المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
2024-11-01
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
2024-11-01
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01



رواية العرب للشعر الجاهلي  
  
15860   06:07 مساءاً   التاريخ: 1-04-2015
المؤلف : شوقي ضيف
الكتاب أو المصدر : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي
الجزء والصفحة : ص138-146
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الجاهلي /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-03-2015 2585
التاريخ: 2-12-2019 1591
التاريخ: 23-03-2015 19237
التاريخ: 23-03-2015 2590

هو يشبه رسوم الديار بالوحي أو الكتابة في الحجارة الرقيقة، ويقول: إن السيول جلت التراب عن الطول؛ حتى لكأنما آثار الديار كتبٌ طمست فأعبد بعضها على بعض وترك ما تبين منها؛ فهي مختلفة، ويقول الأخنس بن شهاب التغلبي(1):

لابنة حطان بن عوف منازل كما رقش العنوان في الرق كاتب

ويقول الحارث بن حلزة اليشكري البكري(2):

لمن الديار عفون بالحبس آياتها كمهارق الفرس

ويدور هذا التشبيه كثيرًا في أشعارهم؛ مما قد يدل على أن كثيرين منهم كانوا يعرفون الكتابة، بل إن فريقًا منهم، كما يقول الرواة، كان يعرف الكتابة الفارسية على نحو ما حدثونا عن لقيط بن يعمر الإيادي وعدي بن زيد العبادي(3). ومما لا شك فيه أن الكتابة كانت شائعة في الحواضر وخاصة في مكة التاجرة, وفي السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء الأسرى القرشيين الكاتبين في بدر أن يعلم الأسير منهم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة(4)، وكان من يكتبون بين يديه الوحي وفيما يعرض من أموره وأمور المسلمين في عقودهم ومعاملاتهم كثيرين(5)؛ فالكتابة كانت معروفة بل كانت شائعة في الجاهلية، ورويت أخبار متفرقة تدل على أن بعض الشعراء استخدمها بلاغًا شعريًّا لقومه في بعض ما حزبه من الأمر(6). وغالى كرنكو فزعم أن نظم الشعر في الجاهلية كان مرتبطًا بها وبمعرفتها؛ بدليل اختلاف القراءات للفظة الواحدة، وأيضًا فإن استخدام الشاعر لبعض القوافي النادرة يدل على أنه كان يلاحظ العين أكثر مما يلاحظ الأذن(7).

مرّ بنا في غير هذا الموضع أن العرب الشماليين نمو الخط النبطي وتطوروا به إلى خطهم العربي منذ أوائل الجاهلية أو لعلهم وصلوا إلى ذلك قبل فجرها؛ فقد وجدت نقوش مختلفة تشهد بذلك، ونرى شعراءهم يشيع عندهم تشبيه الأطلال ورسوم الديار بالكتابة ونقوشها من مثل قول المرقش الأكبر"(8).

الدار قفر والرسوم كما رقش في ظهر الأديم قلم

ويقال إنه كان يحسن الكتابة وإنه كتب على بعض الرحال قصيدة له حين وقع أسيرًا في يد بعض العرب(9) ويقول سلامة بن جندل(10):

لمن طلل مثل الكتاب المنمق خلا عهده بين الصليب فمطرق.

ولعله يقصد بالكتاب الصحيفة، ويقول لبيد في مطلع معلقته:

عَفَتِ الديارُ محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها(11)

فمدافع الريان عري رسمها خلقًا كما ضمن الوحي سلامها(12)

وجلا السيول عن الطلول كأنها زُبُرٌ تجد متونها أقلامها(13)

فهو يشبه رسوم الديار بالوحي أو الكتابة في الحجارة الرقيقة، ويقول: إن السيول جلت التراب عن الطول؛ حتى لكأنما آثار الديار كتبٌ طمست فأعبد بعضها على بعض وترك ما تبين منها؛ فهي مختلفة، ويقول الأخنس بن شهاب التغلبي(14):

لابنة حطان بن عوف منازل كما رقش العنوان في الرق كاتب

ويقول الحارث بن حلزة اليشكري البكري(15):

لمن الديار عفون بالحبس آياتها كمهارق الفرس

ويدور هذا التشبيه كثيرًا في أشعارهم؛ مما قد يدل على أن كثيرين منهم كانوا يعرفون الكتابة، بل إن فريقًا منهم، كما يقول الرواة، كان يعرف الكتابة الفارسية على نحو ما حدثونا عن لقيط بن يعمر الإيادي وعدي بن زيد العبادي(16). ومما لا شك فيه أن الكتابة كانت شائعة في الحواضر وخاصة في مكة التاجرة, وفي السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء الأسرى القرشيين الكاتبين في بدر أن يعلم الأسير منهم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة(17)، وكان من يكتبون بين يديه الوحي وفيما يعرض من أموره وأمور المسلمين في عقودهم ومعاملاتهم كثيرين(18)؛ فالكتابة كانت معروفة بل كانت شائعة في الجاهلية، ورويت أخبار متفرقة تدل على أن بعض الشعراء استخدمها بلاغًا شعريًّا لقومه في بعض ما حزبه من الأمر(19). وغالى كرنكو فزعم أن نظم الشعر في الجاهلية كان مرتبطًا بها وبمعرفتها؛ بدليل اختلاف القراءات للفظة الواحدة، وأيضًا فإن استخدام الشاعر لبعض القوافي النادرة يدل على أنه كان يلاحظ العين أكثر مما يلاحظ الأذن(20).

وأكبر الظن أن اختلاف القراءة إنما نشأ في عصر التدوين أو بعبارة أخرى في القرن الثاني للهجرة، وأيضًا فإن الشعر فن سمعي، وليس فنًّا بصريًّا.

والحق أنه ليس بين أيدينا أي دليل مادي على أن الجاهليين اتخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم ربما كتبوا بها بعض قطع أو بعض قصائد؛ ولكنهم لم يتحولوا من ذلك إلى استخدامها أداة في نقل دواوينهم إلى الأجيال التالية؛ فقد كانت وسائلها الصعبة من الحجارة والجلود والعظام وسعف النخل تجعل من العسير أن يتداولها الشعراء في حفظ دواوينهم؛ إنما حدث ذلك في الإسلام، بفضل القرآن الكريم وما أشاعه من كتابة آية وتحول جمهور العرب معه من أميتهم الكبيرة إلى قارئين يتلون. ولا نكاد نمضي طويلًا في العصر الإسلامي حتى تتحول العربية من لغة مسموعة فحسب إلى لغة مسموعة مكتوبة. وهو تحول شارك فيه العرب والمستعربون وكل ما بين أيدينا من روايات عن كتابة بعض الأشعار في الجاهلية إنما يدل على أن الكتابة كانت معروفة، وخاصة في البيئات الآخذة بشيء من الحضارة، ونقصد المدن مثل مكة والمدينة والحيرة؛ ولكنه لا يدل بحال على أنها اتخذت أداة لحفظ الشعر الجاهلي ودواوينه. ولو أنهم كان لهم كتاب جمعوا فيه أطرافًا من أشعارهم لما أطلق الله جل وعز على القرآن اسم الكتاب؛ فلا كتاب لهم من قبله لا في الدين ولا في غير الدين.

أما ما يقال من أن المعلقات كانت مكتوبة ومعلقة في الكعبة فمن باب الأساطير، وهو في حقيقته ليس أكثر من تفسير فسر به المتأخرون معنى كلمة المعلقات؛ فقد جاء في العقد الفريد أنه بلغ من شغف العرب بالشعر أن "عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة وعلقتها في أستار الكعبة؛ فمنه يقال: مذهَّبة امرئ القيس ومذهبة زهير، والمذهبات السبع، وقد يقال لها المعلقات"(21) ولو أنهم تنبهوا إلى المعنى المراد بكلمة المعلقات ما لجأوا إلى هذا الخيال البعيد. ومعناها المقلدات والمسمطات. وكانوا يسمون فعلًا قصائدهم الطويلة الجيدة بهذين الاسمين وما يشبهما(22). وقد نفى ابن النحاس الأسطورة فقال: "لم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة"(23).

ونستطيع أن ندخل في هذا الباب باب الأساطير ما يروى عن حماد الراوية من أن النعمان بن المنذر المتوفى سنة 602 للميلاد "أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج -الكراريس- ثم دفنها في قصره الأبيض؛ فلما كان المختار بن أبي عبيد -حوالي سنة 67هـ- قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة(24)" ويقول ابن سلام: "وقد كان عند النعمان بن المنذر منه -من شعر العرب في الجاهلية- ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح هو وأهل بيته به؛ فصار ذلك إلى مروان، أو صار منه"(25) ويكفي أن يكون أصل الخبر حمادًا المتهم في روايته لنشك فيه؛ بل إنه يحمل في أطوائه ما يجعلنا نتهمه، فهو ينتهي عنده إلى تعليله به: كيف أن أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة، وكأنما ساقه حماد الكوفي لبيان سابقة الكوفة على البصرة في الشعر القديم والعلم به، والمنافسة بين البلدتين في هذا الباب معروفة.

وإذا كان القرآن الكريم على قداسته لم يجمع في مصحف واحد إلا بعد وفاة الرسول، وبعد مشاورة بين أبي بكر رضوان الله عليه والصحابة؛ فذلك وحده كاف لبيان أن العرب لم تنشأ عندهم في الجاهلية فكرة جمع شعرهم أو أطراف منه في كتاب، إنما نشأ ذلك في الإسلام وبمرور الزمن. أما في الجاهلية فكانوا يعتمدون فيه على الرواية وكان الشاعر يقف فينشد قصيدته، ويتلقاها عنه الناس ويروونها. ومعنى ذلك أن النهر الكبير الذي فاض بالشعر الجاهلي إنما هو الرواية الشفوية. وقد ظلت أزمانًا متتالية في الإسلام. ويدل على ذلك أقوى الدلالة أن الحديث النبوي ظل في أغلب أحواله يعتمد على الرواية والمشافهة إلى نهاية القرن الأول للهجرة. وإذا كان الحديث بما له من قدسية لم يعمدوا إلى تدوينه تدوينًا عامًّا إلا بعد مرور نحو قرن على الهجرة الشريفة فأولى أن يكونوا قد اتبعوا ذلك في الشعر الجاهلي، ولم يكن ركنا في الشريعة الإسلامية ولا كانت تقوم عليه حاجاتهم الدينية الملحة، ومن يرجع إلى شعرهم يجد شعراؤهم يذكرون دائمًا الرواية وأنها وسيلة انتشاره في القبائل؛ فهي الوسيلة التي كانوا يعرفونها وقد نفذ شعرهم من خلالها إلى آفاق الجزيرة، يقول المسيب بن علس(26):

فلأهدين مع الرياح قصيدة مني مغلغلة إلى القعقاع(27)

ترد المياه فما تزال غريبة في القوم بين تمثل وسماع

فقصيدته تنتشر في القبائل، ويرددها الناس مستمعين إليها ومتمثلين بأبياتها، ويقول عميرة بن جعل نادمًا على هجائه لقومه وشيوعه في العرب وأنه لم تعد له حيلة في رده(28):

ندمت على شتم العشيرة بعد ما مضت واستتبت للرواة مذاهبه

فأصبحت لا أسطيع دفعًا لما مضى كما لا يرد الدر في الضرع حالبه

فرواية الشعر في العصر الجاهلي كانت هي الأداة الطيعة لنشره وذيوعه، وكانت هناك طبقة تحترفها احترافًا هي طبقة الشعراء أنفسهم؛ فقد كان من يريد نظم الشعر وصوغه يلزم شاعرًا يروي عنه شعره، وما يزال يروي له ولغيره حتى ينفتق لسانه ويسيل عليه ينبوع الشعر والفن. ونص صاحب الأغاني على سلسلة من هؤلاء الشعراء الرواة الذين يأخذ بعضهم عن بعض، وقد بدأها بأوس بن حجر التميمي؛ فعنه أخذ الشعر ورواه حتى أجاد نظمه زهير بن أبي سلمى المزني، وكان له روايتان كعب ابنه والحطيئة، وعن الحطيئة تلقن الشعر ورواه هدبة بن خشرم العذري، وعن هدبة أخذ جميل صاحب بثينة، وعن جميل أخذ كثير صاحب عزة(29).

نحن إذن بإزاء مدرسة تامة من الشعراء الرواة تتسلسل في طبقات أو حلقات، وكل حلقة تأخذ عن سابقتها وتسلم إلى لاحقتها، ومن أهم ما يلاحظ في هذه المدرسة أن شعراءها أو رواتها كانوا من قبائل مختلفة في شرقي الجزيرة وغربيها، ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن شعراء القبيلة الواحدة كان يروى خلفهم شعر سلفهم، ونص القدماء على ذلك في غير شاعر؛ فقالوا: إن الأعشى كان رواية لخاله المسيب بن علس وكان يأخذ منه(30)، وقالوا: إن أبا ذؤيب الهذلي كان راوية لساعدة بن جؤية الهذلي(31)، ومن يقرأ ديوان الهذليين يجد أواصر فنية قوية تجمعهم وتربط بينهم. وعلى هذا القياس توجد وشائج واضحة بين شعراء قيس بن ثعلبة، فطرفة يروي للمرقش الأصغر عمه ويأخذ عنه، ويروي هذا عن عمه المرقش الأكبر ويحتذي على شعره وأيضًا فإن طرفة كان يروي عن خاله المتلمس الذي ربي في أخواله من بني يشكر. وقد لا تكون القبيلة الجامعة الواصلة؛ فقد يجمع بين الشعراء سلوك في الحياة كالصعاليك أو الفرسان فيروي بعضهم لبعض، ويأخذ بعضهم عن بعض، على نحو ما نلاحظ عند تأبط شرًا والشنفرى أو عند أبي دؤاد الإيادي وزيد الخيل.

 

ولو أن الرواة لم يرووا لنا هذه الصلات الجامعة أو الرابطة بين الشعراء الجاهليين لحدسناها حدسًا من اتفاقهم على تقاليد فنية واحدة مهما شرقنا وغربنا في الجزيرة، وهي تقاليد جاءت من تمسكهم بنماذج أسلافهم لا يحيدون عنها ولا ينحرفون؛ فهي دائمًا الإمام المتبع، وهم كل شاعر أن يتقن معرفتها عن طريق ما يحفظ من شعر أستاذه وشعراء قبيلته؛ بل أيضًا شعراء القبائل الأخرى. ولم يكن الشعراء وحدهم الذين يهتمون برواية هذا الشعر؛ فقد كان يشركهم في ذلك الاهتمام أفراد القبيلة جميعهم، لأنه يسجل مناقب قومهم وانتصاراتهم في حروبهم كما يسجل مثالب أعدائهم، وإلى ذلك أشار بعض بني بكر معيرًا تغلب لكثرة تردادها لقصيدة واحدة هي معلقة عمرو بن كلثوم، وكأن ليس لها شعر سواها، يقول(32):

ألهَى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

 

يروونها أبدًا مذ كان أولهم يا للرِّجال لشعر غير مشئوم

ولم يكن أبناء القبيلة وحدهم الذين يشيعون شعر شعرائها؛ فقد كان كثير من أفراد القبائل الأخرى يشتركون معهم في إشاعته؛ إذ كان بينهم جم غفير من الحفظة، كانوا يتناقلون الشعر وينشدونه في محافلهم ومجالسهم وأسواقهم؛ إذ لم يكن لهم شاغل سواه، وكان يسجل مآثرهم ومثالبهم وأنسابهم وأيامهم وأخبارهم، ومن ثم قال عمر بن الخطاب: " كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"(33) فهو كل علمهم وكل حياتهم.

وجاء الإسلام فانكبوا على تلاوة القرآن الكريم، ولكن لم ينسوا شعرهم أبدًا، حتى منذ بدء الدعوة الإسلامية؛ فقد كان الرسول عليه السلام يستحث حسان بن ثابت وغيره من شعراء الأنصار على هجاء قريش والرد على شعرائها، وكان كثيرًا ما يستنشد الصحابة الشعر، حتى شعر أعدائه من مثل أمية بن أبي الصلت، قال الشريد بن سويد الثقفي: "استنشدني النبي صلى الله عليه وسلم شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هيه، هيه، حتى أنشدته مائة قافية(34)". وكان أبو بكر نسابة راوية للشعر الجاهلي، وكان يتمثل به أحيانًا في خطابته كخطبته المشهورة في يوم السقيفة، وكذلك كان عمر، وقلما كان يترك وافدًا عليه من قبيلة دون أن يسأل عن بعض شعرائها، وفيه يقول ابن سلام: "كان لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر"(35).

وهذا نفسه شأن الصحابة جميعًا؛ فقد كانوا كثيرًا ما يتناشدون الأشعار ويقصون بعض الأخبار عن جاهليتهم، قال جابر بن سمرة: "جالست رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر من مائة مرة؛ فكان أصحابه يتناشدون الأشعار في المسجد وأشياء من أمر الجاهلية؛ فربما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم"(36).

ومعنى ذلك أن رواية الشعر الجاهلي كانت مستمرة في صدر الإسلام، وقد أخذت تظهر عوامل تشد من أزرها وتقوي من شأنها؛ فقد أخذت تنشأ منذ تدوين عمر للدواوين حاجة شديدة لمعرفة الأنساب؛ إذ كانت تلعب دورًا مهم في رواتب الجند الفاتحين وفي مراكز القبائل بالمدن الجديدة التي خطَّطوها مثل البصرة والكوفة. وكان بين العرب قديمًا من يشتهرون بمعرفة الأنساب؛ ولكن في هذا العصر الإسلامي إلى تمامه يصبح لهؤلاء النسابين شأن خطير؛ إذ كان العرب يرجعون إليهم في معرفة أصولهم، وكثيرًا ما كانوا يسوقون لهم قطعًا من الشعر تحدد نسبهم، ومن أشهرهم عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل ودغفل والنخار بن أوس العذري(37).

ونحن لا نصل إلى الحرب التي نشبت بين علي ومعاوية حتى تشتعل العصبيات القبلية اشتعالًا لم تَخْبُ نيرانه حتى نهاية العصر الأموي، وكان الشعر الوقود الجزل لهذه العصبيات؛ فأخذت كل قبيلة تعني برواية شعرها الجاهلي الذي يصور مناقبها ومثالب العصبيات؛ فأخذت كل قبيلة تعنى برواية شعرها الجاهلي الذي يصور مناقبها ومثالب خصومها، ويتناقله أبناؤها؛ فهو جعبة سهامهم التي يوجهونها إلى خصومهم. ومن غير شك كان ذلك أكبر عون على حفظ الشعر الجاهلي؛ فقد حملته القبائل طوال القرنين الأول والثاني حتى أدوه إلى العلماء الذين عنوا بتدوينه(38).

وكانت الدولة الأموية عربية النزعة، فعملت على حفظ هذا التراث، بما كانت تروى منه، نجد ذلك عند معاوية وعبد الملك بن مروان وغيرهما من الخلفاء، وكانوا كثيرًا ما يسألون وفود القبائل التي تفد عليهم عن بعض شعرائها، وقد ينشدون بيتًا ويسألون عن صاحبه وقصيدته، ومن تحسن إجابته تحسن له جائزتهم(39). وكان أبناؤهم على غرارهم "وكانوا ربما اختلفوا في بيت من الشعر أو خبر أو يوم من أيام العرب فيبردون فيه بريدًا إلى العراق"(40) يسألون علماءها عن صحة الأمر فيه وصوابه. وأقام لهم آباؤهم غير مؤدب يرويهم أشعار الجاهلية وأيامها وأخبارها، ويلقانا هؤلاء المؤدبون في كل مكان يؤدبون الناشئة، وفي البيان والتبيين فصل طويل يحصى فيه أسماءهم.

ومما يدخل في عناية الأمويين بالشعر الجاهلي ما يروى عن معاوية من شغفه بالمسامرة ومعرفة أخبار الماضين؛ مما جعله يستدعي عبيد بن شرية الجرهمي من صنعاء اليمن، ويتخذه سميرًا له يسأله عن الأخبار المتقدمة والملوك السالفة، وهاله ما عنده من العلم بذلك؛ فاتخذ غلمانًا يقيدون في دفاتر ما يذكره من سير الملوك وأخبارها ووقائع العرب وأيامها في الجاهلية وأشعارها(41).

ومنذ وقت مبكر في صدر الإسلام نرى القصاص يجلسون للعظة في المسجد الجامع. وكانوا كثيرًا ما ينثرون الأشعار الجاهلية التي تتصل بوعظهم في تضاعيف قصصهم. وقد أخذت تنشأ جماعة مثل أبان بن عثمان بن عفان وعروة بن الزبير تُعْنى بغزوات الرسول وما قيل فيها من الشعر، وأخذ يظهر بجانبهم جماعة تعنى بأخبار العرب الماضيين وما كان يجري على ألسنة شعرائهم. وفي أثناء ذلك كان الشعراء الإسلاميون أنفسهم يعنون عناية شديدة برواية الشعر القديم، وبلغ من اهتمام بعضهم بذلك أن أصبح مؤدبًا للناشئة يرويها الشعر القديم على نحو ما نعرف عن الكميت والطرماح(42). ولم يكن هناك شاعر مبرز إلا وهو يروي للجاهليين وينشد من شعرهم، وفي كتب الأدب إشارات مختلفة إلى ما أخذه العلماء عن أمثال ذي الرمة والفرزدق وجرير ورؤية من هذا الشعر(43)، وصور الفرزدق مدى روايته ومعرفته للشعر الجاهلي، فقال في بعض قصيده(44):

وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا وأبو يزيد وذو القروح وجرول(45)

والفحل علقمة الذي كانت له حُلل الملوك كلامه لا ينحل

وأخو بني قيس وهن قتلنه ومهلهل الشعراء ذاك الأول(46).

والأعشيان كلاهما ومرقش وأخو قضاعة قوله يتمثل(47)

وأخو بني أسد عبيد إذ مضى وأبو دؤاد قوله يتنخل

وابنا أبي سلمى زهير وابنه وابن الفريعة حين جد المقول(48)

والجعفري وكان بشر قبله لي من قصائده الكتاب المجمل(49)

ولقد ورثت لآل أوس منطقًا كالسم خالط جانبيه الحنظل(50)

والحارثي أخو الحماس ورثته صدعًا كما صدع الصفاة المعول(51)

ويخيل إلى الإنسان أنه لم يبق عربي في العصر الإسلامي وما وليه من أوائل العصر السياسي إلا وهو يروي الشعر الجاهلي، إن هو تحدث أو وقف خطيبًا، وتمثل الحجاج بالشعر في خطابته ذائع مشهور. وإذا كنا لاحظنا في الجاهلية أن الرواة الموصوفين بهذا الاسم كانوا عادة من الشعراء؛ فإننا نلاحظ في العصر الإسلامي نشوء طائفة من الرواة، لم يكونوا ممن يحسنون نظم الشعر، فهم لا يروونه لغرض تعلمه؛ وإنما يروونه لغرض نشره في الناس وإذاعته، وإليهم يشير جرير بقوله في وصف بعض قصائده(52):

خروج بأفواه الرواة كأنها قرا هندواني إذا هز صمما(53)

وفي أخباره أنه كان له رواة يلزمونه ويأخذون عنه شعره، وكذلك كان الفرزدق. ولم يكونوا يروون شعرهما فحسب؛ بل كانوا ينقحونه ويهذبونه، فعن شيخ من هذيل قال: "جئت الفرزدق، ودخلت على رواته فوجدتهم يعدلون ما انحرف من شعره، ثم أتيت جريرًا، وجئت رواته وهم يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد"(54). وفي رأينا أن ظهور هذه الطبقة من الرواة إنما نشأ من العناية الشديدة برواية الشعر القديم والحديث، وكأنما لم يعد للناس من شغل وراء هذه العناية؛ فمنهم من يتخصص برواية شعر المعاصرين ومنهم من يتخصص برواية الشعر الجاهلي كيونس بن متى راوية الأعشى(55).

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- المفضليات ص204 والرق: الجلد الرقيق.

2- المفضليات ص 132 والحبس بتثليث الحاء: موضع، وآياتها: علاماتها، والمهارق: الصحف.

3- أغاني 2/ 101 وطبعة الساسي 20/ 24 والشعر والشعراء "طبعة دار المعارف" 1/ 180.

4- طبقات ابن سعد 2/ 1: 14.

5- الوزراء والكتاب الجهشياري "طبعة الحلبي" ص 12.

6- انظر الباب الثاني في كتاب مصادر الشعر الجاهلي لناصر الدين الأسد "طبع دار المعارف".

7- انظر مقالة له بعنوان The Use of Writing for the Preservation of Ancient Arabic poetry نشرت مع مقالات أخرى في كتاب: A Volume of Oriental Studies to E.G Browne, Edited by J.W . Arnold.

8- المفضليات "طبع دار المعارف" ص 237، رقش: زين ونمق.

9- الأغاني "طبعة دار الكتب" 6/ 130.

10- الأصمعيات "طبعة دار المعارف" ص 146 والصليب ومطرق: موضعان.

11- عفت: درست وامحت، تأبد توحش. والمحل: حيث يحل القوم. والمقام: المجلس، ومنى: موضع يحمي ضربة، والغول والرجام: جبلان أو موضعان.

12- مدافع الريان: موضع، والرسم: آثار الديار، وخلقا: دروسًا، والوحي: جمع وحي وهو الكتابة، والسلام: الحجارة الرقيقة.

13- الزبر: جمع زبور وهو الكتاب، وتجد: تجدد.

14- المفضليات ص204 والرق: الجلد الرقيق.

15- المفضليات ص 132 والحبس بتثليث الحاء: موضع، وآياتها: علاماتها، والمهارق: الصحف.

16- أغاني 2/ 101 وطبعة الساسي 20/ 24 والشعر والشعراء "طبعة دار المعارف" 1/ 180.

17- طبقات ابن سعد 2/ 1: 14.

18- الوزراء والكتاب الجهشياري "طبعة الحلبي" ص 12.

19- انظر الباب الثاني في كتاب مصادر الشعر الجاهلي لناصر الدين الأسد "طبع دار المعارف".

20- انظر مقالة له بعنوان The Use of Writing for the Preservation of Ancient Arabic poetry نشرت مع مقالات أخرى في كتاب: A Volume of Oriental Studies to E.G Browne, Edited by J.W . Arnold.

21- العقد الفريد: "طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" 6/ 119.

22- البيان والتبيين 2/ 9.

23- انظر معجم الأدباء لياقوت في ترجمة حماد: 10/ 266.

24- راجع الخصائص لابن جني "طبعة دار الكتب" 1/ 392 ومعجم البلدان لياقوت في القصر الأبيض.

25- طبقات فحول الشعر لابن سلام "طبعة دار المعارف" ص 23.

26- المفضليات ص 62.

27- مع الرياح: يريد أنها تذهب كل مذهب، مغلغلة: نافذة تنفذ في الناس وتسلك إليهم السبل البعيدة.

28- الشعر والشعراء 2/ 632 وقارن مع المفضليات ص 100.

29- أغاني "طبعة دار الكتب" 8/ 91.

30- الشعر والشعراء: 1/ 127 والمرشح للمرزباني ص 51.

31- الشعر والشعراء: 2/ 635.

32- أغاني: 11/ 54.

33- طبقات فحول الشعراء: ص 22.

34- ابن سعد 5/ 376 وخزانة الأدب.

1/ 227 والمزهر: 2/ 309.

35- البيان والتبيين: 1/ 241.

36- طبقات ابن سعد: 1/ 2: 95

37- انظر من هؤلاء النسابين وفيما توقد هنا من اتصال رواية الشعر الجاهلي حتى القرن الثاني الباب الثالث من كتاب مصادر الشعر الجاهلي.

38- راجع مصادر الشعر الجاهلي: ص 231 وما بعدها.

39- انظر الأغاني: 3/ 91.

40- التصحيف والتحريف للعسكري ص.

41- انظر مصادر الشعر الجاهلي: ص 159 والفهرست ص 132.

42- البيان والتبيين: 1/ 251، 2/ 323.

43- مصادر الشعر الجاهلي: ص 225 وما بعدها.

44- نقائض جرير والفرزدق: ص 200 والديوان: "طبع القاهرة" ص 720.

 

45- النوابع: النابغة الذبياني والجعدي والشيباني، وأبو يزيد: المخبل، وذو القروح: امرؤ القيس، وجرول: الحطيئة.

46- أخو بني قيس: طرفة، وهن قتلنه: يريد القوافي؛ لأنه قتل بسبب بعض أهاجيه.

47- الأعشيان: أعشى بنى قيس وأعشى باهلة وأخو قضاعة: أبو الطمحان القيني.

48- ابن الفريعة: حسان بن ثابت.

49- الجعفري: لبيد، وبشر هو بشر بن أبي خازم.

50- أوس: أوس بن حجر.

51- الحارثي: النجاشي

52- النقائض: ص 430.

53- قرا: متن، والهندواني: السيف.

54- أغاني "طبعة دار الكتب" 4/ 256 وما بعدها.

55- راجع في تحقيق اسم هذا الراوي مصادر الشعر الجاهلي ص 238 وما بعدها.

 

 

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.