أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-7-2020
11529
التاريخ: 28-6-2020
14346
التاريخ: 12-7-2020
4383
التاريخ: 12-7-2020
3724
|
قال تعالى :{ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوالْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوكَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوبَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف: 81 - 87]
أخبر سبحانه أنه قال كبيرهم في السن أوفي العلم { ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق } في الظاهر { وما شهدنا } عندك بهذا { إلا بما علمنا } أي: بما شهدنا من أن الصاع استخرج من رحله في الظاهر وبين بهذا أنهم لم يكونوا قاطعين على أنه سرق وقيل: معناه ما شهدنا عند يوسف أن السارق يسترق إلا بما علمنا أن الحكم ذلك ولم نعلم أن ابنك سرق أم لا إلا أنه وجد الصاع عنده فحكم بأنه السارق في الظاهر وإنما قالوا ذلك حين قال يعقوب (عليه السلام) لهم: ما يدري الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته ويسترق وإنما علم ذلك بقولكم.
{ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي: إنا لم نعلم الغيب حين سألناك أن تبعث ابن يامين معنا ولم ندر أن أمره يؤول إلى هذا وإنما قصدنا به الخير ولوعلمنا ذلك ما ذهبنا به عن مجاهد وقتادة والحسن قال علي بن عيسى: علم الغيب هو علم من لوشاهد الشيء لشاهده بنفسه لا بأمر يستفيده والعالم بهذا المعنى هو الله وحده جل اسمه وقيل: معناه ما كنا لسر هذا الأمر حافظين وبه عالمين فلا ندري أنه سرق أم كذبوا عليه وإنما أخبرناك بما شاهدنا عن عكرمة وقيل: معناه ما كنا لغيب ابنك حافظين أي: إنا كنا نحفظه في محضره وإذا غاب عنا ذهب عن حفظنا يعنون أنه سرق ليلا وهم نيام والغيب هو الليل بلغة حمير عن ابن عباس قال: أي إنا لم نعلم ما كان يصنع في ليله ونهاره ومجيئه وذهابه.
{واسأل القرية} أي: أهل القرية {التي كنا فيها} والقرية مصر عن ابن عباس والحسن وقتادة ومعناه: سل من شئت من أهل مصر عن هذا الأمر فإن هذا الأمر شائع فيهم يخبرك به من سألته وإنما قالوا ذلك: لأن بعض أهلها كانوا قد صاروا إلى الناحية التي كان فيها أبوهم والعرب تسمي الأمصار والمدائن قرى { والعير التي أقبلنا فيها } أي: وسل أهل القافلة التي قدمنا فيها وكانوا من أرض كنعان من جيران يعقوب وإنما حذف المضاف للإيجاز ولأن المعنى مفهوم وقيل: إنه ليس في الكلام حذف لأن يعقوب (عليه السلام) نبي صاحب معجز يجوز أن تكلمه القرية والعير على وجه خرق العادة وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا أهل تهمة عند يعقوب { وإنا لصادقون } فيما أخبرناك به { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} هاهنا حذف كثير يدل الحال عليه تقديره فلما رجعوا إلى أبيهم وقصوا عليه القصة بطولها قال لهم: ما عندي أن الأمر على ما تقولونه بل سولت لكم أنفسكم أمرا فيما أظن { فصبر جميل } أي: فأمري صبر جميل لا جزع منه { عسى الله أن يأتيني بهم جميعا } أي: عسى الله أن يأتيني بيوسف وابن يامين وروبيل أوشمعون أولاوي أو يهوذا { إنه هو العليم } بعباده { الحكيم } في تدبير الخلق { وتولى عنهم } أي: انصرف وأعرض عنهم بشدة الحزن لما بلغه خبر حبس ابن يامين وهاج ذلك وجده بيوسف لأنه كان يتسلى به { وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} أي: يا طول حزني على يوسف عن ابن عباس وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم يعط الأنبياء قبلهم إنا لله وإنا إليه راجعون ولوأعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب إذ يقول : يا أسفي على يوسف.
{ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} والبكاء ولما كان البكاء من أجل الحزن أضاف بياض البصر إليه وسئل الصادق (عليه السلام) ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف قال: حزن سبعين حرى ثكلى قيل كيف وقد أخبر أنه يرد عليه فقال: أنسى ذلك وقيل: إنه عمي ست سنين عن مقاتل وقيل: إنه أشرف على العمى فكان لا يرى إلا شيئا يسيرا { فهو كظيم } والكظيم هاهنا بمعنى الكاظم وهو المملوء من الهم والحزن الممسك للغيظ لا يشكوه لأهل زمانه ولا يظهره بلسانه ولذلك لقب موسى بن جعفر (عليه السلام) الكاظم لكثرة ما كان يتجرع من الغيظ والغم طول أيام خلافته لأبيه في ذات الله تعالى وقال ابن عباس: وهو المغموم المكروب { قالوا } أي: قال ولد يعقوب لأبيهم: { تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تزال تذكر يوسف { حتى تكون حرضا } أي: دنفا فاسد العقل عن ابن عباس وابن إسحاق وقيل: قريبا من الموت عن مجاهد وقيل: هرما باليا عن قتادة والضحاك { أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} أي: الميتين وإنما قالوا ذلك إشفاقا عليه وتعطفا ورحمة له وقيل: إنهم قالوا ذلك تبرما ببكائه إذ تنغص عيشهم بذلك { قال } يعقوب في جوابهم { إنما أشكوا بثي } أي: همي عن ابن عباس وقيل: حاجتي عن الحسن { وحزني إلى الله } المعنى إنما أشكو حزني وحاجتي واختلال حالي وانتشارها إلي الله في ظلم الليالي وأوقات خلواتي لا إليكم وقيل: البث ما أبداه والحزن ما أخفاه وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن جبرائيل أتاه فقال: يا يعقوب إن الله يقرأ عليك السلم ويقول أبشر وليفرح قلبك فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك اصنع طعاما للمساكين فإن أحب عبادي إلي المساكين أ وتدري لم أذهبت بصرك وقوست ظهرك لأنكم ذبحتم شاة وأتاكم مسكين وهو صائم فلم تطعموه شيئا فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغذاء أمر مناديا ينادي ألا من أراد الغذاء من المساكين فليتغذ مع يعقوب وإذا كان صائما أمر مناديا فنادى ألا من كان صائما فليفطر مع يعقوب رواه الحاكم أبوعبد الله الحافظ في صحيحه { وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: وأعلم صدق رؤيا يوسف وأعلم أنه حي وأنكم ستسجدون له كما اقتضاه رؤياه عن ابن عباس وقيل: وأعلم من رحمة الله وقدرته ما لا تعلمون عن عطاء وفي كتاب النبوة بالإسناد عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال إن يعقوب دعا الله سبحانه في أن يهبط عليه ملك الموت فأجابه فقال ما حاجتك قال أخبرني هل مر بك روح يوسف في الأرواح فقال لا فعلم أنه حي فقال { يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } ابن يامين وقيل: إنهم لما أخبروه بسيرة الملك قال لعله يوسف عن السدي فلذلك قال { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} ابن يامين أي: استخبروا من شأنهما واطلبوا خبرهما وانظروا أن ملك مصر ما اسمه وعلى أي دين هو فإنه ألقي في روعي أن الذي حبس ابن يامين هو يوسف وإنما طلبه منكم وجعل الصاع في رحله احتيالا في حبس أخيه عند نفسه.
{ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} أي: لا تقنطوا من رحمته عن ابن عباس وقتادة والضحاك وقيل من الفرج من قبل الله عن ابن زيد والمعنى لا تيأسوا من الروح الذي يأتي به الله { إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} قال ابن عباس: يريد أن المؤمن من الله على خير يرجوه في الشدائد والبلاء ويشكره ويحمده في الرخاء والكافر ليس كذلك وفي هذا دلالة على أن الفاسق الملي لا يأس عليه من رحمة الله بخلاف ما يقوله أهل الوعيد .
_________________
1- تفسير مجمع البيان،الطبرسي،ج5،ص442-445.
{ ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ } . هذا قول كبيرهم ، فهو يوصي إخوته ان لا يقولوا لأبيهم الا الحق ، وذلك بأن يخبروه بأنهم رأوا غلمان العزيز يستخرجون مكيال الملك من وعاء بنيامين ، وان العزيز أصر على أخذه . . هذا ما شاهدناه ، واللَّه أعلم بما وراء ذلك ، ولوعلمنا الغيب ما سألناك ان تسمح لنا به ، ولا أعطيناك العهد بأن نرجعه إليك ، وقد بذلنا المجهود ، واعذرنا إلى اللَّه واليك .
{ وسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها } أي اسأل أهل مصر ، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة { والْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها } واسأل أيضا القافلة التي جئنا معها من مصر ، فقد رأت ما رأينا ، وهي إلى جوارك في أرض كنعان { وإِنَّا لَصادِقُونَ } فيما أخبرناك ، وهم في هذه المرة يتكلمون بثقة وجرأة لأنهم على يقين من صدقهم على العكس من موقفهم الأول مع أبيهم حين أتوه بدم كذب على قميص يوسف .
{ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً } . لما رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بما حدث قال : كلا ، بل زينت لكم أنفسكم الكيد لولدي ، كما فعلتم من قبل بأخيه يوسف . وتساءل المفسرون : كيف اتهم يعقوب بنيه بالكيد قبل ان يتثبت من الحقيقة ، وهو نبي معصوم ؟ . ثم أجابوا بوجوه لا تستند إلى أساس ، وأحسن الوجوه التي ذكروها على ما فيه - ان مراد يعقوب أن أنفسكم صورت لكم ان بنيامين سارق ، وما هو بسارق . . وفي رأينا ان يعقوب اتهمهم بالكيد قياسا على صنيعهم مع يوسف ، ولكنه لم يجزم بقول قاطع لعدم الدليل على كذبهم ، وأيضا لم يأخذهم بالظن من حيث العقوبة لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا . . وهذا لا يتنافى مع مقام النبوة ، لأن النبي لا يعلم الغيب ، وهو كأي إنسان يحتمل ويظن ، والفرق بينه وبين غيره انه لا يرتب أثرا على ظنه كما يفعل غير المعصوم .
{ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } قال هذا حين غاب عنه بنيامين ، ومن قبل قال حين غاب يوسف : { واللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ } . هذا هو شعار الصالحين ، يحزنون ، وهم في جميع الحالات على اللَّه متوكلون . كما قال سيد الأنبياء وخاتم الرسل ( صلى الله عليه واله وسلم ) :
تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول الا ما يرضي ربنا . { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً } . وهم يوسف وبنيامين ، والأخ الثالث الذي بقي بجوار أخيه في مصر . . وفي كلمة عسى شعاع من الأمل ، وبالخصوص إذا كانت ممن يؤمن بالغيب إيمانه بالواقع الملموس كالأنبياء والصديقين ، وفي نهج البلاغة : « لا يصدق ايمان عبد ، حتى يكون بما في يد اللَّه أوثق منه بما في يده » . وفي هذا المعنى كثير من الأحاديث { إِنَّهُ هُو الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } يعلم حزني وألمي ، ويدبر الأمور على حكمته .
{ وتَوَلَّى عَنْهُمْ وقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ } . اعتزل الناس ليندب وحده من لن ينساه أبدا ، يندبه بهذه الصرخة الحزينة : { يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ } وزاده فراق ولده بنيامين حزنا على حزن ، وبكاء على بكاء { وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ } .
أصيبتا بالقرحة من آثار البكاء ، فهو يتنفس منهما بالدموع ، كما يتنفس من رئتيه بالآهات والحسرات { فَهُو كَظِيمٌ } يتجرع الغيظ ويتجلد ، ولكن على حساب جسمه وأعصابه .
{ قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوتَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ } أي الميتين ، والحرض المرض أو المريض الذي لا ينتفع بنفسه ، والمعنى ان أولاد يعقوب قالوا له : لا تزال تلهج بذكر يوسف ، حتى تمرض أوتموت بلا جدوى لأن يوسف ذهب ولن يعود { قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } لا إليكم لأن الشكوى لمن لا يدفع ضرا ، ولا يجلب نفعا ذل وسفه . قال الإمام علي ( عليه السلام ) :
« اللَّه اللَّه ان تشكوإلى من لا يشّكي شجوكم - أي يزيل الشكوى - ولا ينقص برأيه ما قد أبرم لكم » . .
أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ } . نكب يعقوب ، وابتلي بفراق يوسف ، ولكنه في الوقت نفسه يحسن الظن باللَّه ، ويثق به ، ولا ييأس من رحمته ، ويؤمن بأن عاقبة الصبر الفرج ، كما دل قوله لبنيه : « ولا تيأسوا من روح اللَّه » وإذا عطفنا ثقته باللَّه على رؤيا يوسف في صغره جاءت النتيجة ان يعقوب مطمئن على حياة يوسف إلى حد كبير ، ولكنه لا يعلم أين هو؟ . وكيف حاله ؟ .
وهل يعيش في عبودية أوفي حرية ؟ . ومن هنا كان حزنه وقلقه .
لا تفاؤل ولا تشاؤم :
{ يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وأَخِيهِ ولا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ » - أي فرجه - « إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ } . اذهبوا وتحسسوا ولا تيأسوا ، قرن الأمل بالعمل ، ومعنى هذا انه إذا انتفى العمل انعكست الآية ، واقترن اليأس بالكسل ، وصحت القاعدة طردا وعكسا . وكان الأمل والرجاء مع الإهمال جهلا وسفها . . وكلمة تحسسوا توحي بوجوب العمل بكل الحواس ظاهرها وباطنها . . وهكذا العاقل إذا نزلت به نازلة دفعت به إلى الكفاح والنضال للقضاء على أسبابها ، سواء أكانت هذه الأسباب هي الأوضاع الفاسدة ، أم كان السبب يكمن في نفس الإنسان كالتقصير واللامبالاة ، وإذا أصابته حسنة - أي العاقل - خاف من ضربات الدهر وغائلته ، وتحصن بتقوى اللَّه وطاعته ، ولا يطغيه غنى ، ولا يبطره جاه ، قال تعالى : « فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ - 99 الأعراف » .
ونخلص من هذا إلى أن المتشائم الذي يقول : لا جدوى من العمل هوالشؤم بالذات ، ومثله المتفائل مع الكسل وترك العمل . . والإنسان السوي من كان بين بين ، يعمل ويناضل عند الشدة ، ولا ييأس من روح اللَّه وفرجه ، ويخاف ويحذر عند الرخاء ، ولا يأمن مكر اللَّه وبأسه .
___________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه 348-350.
قوله تعالى:{ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} قيل المراد بقوله:{وما شهدنا إلا بما علمنا} إنا لم نشهد في شهادتنا هذه:{إن ابنك سرق} إلا بما علمنا من سرقته، وقيل المراد ما شهدنا عند العزيز أن السارق يؤخذ بسرقته ويسترق إلا بما علمنا من حكم المسألة، قيل وإنما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته ويسترق؟ وإنما علم ذلك بقولكم، وأقرب المعنيين إلى السياق أولهما.
وقوله:{وما كنا للغيب حافظين} قيل أي لم نكن نعلم أن ابنك سيسرق فيؤخذ ويسترق وإنما كنا نعتمد على ظاهر الحال ولو كنا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا ولا أقدمنا على الميثاق.
والحق أن المراد بالغيب كونه سارقا مع جهلهم بها ومعنى الآية إن ابنك سرق وما شهدنا في جزاء السرقة إلا بما علمنا وما كنا نعلم أنه سرق السقاية وأنه سيؤخذ بها حتى نكف عن تلك الشهادة فما كنا نظن به ذلك.
قوله تعالى:{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي وأسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتى لا يبقى لك أدنى ريب في أنا لم نفرط في أمره بل أنه سرق فاسترق.
فالمراد بالقرية التي كانوا فيها بلدة مصر - على الظاهر - وبالعير التي أقبلوا فيها القافلة التي كانوا فيها وكان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر والرجوع منها ثم أقبلوا مصاحبين لهم، ولذلك عقبوا عرض السؤال بقولهم:{وإنا لصادقون} أي فيما نخبرك من سرقته واسترقاقه لذلك، ونكلفك السؤال لإزالة الريب من نفسك.
الآيات تتضمن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانيا من مصر وإخبارهم إياه خبر أخي يوسف وأمره برجوعهم ثالثا إلى مصر وتحسسهم من يوسف وأخيه إلى أن عرفهم يوسف (عليه السلام) نفسه.
قوله تعالى:{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} في المقام حذف كثير يدل عليه قوله:{ارجعوا إلى أبيكم فقولوا} إلى آخر الآيتين والتقدير ولما رجعوا إلى أبيهم وقالوا ما وصاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سولت لكم أنفسكم أمرا{إلخ}.
وقوله:{قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا} حكاية ما أجابهم به يعقوب (عليه السلام) ولم يقل (عليه السلام) هذا القول تكذيبا لهم فيما أخبروه به وحاشاه أن يكذب خبرا يحتف بقرائن الصدق وتصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، ولا رماهم بقوله:{بل سولت لكم أنفسكم أمرا} رميا بالمظنة بل ليس إلا أنه وجد بفراسة إلهية أن هذه الواقعة ترتبط وتتفرع على تسويل نفساني منهم إجمالا وكذلك كان الأمر فإن الواقعة من أذناب واقعة يوسف وكانت واقعته من تسويل نفساني منهم.
ومن هنا يظهر أنه (عليه السلام) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه وعدم رجوع كبيرهم الذي توقف بمصر ولم يرجع إليه، ويشهد لذلك قوله:{عسى الله أن يأتيني بهم جميعا} فجمع في ذلك بين يوسف وأخيه وكبير الإخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده ولا يوسف وأخاه معا، فظاهر السياق أن ترجيه رجوع بنيه الثلاثة مبني على صبره الجميل قبال ما سولت لهم أنفسهم أمرا.
فالمعنى - والله أعلم - أن هذه الواقعة مما سولت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعا.
ومن هنا يظهر أن قولهم: إن المعنى: ما عندي أن الأمر على ما تصفونه بل سولت لكم أنفسكم أمرا فيما أظن، ليس في محله.
وقوله:{ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ترج مجرد لرجوعهم جميعا مع ما فيه من الإشارة إلى أن يوسف حي لم يمت - على ما يراه - وليس مشربا معنى الدعاء، ولو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله:{إنه هو العليم الحكيم} بل بمثل قولنا: إنه هو السميع العليم أوالرءوف الرحيم أوما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم.
بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إن واقعة يوسف السابقة وهذه الواقعة التي أخذت مني ابنين آخرين إنما هما لأمر ما سولته لكم أنفسكم فسأصبر صبرا وأرجوبه أن يأتيني الله بأبنائي جميعا ويتم نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه أنه هو العليم بمورد الاجتباء وإتمام النعمة حكيم في فعله يقدر الأمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا والمحن بالطيش والجزع ولا أن ييأس من روحه ورحمته.
والاسمان: العليم الحكيم هما اللذان ذكرهما يعقوب ليوسف (عليهما السلام) لأول مرة أول رؤياه فقال:{إن ربك عليم حكيم} ثم ذكرهما يوسف ليعقوب (عليهما السلام) ثانيا حيث رفع أبويه على العرش وخروا له سجدا فقال:{يا أبت هذا تأويل رؤياي - إلى أن قال – هو العليم الحكيم}.
قوله تعالى:{ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} قال الراغب في المفردات،: الأسف الحزن والغضب معا، وقد يقال لكل واحد منهما على الانفراد وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا - إلى أن قال - وقوله تعالى:{فلما آسفونا انتقمنا منهم} أي أغضبونا قال أبوعبد الله الرضا: إن الله لا يأسف كأسفنا ولكن له أولياء يأسفون ويرضون فجعل رضاهم رضاه وغضبهم غضبه. قال: وعلى ذلك قال: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة. انتهى.
وقال: الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، والكظوم احتباس النفس ويعبر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، وكظم فلان حبس نفسه قال تعالى:{إذ نادى وهو مكظوم} وكظم الغيظ حبسه قال تعالى:{والكاظمين الغيظ}، ومنه كظم البعير إذا ترك الاجترار وكظم السقاء شده بعد ملئه مانعا لنفسه.
انتهى.
وقوله:{ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} ابيضاض العين أي سوادها هو العمى وبطلان الإبصار وربما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي:{اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا}: الآية 93 من السورة يشهد بأنه كناية عن ذهاب البصر.
ومعنى الآية:{ثم تولى} وأعرض يعقوب (عليه السلام){عنهم} أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله: بل سولت لكم أنفسكم أمرا{وقال: يا أسفى} ويا حزني{على يوسف وابيضت عيناه} وذهب بصره{من الحزن} على يوسف{فهو كظيم} حابس غيظه متجرع حزنه لا يتعرض لبنيه بشيء.
قوله تعالى:{ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} الحرض والحارض المشرف على الهلاك وقيل: هو الذي لا ميت فينسى ولا حي فيرجي، والمعنى الأول أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، والحرض لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر.
والمعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف وتديم ذكره منذ سنين لا تكف عنه حتى تشرف على الهلاك أوتهلك، وظاهر قولهم هذا أنهم إنما قالوه رقة بحاله ورأفة به، ولعلهم إنما تفوهوا به تبرما ببكائه وسأمة من طول نياحه ليوسف، وخاصة من جهة أنه كان يكذبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، وكان ظاهر بكائه وتأسفه أنه يشكوهم كما ربما يؤيده قوله:{إنما أشكوا} إلخ.
قوله تعالى:{ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} قال في المجمع،: البث الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه أي يفرقه، وكل شيء فرقته فقد بثثته ومنه قوله:{وبث فيها من كل دابة} انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.
والحصر الذي في قوله:{إنما أشكوا} إلخ، من قصر القلب فيكون مفاده أني لست أشكوبثي وحزني إليكم معاشر ولدي وأهلي، ولو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقل زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثهم وحزنهم عند المصائب، وإنما أشكوبثي وحزني إلى الله سبحانه، ولا يأخذه ملل ولا سأمة فيما يسأله عنه عباده ويبرمه أرباب الحوائج ويلحون عليه وأعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه ولا أقنط من رحمته.
وفي قوله:{وأعلم من الله ما لا تعلمون} إشارة إجمالية إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.
قوله تعالى:{ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} قال في المجمع،: التحسس - بالحاء - طلب الشيء بالحاسة والتجسس - بالجيم - نظيره وفي الحديث: لا تحسسوا ولا تجسسوا، وقيل إن معناهما واحد ونسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر(متى ادن منه ينأى عنه ويبعد).
وقيل: التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس، وبالحاء الاستماع لحديث قوم وسئل ابن عباس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسس في الخير والتجسس في الشر. انتهى.
وقوله:{ولا تيئسوا من روح الله} الروح بالفتح فالسكون النفس أوالنفس الطيب ويكنى به عن الحالة التي هي ضد التعب وهي الراحة وذلك أن الشدة التي فيها انقطاع الأسباب وانسداد طرق النجاة تتصور اختناقا وكظما للإنسان وبالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج والظفر بالعافية تنفسا وروحا لقولهم يفرج الهم وينفس الكرب فالروح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدة بإذن الله ومشيته، وعلى من يؤمن بالله أن يعتقد أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا قاهر لمشيته ولا معقب لحكمه، وليس له أن ييأس من روح الله ويقنط من رحمته فإنه تحديد لقدرته وفي معنى الكفر بإحاطته وسعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (عليه السلام):{أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} وقال حاكيا عن لسان إبراهيم (عليه السلام):{ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ }: الحجر: 56، وقد عد اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.
ومعنى الآية - ثم قال يعقوب لبنه آمرا لهم -{يا بني اذهبوا فتحسسوا} من يوسف وأخيه} الذي أخذ بمصر وابحثوا عنهما لعلكم تظفرون بهما{ولا تيئسوا من روح الله} والفرج الذي يرزقه الله بعد الشدة{ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} الذين لا يؤمنون بأن الله يقدر أن يكشف كل غمة وينفس عن كل كربة.
_____________________
1- تفسير الميزان، الطباطبائي،ج11،ص190-194.
أمرهم الأخ الأكبر أن يرجعوا إلى أبيهم ويخبروه بما جرى عليهم { ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} وهذه شهادة نشهدها بمقدار علمنا عن الواقعة حيث سمعنا بفقد صواع الملك، ثمّ عثر عليه عند أخينا، وظهر للجميع إنّه قد سرقها { وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} ولكن نحن لا نعلم إلاّ ما شهدناه بأعيننا وهذا غاية معرفتنا {وما كنّا للغيب حافظين}.
وقد يرد إحتمال في تفسير هذه الآية، فلعلّهم بقولهم: {وما كنّا للغيب ...}أرادوا أن يخاطبوا أباهم بأنّنا وإن قطعنا عند الأيمان والعهود المغلّظة على أن نرجع أخانا سالماً، لكنّنا لا نعرف من الأُمور إلاّ ظواهرها ومن الحقائق إلاّ بعضها، فغيب الأُمور عند الله سبحانه ولم نكن نتصوّر أن يسرق أخونا.
ثمّ أرادوا أن يزيلوا الشكّ والريبة عن قلب أبيهم فقالوا يمكنك أن تتحقّق وتسأل من المدينة التي كنّا فيها {وسأل القرية التي كنّا فيها}(2) ومن القافلة التي سافرنا معها إلى مصر ورجعنا معها، حيث أنّ فيها اُناساً يعرفونك وتعرفهم، وبمقدورك أن تسألهم عن حقيقة الحال وواقعها {والعير التي أقبلنا فيها}(3) وفي كلّ الأحوال كن على ثقة بأنّنا صادقون ولم نقص عليك سوى الحقيقة والواقع {وإنّا لصادقون}.
يستفاد من مجموع هذه الكلمات والحوار الذي دار بين الأولاد والأب أنّ قضيّة سرقة بنيامين كانت قد شاعت في مصر، وأنّ جميع الناس علموا بأنّ أحد أفراد العير والقافلة القادمة من كنعان حاول سرقة صواع الملك، لكن موظفي الملك تمكّنوا بيقظتهم من العثور عليها والقبض على سارقها، ولعلّ قول الاُخوة
لأبيهم {وسأل القرية ...} أي إسأل أرض مصر، كناية عن أنّ القضيّة شاعت بحيث علم بها حتّى أراضي مصر وحيطانها.
يعقوب والألطاف الإلهية:
وأخيراً غادروا مصر متّجهين إلى كنعان في حين تخلّف أخواهم الكبير والصغير، ووصلوا إلى بيتهم منهوكي القوى وذهبوا لمقابلة أبيهم، وحينما رأى الأب الحزن والألم مستولياً على وجوههم (خلافاً للسفرة السابقة والتي كانوا فيها في غاية الفرح) علم أنّهم يحملون إليه أخباراً محزنة وخاصّة حينما إفتقد بينهم بنيامين وأخاه الأكبر، وحينما أخبروه عن الواقعة بالتفصيل، إستولى عليه الغضب وقال مخاطباً إيّاهم بنفس العبارة التي خاطبهم بها حينما أرادوا أن يشرحوا له خديعتهم مع يوسف { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} أي إنّ أهواءكم الشيطانية هي التي إستولت عليكم وزيّنت لكم الأمر بهذه الصورة التي أنتم تصفونه.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو أنّ يعقوب هل إكتفى في نسبة الكذب واتّباع الهوى لأولاده إستناداً إلى ما فعلوه في المرّة السابقة مع يوسف من سوء الفعل والحنث باليمين والعهد، مع أنّ مثل هذا الظنّ والقول واتّهام الآخرين لمجرّد تجربة سابقة بعيد عن سيرة عامّة الناس فضلا عن يعقوب الذي هو نبي معصوم، وعلى الخصوص إذا استند المدّعي في دعواه على وثائق ومستندات تثبت دعواه، كما أنّ طريق الفحص والتحقيق عن واقع الحال كان مفتوحاً ليعقوب.
أو كان يعقوب يقصد بقوله: {بل سوّلت لكم ... إلى آخر} الإشارة إلى اُمور أُخرى، منها:
1 ـ لعلّه عتاب لأولاده لخضوعهم أمام الأمر الواقع وتسليمهم لحكم العزيز بمجرّد عثور الصاع عند أخيهم، مع أنّ العثور بمفرده لا يعدّ دليلا منطقيّاً على السرقة.
2 ـ ولعلّه عتاب لأولاده لما بيّنوه للعزيز من أنّ عقوبة السارق عندهم هو إستعباده مع أنّ هذه السنّة السائرة في أهل كنعان سنّة باطلة ولا تعدّ قانوناً سماوياً (هذا إن قلنا أنّ هذه السنّة لم تكن مأخوذة من شريعة يعقوب كما ذهب إليه بعض المفسّرين).
3 ـ وأخيراً لعلّه عتاب لأولاده على إستعجالهم في الخضوع لأحكام العزيز وخلق المعاذير والمبرّرات والرجوع مستعجلين إلى كنعان دون الإقتداء بأخيهم الكبير في البقاء بمصر برغم العهود والمواثيق المغلّظة التي قطعوها مع أبيهم(4).
لكن بعد هذا العتاب المليء بالحزن والأسى رجع يعقوب إلى قرارة نفسه وقال: {فصبر جميل}(5) أي أنّني سوف أمسك بزمام نفسي، ولا أسمح لها بأن تطغى عليّ بل أصبر صبراً جميلا على أمل بأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يعيد لي أولادي (يوسف وبنيامين وأخوهم الأكبر) {عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً} فإنّه هو العالم بواقع الأُمور والخبير بحوادث العالم ما مضى منها وما سوف يأتي، ولا يفعل إلاّ عن حكمة وتدبير {إنّه هو العليم الحكيم}.
ثمّ بعد هذه المحاورات بين يعقوب وأولاده، إستولى عليه الحزن والألم، وحينما رأى مكان بنيامين خالياً عادت ذكريات ولده العزيز يوسف إلى ذهنه، وتذكّر تلك الأيّام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ذا الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة والذكاء العالي فيشمّ رائحته الطيّبة ويستعيد نشاطه، أمّا اليوم فلم يبق منه أثر ولا عن حياته خبر، كما أنّ خليفته (بنيامين) أيضاً قد ابتلي مثل يوسف بحادث مؤلم وذهب إلى مصير مجهول لا تعرف عاقبته.
حينما تذكّر يعقوب هذه الأُمور إبتعد عن أولاده واستعبر ليوسف { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} أمّا الاُخوة فإنّهم حينما سمعوا باسم يوسف، ظهر على جبينهم عرق الندامة وإزداد خجلهم واستولى عليهم الحزن لمصير أخويهم بنيامين ويوسف، واشتدّ حزن يعقوب وبكاؤه على المصائب المتكرّرة وفقد أعزّ أولاده { وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} لكن يعقوب كان ـ في جميع الأحوال مسيطراً على حزنه ويخفّف من آلامه ويكظم غيظه وأن لا يتفوّه بما لا يرضى به الله سبحان وتعالى {فهو كظيم}.
يفهم من هذه الآيات أنّ يعقوب لم يكن فاقداً لبصره، لكنّ المصائب الأخيرة وشدّة حزنه ودوام بكائه أفقده بصره، وكما أشرنا سابقاً فإنّ هذا الحزن والألم والعمى كان خارجاً عن قدرته وإختياره، فإذاً لا يتنافى مع الصبر الجميل.
أمّا الإخوة فكانوا متألّمين من جميع ما جرى لهم، فمن جهة كان عذاب الوجدان لا يتركهم ممّا أحدثوه ليوسف، ـ وفي قضيّة بنيامين ـ شاهدوا أنفسهم في وضع صعب وامتحان جديد، ومن جهة ثالثة كان يصعب عليهم أن يشاهدوا أباهم يتجرّع غصص المرارة والألم ويواصل بكاؤه الليل بالنهار، توجّهوا إلى أبيهم وخاطبوه معاتبين { قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}(6) أي إنّك تردّد ذكر يوسف وتتأسّف عليه حتّى تتمرّض وتشرف على الهلاك وتموت.
لكنّ شيخ كنعان هذا النّبي العظيم والمتيقّظ الضمير ردّ عليهم بقوله: { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}(7) لا إليكم، أنتم الذين تخونون الوعد وتنكثون العهد لأنّني { وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فهو اللطيف الكريم الذي لا أطلب سواه.
اليأس علامة الكفر!
كان القحط والغلاء وشحّة الطعام يشتدّ يوماً بعد آخر في مصر وما حولها ومنها كنعان، ومرّة أُخرى أمر يعقوب أولاده بأن يتّجهوا صوب مصر للحصول على الطعام، لكنّه هذه المرّة طلب منهم بالدرجة الأُولى أن يبحثوا عن يوسف وأخيه بنيامين، حيث قال لهم: { يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ}.
لكن بما أنّ أولاد يعقوب كانوا مطمئنين إلى هلاك يوسف وعدم بقاءه، تعجّبوا من توصية أبيهم وتأكيده على ذلك، لكن يعقوب نهاهم عن اليأس والقنوط ووصّاهم بالإعتماد على الله سبحانه والإتّكال عليه بقوله: {ولا تيأسوا من روح الله} فإنّه القادر على حلّ الصعاب و { إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
(تحسّس) أصله من (حس) بمعنى البحث عن الشيء المفقود بأحد الحواس، وهنا بحث بين اللغويين والمفسّرين في الفرق بينه وبين (تجسّس) وقد نقل عن ابن عبّاس أنّ التحسّس هو البحث عن الخير، والتجسّس هو البحث عن الشرّ، لكن ذهب آخرون إلى أنّ التحسّس هو السعي في معرفة سيرة الأشخاص والأقوام دون التجسّس الذي هو البحث لمعرفة العيوب.
وهنا رأي ثالث في أنّهما متّحدان في المعنى، إلاّ أنّ ملاحظة الحديث الوارد بقوله: «لا تجسّسوا ولا تحسّسوا» يثبت لنا أنّهما مختلفان وأنّ ما ذهب إليه ابن عبّاس في الفرق بينهما هو الأوفق بسياق الآيات المذكورة، ولعلّ المقصود منهما في هذا الحديث الشريف: لا تبحثوا عن اُمور الناس وقضاياهم سواء كانت شرّاً أم خيراً.
قوله تعالى «روح» بمعنى الرحمة والراحة والفرج والخلاص من الشدّة.
يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته (الرَّوْحُ والرُّوحُ في الأصل واحد وجعل الروح إسماً للنّفس ... والرَّوح التنفّس وقد أراح الإنسان إذا تنفّس ...).
وأخيراً جمع الاُخوة متاعهم وتوجّهوا صوب مصر، وهذه هي المرّة الثّالثة التي يدخلون فيها أرض مصر، هذه الأرض التي سبّبت لهم المشاكل وجرّت عليهم الويلات.
لكن في هذه السفرة ـ خلافاً للسفرتين السابقتين ـ كانوا يشعرون بشيء من الخجل يعذّب ضمائرهم فإنّ سمعتهم عند أهل مصر أو العزيز ملوّثة للوصمة التي لصقت بهم في المرّة السابقة، ولعلّهم كانوا يرونهم بمثابة (مجموعة من لصوص كنعان) الذين جاؤوا للسرقة. ومن جهة أُخرى لم يحملوا معهم هذه المرّة من المتاع ما يستحقّ أن يعاوضوه بالطعام والحبوب، إضافةً إلى هذه الأُمور فإنّ فقد أخيهم بنيامين والآلام التي ألمّت بأبيهم كانت تزيد من قلقهم وبتعبير آخر فإنّ السكين قد وصلت إلى العظم، كما يقول المثل إلاّ أنّ الذي كان يبعث في نفوسهم الأمل ويعطيهم القدرة على تحمّل الصعاب هو وصيّة أبيهم {لا تيأسوا من روح الله}.
_____________________
1- تفسير الامثل، مكارم الشيرازي،ج6،ص344-351.
2- (القرية) لا تطلق عند العرب على القرى والأرياف خاصّة، بل يشمل جميع الأرياف والمدن والقرى، الصغيرة منها والكبيرة ـ والمقصود منها في الآية هي مصر.
3- «عير» كما يقول الراغب في المفردات ـ تعني الجماعة التي تصحب معها الإبل والدواب المحمّلة بالغذاء، أي يطلق على المجموع «عير» فعلى هذا يكون السؤال منهم ممكناً لأنّ الكلمة تشمل الأشخاص أيضاً ولا حاجة للتقدير، ولكن بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ «العير» يطلق على الدواب فقط فلابدّ من التقدير كما هو الحال في «القرية».
4- إحتمل بعض المفسّرين أنّ هذه الآية لعلّها إشارة إلى قصّة يوسف، لكنّه بعيد عن الواقع، لأنّ الآيات السابقة لا تبحث عن قضيّة يوسف وفراقه عن أبويه.
5- فراجع حول (صبر جميل) ذيل الاية 18 من هذا السورة.
6- (حرض) على وزن مرض بمعنى الشيء الفاسد والمؤلم، والمقصود منه هنا هو المريض الذي ضعف جسمه وصار مشرفاً على الموت.
7 ـ (بثّ) بمعنى التفرقة والشيء الذي لا يمكن اخفاؤه، والمقصود منه هنا هو الألم والحزن الظاهر الذي لا يخفى على أحد.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|