك على وجود عالم آخر هو الدار الباقية بعد هذه الدنيا ، وإلاّ فلا مفهوم لخلق هذا العالم ، وهذا الخلق الطويل العريض لا يعقل أن يكون من أجل أيّام معدودات في الحياة الدنيا ، وبذلك يذعنون بوجود الآخرة ! .
فعلى هذا يكون التدقيق في نظم هذا العالم وحقانيته دليلا على وجود المبدأ ، والتدقيق في أن هناك «أجلا مسمى» دليل على المعاد «فلاحظوا بدقة» .
لذلك يضيف القرآن في نهاية الآية قائلا : {وإن كثيراً من الناس بلقاء ربّهم لكافرون} فينكرون لقاء الله .
أو إنّهم ينكرون المعاد أصلا ، كما نقلنا عن قول المشركين مراراً في آيات القرآن ، إذ كانوا يقولون : {أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد} {إنّ هذا إلاّ اختلاق} {إنَّ هذا لشيء عجاب } . إنَّ هذا . . إنّ هذا . . الخ . . وبتعابير مختلفة «كما ورد في سورة الرعد الآية (5) ، وسورة المؤمنون الآية (35) ، وسورة النمل الآية (67) ، وسورة ق الآية (3) وفي غيرها من السور» .
أو إنّهم لا ينكرون بلسانهم ، لكن أعمالهم «ملوثة» ومخزية تدل على أنّهم غير معتقدين بالمعاد ، إذ لو كانوا يعتقدون بالمعاد لم يكونوا فاسدين أو مفسدين ! .
والتعبير بـ (في أنفسهم ) لا يعني أن يطالعوا في أسرار وجودهم ، كما يدّعي الفخر الرازي في تفسيره ، بل المراد منه أن يفكروا في داخل أنفسهم عن طريق العقل والوجدان يخلق السماوات والأرض .
والتعبير (بالحق ) له معنيان : الأوّل : أنّ الخلق كان توأماً مع الحق والقانون والنظم ، والآخر : أن الهدف من الخلق كان بالحق ، ولا منافاة بين هذين التّفسيرين طبعاً (2) .
والتعبير (بلقاء ربّهم) كما قلنا مراراً ، هو إشارة إلى يوم القيامة والنشور ، حيث تنكشف الحجب ، والإنسان يعرف عظمة الله بالشهود الباطنيّين .
وحيث أنّ التعبير بـ (أجل مسمى) كاشف عن أن هذه الحياة على كل حال لا تدوم ، وهذا إنذار لجميع عبدة الدنيا ، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا : {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر ممّا عمروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات} أي بالدلائل الواضحات . . . إلاّ أنّهم أهملوا ذلك ، ولووا رؤوسهم ، ولم يستسلموا للحق ، فابتلوا بعقاب الله الأليم ! {وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} .
في الواقع إنّ القرآن يشير إلى أمم كانت لهم ـ في نظر مشركي مكّة ـ عظمة ملحوظة من حيث القدرة والقوّة الجسمية والثروة المالية ، وكان مصيرهم الأليم يمثل درساً من العبرة لهؤلاء المشركين .
ويمكن أن تكون جملة (أثاروا الأرض) إشارة إلى حرث الأرض للزراعة والتشجير ، أو حفر الأنهار ، أو تأسيس العمارات على الأرض ، أو جميع هذه الأمور ، لأنّ جملة (أثاروا الأرض) لها مفهوم واسع يشمل جميع هذه الأُمور التي هي مقدمة للعمارة والبناء (3) .
وحيث كانت أكبر قدرة ـ في ذلك العصر ـ تعني التقدم في الزراعة والرقي الملحوظ من حيث البناء والعمارات ، فإنّه يتّضح رفعة الأُمم السالفة وعلوهم على مشركي مكّة الذين كانت قدرتهم في هذه المجالات محدودة جدّاً .
إلاّ أنّ أُولئك مع كل قدراتهم حين أنكروا آيات الله وكذبوا الأنبياء ، لم يستطيعوا الفرار من مخالب العقاب ، فكيف تستطيعون الفرار من عذاب الله ؟!
وهذا العقاب والجزاء الأليم هو نتيجة أعمالهم المهلكة أنفسهم ، إذ ظلموا أنفسهم ، ولا يظلم ربّك أحداً .
أمّا آخر آية من الآيات محل البحث ، فتبيّن آخر مرحلة من كفرهم فتقول : {ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون} .
أجل ، إنّ الذنب أو الإثم يقع على روح الإنسان كالمرض الخبيث ، فيأكل إيمانه ويعدمه ، ويبلغ الأمر حدّاً يكذب الإنسان فيه آيات الله ، وأبعد من ذلك أيضاً إذ يحمل الذنب صاحبه على الإستهزاء بالأنبياء ، والسخرية بآيات الله ، ويبلغ مرحلة لا ينفع معها وعظ ونصيحة أبداً ، ولا تؤثر فيه أية حكمة وأيّة آية ، ولا يبقى طريق سوى أسواط عذاب الله المؤلمة له .
إنّ نظرة واحدة في صفحات تاريخ كثير من الجناة والبغاة تكشف أنّهم لم يكونوا هكذا في بداية الأمر ، إذ كان لديهم على الأقل نور إيمان ضعيف يشع في قلوبهم ، ولكن ارتكابهم للذنوب المتتابعة سبّب يوماً بعد آخر أن ينفصلوا عن الإيمان والتقوى ، وأن يبلغوا آخر الأمر إلى المرحلة النهائية من الكفر .
ونلاحظ في خطبة العقيلة زينب (عليها السلام) أمام يزيد بن معاوية في الشام ، النتيجة ذاتها التي أشرنا إليها آنفاً . . . لأنّها حين رأت يزيد يسخر بكل شيء ويتكلم بكلمات الكفر وأنشد أشعاراً من ضمنها :
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل وهذه الكلمات تكشف عن عدم إيمانه بأساس الإسلام ، فحمدت زينب الله تعالى وصلّت وسلّمت على النّبي (صلى الله عليه وآله) وقالت :
«صدق الله ، كذلك يقول : (ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون )» .
أي إذا أنكرت الإسلام والإيمان هذا اليوم بأشعارك المشوبة بالكفر ، وتقول لأسلافك المشركين الذين قتلوا على أيدي المسلمين في معركة بدر : ليتكم تشهدون انتقامي من بني هاشم ، فلا مجال للتعجب ، فذلك ما قاله الله سبحانه : {ثمّ كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون } . . وقد ذكرت في هذا الصدد مطالب كثيرة .
ولمزيد من الإيضاح يراجع الجزء الخامس والأربعون من بحار الأنوار الصفحة 157 . (4)
وقوله تعالى : {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم : 11 - 16]
مصير المجرمين ومآلهم يوم القيامة !
كان الكلام في الآيات المتقدمة عن الذين يكذّبون ويستهزؤون بآيات الله ، وفي الآيات ـ محل البحث ـ تستكمل البحوث السابقة عن المعاد ، مع بيان جوانب منه ، ومآل المجرمين في القيامة !
فتبدأ الآيات بالقول : {الله يبدأ الخلق ثمّ يعيده ثمّ إليه ترجعون} ويُبيّن في هذه الآية استدلال قصير موجز ، وذو معنى كبير ، على مسألة المعاد . وقد ورد هذا المعنى بعبارة أُخرى في بعض آيات القرآن الأُخرى ومنها {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [يس : 79 - 81] .
وجملة {ثمّ اليه ترجعون} إشارة إلى أنّه بعد النشور والقيامة يعود الجميع إلى محكمة الله ، والأسمى من ذلك أن المؤمنين يمضون في تكاملهم نحو ذات الله المقدسة إلى ما لا نهاية . .
والآية الأُخرى تجسد حالة المجرمين يوم القيامة {يوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } .
«يبلس» مأخوذ من مادة «إبلاس» وتعني في الأصل الغم والحزن المترتبان على أثر شدة اليأس والقنوط .
وبديهي أنّه إذا يئس الإنسان من شيء غير ضروري ، فهذا اليأس غير مهم ، لكن الحزن والغم يكشف في هذه الموارد عن أُمور ضرورية مأيوس منها ، لذلك يرى بعض المفسّرين أنّ «الضرورة» جزء من «الإبلاس» وإنّما سمّي «إبليس» بهذا الإسم ، فلأنّه أبلس من رحمة الله واستولى عليه الهم .
وعلى كل حال فيحق للمجرمين أى ييأسوا ويبلسوا في ذلك اليوم ، إذ ليس لديهم إيمان وعمل صالح فيشفع لهم في عرصات المحشر ، ولا صديق حميم ، ولا مجال للرجوع إلى الدنيا وتدارك ما مضى ! .
لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلا : {ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء } .
فتلك الأصنام والمعبودات المصنوعة التي كانوا يتذرعون بها عندما يسألون : من تعبدون؟ فيقولون : {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [يونس : 18] ، سيتّضح لهم جيداً حينئذ أنّه لا قيمة لها ولا تنفعهم أبداً . . فلذلك يكفرون بهذا المعبودات من دون الله ويبرأون منها {وكانوا بشركائهم كافرين } .
ولم لا يكفرون بهذه الأصنام؟ وهم يرونها ساكنة عن الدفاع عنهم بل كما يعبّر القرآن تقوم بتكذيبهم وتقول : يا رب {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص : 63] بل كانوا يعبدون هوى أنفسهم ؟!
وأكثر من هذا ، فقد عبر القرآن عن هذ المعبودات في الآية (6) من سورة الأحقاف أنّها ستكون معادية لهم وكافرة بهم {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف : 6] .
ثمّ يشير القرآن إلى الجماعات المختلفة من الناس في يوم القيامة ، فيقول : {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون} .
كلمة «يحبرون» مأخوذة من مادة «حبر» على زنة «قشر» ومعناها الأثر الرائق الرائع ، كما يطلق هذا التعبير على حالة السرور والفرح التي يظهر أثرها على الوجه أيضاً ، وحيث أن قلوب أهل الجنّة في غاية السرور والفرح بحيث أن آثارها تظهر في وجودهم قاطبة ، فقد استعمل هذا التعبير لهذه الحالة أيضاً .
و«الروضة» معناها المكان الذي تكثر فيه الأشجار والماء ، ولذلك تطلق هذه الكلمة على البساتين النضرة بأشجارها واخضرارها . . وقد جاءت هذه الكلمة هنا بصيغة التنكير لغرض التعظيم والمبالغة ، أي إنّهم في أفضل الجنان وأعلاها التي تبعث السرور ، فهم منعمون ، بل غارقون في نعيم الجنّة .
{وأمّا الذين كفرا بآياتنا ولقاء الآخرة فأُولئك في العذاب محضرون} .
الطريف هنا أنّه في شأن أهل الجنّة استعملت كلمة «يُحبرون» وتدلّ على منتهى الرضا من جميع الجوانب لدى أهل الجنّة . . ولكن استعملت كلمة «محضرون» في أهل النّار ، وهي دليل على منتهى الكراهة وعدم الرضا لما يتلقونه ويستقبلونه ، لأنّ الإحضار يطلق في موارد تكون على خلاف الرغبات الباطنيّة للإنسان .
اللطيفة الأُخرى أن أهل الجنّة ذكروا بقيد الإيمان والعمل الصالح ، ولكن أهل النّار اكتفي من ذكرهم بعدم الإيمان «إنكار المبدأ والمعاد» . وهي إشارة أن ورود الجنّة ـ لابد له من الإيمان والعمل الصالح ـ فلا يكفي الإيمان وحده ، ولكن يكفي لدخول النّار عدم الإيمان ـ وإن لم يصدر من ذلك «الكافر» ذنب ـ لأنّ الكفر نفسه أعظم ذنب ! .
_______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج10 ، ص125-131 .
2 ـ في صورة ما لوقلنا بالتّفسير الأوّل ، فإن «الباء» في كلمة «بالحق» للمصاحبة ، وفي التّفسير الثّاني تكون الباء بمعنى اللام ، أي للحق .
3 ـ «آثار» مأخوذة من مادة (ثور) على زنة (غور) ومعناها التفريق والنثر ، وإنّما سمي الثور ثوراً لأنّه يثير الأرض ويفرّقها .
4 ـ طبقاً لما ذكرنا في التّفسير تكون كلمة «السوءى» مفعولا لأساءوا وجملة {أن كذبوا بآيات الله} مكان اسم كان وخبرها «عاقبة الذين» .
ويذكر العلاّمة الطباطبائي ذلك في الميزان بصورة احتمال ، وإن لم ينتخبه هو نفسه ، ويرى «أبو البقاء» في كتاب «إملاء ما منّ به الرحمن» الصفحة 185 الجزء الثاني ، أنّه واحد من احتمالين مقبولين .
إلاّ أن أغلب المفسّرين كالطبرسي وصاحب الميزان ، والفخر الرازي ، والآلوسي ، و أبو الفتوح الرازي والقرطبي وسيد قطب في ظلاله ، والطوسي في تبيانه» يقوّون إحتمالا آخر في تفسير الآية . . وهو أن كلمة «السوءى» اسم كان ، وجملة «إن كذبوا» في مقام التعليل .
وطبقاً لهذا التّفسير يكون معنى الآية : وأخيراً فإن عاقبة أعمال المسيئين كانت السوء ، لأنّهم كذبوا بآياتنا . وهذا المعنى شبيه بقوله تعالى : {للذين أحسنوا الحسنى} .
إلاّ أن الأنصاف أن هذا التفسير خلاف ما يستظهر من الآية ، وانتخاب المفسّرين لهذا الرأي والتفسير لا يصرفنا عما هو منسجم مع الآية ، وخاصة أنّهم اضطروا إلى أن يقدروا اللام في جملة «أن كذبوا» والتقدير خلاف الظاهر «فلاحظوا بدقة» .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|