أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-9-2020
5060
التاريخ: 9-8-2020
1857
التاريخ: 4-7-2020
3645
التاريخ: 13-9-2020
2014
|
شخصية النعمان بن مقرن قائد معركة نهاوند
1 . النعمان بن مقرن من عائلة مؤمنة هو وإخوته الستة : « معقل ، وعقيل ، وسويد ، وسنان ، وعبد الرحمن ، وسابع لم يسم لنا . بنو مقرن المزنيون ، سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولم يشاركهم فيما ذكره ابن عبد البر وجماعة في هذه المكرمة غيرهم » . ( مقدمة ابن الصلاح / 184 ) .
« عن هلال بن يساف قال : كنا نبيع البُرّ في دار سويد بن مقرن ، فخرجت جارية وقالت لرجل منا كلمة فلطمها ، فغضب سويد وقال : لطمت وجهها ! لقد رأيتني سابع سبعة من إخواني مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما لنا خادم إلا واحدة ، فلطمها أحدنا ، فأمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فأعتقناها » ( الإستيعاب : 2 / 680 ) .
وروى البيضاوي في تفسيره ( 3 / 165 ) أنه نزل فيهم قوله تعالى : وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ » . « فسألوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يحملهم على الخفاف المدبوغة والنعال المخصوفة فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون ، وهم ثلاثة إخوة : معقل ، وسويد ، والنعمان بنو مقرن » . ( القواعد الفقهية للسيد البجنوردي : 4 / 9 ) .
وقال عبد الله بن مسعود : « إن للإيمان بيوتاً ، وللنفاق بيوتاً ، وإن بيت بني مقرن من بيوت الإيمان » . ( الإستيعاب : 4 / 1507 ) .
2 . وشارك النعمان وإخوته في حفر الخندق . قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسلمان ، وحذيفة ، والنعمان بن مقرن المزني ، وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً فحفرنا حتى إذا كنا . . » . ( البحار : 17 / 170 ) .
وكان حارس النبي ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة الحديبية : « رأيت النعمان بن مقرن المزني قائماً على رأسه وقد رفع أغصان الشجرة عن رأسه يبايعونه » وكان وإخوته مع وفد مزينة مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في فتح مكة . ( مجمع الزوائد : 6 / 146 ، و : 8 / 304 ) .
3 . وكان النعمان وإخوته قادةً مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رد هجوم طليحة الأسدي على المدينة ، وقد تقدم ذلك في بحث حروب الردة .
4 . ثم شاركوا في معارك فتح العراق، وأرسل ابن أبي وقاص النعمان في وفد إلى يزجرد، ففي الطبري: 3 / 17: «قال الملك: سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا، أمن أجل أنا أجممناكم وتشاغلنا عنكم ، اجترأتم علينا ؟
فقال لهم النعمان بن مقرن : إن شئتم أجبت عنكم ، ومن شاء آثرته .
فقالوا : بل تكلم ، وقالوا للملك : كلام هذا الرجل كلامنا .
فتكلم النعمان فقال : إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ويأمرنا به ويعرفنا الشر وينهانا عنه ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة ، فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين فرقة تقاربه وفرقة تباعده ، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص ، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث ، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب وبدأ بهم ، وفعل فدخلوا معه جميعاً ، على وجهين مكره عليه فاغتبط ، وطائع أتاه فازداد ، فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنا عليه ، من العداوة والضيق .
ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف ، فنحن ندعوكم إلى ديننا ، وهو دين حسَّن الحسن وقبَّح القبيح كله ، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه : الجزاء . فإن أبيتم فالمناجزة .
فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله ، وأقمناكم عليه أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم ، وإن أتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم ، وإلا قاتلناكم !
قال فتكلم يزدجرد فقال : إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ، ولا أسوأ ذات بين منكم ، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم لا تغزوكم فارس ، ولا تطمعون أن تقوموا لهم . فإن كان عدو لحق ، فلا يغرنكم منا . وإن كان الجهد دعاكم ، فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم ، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم ، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم .
فأسكت القوم ، فقال المغيرة بن زرارة بن النباش الأسيدي : أيها الملك إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم ، وهم أشراف يستحيون من الأشراف ، وإنما يكرم الأشراف الأشراف ، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف ، ويفخم الأشراف الأشراف ، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك ، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه ، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك . فجاوبني لأكون الذي أبلغك ويشهدون على ذلك . . . فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر ، وإن شئت فالسيف أو تسلم ، فتنجي نفسك ! فقال : أتستقبلني بمثل هذا ؟ !
فقال : ما استقبلت إلا من كلمني ، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به .
فقال : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم ! لا شئ لكم عندي ! فقال : إئتوني بوقر من تراب ، فقال : إحملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه ، حتى يخرج من باب المدائن ! إرجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليكم رستم، حتى يدفنكم ويدفنه في خندق القادسية، وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم ، بأشد مما نالكم من سابور !
ثم قال : من أشرفكم ؟ فسكت القوم ، فقال عاصم بن عمرو وَافْتَأَتَ ( قريب من افترى ) ليأخذ التراب : أنا أشرفهم أنا سيد هؤلاء فحمِّلنيه .
فقال : أكذاك ؟ فقالوا : نعم فحمله على عنقه ، فخرج به من الإيوان والدار ، حتى أتى راحلته فحمله عليها ، ثم انجذب في السير ، فأتوا به سعداً ، وسبقهم عاصم فمر بباب قديس فطواه فقالوا : بشروا الأمير بالظفر ظفرنا إن شاء الله » .
وفي تاريخ اليعقوبي: 2 / 143: «ثم وجه سعد إلى كسرى بالنعمان بن مقرن وجماعة معه يدعونه إلى الإسلام، فدخلوا عليه في أحسن زي، وعليهم البرود والنعل، فأخبروه بما وجههم له سعد، ودعوه إلى الإسلام وإلى شهادة الحق وإلى أداء الجزية، فأغضبه ذلك ودعا بتليس (كيس) تراب فقال: إحملوه على رأس سيدهم فلولا أن الرسل لا تقتل لقتلتهم . فقال عصام بن عمرو التميمي: أنا سيد القوم فحملوه التراب، فمضى مسرعاً وقال : قد ظفرنا والله بهم ووطأنا أرضهم ! وبلغ رستم الخبر فغلظ ذلك عليه وقال : ما لابن الحجامة ولتدبير الملك ؟ ويقال : إن أم يزد جرد كانت حجامة . ثم وجه رسلاً في آثارهم ففاتوا الرسل » .
النعمان يتحرك بقواته إلى نهاوند
كان النعمان قائداً في القادسية وفتح المدائن وجلولاء وتستر وغيرها، لكن أكبر مسؤولية تحملها كانت قيادة المسلمين في معركة نهاوند، التي سميت فتح الفتوح، لأنها أنهت قوة الفرس، فلم يجتمع لهم بعدها جيش، ومهدت لفتح بقية إيران، وصار يزدجرد مشرداً من مكان إلى مكان ، حتى قتل .
قال ابن الأعثم في الفتوح : 2 / 296 : « ثم كتب عمر إلى النعمان بن مقرن المزني ، والنعمان يومئذ بموضع من العراق يقال له كسكر . . . ثم كتب عمر أيضاً إلى أبي موسى الأشعري أن يمده من أهل البصرة بالثلث ، وكذلك أهل الكوفة ، ففعل أبو موسى ذلك ، والتأمت العساكر بالعراق .
وخرج النعمان بن مقرن حتى نزل القصر الأبيض مما يلي المدائن ، كما أمرهم عمر بن الخطاب ، حتى اجتمع إليه الكوفيون والبصريون .
قال فعرضهم النعمان بن المقرن وعدهم وأحصاهم، فإذا هم يزيدون على ثلاثين ألفاً، من أهل البصرة وأهل الكوفة، فدعا النعمان بطليحة بن خويلد الأسدي فعقد له عقداً، وضم إليه أربعة آلاف فارس من أهل البصرة وأهل الكوفة وجعله مقدمة، فسار طليحة بن خويلد على مقدمة النعمان بن مقرن، وجعل يذكر ما كان منه بالقادسية وغيرها من الحروب المتقدمة، ثم سار طليحة حتى نزل المدائن .
ورحل النعمان بن مقرن بالمسلمين ، حتى إذا تقارب من المدائن . . ورحل طليحة في أصحابه على المقدمة حتى نزل الدسكرة ، وجاء النعمان بن مقرن فنزل المدائن وأقام بها ثلاثة أيام ، ثم رحل منها يريد الدسكرة ، ورحل طليحة على مقدمته ، فلم يزل كذلك حتى صار إلى حلوان ، وبها يومئذ قائد من قواد كسرى يقال له شادوه بن آزاد مرد ، في نيف وعشرة آلاف من الفرس ، فلما أحس بجنود المسلمين أنها قد استشرفت على حلوان ، خرج هارباً في جميع أصحابه حتى صار إلى قرماسين فنزلها .
ونزل طليحة بن خويلد حلوان في أربعة آلاف فارس ، وأقبل النعمان في جيشه الأعظم حتى نزل بحلوان ، وأقام بها أياماً حتى استراح المسلمون وأراحوا خيولهم . قال : ثم دعا النعمان برجل من فرسان العرب ممن كان مع أبي عبيدة بن الجراح بالشام يقال له قيس بن هبيرة المرادي ، فقال له : يا قيس ، أنت تعلم أن طليحة بن خويلد قد كان على مقدمة المسلمين من الكوفة إلى حلوان ، وقد أحببت أن تكون مقدمتي من هاهنا إلى هذا البلد الذي يقال له قرماسين . فقال قيس بن هبيرة : أفعل ذلك أيها الأمير . قال : فضم إليه النعمان بن مقرن أربعة آلاف فارس من أشد عسكره ، فسار قيس بن هبيرة من حلوان على مقدمة المسلمين ، وجعل يذكر ما كان منه بأرض الروم والقادسية وغير ذلك .
قال : وسار قيس بن هبيرة على مقدمة المسلمين حتى وافى قرماسين ، وبها يومئذ قائدان عظيمان من قواد الأعاجم ، أحدهما شادوه بن آزاد مرد ، الذي هرب من حلوان ، والآخر مهرويه بن خسروان ، فهما جميعاً في عشرين ألفاً من الفرس ، فلما أن علما أن خيل المسلمين قد شارفت أرض قرماسين خرجا هاربين عنها حتى نزلا بموضع يقال له ماذران ، ودخل قيس بن هبيرة إلى قرماسين فنزلها .
قال: وكانت قرماسين مصلحة للفرس ومنتزهاً لكسرى . قال : وسار النعمان بن مقرن من حلوان حتى نزل قرماسين ، وبلغ ذلك الفرس ممن كان خارجاً عن أرض نهاوند ، فامتلأت قلوبهم خوفاً ورعباً .
ثم إنهم تفلتوا من جميع المواضع حتى صاروا إلى نهاوند، فاحتشدوا بها، ثم إنهم اجتمعوا وتحالفوا وتعاقدوا على أنهم لا يفرون أبداً دون أن يبيدوا العرب عن آخرهم !
قال : وسار النعمان بن مقرن في جميع المسلمين حتى نزل بأرض ماذران ، ثم دعا بهذين الرجلين بكير بن شداخ الليثي وطليحة بن خويلد الأسدي ، فأرسلهما جميعاً نحو أرض نهاوند ، وأمرهما أن يتجسسا الأخبار عن الفرس ، فمضيا جميعاً ، فأما بكير بن شداخ فإنه رجع إلى المسلمين .
وأما طليحة بن خويلد فإنه مضى نحوه حتى تقارب من أرض نهاوند ، وتعرف أخبار الفرس ثم رجع ، فلما دخل العسكر كبر المسلمون من كل ناحية ، فقال طليحة : ما هذا التكبير ؟ فقالوا : إنك قد أبطأت علينا فظننا والله أنك قد رغبت عن دين الإسلام وصرت إلى دين هؤلاء الأعاجم ! قال : فغضب طليحة بن خويلد من ذلك ثم قال : سبحان الله العظيم ، أوَيحسن هذا بمثلي ؟ والله ، أن لو لم يكن لي دين أعتمد عليه إلا أني عربي فقط لما كنت بالذي اختار هؤلاء الأعاجم على العرب ، فكيف وقد هداني الله عز وجل إلى دين الإسلام وعرفني فضله ! قال : وسار المسلمون يريدون نهاوند ، قال : وبلغ ذلك أهل نهاوند فأرسلوا الماء في أرضهم لكي يمنعوا بتلك المياه المسلمين ، قال : فلم يغن ذلك من قضاء الله عز وجل فيهم شيئاً .
قال : وسار المسلمون حتى نزلوا في الموضع الذي يقال له قبور الشهداء ، فنزلوا هنالك وضربوا عسكرهم ، وبلغ ذلك الفرس فألقوا حسك الحديد حول نهاوند فحصنوها بتلك الحسك .
قال : ودعا النعمان برجل من أشد أصحابه يقال له محمد بن زكار الخثعمي ، فقال له : ويحك يا محمود ، أحب منك أن تنطلق نحو حصن هؤلاء القوم فتنظر إليه وتأتيني بخبره ، فقد بلغني أنه حصن حصين وأنه مشرف على قلعة لهم في الهواء ، فقال محمود بن زكار : أيها الأمير ، قد بلغني ذلك وهذا نهار ، فإذا كان الليل انطلقت فأتيتك بخبر القلعة ، إن شاء الله ولا قوة إلا بالله .
قال : فلما كان الليل واختلط الظلام عمد محمود بن زكار هذا إلى فرسه فأسرجه وألجمه ، ثم صب عليه درعه وتقلد بسيفه واعتم بعمامته ، واستوى على فرسه وتناول رمحه ومضى ، فلم يزل يسير حتى إذا أشرف على قلعة نهاوند ، وقد جعل يسمع أصوات الحرس على سورها ، من كل ناحية ونيرانهم تأجج ، قال : وإذا بفرسه قد قام وليس يتقدم ولا يتأخر ، فحركه فلم يتحرك ، فإذا قد علق يده واتقى منها . قال : فنزل محمود بن زكار عن فرسه ثم ضرب بيده إلى الفرس فقلب حافره ، فإذا بحسكة حديد قد دخلت في حافره ، فنزعها وركب فرسه ، ثم رجع إلى النعمان بن مقرن فخبره بذلك ، ثم قال : أيها الأمير ، إن أرضهم كلها مفروشة بهذا الحسك يطرحونه في الليل ويرفعونه بالنهار . قال : وأصبح المسلمون فعبوا تعبيتهم » .
وصف معركة نهاوند برواية الطبري
قال في تاريخه : 3 / 213 : « وخرج حذيفة بن اليمان بالناس ومعه نعيم ، حتى قدموا على النعمان بالطزر ، وجعلوا بمرج القلعة خيلاً عليها النسير .
وقد كتب عمر إلى سلمى بن القين وحرملة بن مريطة وزرّ بن كليب والمقترب الأسود بن ربيعة وقواد فارس الذين كانوا بين فارس والأهواز ، أن اشغلوا فارس عن إخوانكم وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم ، وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري .
وبعث مجاشع بن مسعود السلمي إلى الأهواز وقال له : أنصل ( أخرج كالنصل ) منها على ماه ، فخرج حتى إذا كان بغضي شجر ، أمره النعمان أن يقيم مكانه ، فأقام بين غضى شجر ومرج القلعة . ونَصَل سلمى وحرملة وزرّ والمقترب، فكانوا في تخوم أصبهان وفارس، فقطعوا بذلك عن أهل نهاوند أمداد فارس .
ولما قدم أهل الكوفة على النعمان بالطزر جاءه كتاب عمر مع قريب ، إن معك حد العرب ورجالهم في الجاهلية ، فأدخلهم دون من هو دونهم في العلم بالحرب ، واستعن بهم واشرب برأيهم ، وسل طليحة وعمراً وعمراً ، ولا تولهم شيئاً . فبعث من الطزر طليحة وعمراً وعمراً طليعة ، ليأتوه بالخبر ، وتقدم إليهم أن لا يغلوا ( لا يبعدوا كثيراً ) .
فخرج طليحة بن خويلد ، وعمرو بن أبي سلمى العنزي ، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي ، فلما ساروا يوماً إلى الليل رجع عمرو بن أبي سلمى ، فقالوا : ما رجعك ؟ قال : كنت في أرض العجم ، وقَتَلَتْ أرضٌ جاهلَها وقتلَ أرضاً عالمُها . ومضى طليحة وعمرو حتى إذا كان من آخر الليل رجع عمرو ، فقالوا : ما رجعك ؟ قال : سرنا يوماً وليلة لم نر شيئاً ، وخفت أن يؤخذ علينا الطريق .
ونفذ طليحة ولم يحفل بهما فقال الناس : ارتد الثانية ! ومضى طليحة حتى انتهى إلى نهاوند ، وبين الطزر ونهاوند بضعة وعشرون فرسخاً ، فعلم علم القوم واطلع على الأخبار ، ثم رجع حتى إذا انتهى إلى الجمهور كبَّر الناس فقال : ما شأن الناس ؟ فأخبروه بالذي خافوا عليه، فقال: والله لو لم يكن دين إلا العربية ما كنت لأجزر العجم الطماطم هذه العرب العاربة (ما كنت لأقدم للعجم قومي العرب. والطمطمة كالرطانة) فأتى النعمان فدخل عليه فأخبروه الخبر، وأعلمه أنه ليس بينه وبين نهاوند شئ يكرهه ولا أحد ، فنادى عند ذلك النعمان بالرحيل ، فأمرهم بالتعبية ، وبعث إلى مجاشع بن مسعود أن يسوق الناس ، وسار النعمان على تعبيته ، وعلى مقدمته نعيم بن مقرن ، وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن ، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو ، وعلى الساقة مجاشع ، وقد توافي إليه أمداد المدينة فيهم المغيرة وعبد الله ، فانتهوا إلى الأسبيذهان والقوم وقوف دون واي خرد ، على تعبيتهم وأميرهم الفيرزان ، وعلى مجنبتيه الزردق ، وبهمن جاذويه الذي جُعل مكان ذي الحاجب ، وقد توافي إليهم بنهاوند كل من غاب عن القادسية والأيام من أهل الثغور وأمرائها ، وأعلام من أعلامهم ، ليسوا بدون من شهد الأيام والقوادس . وعلى خيولهم أنوشق .
فلما رآهم النعمان كبر وكبر الناس معه ، فتزلزلت الأعاجم ، فأمر النعمان وهو واقف بحطِّ الأثقال ، وبضرب الفسطاط ، فضرب وهو واقف ، فابتدره أشراف أهل الكوفة فبنوا له فسطاطاً سابقوا أكفاءهم فسبقوهم ، وهم أربع عشرة ، منهم حذيفة بن اليمان ، وعقبة بن عمرو ، والمغيرة بن شعبة ، وبشير بن الخصاصية ، وحنظلة الكاتب بن الربيع ، وابن الهوبر ، وربعي بن عامر ، وعامر بن مطر ، وجرير بن عبد الله الحميري ، والأقرع بن عبد الله الحميري ، وجرير بن عبد الله البجلي ، والأشعث بن قيس الكندي ، وسعيد بن قيس الهمداني ووائل ابن حجر ، فلم ير بَنِّاء فسطاط بالعراق كهؤلاء .
وأنشب النعمان بعد ما حط الأثقال القتال ، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس والحرب بينهم في ذاك سجال في سبع سنين من أمارة عمر ، في سنة تسعة عشر ، وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة ، وحصرهم المسلمون فأقاموا عليهم ما شاء الله ، والأعاجم بالخيار لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج !
فاشتد ذلك على المسلمين وخافوا أن يطول أمرهم ، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع ، تجمع أهل الرأي من المسلمين فتكلموا وقالوا : نراهم علينا بالخيار ، وأتوا النعمان في ذلك فأخبروه فوافقوه وهو يُرَوِّي ( يتروى ويفكر ) في الذي روَّوا فيه ، فقال : على رسلكم لا تبرحوا ، وبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي في الحروب فتوافوا إليه ، فتكلم النعمان فقال : قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن ، وإنهم لا يخرجون إلا إذا شاءوا ، ولا يقدر المسلمون على إنقاضهم وانبعاثهم قبل مشيئتهم ، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق بالذي هم فيه ، وعليه من الخيار عليهم في الخروج ، فما الرأي الذي به نحمشهم ونستخرجهم إلى المنابذة وترك التطويل ؟
فتكلم عمرو بن ثُبَى ، وكان أكبر الناس يومئذ سناً ، وكانوا إنما يتكلمون على الأسنان فقال : التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم ، فدعهم ولا تحرجهم وطاولهم ، وقاتل من أتاك منهم .
فردوا عليه جميعاً رأيه وقالوا : إنا على يقين من إنجاز ربنا موعده لنا .
وتكلم عمرو بن معدي كرب فقال : ناهدهم وكاثرهم ولاتخفهم ، فردوا عليه جميعاً رأيه وقالوا : إنما تناطح بنا الجدران ، والجدران لهم أعوان علينا !
وتكلم طليحة فقال : قد قالا ولم يصيبا ما أرادا . وأما أنا فأرى أن نبعث خيلاً مؤدية فيحدقوا بهم ثم يرموهم لينشبوا القتال ويحمشوهم، فإذا استحمشوا (أثيرت حميتهم وغضبهم) واختلطوا بهم وأرادوا الخروج، أرزوا ( هربوا ) إلينا استطراداً ، فإنا لم نستطرد لهم ( لم نهرب أمامهم ) في طول ما قاتلناهم ، وإنا إذا فعلنا ذلك ورأوا ذلك منا طمعوا في هزيمتنا ، ولم يشكوا فيها ، فخرجوا فجادونا وجاددناهم ( صرنا وإياهم على جديد الأرض ) حتى يقضى الله فيهم وفينا ما أحب .
فأمر النعمان القعقاع بن عمرو وكان على المجردة ، ففعل وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم فأنقضهم ، فلما خرجوا نكص ثم نكص ثم نكص ، واغتنمها الأعاجم ، ففعلوا كما ظن طليحة ( اتبعوا الفارين ) وقالوا : هي هي ! فخرجوا فلم يبق أحد إلا من يقوم لهم على الأبواب ، وجعلوا يركبونهم حتى أرز القعقاع إلى الناس ، وانقطع القوم عن حصنهم بعض الإنقطاع ، والنعمان بن مقرن والمسلمون على تعبيتهم في يوم جمعة ، في صدر النهار وقد عهد النعمان إلى الناس عهده ، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم ، ففعلوا واستتروا بالجحف من الرمي ، وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات ، وشكا بعض الناس ذلك إلى بعض ، ثم قالوا للنعمان : ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما لقى الناس ، فما تنتظر بهم إئذن للناس في قتالهم . فقال لهم النعمان : رويداً رويداً . قالوا له ذلك مراراً فأجابهم بمثل ذلك مراراً : رويداً رويداً . فقال المغيرة : لو أن هذا الأمر إليَّ علمت ما أصنع . فقال : رويداً ترى أمرك ، وقد كنت تلي الأمر فتحسن فلا يخذلنا الله ولا إياك ، ونحن نرجو في المكث مثل الذي ترجو في الحث . وجعل النعمان ينتظر بالقتال إكمال ساعات ، كانت أحب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في القتال أن يلقى فيها العدو ، وذلك عند الزوال وتفيؤ الأفياء ومهب الرياح ، فلما كان قريباً من تلك الساعة تحشحش النعمان وسار في الناس على برذون أحوى قريب من الأرض ، فجعل يقف على كل راية ويحمد الله ويثنى عليه ويقول : قد علمتم ما أعزكم الله به من هذا الدين وما وعدكم من الظهور ، وقد أنجز لكم هوادى ( أوائل ) ما وعدكم وصدوره ، وإنما بقيت أعجازه وأكارعه ، والله منجز وعده ومتبع آخر ذلك أوله ، واذكروا ما مضى إذ كنتم أذلة وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم أعزة ، فأنتم اليوم عباد الله حقاً وأولياؤه ، وقد علمتم انقطاعكم من إخوانكم من أهل الكوفة ، والذي لهم في ظفركم وعزكم ، والذي عليهم في هزيمتكم ، وذلكم وقد ترون من أنتم بإزائه من عدوكم وما أخطرتم وما أخطروا لكم ، فأما ما أخطروا لكم فهذه الرئة وما ترون من هذا السواد ، وأما ما أخطرتم لهم فدينكم وبيضتكم ، ولا سواء ما أخطرتم وما أخطروا ، فلا يكونن على دنياهم أحمى منكم على دينكم ، واتقى الله عبد صدق الله وأبلى نفسه فأحسن البلاء ، فإنكم بين خيرين منتظرين إحدى الحسنيين من بين شهيد حي مرزوق أو فتح قريب ، وظفر يسير ، فكفى كل رجل ما يليه ، ولم يكل قرنه إلى أخيه ، فيجتمع عليه قرنه وقرن نفسه ، وذلك من الملامة ، وقد يقاتل الكلب عن صاحبه ، فكل رجل منكم مسلط على ما يليه . فإذا قضيت أمري فاستعدوا فإني مكبرٌ ثلاثاً، فإذا كبرت التكبيرة الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ، فإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض ، فإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معاً . اللهم أعز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم ، على إعزاز دينك ، ونصر عبادك . فلما فرغ النعمان من التقدم إلى أهل المواقف وقضى إليهم أمره رجع إلى موقفه، فكبر الأولى والثانية والثالثة ، والناس سامعون مطيعون مستعدون للمناهضة ينحى بعضهم بعضاً عن سننهم ، وحمل النعمان وحمل الناس ، وراية النعمان تنقضُّ نحوهم انقضاض العقاب ، والنعمان مُعَلَّمٌ ببياض القباء والقلنسوة ، فاقتتلوا بالسيوف قتالاً شديداً ، لم يسمع السامعون بوقعةِ يومٍ قط كانت أشد منها ، فقتلوا فيها من أهل فارس فيما بين الزوال والإعتام ، ما طبق أرض المعركة دماً يزلق الناس والدواب فيه ، وأصيب فرسان من فرسان المسلمين في الزلق في الدماء ، فزلق فرس النعمان في الدماء فصرعه ، وأصيب النعمان حين زلق به فرسه وصرع ، وتناول الراية نعيم بن مقرن قبل أن تقع ، وسجى النعمان بثوب وأتى حذيفة بالراية فدفعها إليه ، وكان اللواء مع حذيفة فجعل حذيفة نعيم بن مقرن مكانه ، وأتى المكان الذي كان فيه النعمان ، فأقام اللواء وقال له المغيرة : أكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع الله فينا وفيهم ، لكيلا يهن الناس ، واقتتلوا حتى إذا أظلهم الليل فانكشف المشركون وذهبوا ، والمسلمون ملظون ( متابعون لهم ) بهم ملتبسون ، فعمي عليهم قصدهم فتركوه ، وأخذوا نحو اللهب ( الوادي ) الذي كانوا نزلوا دونه بإسبيذهان ، فوقعوا فيه ، وجعلوا لا يهوي منهم أحد إلا قال : وايه خرد ، فسمى بذلك وايه خرد إلى اليوم . فمات فيه منهم مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل في المعركة من أعدادهم ، ولم يفلت إلا الشريد . ونجا الفيرزان بين الصرعى في المعركة، فهرب نحو همذان في ذلك الشريد فاتبعه نعيم بن مقرن ، وقدم القعقاع قدامه ، فأدركه حين انتهى إلى ثنية همذان ، والثنية مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلاً ، فحبسه الدواب على أجله فقتله على الثنية بعدما امتنع ، وقال المسلمون : إن لله جنوداً من عسل ، واستاقوا العسل وما خالطه من سائر الأحمال ، فأقبل بها وسميت الثنية بذلك ثنية العسل . وإن الفيرزان لما غشيه القعقاع نزل فتوقل في الجبل، إذ لم يجد مساغاً، وتوقل القعقاع في أثره حتى أخذه .
ومضى الفُلال حتى انتهوا إلى مدينة همذان والخيل في آثارهم ، فدخلوها فنزل المسلمون عليهم وحووا ما حولها ، فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم وقبل منهم ، على أن يضمن لهم همذان ودستبى ، وأن لا يؤتى المسلمون منهم ، فأجابوهم إلى ذلك وآمنوهم ، وأمن الناس . وأقبل كل من كان هرب .
ودخل المسلمون بعد هزيمة المشركين يوم نهاوند مدينة نهاوند ، واحتووا ما فيها وما حولها ، وجمعوا الأسلاب والرثاث إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع . فبينا هم كذلك على حالهم ، وفي عسكرهم يتوقعون ما يأتيهم من إخوانهم بهمذان ، أقبل الهربذ صاحب بيت النار على أمان ، فأبلغ حذيفة فقال : أتؤمنني على أن أخبرك بما أعلم ؟ قال : نعم . قال : إن النخيرجان وضع عندي ذخيرة لكسرى ، فأنا أخرجها لك على أماني وأمان من شئت ، فأعطاه ذلك فأخرج له ذخيرة كسرى جوهراً كان أعده لنوائب الزمان ، فنظروا في ذلك فأجمع رأى المسلمين على رفعه إلى عمر ، فجعلوه له فأخرجوه حتى فرغوا فبعثوا به مع ما يرفع من الأخماس ، وقسم حذيفة بن اليمان بين الناس غنائمهم ، فكان سهم الفارس يوم نهاوند ستة آلاف وسهم الراجل ألفين .
وقد نفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء يوم نهاوند ، ورفع ما بقي من الأخماس إلى السائب بن الأقرع فقبض السائب الأخماس ، فخرج بها إلى عمر وبذخيرة كسرى .
وأقام حذيفة بعد الكتاب بفتح نهاوند بنهاوند ، ينتظر جواب عمر وأمره ، وكان رسوله بالفتح طريف بن سهم أخو بني ربيعة بن مالك ، فلما بلغ الخبر أهل الماهين بأن همذان قد أخذت ونزلها نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو ، اقتدوا بخسرشنوم فراسلوا حذيفة فأجابهم إلى ما طلبوا ، فأجمعوا على القبول وعزموا على إتيان حذيفة ، فخدعهم دينار وهو دون أولئك الملوك وكان ملكاً ، إلا أن غيره منهم كان أرفع منه ، وكان أشرفهم قارن ، وقال : لا تلقوهم في جمالكم ، ولكن تقهلوا ( تقشفوا ) لهم ففعلوا ، وخالفهم فأتاهم في الديباج والحلى وأعطاهم حاجتهم ، واحتمل للمسلمين ما أرادوا ، فعاقدوه عليهم ولم يجد الآخرون بداً من متابعته والدخول في أمره ، فقيل ماه دينار لذلك .
فذهب حذيفة بماه دينار وقد كان النعمان عاقد بهراذان على مثل ذلك ، فنسبت إلى بهراذان ، ووكل النسير بن ثور بقلعة قد كان لجأ إليها قوم فجاهدهم فافتتحها فنسبت إلى النسير . وقسم حذيفة لمن خلفوا بمرج القلعة ولمن أقام بغضي شجر ولأهل المسالح جميعاً في فئ نهاوند، مثل الذي قسم لأهل المعركة، لأنهم كانوا ردءً للمسلمين لئلا يؤتوا من وجه من الوجوه. وتململ عمر تلك الليلة التي كان قدر للقائهم وجعل يخرج ويلتمس الخبر، فبينا رجل من المسلمين قد خرج في بعض حوائجه، فرجع إلى المدينة ليلاً فمر به راكب في الليلة الثالثة من يوم نهاوند يريد المدينة، فقال: يا عبد الله من أين أقبلت؟ قال من نهاوند. قال: ما الخبر؟ قال: الخبر خير، فتح الله على النعمان واستشهد، واقتسم المسلمون فئ نهاوند، فأصاب الفارس ستة آلاف» .
وقال الطبري : 3 / 204 : « ثم دفع الراية إلى حذيفة بن اليمان ، وقتل الله ذا الحاجب وافتتحت نهاوند ، فلم يكن للأعاجم بعد ذلك جماعة » .
وفي الفائق : 1 / 331 : « ذكر أن النعمان طعن برايته رجلاً ، ثم رفع رايته مختضبة دماً ، كأنها جناح عقاب كاسر » .
وصف المعركة برواية غير الطبري
قال خليفة بن خياط / 104 : « التقوا بنهاوند يوم الأربعاء ، فكان في المجنَّبة اليمنى انكشاف ( هزيمة ) وثبتت المجنبة اليسرى وثبت النصف . ثم التقوا يوم الخميس فكان في المجنبة اليسرى انكشاف ، وثبتت المجنبة اليمنى والنصف » .
وفي الثقات لابن حبان : 2 / 227 : « فالتقى المسلمون والمشركون بنهاوند فأقبل المشركون يحمون أنفسهم وخيولهم ثلاثاً ، ثم نهض إليهم المسلمون يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالاً شديداً ، حتى كثرت القتلى وفشت الجرحى والصرعى في الفريقين جميعاً ، ثم حجز بينهما الليل ورجع الفريقان إلى عسكريهما ، وبات المسلمون ولهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق ويبكون حول مصاحفهم . وبات المشركون في معازفهم وخمورهم . ثم غدوا يوم الخميس فاقتتل المشركون وقاتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى ، وفشت الجرحى في الفريقين جميعاً .
ثم حجز بينهما الليل ورجع الفريقان إلى عسكريهما، وبات المسلمون لهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق ويبكون حول مصاحفهم، وبات المشركون في معازفهم وخمورهم . ثم غدا النعمان بن مقرن يوم الجمعة، وكان رجلاً قصيراً أبيض على برذون أبيض ، قد أعلم بالبياض ، فجعل يأتي راية راية يحرضهم على القتال ، ويقول : الله الله في الإسلام أن تخذلوه ، فإنكم باب بين المسلمين وبين المشركين ، فإن كسر هذا الباب دخلوا على المسلمين .
يا أيها الناس إني هازٌّ لكم الراية مرة ، فليتعاهد الرجل الخيل في حزمها وأعنتها ، ألا وإني هازٌّ لكم الثانية فلينظر كل رجل منكم إلى موقف فرسه ومضرب رمحه ووجه مقاتله ، ألا وإني هازٌّ لكم الثالثة ومكبرٌ ، فكبروا الله واذكروه ، ومستنصرٌ فاستنصروه ، ألا فحامل فاحملوا . . .
فمكث المسلمون ينظرون إلى الراية ويراعونها حتى إذا زالت الشمس عن كبد السماء ، هز النعمان الراية هزةً فانتزعوا المخالي عن الخيول وقرطوها الأعنة ، وأخذوا أسيافهم بأيمانهم والأترسة بشمائلهم ، وصلى كل رجل منهم ركعتين ، يبادر بهما ، ثم هز النعمان الراية ثانياً فوضع كل رجل منهم رمحه بين أذني فرسه ، ولزمت الرجال منهم نحور الخيل ، وجعل كل رجل يقول لصاحبه : أي فلان تنحَّ عنى لا أطؤك بفرسي ، إني أرى وجه مقاتلي ، إني غير راجع إن شاء الله حتى أقتل أو يفتح الله عليَّ !
ثم هز الثالثة فكبر فجعل الناس يكبرون الأول فالأول، الأدنى فالأدنى ، وقذف الله الرعب في قلوب المشركين حتى أن أرجلهم كانت تخفق في الركب ، فلم يستطع منهم أحد أن يوتر قوسه ، ثم ولوا مدبرين ، وحمل النعمان وحمل الناس ، فكان النعمان أول قتيل قتل من المسلمين ، جاءه سهم فقتله ، فجاء أخوه معقل بن مقرن فغطى عليه برداً له ، ثم أخذ الراية وإنها لتنضح دماً من دماء من قتله بها النعمان قبل أن يقتل ، فهزم الله المشركين وفتح على المسلمين ، وبايع الناس لحذيفة بن اليمان » .
وفي صحيح ابن حبان : 11 / 68 : « فلما حضرت الصلاة وهبت الأرواح كبر وكبرنا وقال : ريح الفتح والله إن شاء الله ، وإني لأرجو أن يستجيب الله لي وأن يفتح علينا ، فهز اللواء فتيسروا ثم هزه الثانية ثم هزه الثالثة ، فحملنا جميعاً كل قوم على من يليهم . . فوالله ما علمت من المسلمين أحداً يحب أن يرجع إلى أهله حتى يقتل أو يظفر ، وثبتوا لنا فلم نسمع إلا وقع الحديد على الحديد ، حتى أصيب في المسلمين مصابة عظيمة ، فلما رأوا صبرنا ورأونا لا نريد أن نرجع انهزموا ، فجعل يقع الرجل فيقع عليه سبعة في قران ( مقترنون بالسلاسل ) فيقتلون جميعاً ، وجعل يعقرهم حسك الحديد خلفهم ، فقال النعمان : قدموا اللواء فجعلنا نقدم اللواء فنقتلهم ونضربهم ، فلما رأى النعمان أن الله قد استجاب له ورأي الفتح ، جاءته نشابة فأصابت خاصرته فقتلته ، فجاء أخوه معقل بن مقرن فسجى عليه ثوباً وأخذ اللواء فتقدم به ، ثم قال : تقدموا رحمكم الله فجعلنا نتقدم فنهزمهم ونقتلهم ، فلما فرغنا واجتمع الناس قالوا : أين الأمير فقال معقل : هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح ، وختم له بالشهادة ، فبايع الناس حذيفة » .
وفي الأخبار الطوال للدينوري / 134 : « وحملوا ، فانتقضت صفوف الأعاجم ، وكان النعمان أول قتيل ، فحمله أخوه سويد بن مقرن إلى فسطاطه ، فخلع ثيابه فلبسها وتقلد سيفه وركب فرسه ، فلم يشك أكثر الناس أنه النعمان ، وثبتوا يقاتلون عدوهم ثم أنزل الله نصره ، وانهزمت الأعاجم فذهبت على وجوهها ، حتى صاروا إلى قرية من نهاوند على فرسخين تسمى دزيزيد فنزلوها لأن حصن نهاوند لم يسعهم ، وأقبل حذيفة بن اليمان ، وقد كان تولى الأمر بعد النعمان ، حتى أناخ عليهم ، فحاصرهم بها .
قال : وإنهم خرجوا ذات يوم مستعدين للحرب ، فقاتلهم المسلمون فانهزمت الأعاجم ، وانقطع عظيم من عظمائهم يسمى دينار ، فحال المسلمون بينه وبين الدخول إلى الحصن ، واتبعه رجل من عبس يسمى سماك بن عبيد ، فقتل قوماً كانوا معه واستسلم له الفارس ، فاستأسره سماك فقال لسماك : انطلق بي إلى أميركم فإني صاحب هذه الكورة ، لأصالحه على هذه الأرض وأفتح له باب الحصن ، فانطلق به إلى حذيفة فصالحه حذيفة عليها وكتب له بذلك كتاباً . فأقبل دينار حتى وقف على باب حصن نهاوند ، ونادى من فيه : افتحوا باب الحصن وانزلوا فقد آمنكم الأمير وصالحني على أرضكم ، فنزلوا إليه . فبذلك سميت ماه دينار .
وأقبل رجل من أشراف تلك البلاد إلى السائب بن الأقرع ، وكان على المغانم ، فقال له : أتصالحني على ضياعي وتؤمنني على أموالي ، حتى أدلك على كنز لا يدرى ما قدره ، فيكون خالصاً لأميركم الأعظم لأنه شئ لم يؤخذ في الغنيمة . .
فقال له السائب : إن كنت صادقا فأنت آمن على أولادك وضياعك وأهلك وولدك ، فانطلق به حتى استخرجه في سفطين : أحدهما التاج والآخر الحلي .
فلما قسم السائب الغنائم بين من حضر القتال ، وفرغ حمل السفطين في خرجين على ناقته ، وقدم بهما على عمر بن الخطاب فكان من أمرهما الخبر المشهور ، اشتراهما عمرو بن الحارث بعطاء المقاتلة والذرية جميعاً ، ثم حملهما إلى الحيرة فباع بفضل كثير ، واعتقد بذلك أموالاً بالعراق » . أي اشترى عقارات .
وفي الثقات لابن حبان : 2 / 212 : « فجمع السائب بن الأقرع الغنائم كأنها الآكام فجاءه دهقان من دهاقينهم فقال : هل لك أن تؤمنني على دمى ودم أهل بيتي ودم كل ذي رحم لي ، وأدلك على كنز عظيم . قال : نعم . قال : خذوا المكاتل والمعاول فامشوا ، فمشوا معه حتى انتهى إلى مكان قال : إحفروا فحفروا فإذا هم بصخرة . قال : إقلعوها فقلعوا فإذا هم بسفطين من فصوص يضئ ضوءها كأنها شهب تتلألأ ، فأعطى السائب كل ذي حق حقه من الغنائم ، وحمل السفطين حتى قدم بهما على عمر » .
قال ابن الأعثم : 2 / 303 : « ثم حمل النعمان وحمل الناس معه فاختلطوا واقتتلوا ، وذهب النعمان ليحمل على رجل من الأعاجم ، فحمل عليه رجل منهم فطعنه طعنة في خاصرته ، فسقط النعمان قتيلاً رحمة الله عليه . قال : وجالت الخيل ونظر رجل من المسلمين إلى النعمان قتيلاً إلى عمامة كانت على رأسه ، فأخذها فضرب بها على وجه النعمان لكيلا ينظر المسلمون إلى وجه النعمان فيفشلوا عن القتال . قال : وتقدم معقل أخو النعمان فرفع الراية للمسلمين ثم حمل ، فلم يزل يقاتل حتى قتل رحمة الله عليه . قال : وتقدم أخوهما الأصغر واسمه سويد بن مقرن ، قال : وجعل سويد بن مقرن يقاتل حتى أثخن بالجراحات ولم يقتل ، فرجع بالراية فدفعها إلى حذيفة بن اليمان ، قال : فأخذها حذيفة فرفعها للمسلمين ثم قال : إني حامل ، وحمل حذيفة وحمل الناس معه ، فاقتتلوا قتالاً شديداً يومهم ذلك إلى أن جاء الليل ، فحجز بينهم . .
فلما أصبح القوم زحف بعضهم إلى بعض ، وتقدم رجل من الأساورة على فرس له لا ينال من طوله حتى وقف بين الجمعين ثم نادى : يا معشر العرب ، أنا بوذان بن أرديه ، فهلموا إلى البراز ! قال : فلما سمعه الناس وهو يتكلم بالعربية كأنهم هابوه فلم يخرج إليه أحد ، قال : ونظر الفارسي أنه ليس يخرج إليه أحد فحمل على المسلمين حملة فشق الصفوف وخرج من الجانب الآخر ، ثم كر راجعا على المسلمين فخالطهم واستلب منهم رجلاً عن فرسه فجعل يركض به والرجل معلق بيده حتى صار به إلى أصحابه فرمى به إليهم فقتل الرجل ، ثم أقبل بوذان حتى صار إلى الموضع الذي كان فيه بدياً ، قال : فاغتم المسلمون لذلك ، وجعل عمرو بن معد يكرب يرتجز . ثم حمل بوذان على المسلمين ليفعل كفعلته الأولية ، وحمل عليه عمرو بن معد يكرب من ورائه فضربه بالصمصامة ضربة على بيضته ، فقدَّ البيضة والهامة ، ومرت الصمصامة تهوي حتى صارت إلى جوف بوذان فسقط قتيلاً ، فنزل إليه عمرو فسلبه ما كان عليه ، فيقال إنه كان في وسط بوذان منطقة قومت بسبعة آلاف دينار .
قال : ودنت الفُرس حتى تقاربت من صفوف المسلمين في خلق عظيم ، فجعلوا يرمون بالنشاب حتى جرحوا جماعة . . وحملوا على الفرس فكشفوهم ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ثم رجعوا إلى مراكزهم » .
وقال ابن الأعثم : 2 / 305 : « وتقدم قائد من قواد نهاوند يقال له هرمزد بن داران في نيف على خمسة آلاف فارس من نخبة الأعاجم حتى وقف بين الجمعين ، فأقبل حذيفة بن اليمان على الناس فقال : أيها المسلمون ، إن هؤلاء الأعاجم ليست معهم نصفة أن يخرج منهم رجل إلى رجل ، وذلك أنه إذا خرج منهم قائد لم يجد بداً من أن يخرج معه كل أصحابه ، وهذا عسكر لجب قد برز إليكم في مثل هذه التعبية من الخيل والجنود والفيلة ، فثقوا بربكم وقاتلوا عن دينكم وصلوا على نبيكم . قال : فكان أول من خرج إلى هرمزد وأصحابه رجلان من قيس عيلان من بني مضر يقال لأحدهما بكير والآخر مالك ، فخرجا على فرسين لهما ثم أقبل أحدهما على الآخر فقال له : يا أخي إعلم أني حامل على هذا الجيش ولست أطلب منهم إلا عميدهم وكبيرهم هرمزد بن داران ، فما الذي ترى ؟ فقال أخوه : أرى أني معك أحمل إذا حملت ومعك أقتل إن قتلت ، ومعك أرجع إن رجعت ، قال : فخرجا جميعاً نحو هرمزد وأصحابه فطعنا في الخيل ساعة حتى فروا هائمين يمنة ويسرة ، ثم إنهما حملا على هرمزد بن داران ، هذا عن يمينه وهذا عن يساره ، فطعناه فسقط إلى الأرض قتيلا ، قال : وتكاثرت الفرس من كل ناحية على هذين الفتيين بكير ومالك فقتلا جميعاً رحمة الله عليهما » .
وفي الأخبار الطوال للدينوري / 138 : « فقال عروة بن زيد الخيل يذكر أيامهم :
[ ابتداء شعر ]
ألا طرقت رحلي وقد نام صحبتي *** بإيوان سيرين المزخرف خَلَّتي
ولو شهدت يومي جلولاء حربنا *** ويوم نهاوند المهول استهلت
إذا لرأت ضرب أمري غير خامل *** مجيد بطعن الرمح أروع مُصلت
ولما دعوا يا عروة بن مهلهل *** ضربت جموع الفرس حتى تولت
دفعت عليهم رحلتي وفوارسي *** وجردت سيفي فيهم ثمت التي
وكم من عدو أشوس متمرد *** عليه بخيلي في الهياج أظلت
وكم كربة فرجتها وكريهة *** شددت لها أزري إلى أن تجلت
وقد أضحت الدنيا لديَّ ذميمة *** وسَلَّيْتُ عنها النفس حتى تسلت
وأصبح همي في الجهاد ونيتي *** فلله نفس أدبرت وتولت
فلا ثروةُ الدنيا نريد اكتسابها *** إلا إنها عن وفرها قد تحلت
وما ذا أرجِّي من كنوزٍ جمعتها *** وهذى المنايا شرعاً قد أظلت » .
[ انتهاء شعر ]
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|