أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-7-2020
12801
التاريخ: 28-7-2020
8019
التاريخ: 24-7-2020
2442
التاريخ: 28-7-2020
22792
|
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 35 - 41]
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } معناه واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } يعني مكة وما حولها من الحرم وقيل إن إبراهيم (عليه السلام) لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة وإنما قال هناك بلدا آمنا وقال هنا { هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } معرفا لأن النكرة إذا تكررت وأعيدت صارت معرفة ومثله في التنزيل فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب فاستجاب الله دعاء إبراهيم (عليه السلام) حتى كان الإنسان يرى قاتل أبيه فيها فلا يتعرض له ويدنوالوحش فيها من الناس فيأمن منهم.
{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } أي :والطف لي ولبني لطفا نتجنب به عن عبادة الأصنام ودعاء الأنبياء لا يكون إلا مستجابا فعلى هذا يكون سؤاله ذلك مخصوصا بمن علم الله من حاله أن يكون مؤمنا لا يعبد إلا الله ويكون الله سبحانه قد أذن له في الدعاء لهم واستجاب دعاءه فيهم { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} معناه ضل بسببهن وعبادتهن كثير من الناس كما يقال فتنتني فلانة يعني افتتنت بحبها لا لأنها عملت شيئا وكما في قول الشاعر :
هبوني امرءا منكم أضل بعيره له ذمة إن الذمام كبير
وإنما أراد ضل بعيره لأن أحدا لا يضل بعيره قاصدا إلى إضلاله { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} يريد فمن تبعني من ذريتي الذين أسكنتهم هذا البلد على ديني في عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام فإنه من جملتي وحاله كحالي { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: ساتر على العباد معاصيهم رحيم بهم في جميع أحوالهم منعم عليهم.
ثم حكى سبحانه تمام دعاء إبراهيم (عليه السلام) وأنه قال { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي } أي أسكنت بعض أولادي ولا خلاف أنه يريد إسماعيل (عليه السلام) مع أمه هاجر وهو أكبر ولده وروي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال نحن بقية تلك العترة وقال كانت دعوة إبراهيم (عليه السلام) لنا خاصة { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } يريد وادي مكة وهو الأبطح وإنما قال غير ذي زرع لأنه لم يكن بها يومئذ ماء ولا زرع ولا ضرع ولم يذكر مفعول أسكنت لأن من يفيد بعض القوم كما يقال قتلنا من بني فلان وأكلنا من الطعام وكما قال سبحانه أفيضوا علينا من الماء أومما رزقكم الله وتقديره أسكنت من ذريتي أناسا أوولدا عن البلخي.
{ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } إنما أضاف البيت إليه سبحانه لأنه مالكه لا يملكه أحد سواه وما عداه من البيوت قد ملكه غيره من العباد ويسأل فيقال كيف سماه بيتا ولم يبنه إبراهيم (عليه السلام) بعد والجواب من وجهين ( أحدهما ) أنه لما كان من المعلوم أنه يبنيه سماه بيتا والمراد عند بيتك الذي مضى في سابق علمك كونه ( والثاني ) أن البيت قد كان قبل ذلك وإنما خربه طسم وجديس وقيل إنه رفعه الله إلى السماء أيام الطوفان وإنما سماه المحرم لأنه لا يستطيع أحد الوصول إليه إلا بالإحرام وقيل لأنه حرم فيه ما أحل في غيره من البيوت من الجماع والملابسة بشيء من الأقذار والدماء وقيل معناه العظيم الحرمة { رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ } أي أسكنتهم هذا الوادي ليداوموا على الصلاة ويقيموا بشرائطها واللام تتعلق بقوله أسكنت وفصل بينه وبين ما تعلق بقوله ربنا لأن الفصل بالنداء مستحب في هذا وإذا جاء نحوقوله :
على حين ألهى الناس جل أمورهم فندلا زريق المال ندل الثعالب
أي اندل المال يا زريق ففصل بالنداء بين المصدر وما تعلق به كان هذا أولى { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } هذا سؤال من إبراهيم (عليه السلام) أن يجعل الله قلوب الخلق تحن إلى ذلك الموضع ليكون في ذلك أنس لذريته بمن يرد عليهم من الوفود وليدر أرزاقهم على مرور الأوقات ولولا لطفه سبحانه بإمالة قلوب الناس إليه إما للدين كالحج والعمرة وإما للتجارة لما صح أن يعيش ساكنوه.
قال سعيد بن جبير لوقال أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى والمجوس ولكنه قال من الناس فهم المسلمون وروى مجاهد أنه قال إن إبراهيم (عليه السلام) لوقال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم وروى الفضل بن يسار وغيره عن الباقر (عليه السلام) أنه قال إنما أمر الناس أن يطوفوا بهذه الأحجار ثم ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم ويعرضوا علينا نصرهم ثم قرأ هذه الآية وقيل إن معنى تهوي إليهم ينزع إليهم ويميل عن ابن عباس وقتادة وقيل معناه وينزل ويهبط إليهم لأن مكة في غور عن أبي مسلم.
{ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} أي: لكي يشكروا لك ويعبدوك { رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } هذا اعتراف من إبراهيم (عليه السلام) لله سبحانه بأنه يعلم ما يبطن الخلق وما يظهرونه وأنه لا يخفى عليه شيء مما في الأرض والسماء وقيل إن قوله { وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } إنما هو إخبار منه سبحانه بذلك وابتداء كلام من جهته لا على سبيل الحكاية عن إبراهيم (عليه السلام) بل هو اعتراض عن الجبائي قال ثم عاد إلى حكاية كلام إبراهيم (عليه السلام) فقال { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } وهذا اعتراف منه بنعم الله سبحانه وحمد له على إحسانه بأن وهب له على الكبر كبر سنه ولدين قال ابن عباس ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة وقال سعيد بن جبير لم يولد لإبراهيم (عليه السلام) إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } أي قابله ومجيبه عن ابن عباس ويؤيده قوله { سمع الله لمن حمده ) { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } تقديره واجعل من ذريتي مقيم الصلاة فحذف الفعل لأن ما قبله يدل عليه وهذا سؤال من إبراهيم (عليه السلام) من الله تعالى بأن يلطف له اللطف الذي عنده يقيم الصلاة ويتمسك بالدين وأن يفعل مثل ذلك بجماعة من ذريته وهم الذين أسلموا منهم فسأل لهم مثل ما سأل لنفسه { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } أي: وأجب دعائي فإن قبول الدعاء إنما هو الإجابة وقبول الطاعة الإثابة.
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} واستدل أصحابنا بهذا على ما ذهبوا إليه من أبوي إبراهيم (عليه السلام) لم يكونا كافرين لأنه إنما يسأل المغفرة لهما يوم القيامة فلو كانا كافرين لما سأل ذلك لأنه قال فلما تبين له أنه عدولله تبرأ منه فصح أن أباه الذي كان كافرا إنما هو جده لأمه أوعمه على الخلاف فيه ومن قال إنما دعا لأبيه لأنه كان وعده أن يسلم فلما مات على الكفر تبرأ منه على ما روى الحسن فقوله فاسد لأن إبراهيم (عليه السلام) إنما دعا بهذا الدعاء بعد الكبر وبعد أن وهب له إسماعيل وإسحاق وقد تبين له في هذا الوقت عداوة أبيه الكافر لله فلا يجوز أن يقصده بدعائه { وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } أي: واغفر للمؤمنين أيضا يوم يقوم الخلق للحساب وقيل معناه يوم يظهر وقت الحساب كما يقال قامت السوق .
______________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص83-86.
{ وإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً } . إبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا البيت في مكة المكرمة : « وإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإِسْماعِيلُ - 127 البقرة » . ودعا إبراهيم ربه ان يجعل الناس آمنين في مكة على أنفسهم ، واستجاب دعوته ، وكان الأعداء وما زالوا يتلاقون فيها ، ولا يخاف بعضهم بعضا ، والى هذا أشار سبحانه بقوله : « أَولَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ويُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ - 67 العنكبوت » .
{ واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنامَ } . ومحال ان يعبد إبراهيم الأصنام ، وكيف وقد حطمها بيده ، وقال لقومه : « أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً ولا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ ولِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ - 67 الأنبياء » . ولكن رسل اللَّه وأنبياءه - على عصمتهم - يخافون المعصية . وهذا الخوف من أعظم الطاعات ، ومن رأى نفسه تقيا نقيا فقد فتح النوافذ فيها للشيطان .
الأنبياء واستجابة الدعاء :
وتسأل : ان إبراهيم طلب من اللَّه ان يجعل أبناءه مؤمنين ، لا يشرك واحد منهم باللَّه ، وإبراهيم نبي مرسل مستجاب الدعوة ، مع العلم بأن الكثير من ذريته قد أشركوا وعبدوا الأصنام ، ومنهم كفار قريش الذين هم من نسله وسلالته ؟ .
ونقل الرازي عن المفسرين خمسة أجوبة ، ولكن السؤال ما زال قائما يطلب الجواب عنه . . والذي نراه ان حقيقة الدعاء ما هي إلا طلب ورجاء ، سواء أكان من نبي أم غير نبي ، وقد تستدعي حكمته تعالى الاستجابة فيستجيب ، أوالرفض فيرفض ، وليس معنى عدم الاستجابة ان الداعي لا وزن له عند اللَّه كي يضر ذلك بمقام النبوة ، وعصمة الأنبياء على فرض عدم الاستجابة لدعائهم . .
كلا ، فإن رفض السؤال بمجرده لا ينبئ عن غضب المسؤول على السائل ، بل قد يدل على حبه له ، وحرصه على مصلحته ، فلقد طلب نوح ( عليه السلام ) من اللَّه نجاة ولده من الغرق ، فأجابه المولى بقوله : « فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ - 46 هود » .
وبكلام آخر ان دعاء النبي لا يعبر إلا عن حبه ورغبته ، وليس من شك ان الأنبياء يحبون ويرغبون في ايمان الناس جميعا وهدايتهم إلى الحق ، ومع ذلك قال اللَّه لسيد المرسلين الأعظم : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكِنَّ اللَّهً يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وهُوأَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ - 56 القصص » . ولوتحقق كل ما يرغب فيه الأنبياء لما وجد على ظهرها كافر ولا مجرم ، ولما قاسى رسل اللَّه من الكفار والفجار ما قاسوه ، وبالخصوص سيدهم وخاتمهم الذي قال : ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت .
{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ } . ضمير انهن يعود إلى الأصنام ، والمعنى ان كثيرا من الناس ضلوا بسبب عبادة الأصنام ، تماما كما تقول : المال أطغى فلانا أي انه طغى بسببه { فَمَنْ تَبِعَنِي } من ذريتي { فَإِنَّهُ مِنِّي } نسبا ودينا { ومَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . من عصى إبراهيم ( عليه السلام ) فهوبريء منه ، حتى ولوكان أقرب الناس إليه ، لأن من عصاه فقد عصى اللَّه ، ولكن إبراهيم حليم أوّاه كما وصفه الذي اختاره خليلا واصطفاه . ومن أجل ذلك لم يطلب العذاب للعصاة من ذريته وغير ذريته ، بل ترك أمرهم للَّه ومغفرته ورحمته . .
ومن الواضح ان العقل لا يمنع من العفوعن المشركين ، لأن العذاب على الشرك حق للَّه ، ان شاء عذب ، وان شاء عفا ، ولا ضرر بالعفوعلى أحد . أما قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهً لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ » فهودليل سمعي ، ونحن نتكلم عن حكم العقل . أنظر تفسيرنا لهذه الآية في ج 7 ص 342 .
{ رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ } . قال إبراهيم ( عليه السلام ) هذا حين ترك إسماعيل وأمه هاجر بمكة ، وهي واد مقفر لا ماء فيه ولا كلأ ، ولا شيء الا بيت اللَّه تقام فيه الصلوات ، وتردد التلبيات ، ولهذه الغاية أسكن إبراهيم بعض أهله وذريته في هذا المكان المقفر المجدب . . ولكن الإنسان لا يحيا بالصلاة وحدها ، بل لا بد له من الخبز أيضا ، ولذا قال إبراهيم : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } . وإذا لم يكن عند بيت اللَّه زرع ولا ضرع فلتتوافد الناس عليه للعبادة أوالتجارة ، ومعهم الخبز والفاكهة ، وعندها تأكل ذرية إبراهيم ويصلَّون ويشكرون . قال موسى ( عليه السلام ) : « رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ - 24 القصص » . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : « واللَّه ما سأله الا خبزا يأكله » .
وقال شاعر فقيه :
الفضل للخبز الذي لولاه * ما كان يوما يعبد الإله
{ رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وما نُعْلِنُ وما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ ولا فِي السَّماءِ } . بعد أن سأل إبراهيم اللَّه أن يتوافد الناس إلى بيته يحملون لأهله الخبز والفاكهة ليعبدوا اللَّه حق عبادته بقوة ونشاط ، بعد هذا قال للَّه : ما سؤالي وطلبي الا تضرعا لك وخشوعا ، والا اعترافا بأنك الخالق الرازق ، أما حاجتنا ومصالحنا فأنت أعلم بها منا ، سألناها منك ، أولم نسأل . . فقول إبراهيم : ما نعلن معناه ما نسأل ونطلب ، ومعنى ما نخفي ما لم نسأل ونطلب .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ } .
هذا الحمد من إبراهيم يتضمن طلب العون من اللَّه لولديه إسماعيل وإسحق ، لأن إبراهيم قد تقدمت به السن ودنا أجله ، فأوكل أمر أهله إلى رعاية اللَّه وعنايته ، ولم يبن لهم الدور ، ويكنز مال اللَّه ، ويحرمه عيال اللَّه حرصا على رفاهية ذويه وأبنائه .
{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وتَقَبَّلْ دُعاءِ } . الصلاة التي عناها إبراهيم ليست من نوع هذه الصلاة التي نصلَّيها نحن ، بل من نوع التي عناها اللَّه بقوله : « إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ - 45 العنكبوت » .
ومن هنا قسّم الفقهاء الصلاة إلى قسمين : صلاة يؤدى بها الواجب فقط ، وصاحبها غير مأجور . وصلاة يؤدى بها الواجب ، وصاحبها مأجور عند اللَّه ، وهي التي تثمر الإخلاص في العمل ، والصدق في معاملة الناس .
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ } . عند تفسير الآية 74 من سورة الأنعام ج 3 ص 212 ذكرنا اختلاف السنة والشيعة في ايمان أبي إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، ومما قلناه : ان هذا النزاع في هذه القضية وأمثالها نزاع عقيم ، وان المطلوب من المسلم هوالاعتقاد بعصمة الأنبياء ، أما الايمان بأن آباءهم كانوا مؤمنين فليس من عقيدة الإسلام في شيء ، ولوقال قائل : أنا أومن باللَّه ووحدانيته وبالأنبياء وعصمتهم ، وبالبعث والحساب ، ولا أثبت ولا أنفي الايمان عن آباء الأنبياء ، لوقال هذا أي قائل نقول له : أنت مسلم لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم .
__________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، ص 451-454.
تتضمن الآيات تذكرة ثانية بجملة من نعمه عقيب التذكرة الأولى التي يتضمنها قوله:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } الآية فذكر سبحانه أولا نعمته على جمع من عباده المؤمنين وهم بنوإسرائيل من ولد إبراهيم ثم ذكر ثانيا نعمته على جمع آخر منهم وهم بنوإسماعيل من ولد إبراهيم وهي التي يتضمنها دعاء إبراهيم (عليه السلام):{رب اجعل هذا البلد آمنا} إلى آخر دعائه وفيها نعمة توفيقه تعالى لهم أن يجتنبوا عبادة الأصنام ونعمة الأمن بمكة وميل الأفئدة إلى أهله ورزقهم من الثمرات وغير ذلك كل ذلك لأن الله سبحانه هوالعزيز الحميد.
قوله تعالى:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } أي واذكر إذ قال إبراهيم والإشارة إلى مكة شرفها الله تعالى.
وقد حكى الله سبحانه نظير هذا الدعاء على اختصار فيه عن إبراهيم (عليه السلام) في موضع آخر بقوله:{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ: البقرة: 126.
ومن الممكن أن يستفاد من اختلاف المحكيين في التعبير أعني قوله:{اجعل هذا بلدا آمنا} وقوله:{اجعل هذا البلد آمنا} أنهما دعاءان دعا (عليه السلام) بهما في زمانين مختلفين، وأنه بعد ما أسكن إسماعيل وأمه أرض مكة ورجع إلى أرض فلسطين ثم عاد إليهما وجد من إقبال جرهم إلى مجاورتهما مكانا ما سر بذلك فدعا عند ذلك مشيرا إلى مكانهم{ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } فسأل ربه أن يجعل المكان بلدا ولم يكن به وأن يرزق أهله المؤمنين من الثمرات، ثم لما عاد إليهم بعد ذلك بزمان وجد المكان بلدا فسأل ربه أن يجعل البلد آمنا.
ومما يؤيد كونهما دعاءين ما فيهما من الاختلاف من غير هذه الجهة ففي آية البقرة الدعاء لأهل البلد بالرزق من الثمرات وفي الآيات المبحوث عنها الدعاء بذلك لذريته خاصة مع أمور أخرى دعا بها لهم.
وعلى هذا يكون هذا الدعاء المحكي عن إبراهيم (عليه السلام) في هذه الآيات آخر ما أورده الله تعالى في كتابه من كلام إبراهيم (عليه السلام) ودعائه، وقد دعا به بعد ما أسكن إسماعيل وأمه بها وجاورتهما قبيلة جرهم وبنى البيت الحرام وبنيت بلدة مكة بأيدي القاطنين هناك كما تدل عليه فقرات الآيات.
وعلى تقدير أن يكون المحكيان دعاء واحدا يكون قوله:{رب اجعل} إلخ تقديره: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا وقد حذف في إحدى الآيتين المشار إليه وفي الأخرى الموصوف اختصارا.
والمراد بالأمن الذي سأله (عليه السلام) الأمن التشريعي دون التكويني - كما تقدم في تفسير آية البقرة – فهو يسأل ربه أن يشرع لأرض مكة حكم الحرمة والأمن، وهو- على خلاف ما ربما يتوهم - من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده فإنا لوتأملنا هذا الحكم الإلهي الذي شرعه إبراهيم (عليه السلام) بإذن ربه أعني حكم الحرمة والأمن وأمعنا فيما يعتقده الناس من تقديس هذا البيت العتيق وما أحاط به من حرم الله الآمن وقد ركز ذلك في نفوسهم منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم وجدنا ما لا يحصى من الخيرات والبركات الدينية والدنيوية عائدة إلى أهلها وإلى سائر أهل الحق ممن يحن إليهم ويتعلق قلبه بهم، وقد ضبط التاريخ من ذلك شيئا كثيرا وما لم يضبط أكثر فجعله تعالى مكة بلدا آمنا من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده.
قوله تعالى:{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ - إلى قوله - غفور رحيم} يقال: جنبه وأجنبه أي أبعده، وسؤاله (عليه السلام) أن يجنبه الله ويبعده وبنيه من عبادة الأصنام لواذ والتجاء إليه تعالى من الإضلال الذي نسبه إليهن في قوله:{رب إنهن أضللن} إلخ.
ومن المعلوم أن هذا الإبعاد والإجناب منه تعالى كيفما كان وأيا ما كان تصرف ما وتأثير منه تعالى في عبده بنحو، غير أنه ليس بنحويؤدي إلى الإلجاء والاضطرار ولا ينجر إلى القهر والإجبار بسلب صفة الاختيار منه إذ لا مزية لمثل هذا الابتعاد حتى يسأل ذلك مثل إبراهيم خليل الله.
فرجع بالحقيقة إلى ما تقدم في قوله تعالى:{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} الآية، أن كل خير من فعل أوترك فإنه منسوب إليه تعالى أولا، ثم إلى العبد ثانيا بخلاف الشر من فعل أوترك فإنه منسوب إلى العبد ابتداء ولو نسب إليه تعالى فإنما ينسب إذا كان على سبيل المجازاة، وقد أوضحنا ذلك.
فالاجتناب من عبادة الأصنام إنما يتحقق عن إجناب من الله رحمة منه لعبده وعناية، وليس في الحقيقة إلا أمرا تلبس واتصف به العبد غير أنه إنما يملكه بتمليك الله سبحانه فهو المالك له بذاته والعبد يملكه بأمر منه وإذن كما أن العبد إنما يهتدي عن هداية من الله، وليس هناك إلا هدى واحد لكنه مملوك لله سبحانه لذاته والعبد إنما يملكه بتمليك منه سبحانه، وأبسط كلمة في هذا المعنى ما وقع في أخبار آل العصمة أن الله يوفق عبده لفعل الخير وترك الشر هذا.
فتلخص أن المراد بقوله (عليه السلام){واجنبني} سؤال ما لله سبحانه من الصنع في ترك العبد عبادة الأصنام وبعبارة أخرى هو يسأل ربه أن يحفظه وبنيه من عبادة الأصنام ويهديهم إلى الحق إن هم عرضوا أنفسهم لذلك وأن يفيض عليهم إن استفاضوا لا أن يحفظهم منها سواء عرضوا لذلك أنفسهم أولم يعرضوا وأن يفيض عليهم سواء استفاضوا أوامتنعوا فهذا معنى دعائه (عليه السلام).
ومنه يعلم أن نتيجة الدعاء لبعض المدعوين لهم وإن كان بلفظ يستوعب الجميع، وهذا البعض هم المستعدون لذلك دون المعاندين والمستكبرين منهم وسنزيده بيانا.
ثم هو(عليه السلام) يدعوبهذا الدعاء لنفسه وبنيه:{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } وبنوه جميع من جاء من نسله بعده وهم بنو إسماعيل وبنو إسحاق فإن الابن كما يطلق على الولد من غير واسطة كذلك يطلق على غيره، ويصدق ذلك القرآن الكريم قال تعالى:{ملة أبيكم إبراهيم}: الحج: 78 وقد تكرر إطلاق بني إسرائيل على اليهود في نيف وأربعين موضعا من كلامه تعالى.
فهو(عليه السلام) يسأل البعد عن عبادة الأصنام لنفسه ولجميع من بعده من بنيه بالمعنى الذي تقدم، اللهم إلا أن يقال: إن قرائن الحال والمقال تدل على اختصاص الدعاة بآل إسماعيل القاطنين بالحجاز فلا يعم بني إسحاق.
ثم عقب (عليه السلام) دعاءه:{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } بقوله:{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } وهو في مقام التعليل لدعائه وقد أعاد النداء{رب} إثارة للرحمة الإلهية، أي إني إنما أسألك أن تبعدني وبني عن عبادتهن لأنهن أضللن كثيرا من الناس ونسبة الإضلال إلى الأصنام لمكان الربط الذي بين الضلال وبينهن وإن لم يكن ارتباطا شعوريا وليس من اللازم في نسبة أي فعل أو أثر إلى شيء أن يقوم به قياما شعوريا وهو ظاهر.
ثم قوله (عليه السلام):{ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } تفريع على ما تقدم من كلامه أي إذا كان كثير من الناس أضلتهم الأصنام بعبادتهن واستعذت بك وعرضت نفسي وبني عليك أن تجنبنا من عبادتهن افترقنا نحن والناس طائفتين: الضالون عن طريق توحيدك والعارضون لأنفسهم على حفظك وإجنابك فمن تبعني{إلخ}.
وقد عبر (عليه السلام) في تفريعه بقوله:{فمن تبعني} والاتباع إنما يكون في طريق - وقد لوح إلى الطريق أيضا بقوله:{أضللن} لأن الضلال إنما يكون عن الطريق - فمراده باتباعه التدين بدينه والسير بسيرته لا مجرد الاعتقاد بوحدانيته تعالى بل سلوك طريقته المبنية على توحيد الله سبحانه ليكون في ذلك عرض النفس على رحمته تعالى وإجنابه من عبادة الأصنام.
ومن الدليل على كون المراد بالاتباع هو سلوك سبيله قوله في ما يعادله من كلامه:{ومن عصاني} فإنه نسب العصيان إلى نفسه ولم يقل: ومن كفر بك أوعصاك أو فسق عن الحق ونحو ذلك كما لم يقل فمن آمن بك أو أطاعك أو اتقاك وما أشبهه.
فمراده باتباعه سلوك طريقه والتدين بجميع ما أتى به من الاعتقاد والعمل وبعصيانه ترك سيرته وما أتى به من الشريعة اعتقادا وعملا كأنه (عليه السلام) يقول: من تبعني وعمل بشريعتي وسار بسيرتي فإنه ملحق بي ومن أبنائي تنزيلا أسألك أن تجنبني وإياه أن نعبد الأصنام، ومن عصاني بترك طريقتي كلها أوبعضها سواء كان من بني أوغيرهم فلا ألحقه بنفسي ولا أسألك إجنابه وإبعاده بل أخلي بينه وبين مغفرتك ورحمتك.
ومن هنا يظهر أولا أن قوله (عليه السلام):{فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} تفسير لقوله:{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } بالتصرف في البنين تعميما وتخصيصا فهو كتعميم البنين لكل من تبعه من جهة وتخصيصه بالعاصين له منهم من جهة أخرى فليسوا منه ولا ملحقين به، وبالجملة هو(عليه السلام) يلحق الذين اتبعوه من بعده بنفسه وأما غير متبعيه فيخلي بينهم وبين ربهم الغفور الرحيم كما قال تعالى:{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا }: آل عمران: 68.
وهذه التوسعة والتضييق منه (عليه السلام) نظير مجموع ما وقع منه ومن ربه في الفقرة الأخرى من دعائه على ما يحكيه آية البقرة:{ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } حيث سأل الرزق أولا لأهل البلد ثم خصه لمن آمن منهم فعممه الله سبحانه بقوله:{ومن كفر} ثانيا.
وثانيا: أن من الممكن أن يستفاد من قوله (عليه السلام) فيمن تبعه: إنه مني وسكوته فيمن عصاه بعد ما كان دعاؤه في نفسه وبنيه أن ذلك تبن منه لكل من تبعه وإلحاق له بنفسه، ونفي لكل من عصاه عن نفسه وإن كان من بنيه بالولادة، أوإلحاق لتابعيه بنفسه مع السكوت عن غيرهم بناء على عدم صراحة السكوت في النفي.
ولا إشكال في ذلك بعد ظهور الدليل فإن الولادة الطبيعية لا يجب أن تكون هي الملاك في النسب إثباتا ونفيا، ولا تجد واحدة من الأمم يقتصرون في النسب إثباتا ونفيا على مجرد الولادة الطبيعية بل لا يزالون يتصرفون بالتوسعة والتضييق وللإسلام أيضا تصرفات في ذلك كنفي الدعي والمولود من الزنا والكافر والمرتد وإلحاق الرضيع والمولود على الفراش إلى غير ذلك، وفي كلامه تعالى في ابن نوح:{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }: هود: 46.
وثالثا: أنه (عليه السلام) وإن لم يسأل المغفرة والرحمة صريحا لمن عصاه وإنما عرضهم للمغفرة والرحمة بقوله:{ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } لكنه لا يخلوعن إيماء ما إلى الطلب لمن ترك طريقته وسيرته التي تعد الإنسان للرحمة الإلهية بحفظه من عبادة الأصنام، وهذا المقدار من المعصية لا يمنع عن شمول الرحمة وإن لم يكن مقتضيا أيضا لذلك، وليس المراد به نفس الشرك بالله حتى ينافي سؤال المغفرة كما قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}: النساء: 116.
هذا محصل ما يعطيه التدبر في الآيتين الكريمتين وهو في معزل عما استشكله المفسرون في أطراف الآيتين ثم ذهبوا في التخلص عنه مذاهب شتى بعيدة عن الذوق السليم.
فقد استشكلوا أولا قوله (عليه السلام):{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } من حيث إن ظاهره سؤال الحفظ عن عبادة الأصنام لنفسه ولبنيه جميعا فيكون دعاء غير مستجاب فإن قريشا من بنيه وقد كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، وكيف يمكن أن يدعومثل الخليل (عليه السلام) ثم لا يستجاب له؟ أم كيف يمكن أن يذكر تعالى دعاءه وهو لغو غير معني به ثم لا يذكر رده على خلاف مسلك القرآن في جميع المواضع المشابهة؟ ثم كيف يمكن أن يسأل لنفسه المصونية والعصمة عن عبادة الأصنام وهو نبي والأنبياء معصومون؟ وقد قيل في الجواب عن إشكال عدم استجابة دعائه في بنيه إن المراد ببنيه أبناؤه بلا واسطة كإسماعيل وإسحاق وغيرهما وقد استجيب دعاؤه فيهم، وقيل: المراد الموجودون من بنيه وقت الدعاء وهم موحدون، وقيل: إن الله قد استجاب دعاءه في بعض بنيه دون بعض ولا نقص فيه.
وقيل: إن المشركين من بنيه لم يكونوا يعبدون الأصنام وإنما كانوا يتخذونها شفعاء، وقيل: إنهم كانوا يعبدون الأوثان دون الأصنام وبينهما فرق فإن الأصنام هي التماثيل المصورة والأوثان هي التماثيل غير المصورة، وقيل: إنهم ما كانوا يعبدون الأصنام بل كان الواحد منهم ينصب حجرا ويقول: هذا حجر والبيت حجر، فكان يدور حوله ويسمونه الدوار.
وسقوط هذه الوجوه ظاهرة: أما الأول والثاني فلكونهما خلاف ظاهر اللفظ وأما الثالث فلأن الإشكال ليس في ورود نقص على النبي بعدم استجابة دعائه أوبعضه لحكمة بل من جهة منافاته لمسلك القرآن في حكاية لغو الكلام من غير رده، وأما باقي الوجوه فلأن ملاك الضلال في عبادة الأصنام هو شرك العبادة وهو موجود في جميع ما افترضوه من الوجوه.
وقيل في الجواب عن إشكال سؤال النبي الإبعاد والإجناب عن الشرك وهو نبي معصوم: إن المراد الثبات والدوام على ذلك، وقيل إنه (عليه السلام) ذكر ذلك هضما لنفسه وإظهارا للحاجة إلى فضله تعالى، وقيل: المراد سؤال الحفظ عن الشرك الخفي وإلا فالأنبياء مصونون عن الشرك الجلي هذا.
وهذه وجوه ردية، أما الأول فلأنه لا ينحسم به مادة الإشكال إذ العصمة والمصونية كما أنها لازمة للنبوة حدوثا لازمة لها بقاء فلولم يصح للنبي أن يسأل حدوثها لمكان اللزوم لم يصح له أن يسأل بقاءها لذلك بعينه، والأصل في جوابهم هذا أنهم يزعمون انفصال الفيض عن المفيض واستقلال المستفيض فيما استفاضه بمعنى أن الله سبحانه إذا أفاض بشيء على شيء خرج ما أفاضه من ملكه ووقع في ملك المستفيض ولا معنى للسؤال ممن لا يملك وإذا قضى سبحانه بشيء حدوثا أوبقاء قضاء حتم لا يتغير عما هو عليه فإنه لا يتعلق على خلافه قدرة ولا مشية وهو خطأ فإن الحاجة من جانب المستفيض باقية على حالها قبل الإفاضة لا تختلف أصلا وملكه تعالى باق بعد الإفاضة على ما كان عليه قبلها ولا يزال سبحانه قادرا له أن يشاء ما يشاء وإن كان لا يشاء فيما قضى بخلافه قضاء حتم، والسؤال والطلب من آثار الحاجة لا من آثار الفقدان فافهم ذلك وقد أشبعنا القول في هذا المعنى في المباحث المتقدمة مرارا.
وأما الثاني فلأن هضم النفس إنما يستقيم في غير الضروريات وأما الأمور الضرورية فلا، فلا معنى لقول القائل: لست إنسانا وهو يريد نفي الماهية هضما لنفسه اللهم إلا أن يريد نفي الكمال وكذا القول في إظهار الحاجة وهم لا يرون في الأمور الضرورية المحتومة كالعصمة في الأنبياء حاجة.
وأما الثالث فلأن الشرك الخفي هو الركون والتوجه إلى غير الله على مراتبه، وإبراهيم (عليه السلام) يعلل قوله:{واجنبني} إلخ بقوله{إنهن أضللن} إلخ فهو إنما يسأل الإبعاد من عبادة هذه الأصنام وهي الشرك الجلي دون الحفظ عن الركون والتوجه إلى غير الله تعالى اللهم إلا أن يدعى أن المراد بالصنم كل ما يتوجه إليه غير الله سبحانه، وكذا المراد بالعبادة مطلق التوجه والالتفات وهو دعوى لا دليل عليها.
ثم استشكلوا في قوله (عليه السلام){ومن عصاني فإنك غفور رحيم} من حيث اشتماله على طلب المغفرة للمشركين، ولا تتعلق المغفرة بالشرك بنص قوله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به} الآية.
وقد قيل في الجواب عن الإشكال: أن الشرك كان جائز المغفرة في الشرائع السابقة وإنما رفع ذلك في هذه الشريعة بقوله:{إن الله لا يغفر أن يشرك به} الآية فإبراهيم (عليه السلام) جرى في دعائه على ما كان عليه الأمر في شريعته.
وقيل: إن المراد: ومن عصاني فإنك غفور رحيم له بعد توبته ففي الكلام قيد محذوف، وقيل: المراد ومن عصاني وأقام على الشرك فإنك غفور رحيم بأن تنقله من الشرك إلى التوحيد فتغفر له وترحمه.
وقيل: المراد بالمغفرة والرحمة الستر على الشرك في الدنيا والرحمة بعدم معاجلة العقاب فالمعنى ومن عصاني بالإقامة على الشرك فاستر عليه ذلك وارحمه بتأخير العقاب عنه، وقيل: إن الكلام على ظاهره وكان ذلك منه (عليه السلام) قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك، ولا نقص بجهل ذلك لأن مغفرة الشرك جائزة عقلا وإنما منع منها الدليل السمعي وليس من الواجب أن يعلم بجميع الأدلة السمعية في يوم واحد، وقيل: المراد بالمعصية ما دون الشرك.
وهذه أجوبة فاسدة أما الأول فلأن دعوى كون الشرك جائز المغفرة في الشرائع السابقة دعوى لا دليل عليها بل الدليل على خلافها فقد خاطب الله آدم (عليه السلام) بمثل قوله: - وهو أول الشرائع السابقة -{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }: البقرة: 39، وحكى عن المسيح (عليه السلام) وشريعته آخر الشرائع السابقة قوله:{إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}: المائدة: 72، والتدبر في آيات القيامة والجنة والنار وفي آيات الشفاعة وفي دعوات الأنبياء المحكية في القرآن لا يدع شكا في أن الشرك لا نجاة لصاحبه بشفاعة أوغيره إلا بالتوبة قبل الموت.
وأما الثاني فلأن تقييد المغفرة والرحمة بالتوبة تقييد من غير مقيد على أن تقييد المعصية بالتوبة يفسد المعادلة في قوله:{ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي } إلخ، فإن العاصي التائب يعود ممن تبعه ويلحق به (عليه السلام) فلا يبقى للمعادلة أزيد من طرف واحد.
وأما الثالث والرابع فلما فيهما من ارتكاب خلاف الظاهر فإن ظاهر طلب المغفرة للعاصي أن يغفر الله له حينما هو عاص لا أن يغفر الله له بعد خروجه بالتوبة عن المعصية إلى الطاعة وكذا ظاهر مغفرة العصيان رفع تبعات معصيته مطلقا أوفي الآخرة، وأما رفع التبعة الدنيوية فقط فأمر بعيد عن الفهم.
وأما الخامس فهو أبعد الوجوه، وكيف يجوز الاجتراء على مثل الخليل (عليه السلام) وهو في أواخر عمره - كما تقدم - أن يجهل ما هو من واضحات المعارف الدينية ثم يجري على جهله فيشفع عند ربه للمشركين ويسأل لهم المغفرة من غير أن يستأذن الله في ذلك ولو استأذنه لأنبأه أن ذلك مما لا يكون ثم يورد الله سبحانه في كلامه ما ارتكبه من لغو الكلام جهلا ولا يرده ببيان ما هو الحق في ذلك، وقد اعتذر سبحانه عن استغفاره لأبيه المشرك ورفع عن ساحته كل غميضة فيما قال:{ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ }: التوبة: 114.
وأما السادس فتقييد المعصية بما دون الشرك تقييد من غير مقيد، اللهم إلا أن يقرر بما يرجع إلى ما قدمناه.
فهذه جملة ما ذكره المفسرون في ذيل الآيتين أوردناها ملخصه وقد وقعوا فيما وقعوا لإهمالهم تحقيق القول في معنى حفظه تعالى عن الشرك، ومعنى تفرع قوله:{فمن تبعني فإنه مني} إلخ على ما تقدمه.
قوله تعالى:{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } إلى آخر الآية{من ذريتي} في تأويل مفعول{أسكنت} أوساد مسده و{من} فيه للتبعيض ومراده (عليه السلام) ببعض ذريته ابنه إسماعيل ومن سيولد له من الأولاد دون إسماعيل وحده بدليل قوله: بعد{ربنا ليقيموا الصلاة}.
والمراد بغير ذي زرع غير المزروع وهو آكد وأبلغ لأنه يدل - كما قيل - على عدم صلاحيته لأن يزرع لكونه أرضا حجرية رملية خالية عن المواد الصالحة للزرع وهذا كقوله:{قرآنا غير ذي عوج}.
ونسبة البيت إلى الله سبحانه لأنه مبني لغرض لا يصلح إلا له تعالى وهو عبادته، وكونه محرما هو ما جعل الله له من الحرمة تشريعا والظرف أعني قوله{عند بيتك المحرم} متعلق بقوله{أسكنت}.
وهذه الجملة من دعائه (عليه السلام) أعني قوله:{ربنا إني أسكنت - إلى قوله - المحرم} من الشاهد على ما قدمناه من أنه (عليه السلام) إنما دعا بهذا الدعاء في أواخر عمره بعد ما بنى الكعبة وبنى الناس بلدة مكة وعمروها كما أن من الشاهد عليه أيضا قوله:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ }.
وبذلك يندفع ما ربما يستشكل فيقال: كيف سماه بيتا وقال أسكنت من ذريتي عنده ولم يبنه بعد؟ كأن السائل يقدر أنه إنما دعا به يوم أتى بإسماعيل وأمه إلى أرض مكة وكانت أرضا قفراء لا أنيس بها ولا نبت.
ولا حاجة إلى دفعه بأنه كان يعلم بما علمه الله أنه سيبني هناك بيتا لله أوبأن البيت كان قبل ذلك وإنما خربه بعض الطوائف أورفعه الله إلى السماء في الطوفان وليت شعري إذا اندفع بهما هذا الإشكال فكيف يندفع بهما ما يتوجه من الإشكال على هذا التقدير إلى ظاهر قوله رب اجعل هذا البلد آمنا وظاهر قوله:{وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق}.
وقوله:{ربنا ليقيموا الصلاة} بيان لغرضه من إسكانهم هناك، وهو بانضمام ما تقدم من قوله:{بواد غير ذي زرع} وما يعقبه من قوله:{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ } يفيد أنه (عليه السلام) إنما اختار واديا غير ذي زرع أعزل من أمتعة الحياة من ماء عذب ونبات ذي خضرة وشجر ذي بهجة وهواء معتدل خاليا من السكنة ليتمحضوا في عبادة الله من غير أن يشغلهم شواغل الدنيا.
وقوله:{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } إلخ من الهوي بمعنى السقوط أي تحن وتميل إليهم بالمساكنة معهم أوبالحج إلى البيت فيأنسوا بهم، وارزقهم من الثمرات، بالنقل إليهم تجارة لعلهم يشكرون.
قوله تعالى:{ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} إلى آخر الآية معناه ظاهر، وقوله:{ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} من تمام كلام إبراهيم (عليه السلام) أومن كلامه تعالى، وعلى الأول ففي قوله:{على الله} التفات وجهه الإشارة إلى علة الحكم كأنه قيل: إنك تعلم ما نخفي وما نعلن لأنك الله الذي ما يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يبعد أن يستفاد من هذا التعليل أن المراد بالسماء ما هو خفي علينا غائب عن حسنا والأرض بخلافه فافهم ذلك.
قوله تعالى:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} كالجملة المعترضة بين فقرات دعائه دعاه إلى إيراده تذكره في ضمن ما أورده من الأدعية عظيم نعمة الله عليه إذ وهب له ولدين صالحين مثلهما بعد ما انقطع عنه الأسباب العادية المؤدية إلى ظهور النسل، وأنه إنما وهبهما له باستجابة دعائه للولد فحمد الله على ما وهبهما وأثنى عليه على استجابة دعائه في ذلك.
قوله تعالى:{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ }الكلام في استناد إقامته الصلاة إلى الله سبحانه نظير الكلام في استناد إجنابه أن يعبد الأصنام فإن لإقامة الصلاة نسبة إليه تعالى بالإذن والمشية كما أن لها نسبة إلى العبد بالتصدي والعمل وقد مر الكلام فيه.
وهذه الفقرة ثاني دعاء يشترك فيه هو(عليه السلام) وذريته ويعقب في الحقيقة قوله أولا:{واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} كما يلحق به دعاؤه الثالث المشترك فيه:{ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين}.
وقد أفرد نفسه في جميع الفقرات الثلاث عن غيره إذ قال:{واجنبني}{واجعلني مقيم الصلاة}{اغفر لي} لأن مطلوبه لحوق ذريته به كما قال في موضع آخر:{واجعل لي لسان صدق في الآخرين}: الشعراء: 84 وفي موضع آخر كما حكاه الله بقوله:{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي }: البقرة: 124.
وأما قوله في الفقرة الأولى{واجنبني وبني} وهاهنا{اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} فقد تقدم أن المراد ببنيه بعضهم لا جميعهم فتتطابق الفقرتان.
ومن تطابق الفقرتين أنه أكد دعاءه في هذه الفقرة بقوله:{ربنا وتقبل دعاء} فإن سؤال تقبل الدعاء إلحاح وإصرار وتأكيد كما أن التعليل في الفقرة الأولى، بقوله:{رب إنهن أضللن كثيرا من الناس} تأكيد في الحقيقة لما فيها من الدعاء، بقوله:{واجنبني} إلخ.
قوله تعالى:{ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} ختم (عليه السلام) دعاءه – وهو آخر ما ذكر من دعائه في القرآن الكريم كما تقدم - بطلب المغفرة للمؤمنين يوم القيامة ويشبه آخر ما دعا به نوح (عليه السلام) مما ذكر في القرآن:{ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }: نوح: 28.
وفي الآية دليل على أنه (عليه السلام) لم يكن ولد آزر المشرك لصلبه فإنه (عليه السلام) - كما ترى - يستغفر لوالديه وهو على الكبر وفي آخر عهده{وقد تبرأ من آزر في أوائل عهده بعد ما استغفر له عن موعدة وعده إياه قال تعالى:{قال سلام عليك سأستغفر لك ربي}: مريم: 47، وقال:{ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ }: الشعراء: 86، وقال:{ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ }: التوبة: 114 وقد تقدم تفصيل القول في قصصه (عليه السلام) في سورة الأنعام في الجزء السابع من الكتاب.
ومن لطيف ما في دعائه (عليه السلام) اختلاف النداء المكرر الذي فيه بلفظ{رب} و{ربنا} والعناية فيما أضيف إلى نفسه بما يختص بنفسه من السبقة والإمامة، وفيما أضيف إلى نفسه وغيره إلى المشتركات.
________________
1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج12،ص54-64.
دعاء إبراهيم (عليه السلام):
لمّا كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين الصادقين والشاكرين لأنعم الله، عقّبت هذه الآيات في بحث بعض أدعية وطلبات العبد المجاهد والشاكر لله إبراهيم (عليه السلام) ليكون هذا البحث تكملة للبحث السابق ونموذجاً حيّاً للذين يريدون أن يستفيدوا من النعم الإلهيّة أفضل إستفادة.
يقول تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} لأنّه (عليه السلام) كان يعلم حجم البلاء الكبير الكامن في عبادة الأصنام، ويعلم كثرة الذين ذهبوا ضحيّةً في هذا الطريق { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } فأيّ ضلال أكبر من هذا الضلال الذي يفقد الإنسان فيه حتّى عقله وحكمته.
إلهي انّني أدعو إلى توحيدك، وأدعو الجميع إلى عبادتك { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
في الحقيقة إنّ إبراهيم (عليه السلام) أراد بهذه العبارة أن يقول لله تعالى: إنّه حتّى لو إنحرف أبنائي عن مسيرة التوحيد واتّجهوا إلى عبادة الأصنام فإنّهم ليسوا منّي، ولو كان غيرهم في مسيرة التوحيد فهم أبنائي وإخواني.
إنّ تعبير إبراهيم المؤدّب والعطوف جدير بالملاحظة، فهو لم يقل: ومن عصاني فإنّه ليس منّي وساُعاقبه عقاباً شديداً، بل يقول: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ثمّ يستمر بدعائه ومناجاته { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}.
وكان ذلك عندما رزقه الله إسماعيل من جاريته «هاجر» فأثار ذلك حسد زوجته الأُولى «سارة» ولم تستطيع تحمّل وجود هاجر وإبنها، فطلبت من إبراهيم أن يذهب بهما إلى مكان آخر، فإستجاب لها إبراهيم طبقاً للأوامر الإلهيّة، وجاء بإسماعيل واُمّه إلى صحراء مكّة القاحلة، ثمّ ودّعهم وذهب.
ولم يمض قليل من الوقت حتّى عطشت الاُمّ وإبنها في تلك الشمس المحرقة، وسعت هاجر كثيراً في إنقاذ إبنها، ولكنّ الله تعالى أراد أن تكون تلك الأرض قاعدة عظيمة للعبادة فأظهر عين زمزم، ولم يمض وقت حتّى علمت قبيلة «جرهم» البدوية التي كانت قريبة منهم بالأمر، فرحلوا وأقاموا عندهم، فأخذت مكّة بالتحضّر شيئاً فشيئاً.
ثمّ يتابع إبراهيم (عليه السلام) دعاءه: إلهي، انّ أهلي قد سكنوا في هذه الصحراء المحرقة إحتراماً لبيتك المحرّم: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
ومن هنا لمّا كان الإنسان الموحّد والعارف يعلم بمحدودية علمه في مقابل علم الله، وانّه يعلم مصلحته إلاّ الله تعالى، فما أكثر ما يطلب شيئاً من الله وليس فيه صلاحه، أو لا يطلبه وفيه صلاحه، وأحياناً لا يستطيع أن يقوله بلسانه فيضمره في أعماق قلبه، ولذلك يعقّب على ما مضى من دعائه ويقول: { رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}.
فان كنت مغتمّاً لفراق إبني وزوجتي فأنت تعلم بذلك .. وترى دموع عيني المنهملة. وإن كان قلبي قد ملأه همّ الفراق، وإمتزج بفرح العمل بالتكليف والطاعة لأوامرك فأنت أعلم بذلك ..
وعندما فارقت زوجتي وقالت لي: «إلى من تكلني» فأنت أدرى بها وبمستقبلها ومستقبل هذه الأرض.
ثمّ يشير القرآن إلى شكر إبراهيم (عليه السلام) لنعمه تعالى والتي هي من أهمّ ما إمتاز به (عليه السلام) .. شكره على منحه ولدين بارّين إسماعيل وإسحاق وذلك في سنّ الشيخوخة { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}(2) نعم {إنّ ربّي لسميع الدعاء}.
ثمّ يستمرّ بدعاءه ومناجاته أيضاً فيقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ }.
ثمّ يختم دعاءه هنا فيقول: { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}.
________________
1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي،ج6،ص539-541.
2- ـ هناك إختلاف بين المفسّرين في سنّ إبراهيم عند ولادة إسماعيل وإسحاق، فمنهم من قال: كان عمره عند ولادة إسماعيل 99 عاماً وعند ولادة إسحاق 112 عام، ومنهم من يقول أكثر من ذلك وأقل، ولكن القدر المسلّم به أنّ عمره كان في سن يصعب أن يولد منه الأبناء.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|