أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-5-2020
3627
التاريخ: 7-6-2020
7069
التاريخ: 16-5-2020
4932
التاريخ: 13-6-2020
26868
|
قال تعالى:{ وأُوحِىَ إِلى نُوح أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِك إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ فَلا تَبْتَئس بِمَا كانُوا يَفْعَلُونَ(36) واصنَع الْفُلْك بِأَعْيُنِنَا ووَحْيِنَا ولا تخَطِبْنى فى الَّذِينَ ظلَمُوا إِنهُم مُّغْرَقُونَ(37) ويَصنَعُ الْفُلْك وكلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسخَرُونَ(38) فَسوْف تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يخْزِيهِ ويحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}[هود: 36، 39]
{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} : أعلم الله سبحانه نوحا أنه لن يؤمن به أحد من قومه في المستقبل { فَلَا تَبْتَئِسْ} أي: لا تغتم ولا تحزن. { بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} والعقل لا يدل على أن قوما لا يؤمنون في المستقبل وإنما طريق ذلك السمع فلما علم أن أحدا منهم لا يؤمن في ما بعد ولا من نسلهم دعا عليهم فقال{ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} فلما أراد الله سبحانه إهلاكهم أمر نبيه باتخاذ السفينة له ولقومه فقال { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ } أي: أعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن بك { بِأَعْيُنِنَا } أي : بمرأى منا عن ابن عباس والتأويل: بحفظنا إياك حفظ الرائي لغيره إذا كان يدفع الضرر عنه وذكر الأعين لتأكيد الحفظ . وقيل : أراد بالأعين الملائكة الموكلين بك وبحضرتهم وهم ينظرون بأعينهم إليك. وإنما أضاف ذلك إلى نفسه إكراما وتعظيما لهم . وقوله : { ووحينا } معناه: وعلى ما أوحينا إليك من صفتها وحالها عن أبي مسلم وقيل : المراد بوحينا إليك أن اصنعها وذلك أنه (عليه السلام) لم يعلم صنعة الفلك فعلمه الله تعالى عن ابن عباس. أي : فإنا نوحي إليك بما تحتاج إليه من طوله وعرضه وهيأته.
{ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي: لا تسألني العفو عن هؤلاء الذين كفروا من قومك ولا تشفع لهم فإنهم مغرقون عن قَرِيب . وهذا غاية في الوعيد كما يقول الملك لوزيره : لا تذكر حديث فلان بين يدي . وقيل: إنه عنى به امرأته وابنه وإنما نهاه عن ذلك ليصونه عن سؤال ما لا يجاب إليه وليصرف عنه مأثم الممالأة للطغاة { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} أي: وجعل نوح (عليه السلام) يصنع الفلك كما أمره الله تعالى . وقيل وأخذ نوح في صنعه السفينة بيده فجعل ينحتها ويسويها وأعرض عن قوله .
{ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ } أي: كلما اجتاز به جماعة من أشراف قومه ورؤسائهم وهو يعمل السفينة هزؤا من فعله .وقيل : إنهم كانوا يقولون له يا نوح ! صرت نجارا بعد النبوة ؟ على طريق الاستهزاء. وقيل إنما كانوا يسخرون من عمل السفينة لأنه كان يعملها في البر على صفة من الطول والعرض ولا ماء هناك يحمل مثلها فكانوا يتضاحكون ويتعجبون من عمله { قال} أي: كان يقول لهم { إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} والمراد: أن تستجهلونا في هذا الفعل فإنا نستجهلكم عند نزول العذاب بكم كما تستجهلونا عن الزجاج وقيل : معناه فإنا نجازيكم على سخريتكم عند الغرق والهلاك وأراد به تعذيب الله إياهم فسمى الجزاء باسم المجزي به ويحتمل أن يريد فإنا نسخر منكم بعد الغرق على وجه الشماتة لا على وجه السفه.
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أينا أحق بالسخرية أو تعلمون عاقبة سخريتكم { مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} هذا ابتداء كلام من نوح والأظهر أن يكون متصلا بما قبله أي: فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يهينه ويفضحه في الدنيا ويكون يخزيه صفة العذاب { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي: وينزل عليه عذاب دائم في الآخرة .
________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي ،ج5،ص270-271.
{ وأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ} . أنبأ اللَّه نوحا ( عليه السلام ) بأن مهمته قد انتهت بعد أن أدى الرسالة على وجهها ، وألقى الحجة على من أعرض وتولى ، وانه لن يستجيب له أحد بعد الآن ، وعزّاه اللَّه سبحانه عن ذلك ، لأن نوحا قد تألم وحزن لاصرارهم على الشرك .
{ واصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا ووَحْيِنا ولا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } .
بأعيننا كناية عن حفظه تعالى ورعايته ، والمراد بوحينا أمره وتعاليمه ، بعد أن أمره اللَّه بصنع الفلك نهاه عن التوسل إليه في شأن الذين ظلموا أنفسهم ، لأن كلمة العذاب قد حقت عليهم أجمعين .
{ ويَصْنَعُ الْفُلْكَ وكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ } لأنه صنعها في فلاة من الأرض بعيدا عن الماء . . سخروا وضحكوا لأنهم أيقنوا بأنه لا شيء وراء ما يبصرون ، وهذا هو شأن الجاهل يركن إلى الظاهر ، ولا يدخل في حسابه ما وراءه من تقدير وتدبير . وقيل : ان قوم نوح ما رأوا سفينة قبل ذلك ، ولا عرفوا كيفية الانتفاع بها ، ولذلك سخروا وتعجبوا . . والمعروف ان الفينيقيين من أوائل من صنع السفن وركب البحار ، ونقل أبو حيان الأندلسي في تفسيره « البحر المحيط » عن ابن عباس ان نوحا قطع خشب السفينة من غابات جبال لبنان . . وان دل هذا على شيء فإنما يدل على أن جبال لبنان كانت معروفة بالغابات منذ القديم . . وكذا الفينيقيون قطعوا أخشاب سفنهم من هذه الغابات .
المؤمنون والمستهزؤون :
{ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ويَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ } . جهلوا حقيقة السفينة والغرض منها ، ولم يحسبوا لمخبآت الدهر وملماته ، فاسترسلوا مع أهوائهم يهزؤون ويسخرون ، أما نوح فقد كان على ثقة من أمره وانه يصنع ما يصنع بعين اللَّه ورعايته ، وانه ومن معه بمنجاة من الهلاك ، وان مصير الساخرين إلى الغرق لا محالة ، وهذا المصير هو الذي سخر منهم ، أما نوح فبيان الواقع وترجمانه .
وما أشبه المستهترين بالدين من شباب هذا العصر بالذين كفروا من قوم نوح .
سخر هؤلاء من سفينة النجاة ، وسخر الشباب المستهتر من المؤمنين ، وقالوا :
أصلاة وصيام في القرن العشرين ؟ . تماما كما قال الذين كفروا : أسفينة في اليابسة ، حيث لا بحر ولا ماء ؟ . جهلوا حقيقة السفينة وأسرارها ، فسخروا من نوح ، وجهل الشباب أسرار الصوم والصلاة ، فسخروا من الصائمين المصلين ، أفأمن الشباب المستهتر الهازئ بالدين وأهله ان يصيبهم ما أصاب الذين سخروا من نوح وسفينته ؟
_____________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، ج4،ص229- 230.
تتمة قصة نوح (عليه السلام) وهي تشتمل على فصول كإخباره (عليه السلام) بنزول العذاب على قومه، وأمره بصنع الفلك، وكيفية نزول العذاب وهو الطوفان، وقصة ابنه الغريق، وقصة نجاته ونجاة من معه لكنها جميعا ترجع من وجه إلى فصل واحد وهو فصل القضاء بينه (عليه السلام) وبين قومه.
قوله تعالى:{وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} الابتئاس من البؤس وهو حزن مع استكانة.
وقوله:{لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} إيئاس وإقناط له (عليه السلام) من إيمان الكفار من قومه بعد ذلك، ولذلك فرع عليه قوله:{فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} لأن الداعي إلى أمر إنما يبتئس ويغتم من مخالفة المدعوين وتمردهم ما دام يرجو منهم الإيمان والاستجابة لدعوته، وأما إذا يئس من إجابتهم فلا يهتم بهم ولا يتعب نفسه في دعوتهم إلى السمع والطاعة والإلحاح عليهم بالإقبال إليه ولو دعاهم بعدئذ فإنما يدعوهم لغرض آخر كإتمام الحجة وإبراز المعذرة.
وعلى هذا ففي قوله:{فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} تسلية من الله لنوح (عليه السلام) وتطيب لنفسه الشريفة من جهة ما في الكلام من الإشارة إلى حلول حين فصل القضاء بينه وبين قومه، وصيانة لنفسه من الوجد والغم لما كان يشاهد من فعلهم به وبالمؤمنين به من قومهم من إيذائهم إياهم في دهر طويل مما يقرب من ألف سنة لبث فيه بينهم.
ويظهر من كلام بعضهم أنه استفاد من قوله:{لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} أن من كفر منهم فليس يؤمن بعد هذا الحين أبدا كما أن الذين آمنوا به ثابتون على إيمانهم دائمون عليه وفيه أن العناية في الكلام إنما تعلقت ببيان عدم إيمان الكفار بعد ذلك فحسب وأما إيمان المؤمنين فلم يعن به إلا بمجرد التحقق سابقا ولا دلالة في الاستثناء على أزيد من ذلك، وأما ثباتهم ودوامهم على الإيمان فلا دليل عليه.
ويستفاد من الآية أولا: أن الكفار لا يعذبون ما كان الإيمان مرجوا منهم فإذا ثبتت فيهم ملكة الكفر ورجس الشرك حق عليهم كلمة العذاب.
وثانيا: أن ما حكاه الله سبحانه من دعاء نوح بقوله:{وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا:} نوح: - 27 كان واقعا بين قوله:{إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} إلخ، وبين قوله:{واصنع الفلك - إلى قوله - إنهم مغرقون}.
وذلك لأنه - كما ذكر بعضهم - لا سبيل إلى العلم بعدم إيمان الكفار في المستقبل من طريق العقل وإنما طريقه السمع بالوحي فهو (عليه السلام) علم أولا من وحيه تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن أن أحدا منهم لا يؤمن بعد ذلك ولا في نسلهم من سيؤمن بالله ثم دعا عليهم بالعذاب وذكر في دعائه ما أوحي إليه فلما استجاب الله دعوته وأراد إهلاكهم أمره (عليه السلام) باتخاذ السفينة وأخبره أنهم مغرقون.
قوله تعالى:{واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} الفلك هي السفينة مفردها وجمعها واحد والأعين جمع قلة للعين وإنما جمع للدلالة على كثرة المراقبة وشدتها فإن الجملة كناية عن المراقبة في الصنع.
وذكر الأعين قرينة على أن المراد بالوحي ليس هو هذا الوحي أعني قوله:{واصنع الفلك} إلخ، حتى يكون وحيا للحكم بل وحي في مقام العمل وهو تسديد وهداية عملية بتأييده بروح القدس الذي يشير إليه أن افعل كذا وافعل كذا كما ذكره تعالى في الأئمة من آل إبراهيم ع بقوله:{وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين:} الأنبياء: - 73، وقد تقدمت الإشارة إليه في المباحث السابقة وسيجيء إن شاء الله في تفسير الآية.
وقوله:{ولا تخاطبني في الذين ظلموا} أي لا تسألني في أمرهم شيئا تدفع به الشر والعذاب وتشفع لهم لتصرف عنهم السوء لأن القضاء فصل والحكم حتم وبذلك يظهر أن قوله:{إنهم مغرقون} في محل التعليل لقوله:{ولا تخاطبني} إلخ، أولمجموع قوله:{واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا} ويظهر أيضا أن قوله:{ولا تخاطبني} إلخ، كناية عن الشفاعة.
والمعنى: واصنع السفينة تحت مراقبتنا الكاملة وتعليمنا إياك ولا تسألني صرف العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا فإنهم مقضي عليهم الغرق قضاء حتم لا مرد له.
قوله تعالى:{ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} قال في المجمع،: السخرية إظهار خلاف الإبطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل، ومنه التسخير لتذليل يكون استضعافا بالقهر، والفرق بين السخرية واللعب أن في السخرية خديعة واستنقاصا ولا تكون إلا في الحيوان وقد يكون اللعب بجماد، انتهى.
وقال الراغب في المفردات،: سخرت منه واستسخرته للهزء منه قال تعالى:{إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون}{بل عجبت ويسخرون} وقيل: رجل سخر - بالضم فالفتح - لمن سخر وسخرة - بالضم فالسكون - لمن يسخر منه، والسخرية - بالضم - والسخرية - بالكسر - لفعل الساخر، انتهى.
وقوله:{ويصنع الفلك} حكاية الحال الماضية يمثل بها ما يجري على نوح (عليه السلام) من إيذاء قومه وقيام طائفة منهم بعد طائفة على إهانته والاستهزاء به في عمل السفينة وصبره عليه في جنب الدعوة الإلهية وإقامة الحجة عليهم من غير أن يفشل وينثني.
وقوله:{كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه} حال من فاعل يصنع والملأ هاهنا الجماعة الذين يعبأ بهم، وفي الكلام دلالة على أنهم كانوا يأتونه وهو يصنع الفلك جماعة بعد جماعة بالمرور عليه ساخرين، وأنه (عليه السلام) كان يصنعها في مرأى منهم وممر عام.
وقوله:{قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} في موضع الجواب لسؤال مقدر كان قائلا قال: فما ذا قال نوح (عليه السلام)؟ فقيل:{قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم} ولذا فصل الكلام من غير عطف.
ولم يقل (عليه السلام): إن تسخروا مني فإني أسخر منكم ليدفع به عن نفسه وعن عصابة المؤمنين به وكأنه كان يستمد من أهله واتباعه في ذلك وكانوا يشاركونه في عمل السفينة وكانت السخرية تتناولهم جميعا فظاهر الكلام أن الملأ كانوا يواجهون نوحا ومن معه في عمل السفينة بسخرية نوح ورميه (عليه السلام) بالخبل والجنون فيشمل هزؤهم نوحا ومن معه وإن كانوا لم يذكروا في هزئهم إلا نوحا فقط.
على أن الطبع والعادة يقضيان أن يكونوا يسخرون من أتباعه أيضا كما كانوا يسخرون منه فهم أهل مجتمع واحد تربط المعاشرة بعضهم ببعض وإن كانت سخريتهم من أتباعه سخرية منه في الحقيقة لأنه هو الأصل الذي تقوم به الدعوة، ولذا قيل:{سخروا منه} ولم يقل: سخروا منه ومن المؤمنين.
والسخرية وإن كانت قبيحة ومن الجهل إذا كانت ابتدائية لكنها جائزة إذا كانت مجازاة وبعنوان المقابلة وخاصة إذا كانت تترتب عليها فائدة عقلائية كإنفاذ العزيمة وإتمام الحجة قال تعالى:{فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم:} التوبة: - 79، ويدل على اعتبار المجازاة والمقابلة بالمثل في الآية قوله:{كما تسخرون}.
قوله تعالى:{فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} السياق يقضي أن يكون قوله:{فسوف تعلمون} تفريعا على الجملة الشرطية السابقة{أن تسخروا منا فإنا نسخر منكم} وتكون الجملة المتفرعة هو متن السخرية التي أتى بها نوح (عليه السلام) ويكون قوله:{من يأتيه عذاب يخزيه} إلخ، متعلقا بتعلمون على أنه معلوم العلم.
والمعنى: أن تسخروا منا فإنا نسخر منكم فنقول لكم: سوف تعلمون من يأتيه العذاب؟ نحن أو أنتم؟ وهذه سخرية بقول حق.
وقوله:{من يأتيه عذاب يخزيه} المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا وهو الغرق الذي أخزاهم وأذلهم، والمراد بقوله:{ويحل عليه عذاب مقيم} أي ينزل عليه عذاب ثابت لازم لا يفارق، هو عذاب النار في الآخرة، والدليل على ما ذكرنا من كون العذاب الأول هو الذي في الدنيا والثاني هو عذاب الآخرة هو المقابلة وتكرر العذاب - منكرا - في اللفظ وتوصيف الأول بالإخزاء والثاني بالإقامة.
وربما أخذ بعضهم قوله:{فسوف تعلمون} تاما من غير ذكر متعلق العلم وقوله:{من يأتيه عذاب يخزيه} إلخ، ابتداء كلام من نوح وهو بعيد عن السياق.
___________________
1- تفسير الميزان، الطباطبائي،ج10،ص172-176.
بداية النّهاية:
إِنّ قصّة نوح عليه السلام الواردة في آيات هذه السورة، بُيّنت بعدّة عبارات وجمل، كل جملة مرتبطة بالأُخرى، وكل منها يمثل سلسلة من مواجهة نوح(عليه السلام)في قبال المستكبرين، ففي الآيات السابقة بيان لمرحلة دعوة نوح(عليه السلام) المستمرة والتي كانت في غاية الجدية، وبالإِستعانة بجميع الوسائل المتاحة حيث استمرت سنوات طوالا ـ آمنت به جماعة قليلة .. قليلة من حيث العدد وكثيرة من حيث الكيفية والإِستقامة.
وفي الآيات محل البحث إِشارة إِلى المرحلة الثّالثة من هذه المواجهة، وهي مرحلة انتهاء دورة التبليغ والتهيؤ للتصفية الإِلهية.
ففي الآية الأُولى نقرأ ما معناه: يا نوح، إنّك لن تجد من يستجيب لدعوتك ويؤمن بالله غير هؤلاء:{وأوحي إِلى نوح أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن}.
وهي إِشارة إِلى أنّ الصفوف قد أمتازت بشكل تام، والدعوة للإِيمان والإِصلاح غير مجدية، فلابدّ إِذاً من الإِستعداد لتصفية والتحول النهائي.
وفي نهاية الآية تسلية لقلب نوح(عليه السلام) أن لا تحزن على قومك حين تجدهم يصنعون مثل هذه الأعمال{فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} ونستفيد من هذه الآية ـ ضمناً ـ أنّ الله يطلع نبيّه نوحاً على قسم من أسرار الغيب بمقدار ما ينبغي، كما نجد أنّ الله تعالى يخبره بأنّه لَنْ يؤمن بدعوته في المستقبل غير أُولئك الذين آمنوا به من قبل، وعلى كل حال لابدّ من انزال العقاب بهؤلاء العصاة اللجوجين ليطهر العالم من التلوّث بوجودهم، وليكون المؤمنون في منأى عن مخالبهم، وهكذا صدر الامر بإغراقهم، ولكن لابدّ لكل شيء من سبب، فعلى نوح أن يصنع السفينة المناسبة لنجاة المؤمنين الصادقين لينشط المؤمنون في مسيرهم أكثر فأكثر، ولتتم الحجّة على غيرهم بالمقدار الكافي أيضاً.
وجاء الأمر لنوح أن{... اصنع الفلك بأعيننا ووحينا}.
إِنّ المقصود من كلمة «أعيننا» إِشارة إِلى أن جميع ما كنت تعمله وتسعى بجد من أجله في هذا المجال هو في مرآى ومسمع منّا، فواصل عملك مطمئن البال.
وطبيعي أنّ هذا الإِحساس بأنّ الله حاضر وناظر ومراقب ومحافظ يعطي الإِنسان قوة وطاقة، كما أنّه يحسّ بتحمل المسؤولية أكثر.
كما يستفاد من كلمة «وحينا» أيضاً أن صنع السفينة كان بتعليم الله، وينبغي أن يكون كذلك، لأنّ نوحاً(عليه السلام) لم يكن بذاته ليعرف مدى الطوفان الذي سيحدث في المستقبل ليصنع السفينة بما يتناسب معه، وإِنّما هو وحي الله الذي يعينه في انتخاب أحسن الكيفيات.
وفي نهاية الآية ينذر الله نوحاً أن لا يشفع في قومه الظالمين، لأنّهم محكوم عليهم بالعذاب وإِن الغرق قد كتب عليهم حتماً{ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون}.
هذه الجملة تبين بوضوح أنّ الشفاعة لا تتيسر لكل شخص، بل للشفاعة شروطها، فإِذا لم تتوفر في أحد الاشخاص فلا يحق للنّبي أن يشفع له ويطلب من الله العفو لأجله (راجع المجلد الأوّل من هذا التّفسير ذيل الآية 48 من سورة البقرة).
أمّا عن قوم نوح فكان عليهم أن يفكروا بجد ـ ولو لحظة واحدة ـ في دعوة النّبي نوح(عليه السلام) ويحتملوا على الأقل أن هذا الإِصرار وهذه الدعوات المكررة كلها من «وحي الله» فتكون مسأله العذاب والطوفان حتمية !! إلاّ أنّهم واصلوا استهزاءهم وسخريتهم مرّة أُخرى وهي عادة الأفراد المستكبرين والمغرورين{ويصنع الفلك وكلّما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إِن تسخروا منّا فإنا نسخر منكم كما تسخرون}.
«الملأ» والأشراف الراضون عن أنفسهم يسخرون من المستضعفين في كل مكان، ويعدونهم أذلاء وحقراء لأنّهم لا قوّة لهم ولا ثروة!! ومضافاً بل حتى أفكارهم وإِن كانت سامية، ومذهبهم وإن كان ثابتاً وراسخاً، وأعمالهم وإِن كانت عظيمة وجليلة .. كل ذلك في حساب «الملأ» حقير تافه..! ولذلك لم ينفعهم الإِنذار والنصيحة. فلابدّ أن تنهال أسواط العذاب الأليم على ظهورهم
يقال أن الملأ من قوم نوح والأشراف كانوا جماعات، وكل جماعة تختار نوعاً من السخرية والإِستهزاء بنوح ليضحكوا ويفرحوا بذلك الإِستهزاء!
فمنهم من يقول: يا نوح، يبدو أن دعوى النبوة لم تنفع وصرت نجاراً آخر الأمر!
ومنهم من يقول: حسناً تصنع السفينة، فينبغي أن تصنع لها بحراً، أرأيت إِنساناً عاقلا يصنع السفينة على اليابسة. ومنهم من يقول: واهاً لهذه السفينة العظيمة، كان بإِمكانك أن تصنع أصغر منها ليمكنك سحبها إِلى البحر.
كانوا يقولون مثل ذلك ويقهقهون عالياً، وكان هذا الموضوع مثار حديثهم وبحثهم في البيوت وأماكن عملهم، حيث يتحدثون عن نوح واصحابه وقلّة عقلهم: تأملوا الرجل العجوز وتفرّجوا عليه كيف انتهى به الأمر، الآن ندرك أن الحق معنا حيث لم نؤمن بِكلامه، فهو لا يملك عقلا صحيحاً!!
ولكن نوحاً كان يواصل عمله بجدية فائقة وأناة واستقامة منقطعة النظير لأنّها وليدة الإِيمان، وكان لا يكترث بكلمات هؤلاء الذين رضوا عن أنفسهم وعميت قلوبهم، وإِنّما يواصل عمله ليكمله بسرعة. ويوماً بعد يوم كان هيكل السفينة يتكامل ويتهياً لذلك اليوم العظيم، وكان نوح(عليه السلام) أحياناً يرفع رأسه ويقول لقومه الذين يسخرون منه هذه الجملة القصيرة{قال إِن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون}.
ذلك اليوم الذي يطغى فيه الطوفان فلا تعرفون ماتصنعون، ولا ملجأ لكم، وتصرخون معولين بين الأمواج تطلبون النجاة.. ذلك اليوم يسخر منكم المؤمنين ومن غفلتكم وجهلكم وعدم معرفتكم ويضحكون عليكم.
{فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} إِشارة إِلى أنّه بالرغم من أنّ مضايقاتكم لنا مؤلمة، ولكننا نتحمل هذه الشدائد ونفتخر بذلك أوّلا، كما أنّ ذلك مهما يكن فهو منقض وزائل، أمّا عذابكم المخزي فهو باق ودائم ثانياً، وهذان الأمران معاً لا يقبلان القياس.
____________________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج6،ص67-69.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|