أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-4-2020
4015
التاريخ: 28-2-2020
3568
التاريخ: 9-3-2020
2324
التاريخ: 18-1-2020
10564
|
قال تعالى {وإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ ( 21 ) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهً مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 22 ) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(يونس 21-23)
أخبر سبحانه عن ذميم فعالهم فقال: { وإذا أذقنا الناس رحمة } يريد بالناس الكفار فهو عموم يراد به الخصوص { من بعد ضراء مستهم }أي: راحة ورخاء بعد شدة وبلاء وحقيقة الذوق فيما له طعم يوجد إنما يكون طعمه بالفم وإنما قال أذقناهم الرحمة على طريق البلاغة لشدة إدراك الحاسة إياها { إذا لهم مكر في آياتنا }أي: فهم يحتالون لدفع آياتنا بكل ما يجدون السبيل إليه من شبهة أو تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة وقال مجاهد مكرهم استهزاؤهم وتكذيبهم {قل} يا محمد لهم { الله أسرع مكرا } أي: أقدر جزاء على المكر ومعناه أن ما يأتيهم من العقاب أسرع مما أتوه من المكر أي أوقع في حقه وقيل أن مكره سبحانه إنزاله العقوبة بهم من حيث لا يشعرون { إن رسلنا } يعني: الملائكة الحفظة { يكتبون ما تمكرون }أي: ما تدبرون من سوء التدبير وفي هذا غاية الزجر والتهديد من وجهين (أحدهما) أنه يحفظ مكرهم (والآخر) أنه أقدر على جزائهم وأسرع فيه.
ثم امتن الله سبحانه على خلقه بأن عدد نعمه التي يفعلها بهم في كل حال فقال { هوالذي يسيركم في البر والبحر } أي: يمكنكم من المسير في البر والبحر بما هيأ لكم من آلات السير وهي خلق الدواب وتسخيرها لكم لتركبوها في البر وتحملوا عليها أثقالكم وهيأ السفن في البحر وإرسال الرياح المختلفة التي تجري بالسفن في الجهات المختلفة { حتى إذا كنتم في الفلك } خص الخطاب براكب البحر أي إذا كنتم راكبي السفن في البحر { وجرين بهم }أي: وجرت السفن بالناس لما ركبوها عدل عن الخطاب إلى الإخبار عن الغائب تصرفا في الكلام على أنه يجوز أن يكون خطابا لمن كان في تلك الحال وإخبارا لغيرهم من الناس { بريح طيبة } أي: بريح لينة يستطيبونها { وفرحوا بها }أي: سروا بتلك الريح لأنها تبلغهم مقصودهم عن أبي مسلم وقيل فرحوا بالسفينة حيث حملتهم وأمتعتهم { جاءتها ريح عاصف} أي: جاءت للسفينة ريح عاصف شديدة الهبوب الهائلة { وجاءهم الموج من كل مكان } من البحر والموج اضطراب البحر ومعناه: وجاء راكبي البحر الأمواج العظيمة من جميع الوجوه { وظنوا أنهم أحيط بهم } أي: أيقنوا أنهم دنوا من الهلاك وقيل غلب على ظنهم أنهم سيهلكون لما أحاط بهم من الأمواج { دعوا الله }عند هذه الشدائد والأهوال والتجئوا إليه ليكشف ذلك عنهم { مخلصين له الدين}أي: على وجه الإخلاص في الاعتقاد ولم يذكروا الأوثان والأصنام لعلمهم بأنها لا تنفعهم هاهنا شيئا وقالوا { لئن أنجيتنا} يا رب { من هذه }الشدة { لنكونن من الشاكرين }أي: من جملة من يشكرك على نعمك وقوله { جاءتها ريح عاصف} جواب قوله { إذا كنتم في الفلك }وقوله { دعوا الله } جواب قوله { وظنوا أنهم أحيط بهم }{ فلما أنجاهم }أي: خلصهم الله تعالى من تلك المحن { إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق }أي: يعملون فيها بالمعاصي والفساد ويشتغلون بالظلم على الأنبياء وعلى المسلمين { يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا}أي: بغي بعضكم على بعض وما ينالونه به متاع في الدنيا وإنما تأتونه لحبكم العاجلة وإيثارها على ما يقرب إلى الله تعالى من الطاعات وقد مر بيانه قبل { ثم إلينا مرجعكم}في الآخرة { فننبئكم بما كنتم تعملون}أي: نخبركم بأعمالكم لأنا أثبتناها عليكم وهي كلمة تهديد ووعيد .
___________________
1- تفسير مجمع البيان ، الطبرسي ،ج5، ص173-174.
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{ وإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا } . قيل المراد بالناس هنا المشركون خاصة ، وليس هذا القول ببعيد عن قرينة السياق ، فإن الآيات السابقة تحدثت عن المشركين ، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون التهديد عاما يشمل كل من جحد أنعم اللَّه ، سواء أكان الجحود من المؤمن أم الكافر ، قبل الضراء أم بعدها . . وفي جميع الحالات فإن مضمون هذه الآية يلتقي مع الآية السابقة رقم 12 ، وهي : { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه }. فهذه الآية تقول : ان الإنسان يذكر اللَّه في العسر ، وينساه في اليسر ، والآية التي التي نفسرها تقول : إذا جعل اللَّه عسر الإنسان يسرا مكر في آياته ، والمراد بهذا المكر انه يجحد آيات اللَّه ، ويكذّب بأن اللَّه سبحانه هو السبب في كشف الضر والبلوى عنه ، ويفسر هذا الكشف بأسباب لا أصل لها ولا أساس ، كالأصنام والكواكب والصدفة ، وما إلى ذلك من التفسيرات الفاسدة التي تختلف باختلاف الأشخاص وأوهامهم ومعتقداتهم .
{ قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ } . المراد بمكر اللَّه تعالى انه يجازي الماكرين على مكرهم ، ويعد لهم العذاب الأليم من حيث لا يشعرون .
وتكلمنا عن المراد بمكره تعالى مفصلا في ج 2 ص 68 عند تفسير الآية 54 من سورة آل عمران ، والمراد بالرسل الكاتبين الملائكة ، والمعنى انه تعالى يحصي أعمال الماكرين ، ويجازيهم عليها بما يستحقون .
{ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ } أي انه جلت حكمته وهب عباده القدرة على السير فيهما ، والغرض من هذه الإشارة التذكير بفضله وأنعمه لنكون له من الشاكرين . . سبحانك اللهم ما أبين كرمك على من أرضاك وأغضبك . . ومن الطريف قول أبي بكر المغافري في أحكام القرآن : ان هذه الآية تدل على أن ركوب البحر جائز وغير محرم ، وأطال الكلام في التدليل على جواز ركوب البحر . . . وذهل عن القاعدة الشرعية التي يعرفها الجاهل والعالم بأن التحريم يحتاج إلى الدليل ، وليس الجواز .
{ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهً مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } . الريح تؤنث وتذكر لأنه تعالى وصفها بالطيبة وبالعاصف ، وهذه الآية تدل على أن الإنسان قد جبل بفطرته على الإيمان باللَّه لرجوعه إليه عند الشدائد . . انظر تفسير الآية 41 من سورة الأنعام ، فقرة : اللَّه والفطرة . وذكر صاحب المنار عند تفسير هذه الآية ما نصه :
{ كان المشركون لا يدعون عند الشدائد الا اللَّه ربهم ، أما الكثير من مسلمي هذا الزمان بزعمهم فإنهم لا يدعون اللَّه عند الشدائد ، وانما يدعون الأموات كالبدوي والرفاعي والدسوقي والجيلاني والمتبولي وأبي سريع وغيرهم ممن لا يحصى عددهم ، وتجد من حملة العمائم الأزهريين وغيرهم ولا سيما سدنة المشاهد المعبودة الذين يتمتعون بأوقافها ونذورها من يغريهم بشركهم ، ويتأوله لهم بتسميته بغير اسمه في اللغة العربية كالتوسل وغيره » . ومثله تماما في تفسير المراغي .
وقرأت في الصحف المصرية ان المصريين يرمون أوراقا في ضريح الولي يشكون إليه فيها من خصومهم ، ويرجون الميت أن يقتص لهم ممن ظلمهم وأساء إليهم ، ونقلت طرفا من هذه الشكاوى في كتاب « من هنا وهناك » ، أما تدفق الجموع على قبر الولي للاحتفال بمولده فندع وصفه لجريدة « الجمهورية » المصرية عدد 1 - 11 - 1968 : « مثل يوم الحشر كانت الزحمة ، كتل بشرية متلاصقة ومتدافعة كأنها أمواج متلاطمة : أو كحقل مزروع بالبشر » .
{ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } . عاهدوا اللَّه أن يتقوه ويشكروه إذا كشف عنهم ، ولما فعل نكثوا العهد ، وهذا تكرار للآية السابقة بتعبير آخر ، قال سبحانه في الآية السابقة : إذا لهم مكر في آياتنا ، وقال في هذه الآية : إذا هم يبغون في الأرض ، والمعنى واحد أو المعنيان متلازمان متشابكان ، والغاية إبراز عتوهم وتمردهم في أقبح الصور .
{ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ } لأن من سل سيف البغي قتل به { مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . قد يفرح الباغي ويطرب من نشوة النصر ، ولكن إلى حين ، ثم تأتي الزفرات والحسرات ، قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) : ثلاث هن رواجع على أهلها : المكر ، ولا يحيق المكر السيء الا بأهله ، والنكث ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، والبغي ، يا أيها الناس انما بغيكم على أنفسكم
_______________________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنيه ، ج4،ص146-148.
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى: {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا} إلى آخر الآية مضمون الآية وإن كان من المعاني العامة الجارية في أغلب الناس في أكثر الأوقات فإن الفرد من الإنسان لا يخلو عن أن يمسه سراء بعد ضراء بل قلما يتفق أن لا يتكرر في حقه ذلك لكن الآية من جهة السياق المتقدم كأنها مسوقة للتعريض للمشركين ومكرهم في آيات الله، والدليل عليه قوله: {قل الله أسرع مكرا} فقد كان النظر معطوفا على مكر طائفة خاصة وهم المخاطبون بهذه الآيات حيث كانوا يمكرون بآيات السراء والضراء بعد ظهورها، ومن مكرهم مكرهم في القرآن الذي هوآية إلهية ورحمة أذاقهم الله إياها بعد ضراء الجهالة العالقة بهم وشمول ضنك العيش والذلة والتفرقة وتباعد القلوب وبغضائها لهم وهم يمكرون به فتارة يقولون {ائت بقرآن غير هذا أو بدله} وتارة يقولون: {لولا أنزل عليه آية من ربه}.
فالآية تبين لهم أن هذا كله مكر يمكرونه في آيات الله، وتبين لهم أن المكر بآيات الله لا يعقب إلا السوء من غير أن ينفعهم شيئا فإن الله أسرع مكرا يأخذهم مكره قبل أن يأخذ مكرهم آياته فإن مكرهم بآيات الله عين مكر الله بهم.
فمعنى الآية: {وإذا أذقنا الناس} عبر عن الإصابة بالإذاقة للإيماء إلى التذاذهم بالرحمة وعناية بالقلة فإن الذوق يستعمل في القليل من التغذي {رحمة من بعد ضراء مستهم} والتعبير بالرحمة في موضع السراء للإشارة إلى أنها من الرحمة الإلهية من غير أن يستوجبوا ذلك فكان من الواجب عليهم أن يقوموا بحقه، ويخضعوا لما تدعو إليه الآية وهو توحيد ربهم وشكر نعمته لكنهم يفاجئون بغير ذلك {إذا لهم مكر في آياتنا} كتوجيه الحوادث بما تبطل به دلالة الآيات كقولهم قد مس آباءنا السراء والضراء، والاعتذار بما لا يرتضيه الله كقولهم: {لو لا أنزل عليه آية} وقولهم: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}.
فأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بقوله: {قل الله أسرع مكرا} ثم علله بقوله: {إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} فلنا عليكم شهداء رقباء أرسلناهم إليكم يكتبون أعمالكم ويحفظونها وبمجرد، ما عملتم عملا حفظ عليكم وتعين جزاؤه لكم قبل أن يؤثر مكركم أثره أو لا يؤثر كما فسروه.
وهنا شيء وهو أن الظاهر من قوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون:} الجاثية: - 29 على ما سيجيء من البيان في تفسير الآية إن شاء الله تعالى أن معنى كتابة الملائكة أعمال العباد هو إخراجهم الأعمال من كمون الاستعدادات إلى مرحلة الفعلية الخارجية ورسم نفس الأعمال في صحيفة الكون وبذلك تنجلي علية كتابة الرسل لأعمالهم لكونه تعالى أسرع مكرا تمام الانجلاء فإن حقيقة المعنى على هذا: أنا نحن نخرج أعمالكم التي تمكرون بها من داخل ذواتكم ونضعها في الخارج فكيف يخفى علينا كونكم تريدون بنا المكر بذلك؟ وهل المكر إلا صرف الغير عما يقصده بحيلة وستر عليه بل ذاك الذي تزعمونه مكرا بنا مكر منا بكم حيث نجعلكم تزعمونه مكرا وتقدمون على المكر بنا، وهذه المزعمة والإقدام ضلال منكم وإضلال منا لكم جزاء بما كسبته أيديكم، وسيأتي نظير هذا المعنى في قوله: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم}: الآية - 23 من السورة.
وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} على قراءة تمكرون بتاء الخطاب وهي القراءة المشهورة وهو من عجيب الالتفات الواقع في القرآن ولعل النكتة فيه تمثيل معنى قوله: {قل الله أسرع مكرا} في العين كأنه تعالى لما قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): {قل الله أسرع مكرا} أراد أن يوضحه لهم عيانا ففاجأهم بتجليه لهم دفعة فكلمهم وأوضح لهم السبب في كونه أسرع مكرا ثم حجبهم عن نفسه فعادوا إلى غيبتهم وعاد الكلام إلى حاله، وخوطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببقية الخطاب: {هو الذي يسيركم} إلخ، وهذا من لطيف الالتفات.
قوله تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} إلى آخر الآية، الفلك السفينة وتستعمل مفردا وجمعا، والمراد بها هاهنا الجمع بدليل قوله: {وجرين بهم} والريح العاصف: الشديدة الهبوب، وقوله: {أحيط بهم} كناية عن الإشراف على الهلاك وتقديره أحاط بهم البلاء أوالأمواج، والإشارة بقوله: {من هذه} إلى الشدة.
ومعنى الآية ظاهر.
وفيها من عجيب الالتفات الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: {وجرين بهم بريح طيبة - إلى قوله - بغير الحق} ولعل النكتة فيه إرجاعهم إلى الغيبة وتوجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصف أعجب جزء من هذه القصة الموصوفة له ليسمعه ويتعجب منه، ويكون فيه مع ذلك إعراض عن الأمر بمخاطبتهم لأنهم لا يفقهون القول.
قوله تعالى: {فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق} أصل البغي هوالطلب ويكثر استعماله في مورد الظلم لكونه طلبا لحق الغير بالتعدي عليه ويقيد حينئذ بغير الحق، ولو كان بمعنى الظلم محضا لكان القيد زائدا.
والجملة من تتمة الآية السابقة، والمجموع أعني قوله: {هو الذي يسيركم في البر والبحر - إلى قوله - بغير الحق} بمنزلة الشاهد والمثال بالنسبة إلى عموم قوله قبله: {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم} إلى آخر الآية، أو لخصوص قوله: {قل الله أسرع مكرا} وعلى أي حال فقوله: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} إلخ، مما يتوقف عليه تمام الغرض من الكلام في الآية السابقة وإن لم يكن من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فافهم ذلك.
قوله تعالى: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيوة الدنيا ثم إلينا مرجعكم} إلى آخر الآية، في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب فقوله: {يا أيها الناس} إلخ، خطاب منه تعالى للناس بلا واسطة، وليس من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما أمره الله سبحانه أن يخاطب به الناس.
والدليل على ذلك قوله تعالى {ثم إلينا مرجعكم} إلى آخر الآية، فإنه لا يصلح أن يكون من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
والنكتة في هذا الالتفات هي نظير النكتة التي قدمنا ذكرها في قوله تعالى في أول الكلام: {إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} فكأنه سبحانه يفاجئهم بالاطلاع عليهم أثناء ما يخاطبهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم يحسبون أن ربهم غائب عنهم غافل عن نياتهم ومقاصدهم في أعمالهم فيشرف عليهم ويمثل بذلك كونه معهم في جميع أحوالهم وإحاطته بهم ويقول لهم: أنا أقرب إليكم وإلى أعمالكم منكم فما تعملونه من عمل تريدون به أن تبتغوا علينا وتمكروا بنا إنما توجد بتقديرنا وتجري بأيدينا فكيف يمكنكم أن تبغوا بها علينا؟ بل هي بغي منكم على أنفسكم فإنها تبعدكم منا وتكتب آثامها في صحائف أعمالكم فبغيكم على أنفسكم وهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به أياما قلائل ثم إلينا مرجعكم فنخبركم ونوضح لكم هناك حقائق أعمالكم.
وقوله: {متاع الحيوة الدنيا} بالنصب في قراءة حفص عن عاصم والتقدير: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، وبالرفع في قراءة غيره وهو خبر لمبتدإ محذوف، والتقدير هوأي بغيكم وعملكم متاع الحياة الدنيا.
وعلى كلتا القراءتين فقوله: {متاع الحيوة الدنيا} إلى آخر الآية، تفصيل لإجمال قوله: {إنما بغيكم على أنفسكم} فقوله {متاع} إلخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى كون بغيهم على أنفسهم من قبيل تعليل الإجمال بالتفصيل وبيانه به.
_______________
1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج10،ص27-30.
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
يدور الكلام في هذه الآيات ـ أيضاً ـ حول عقائد وأعمال المشركين، ثُمَّ دعوتهم إِلى التوحيد ونفي كل أنواع الشرك.
فالآية الأُولى تشير إِلى بعض سلوكيات المشركين الحمقاء، وتقول: أِنّنا عندما نبتلي الناس بالمشاكل والنكبات من أجل إِيقاظهم وتنبيههم، ثمّ نرفع هذا البلاء عنهم ونذيقهم طعم الراحة والهدوء بعد تلك الضرّاء، فإِنّهم بدلا من أن ينتبهوا لهذه الآيات ويرجعوا إِلى الصواب، يسخرون بها، أو يفسرونها بتفسيرات غير صحيحة، فمثلا يفسرون الإِبتلاءات والمشاكل بأنّها نتيجة غضب الأصنام، والنعم والطمأنينة بأنّها دليل على شفقتها، أو أنّهم يعدون كل هذه الأُمور صدفة محضة: {وإِذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إِذا لهم مكر في آياتنا}.
إِنّ كلمة {مكر}في الآية أعلاه، والتي تعني بشكل عام إعمال الفكر، تشير إِلى التوجيهات الخاطئة وطرق التهرّب التي يفكر بها المشركون عند مواجهة الآيات الإلهية، وظهور أنواع البلايا والنعم.
إِلاّ أنّ الله سبحانه حذر هؤلاء بواسطة نبيّه، وأمره أن {قل الله أسرع مكراً}. وكما أشرنا مراراً، الى أنّ المكر في الأصل هو كل نوع من التخطيط المقترن بالعمل المخفي، لا المعنى الذي يفهم من هذه الكلمة اليوم، وهو الإِقتران بنوع من الشيطنة، وعلى هذا فإِنّه يصدق على الله سبحانه كما يصدق على العباد(2). لكن ما هو مصداق المكر الإِلهي في هذه الآية؟
الظاهر أنّها إِشارة إِلى نفس تلك العقوبات الإِلهية التي يحلّ بعضها في نهاية الخفاء وبدون أية مقدمة وبأسرع ما يكون، بل إِنّه يعاقب ويعذب بعض المجرمين بأيديهم أحياناً. ومن البديهي أن من هو أقدر من الكل وأقوى من الجميع على دفع الموانع وتهيئة الأسباب، ستكون خططه ـ أيضاً ـ هي الأسرع. وبتعبير آخر فإِنّ الله سبحانه في أي وقت يريد أنزال العقاب بأحد العباد أو تنبيهه، فإِنّ هذا العقاب سيتحقق مباشرة، في حين أن الآخرين ليسوا كذلك.
ثمّ يهدد هؤلاء بأن لا تظنوا أنّ هذه المؤامرات والخطط ستُنسى، بل إِنّ رسلنا ـ أي الملائكة ـ يكتبون كل هذه المخططات التي تهدف إِلى إِطفاء نور الحق: {إِنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون} ولذلك يجب أن تهيئوا أنفسكم للجواب والعقاب في الحياة الأُخرى.
وسنبحث كتابة الأعمال والملائكة المأمورين بها في الآيات المناسبة.
وتغوص الآية التالية في أعماق فطرة البشر، وتوضح لهؤلاء حقيقة التوحيد الفطري، وكيف أن الإِنسان عندما تلّم به المشاكل الكبيرة وفي أوقات الخطر، ينسى كل شيء إلاّ الله تبارك وتعالى ويتعلق به، لكنّه بمجرّد أن يرتفع البلاء وتزول الشدّة وتحل المشكلة، فإِنّه سيسلك طريق الظلم ويبتعد عن الله سبحانه.
تقول الآية: {هو الذي يسيركم في البرّ والبحر حتى إِذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنّهم أحيط بهم} في هذا الحال بالضبط تذكروا الله ودعوه بكل إخلاص وبدون أية شائبة من الشرك، و {دعوا الله مخلصين له الدين} فيرفعون أيديهم في هذا الوقت للدعاء: {لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين}. فلا نظلم احداً ولانشرك بعبادتك غيرك.
ولكن ما أن أنجاهم الله وأوصلهم إِلى شاطىء النجاة بدؤوا بالظلّم والجور: {فلمّا أنجاهم إِذا هم يبغون في الأرض بغير الحق} لكن يجب أن تعلموا ـ أيّها الناس ـ إِنّ نتيجة ظلمكم ستصيبكم أنتم {يا أيّها الناس إِنّما بغيكم على أنفسكم} وآخر عمل تستطيعون عمله هو أن تتمتعوا قليلا في هذه الدنيا: {متاع الحياة الدنيا(3) ثمّ إِلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون}.
_________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج5،ص455-457.
2- لمزيد التوضيح راجع المجلد الثّاني من تفسيرنا هذا، ذيل الآية (54) من سورة آل عمران، وذيب الآية 99 من سورة الاعراف ، وذيل الآية 30 من سورة الانفال .
3- إِنّ كلمة (متاع) منصوبة بفعل مقدر، وفي الأصل كانت: تتمتعون متاع الحياة الدنيا.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|