أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-03-2015
2590
التاريخ: 26-03-2015
2812
التاريخ: 26-03-2015
3534
التاريخ: 25-03-2015
3450
|
ينقسم الكلام بالنظر إلى المنطوق به، وإلى معانيه من جهة نِسَبِ الكثافة بين كلٍّ منهما في مقابل الآخر إلى ثلاثة أقسامٍ رئيسة سويّة، ويأتي وراءها أقسامٌ أخرى.
* فالأقسام السويّة الثلاثة هي مايلي:
القسم الأول: الكلام المتّصف بالمساواة بين ألفاظه ومعانيه مع مطابقته لمقتضى الحال.
المساواة: هي التطابق التام بين المنطوق من الكلام وبين المراد منه دون زيادة ولا نقصان.
القسم الثاني: الكلام المتّصِفُ بالإِيجاز غير الْمُخِلّ، مع مطابقته لمقتضى الحال.
الإِيجاز: كون الكلام دالاً على معانٍ كثيرة بعبارات قليلة وجيزة دون إخلال بالمراد.
القسم الثالث: الكلام المتّصفُ بالإِطناب لاشتماله على زيادة ذات فائدة، مع مطابقته لمقتضى الحال.
الإِطناب: كون الكلام زائداً عمّا يمكن أن يُؤَدَّى به من المعاني في معتاد الفصحاء لفائدة تُقْصَد.
ويكون الكلام بليغاً إذ وُضع كُلُّ قِسْمٍ من هذهِ الأقسام في موضعه الملائم له، ورُوِعيَ فيه مقتَضَى حالِ المتلقّي.
* وأمّا المعيب من الكلام في هذا الباب فيكون بواحد فأكثر من الوجوه الثلاثة التالية:
الوجه الأول: الإِيجاز المخلّ بالمعنى المقصود بالبيان.
الوجه الثاني: الإِطنابُ بزيادةٍ غير ذات فائدة تُقْصَدُ لدَى أذكياء البلغاء، وقد يطلق عليه لفظ "الإِسهاب" أو لفظ "التطويل".
ويكون الإِطناب غير المفيد بأحد أَمْريْن:
* بالتطويل دون فائدة، وطريقُهُ أن لا يتعيّن الزائد في الكلام على وجه الخصوص، كأن تُوجد لفظتان مترادفتان تصلح كلُّ منهما لأن تكون هي الزائدة.
* أو بالْحَشْوِ دون فائدة، وطريقه أن يكون الزائد غير المفيد في الكلام متعيّناً بلفظه، كلمةً فأكثر.
هذا ما توصَّلَتْ إليه أنظار المحققين من أهل البلاغة والأدب حول تقسيمات الكلام من جهة النِّسَبِ العامَّة للكثافة بين الألفاظ والمعاني.
مقتضيات استعمال كلٍّ من الأقسام السويَّة:
ممّا اتفق عليه أئمة البلاغة والأدب أنّ لكلِّ قِسْمٍ من أقسام الكلام الثلاثة: "المساواة - الإِيجاز - الإِطناب" مقتضياتِ أحوالٍ تُلائمه، ومناسباتٍ تقتضيه، و دواعىي بلاغَيَّةَ تستدعيه، وموضوعاتٍ يَحْسُن أن يُخْتار لها.
وفيما يلي طائفةٌ من أقوالهم:
(1) رُوي أنّ الخليل بن أحمد الفراهيدي أحد أئمة اللّغة والأدب قال: "يُخْتَصَرُ الكِتَابُ ليُحْفَظَ، ويُبْسَطُ لِيُفْهَم".
(2) قيل لأبي عَمْرو بن العلاء "وهو أحد أئمة اللّغة والأدب، وأحد القرّاء ووُصف بأنّه أعلم الناس بالأدب والعربيّة والقرآن والشعر": هل كانت العربُ تُطِيل؟
قال "نعم، كانت تُطِيلُ لِيُسْمَعَ مِنْها، وتُوجِزُ ليُحْفَظَ عنها".
(3) ورُوي أن جعفر بن يحيى البرمكيّ "أحد الموصوفين بفصاحة المنطق وبلاغة القول" قال:
"متَى كان الإِيجاز أبْلَغَ كانَ الإِكثَارُ عِيّاً، ومتَى كانت الكِفايَةُ بالإِكثار كان الإِيجاز تقصيراً".
(4) وقال أحد الشعراء يثني على خطباء "إِياد" كما ذكر الجاحظ:
*يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وتَارَةً * وَحْيَ الْمَلاحِظِ خَشْيَةَ الرُّقَبَاءِ*
أي: يخطُبون تارةً خُطَباً طِوالاً، إذا كانت حال المخاطبين تقتضي الإِطالة، ويوجزون خطبهم تارةً أخرى إيجازاً يشبه وحْيَ الملاحظ.
الوحي: الكلام الخفيُّ السّريع.
الْمَلاَحِظ: جمع "مَلْحَظ" وهو اللَّحْظُ أو موضعه من العين، واللَّحظ هو النظر بطرف العين مما يلي الصُّدغ، ومن المعروف أن الناس قد يتفاهمون عن طريق اللَّحْظ، وإشارته خشية الرقباء.
(5) وقال قائل لبشار بن بُرْد "أحد فحول الشعراء، وقد أدرك الدَّولتين الأُمَويّة والعباسيّة": إِنَّكَ لَتَجيءُ بالشيء الهجين المتفاوت.
قال بشّار: وما ذاك؟
قال: بينما تثير النقع وتخْلَعُ القلوب بقولك:
*إِذَا مَا غَضِبْنَا غَضْبَةً مُضَريَّةً * هَتَكْنَا حِجَابَ الشَّمْس أَوْ تُمْطِرَ الدَّمَا*
*إِذَا مَا أَعَرْنَا سَيِّداً مِنْ قَبِيلةٍ * ذُرَا مِنْبَرٍ صَلَّى عَلَيْنَا وَسلَّمَا*
نَراكَ تقول:
*رَبَابَةُ رَبَّةُ الْبَيْتِ * تَصُبُّ الْخَلَّ في الزَّيْتِ*
*لَهَا عَشْرُ دَجَاجَاتٍ * وَدِيكٌ حَسَنُ الصَّوْتِ*
فقال بشّار:
"لكلِّ وَجْهٌ وَموضع، فالقولُ الأوّل جِدٌّ، والثاني قُلْتُه في "رَبَابَةَ" جاريتي، وَأنَا لا آكُل البيض من السّوق. و "رَبَابَةُ" لها عشْرُ دَجاجات وديك، فهي تجمع لي البيض، فهذا القول عندها أحْسَنُ من (قِفَا نَبْكِ منْ ذِكْرى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ) عندك".
(6) وقال الزمخشري: "كما يجب على البليغ في مَظَانِّ الإِجمال أن يُجْمِلَ ويُوجِزَ، فكذلِكَ الواجب عليه في موارد التفصيل أنْ يُفَصّل ويُشْبِع".
(7) وقالوا: "لكلّ مقامٍ مقال".
(8) ومن أمثلة مراعاة مقتضيات الأحوال بكلّ من "المساواة والإِيجاز والإِطناب" ما جاء فيما حكاه الله عزَّ وجلَّ من قصة موسى والخضر عليهما السلام في سورة (الكهف /18 مصحف /69 نزول):
{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً}.
* نلاحظ في هذا النص أنّ الخضر قال لموسى عليهما السلام في بدء الأمر: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}.
هذا كلام مؤكّد مُسَاوٍ للمعنى المقصود بيانه، لا إطناب فيه ولا إيجاز.
* وحين اعترض موسى عليه السلام الاعتراض الأول على الخضر بشأن خرقه السفينة، قال له الخضر:
{أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}.
هذا أيضاً كلامٌ مُؤَكَّدٌ ومُسَاوٍ للمعنى المقصود بيانه، لا إطناب فيه ولا إيجاز.
وحين اعترض موسى عليه السلام الاعتراض الثاني على الخضر بشأن قتله الغلام، قال له الخضر:
{أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}.
فَأَطْنَبَ إذْ أضاف عبارةَ {لَكَ} مع أنَّ هذه الزّيادة لا لزوم لها في الكلام المساوي، فعبارة {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} بأسلوب الخطاب تَدُلُّ على أنّ الخطاب قَدْ وَجَّهَهُ الخضِرُ، فما الداعي لأنْ يقول لَهُ: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ}؟
أقول: إنّ الداعي البلاغي لهذا الإطناب هو أنَّ مُوسَى عليه السلام تصرَّفَ تَصَرُّف من لم يُدْرِكْ أنّ الْخِطَابَ قَدْ كان مُوَجّهاً له فيما سبق، فاعترض، فاقتضى حالُهُ أَنْ يقولَ لَهُ الخضر: إِنّي كُنْتُ وجَّهْتُ الخطابَ لَكَ بأَنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
وحين اعترض موسى عليه السلام الاعتراض الثالث على الخضر بشأن إقَامَتِهِ الجدار المائل في قريَةٍ أَبَى أهْلُها أنْ يُضَيِّفوهُما، قال له الخضر:
{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}.
فأوجز في كلامِهِ، إذْ طوى من اللّفظ عبارة: لأنَّكَ لم تَسْتَطعْ معِيَ صبراً، وقد انتهت مُدَّة الاتفاق على مصاحبتي.
وبعد أن أبان الخضر لموسى عليهما السلام التأويل الحكيم للأحداثِ التي أجراها بأمْرِ الله أو إذْنه قال له:
{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً}.
فَأَوْجَزَ في بيانه حتى في كلمة "تَسْتَطعْ" إذْ قال: "تَسْطعْ" بحذف التاء التي بعد السين.
إنّ مقتضى الحال بعد انتهاء أجل المصاحبة، إذْ لم يلتزم موسَى عليه السلام بشروطها، أنْ يكون الكلامُ مُوجزاً جدّاً، إذْ لا داعِيَ للإِطناب ولا للمساواة، ومِثْلُ موسى عليه السلام يكفيه من الكلام عبارة: "هَذا فِرَاقُ بيني وَبَيْنِكَ" فهو الخبير بإخلاله بشروط المصاحبة المتَّفق عليها.
مجالات استعمال الأقسام السّوية ذكر أساطين الأَدب، وبُلَغاء الناس وفُطناؤهم طائفةً من مجالاَت القول التي يَحْسُنُ فيها استعمال كلٍّ من أقسام الكلام الثلاثة:
"المساواة - الإِيجاز - الإِطناب".
وفيما يلي عرضٌ مفَصَّلٌ لبعض هذه المجالات:
أوّلاً:
ممّا هُو مُتّفَقٌ عليه لزوم اختيار أسلوب "المساواة" بَيْنَ الألفاظ والمعاني، حتَّى تكونَ الأَلفاظ كالقوالب للمعاني دون زيادة ولا نقصان، في عِدَّةِ مجالاَتٍ من مجالات القول، منها ما يلي:
(1) مُتُونُ العلوم المحرَّرة.
(2) نُصُوصُ الموادّ القانونيَّة والتشريعيَّة.
(3) نُصُوص المعاهدات بين الدُّول.
(4) القرارات والمراسيم.
(5) بيانات أحكام الدين، ومطالب الشريعة المحدّدة.
(6) بيانات الحقوق والواجبات.
إلى غير ذلك ما يشبه هذه المجالات.
ثانياً:
واستحسن الأدباء والبلغاء والعلماء "الإِيجاز" في طائفة من مجالات القول، منها ما يلي:
(1) الكتب الصادرة عن الملوك والرؤساء إلى الولاة والعمّال، ولا سيما في أوقات الحروب، وفي الشدائد والأزمات.
(2) الأوامر والنواهي السُّلطانية.
(3) كتب السلاطين بطلب الخراج وجباية الأموال وتدبير الأعمال.
(4) كتب الوعد والوعيد.
(5) الشكر على النِّعَمِ التي تُهْدَى، الْعَوَارِفِ الّتي تُسْدَى.
(6) الاستعطاف وشكوى الحال.
(7) استجداء حُسْنِ النظر وشُمولِ الْعِناية.
(8) الاعتذار، والتنصُّل من تُهْمة الذّنْب وتَبِعَاته.
(9) العتاب بين المحبّين والأصحاب.
(10) مخاطبة الأذكياء الذين يكفيهم اللَّمْحُ، وتُقْنعهم الإِشارة.
(11) المواطن التي يَحْسُنُ فيها الرّمز لإِخفاء المقاصد عن غير من يوجّه له القول، من رقباء أو ذوي فضول.
إلى غير هذه المجالات ممّا يُشْبهها.
ثالثاً:
واستحسنَ الأدباء والبلغاء وذوو التجارب "الإِطناب" وبسط الكلام والإِسهاب فيه، في عدّة مجالات من القول، منها ما يلي:
(1) الحاجة إلى الإِقناع في مشكلات القضايا الفكرية، وفي تعليم مسائل العلوم الدقيقة الخفيَّة الصعبة الفهم.
(2) الوعظ بالترغيب والترهيب، والتحسين والتزيين، والتنفير، والتقبيح، وسَوْق الأمثال والقصص.
(3) الخطب في الحماسة، وفي إثارة مشاعر الحبّ أو الكراهية، وفي استجلاب الرضا، أو استثارة الغضب، وذلك لأنّ تحريك العواطف واستثارتها يحتاج إطناباً، وبياناً مفصّلاً مبسوطاً.
(4) كتابة التاريخ وتدوين الحوادث.
(5) الْخُطَبُ في الصلح بين المتخاصِمين، لإِصلاح ذات البين، وتهديم ما في النفوس من ضغائن.
(6) بعض مجالات المدح لمستحقّيه، بغيةَ دفع الممدوح للاستزادة من الخير، والالتزام بالبعد عمّا يُوجَّهُ لفاعله أو تاركه الذّمّ بسببه.
(7) تعبيرات العشاق والمحبّين عن مشاعرهم وأشواقهم.
(8) تعبيرات ذوي الأحزان والآلام عن مشاعرهم.
(9) كتب الصكوك والعقود في البيوع والمداينات ونحوها، إذ ينبغي فيها التفصيل الدقيق، لأمن الخلاف والتلاعب.
وفي الفصول الثلاثة التالية شرح وتفصيل لأقسام الكلام السويّة التالية: "المساواة، والإِيجاز، والإِطناب".
الفصل الثاني: المساواة بين الألفاظ والمعاني الأصل في الكلام أنْ يُؤْتَى بِه مساوياً للمعاني الّتي يدلُّ عليها، دون أن تكون ألْفاظُهُ زائدةً ولا ناقصة.
أمّا القدرةُ على المطابقة التامّة بين الْجُمَل المنطوقة والمعاني المرادة منها، فهي من القدرات النادرة في المتكلمين من الناس، لأنَّ الناسَ في النّسْبَةِ العظمى منهم:
* إمّا أن يكونوا من ذوي القدرة على الكلام والرغبة فيه مع تَمتُّعِهم بذاكرة كلاميّة واسعةٍ وفيّاضة، فتفيض لديهم منابع القول، وبذلك يزداد المنطوق من كلامهم عمّا يريدون التعبير عنه من المعاني.
وقد يصل بعض هؤلاء إلى مستوى الإِسراف والتبذير في القول، والثرثة بلا طائل، وللنساء النّصيبُ الأكبر من هذا.
* وإمّا أن يكونوا ميّالين إلى قلّة الكلام وإيثار الصّمت إلاَّ عند الحاجة الماسّة، بسبب ضابطٍ حكيمٍ من عقولهم، أو بسبب شعورهم بالعجز عن استدعاء الكلماتِ المعبِّرات عمّا يُرِيدون من المعاني، إذْ لا تُساعدهم ذاكرتُهُمْ على اختيار الكلمات المناسبات لما يُريدون التعبير عنه، أو يُصابون بالْعِىّ والْحَصَرِ في مواقف الرَّغبةِ أو الرَّهبة، أو اضطراب النفس وقَلَقِها لأمْرٍ ما، فيَتَعَثَّرون في الكلام، ويحاولون عند الحاجة إليه اختيار أقلّه، للدلالة عما يريدون التعبير عنه، أو تكون ألسنتهم ثقيلة الحركة يتعثر فيها النطق بحسب فطرتهم.
* لكنَّ الذين يتحلَّوْن بالقدرة على القول الكثير، والقدرة أيضاً على ضبط نفوسهم وألسنتهم عن شهوة الكلام والإِطالة فيه، وعلى اختيار الكلام المساوي تماماً للمعاني التي يريدون التعبير عنها دون زيادة ولا نقص، فَهُم القلّة النادرة من الناس.
ولا يصل الواصلون إلى القدرة على هذه المطابقة إلاَّ إذا اجتمعت لديهم عدّة صفات يتّضح لنا منها الصفات التاليات:
الأول: الاستعداد الفطريُّ للتّحكُّم بما يقولون.
الثانية: الثورة اللّغوية الواسعة.
الثالثة: القدرة على حُسْنِ الاختيار والانتفاء من الكلمات وأساليب التعبير.
الرابعة: الحكمة في ضبط مسيرة القول على منهج التوسع دون وكْسٍ وشطط.
الخامسة: التدرُّبُ الطويل والممارسة، مع مُتَابعة النظر الناقد، والتمحيص والتحسين.
وبالتتبُّع نلاحظ أنّ الكلام المطابق للمعاني الّتي يراد التعبير عنها به حتى يكون بمثابة القوالب لها تماماً كلامٌ نادرٌ، وهو الأقلّ دواماً من مجموع الكلام ومنزلته رفيعة جدّاً إذا كان في الموضوعات التي يحسُنُ أن يكون الكلام فيها مطابقاً للمعاني المرادة منه تماماً، لا زائداً ولا ناقصاً، وهي الموضوعات الّتي سبق بيانُها في الفصل الأوّل من هذا الباب.
إنّ القادر على ضَبْطِ كلامه وجَعْلِه مطابقاً لما يريد من المعاني دون زيادة ولا نقصان متكلّم ماهرٌ جدّاً، وهو بمثابة من يمشي على طريق مطابق لحدود مواطئ قدميه تماماً، إذا انحرف يميناً أو شمالاً خرج عنه فأساءَ مُنْحَدِراً أو صاعداً أو ساقطاً.
ولذلك يُخْتَارُ لصياغة القوانين والقرارات والمعاهدات والبيانات المحدّدة والموادّ المحرّرة الممحصَّة أمْهَرُ كُتّاب القوانين وصائغي نصوصها، إذ يجب أنْ تكون موادُّها مطابقةً تماماً للمعاني التي يُرَاد الدلالةُ عليها بها، حتّى لا تُفَسَّر بما يَنْقُصُ عن المعاني التي حصل عليها الاتفاق، أو بما يزيد عليها، فلمفسّري موادّ القوانين والمعاهدات والعقود والقرارات ونحوها حِيَلٌ كثيرة يغيّرون بها مفاهيم نصوصها، متى وجَدُوا فيها ثغرات نقص أو زيادة تسْمَح بالتحايل والتلاعُب في التفسير.
وقلّما نجد في مجموع كلامٍ كثير كلاماً مساوياً للمعاني المرادة منه دون زيادة ولا نقص، ولا سيما في النصوص التي تُصَاغ بأساليب أدبية، فالأمثلة على الكلام المساوي في النصوص الأدبية أو المطَعَّمة بالأساليب الأدبية نادرة، قد نجدها في جُمَل، وفي كلامٍ قصير، وفي بيتٍ من الشعر، أو شَطْرٍ من بيت.
ولندرة المساواة في الكلام توهّم بعض الباحثين أنّه لا واسطة بين الإِيجاز والإِطناب، وجعل القسمة ثنائيّة لا ثلاثية وأدخل المساواة في الإِيجاز.
اختلاف مقادير الكلام في المساواة مع اتّحاد المعنى المراد
من الملاحظ في أساليب الكلام العربي ذي التعبيرات المختلفات عن المعنى الواحد، أنّه قد يُوجَدُ فيها تعبيران أو أكثر عن معنىً واحد، ينطبق عليهما أنهما مساويان للمعنى، مع أنّ عدد كلمات أحدهما أكثر من عدد كلمات الآخر، فَيُقَالُ لذي الكلمات الأكثر أطول، ولذي الكلمات الأقلّ أقصر.
إنّ قول القائل: "أريد أن أشرب ماءً" كلامٌ مطابقٌ لمعناه دون زيادة ولا نقص بحسب أصول الكلام العربي.
فإذا قال: "أُريدُ شُرْبَ ماءٍ" باستعمال المصدر "شُرْب" بدل: "أن أشرب" المؤوّلان بمصدر، فقد جاء أيضاً بكلامٍ مطابق لمعناه دون زيادة ولا نقص وفق أصول الكلام العربي.
لكِنَّ العبارة الثانية أقْصَرُ بالنظر إلى أنَّها مؤلّفةٌ من ثلاث كلمات ملفوظة، أمّا الأولى فهي مؤلّفَةٌ من أربع كلماتٍ ملفوظة.
وربَّ كلمةٍ تدلُّ على معنيَيْنِ فأكثر، ويكون فيها غَناءٌ عن كلمِتَيْنِ فأكثر، واستعمالها يقلّل من طول الكلام المطابق المساوي لمعناه.
إنّ عبارة "مدينة" أو "قَرْية" مساوية في المعنى لعبارة "مباني سكنيّة مجتمعة" وقولُ القائل: "سكنتُ في قرية" أو "سكَنْتُ في مدينة" يساوي في المعنى قوله: "سكنت في مبانٍ سكنية مجتمعة" وكلٌّ من التعبيرين ينطبق عليه عنوان الكلام المساوي لمعناه الذي لا زيادة فيه ولا نقصان، مع أنّ أحدهما مؤلّف من ثلاث كلمات ملفوظة، والآخر مؤلّف من خمس كلمات ملفوظة.
وبناءً على هذا فباستطاعتنا أنْ نُفَصّلِ الكلام المساويَ لمعناه فنجعلَهُ ذا نِسَبٍ مختلفة في الطولِ والْقِصَر، كشأن القسمَيْنِ الآخرين من الكلام: "الإِيجاز والإِطناب" كما سيأتي به البيان إن شاء الله، ففي المساوي أقصر وقصير، وطويل وأطول أحياناً.
بعد هذا أقول: إنَّ كلاَّ من المساوي الأقصر والمساوي القصير والمساوي الطويل والمساوي الأطول له مواضع تلائمه، ويكون فيها هو الأبلغ بحسب مقتضيات الأحوال.
فكتّابُ المتون المكثفة يَلْجَؤُون إلى اختيار المساوي القصير أو الأقصر، وكذلك مختزلو المقالات الطوال لتقديمها لرؤسائهم الذين تضيق أوقاتهم عن قراءة الكلام الكثير.
وشُرَّاح المتون بشروح موجزة تقتصر على حلّ العبارة يَلْجَؤُون إلى اختيار المساوي الطويل أو الأطول.
ملاحظتان:
(1) لم يُنَبِّه علماء البلاغة - فيما أعلم - على هذا التفصيل للكلام المطابق المساوي لمعناه، لتعذُّر رسْمِ حدودٍ له، إلاَّ أنّني رأيت أنّ من المناسب التنبيه عليه، لبيان أنّ لكلٍ من أقسام الكلام المساوي مواضع تلائمه، ومقتضياتِ أحوال من المستحسن اختيارُهُ لها.
(2) قد يلتبس المساوي القصير أو القصر بِقسْمِ: "إيجاز الْقِصَر" الآتي بيانُه - إن شاء الله - إلاَّ أنَّ باستطاعتنا التفريق بأنّ "إيجاز الْقِصَرِ" يختصُّ بجوامع الْكَلِم الذي تُخْتَار فيه الكليّات العامّة، بدلالاتها الشاملات، وتكونُ عباراته بوجه عامّ ممّا لا ينْطَبِقُ عَلَيْها عُنْوانُ "المساواة" فإيجازُ الْقِصَرِ قَدْ يُفِيضُ بمعانٍ كثيرةٍ، تحتاجُ شروحاً وتفصيلات بكلامٍ كثيرٍ جدّاً.
أمثلة:
أورد البلاغيون أمثلة من الكلام الذي رأَوْا أنَّه يَتَّصِفُ بالمساواة بينه وبين المعاني المرادة منه، دون أنْ يُتْبِعُوها بدراسات تحليليّة كاشفات، وليس من المستبعد أن يكون بعض ما أوردوه منها عُرْضَةً لاحتمالات كونه ممّا ينطبق عليه عنوان: "الإِيجاز" لا عنوان المساواة أو ينطبق على بعض عناصره عنوان: "الإِطناب" والكاشف لذلك الدراسة التحليلية الشاملة للنصّ بكلّ جُمَلِه وعناصرها.
والمهمّ أنْ نقول: إنّ من الكلام ما ينطبق عليه عنوان المساواة حتماً، ولو كانت الأمثلة منه ذاتُ النُّصوص الطويلة نادرة، ولا تخلو من اعتراضات وإشكالات قد تجعلها أمثلةً غير مطابقة لما سِيقَتْ له.
فمن الأمثلة على الكلام المتصف بالمساواة ما يلي:
المثال الأوّل:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (فاطر / 35 مصحف / 43نزول) على ما أورد القزويني في التلخيص:
{وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ...} [الآية:42].
يَحِيقُ: أي: يُحِيط. الْحُوقُ: الإِطار المحيط بالشيء المستدير حوله.
المكرُ السَّيّئ: أي: التدبير الخفيّ الموصوف بأنَّه سَيّئٌ لأنه اسْتُخدم في الشرّ لا في الخير، فليس كلُّ مكْرٍ سَيِّئاً، إذْ من المَكْرِ ما هو مَكْرٌ في الخير، وهو عندئذٍ يكون مكراً حسناً لا سَيّئاً.
إلاَّ بأهله: أي إلاَّ بأصحابه المدبّرين له، أو إلاَّ بالمستحقين له.
دلّت هذه العبارة القرآنية على أنَّ إحاطة المكر السَّيِّئ إحاطةً تامّةً لا تكون إلاَّ بأصحابه المدبّرين له، أو المستحقين له.
لكنَّ هذا المثال قابل للمناقَشَة من وجْهَين:
الوجه الأول: أنّ كلمة [يَحِيقُ] في اللّغة تَدُلُّ على معنى الإِحاطة، وقد فهم المفسّرون منها مع معنى الإِحاطة معنى الإِصابة والنزول، وهذه الزيادة إنما فهموها من دلالات لزوميّة فكريَّة، خارجة عن المعنى المطابقيّ لفعل "يحيق" وبناءً على هذا يكون المثال مما يندرج تحت عنوان: "الإِيجاز" الذي اعْتُمِدَ فيه على الدلالة اللُّزوميّة، ولا يندرج تحت عنوان: "المساواة" التي فيها تطابُقٌ تامٌّ بين اللّفظ والمعنى بحسب الأوضاع اللّغوية.
الوجه الثاني: أنّ عبارة [بأَهْلِهِ] ذاتُ احتمالين:
* فهل المراد منها أصحابُ المكر المدَبِّرون له؟
* أو المراد منها المستحقّون له، سواءٌ أكانوا هم المدبّرين له، أوْهُمْ ومعَهُمُ الّذين دُبِّر ضِدَّهم، إذا كانَ هؤلاء أصحابَ شرٍّ أيضاً يسْتَحِقُّون أن يَحِيقَ بهم المكر السّيّئ؟. فإذا كان المراد هذا المعنى الثاني فالعبارة تشتمل على إيجاز الْقِصَر باستخدام لفظٍ ذي معنىً كلِّيّ صالحٍ لنوعَيْن: مُدَبّري المكر، ومَسْتَحِقّيه من غيرهم.
المثال الثاني:
قول النابغة الذبياني من قصيدة يَمْدَحُ بها "النعمان بن المنذر" مَلِكَ الحيرة، على ما أورد القرويني في التخليص:
*فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِى هُوَ مُدْرِكي * وَإِنَ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ*
مُدْركي: أي: بالِغٌ إليَّ ومحيطٌ مَهْمَا فررتُ منه.
خِلْتُ: أي: ظَنَنْتُ.
الْمُنْتَأَى: أي: مَكَان الابتعاد.
والمعنى: فإنَّكَ - أيُّها الملك - بسبب قُدْرَتِك على الوصول إلى الْقَبْضِ عليَّ، والإِمْسَاك بي تشبه اللّيل الذي هو مُدْرِكي لا محالة أينما فَرَرْتُ منه قاصداً أيّ مكانٍ من الأرض.
هذا واقع حالي بالنسبة إلى قدرتك على الظفر بي، وإنْ ظننتُ أنَّ مكان الابتعادِ عن جُنُودِ سلطانك في البلاد مكانٌ واسعٌ أَجِدُ فيه مفرّاً منهم.
لكِنَّ هذا المثال قابل للمناقشة أيضاً من وجوه:
الوجه الأول: أنّ استخدام "النابعة" أُسْلُوبَ تشبيه "النعمان" باللَّيل في قُدْرَتِهِ على الظفر بمن يَطْلُبُه من قومه أسلوبٌ أوْجَزَ فيه كلاماً طويلاً فهو مثالٌ يَصْلُح للإِيجاز لا للمساواة.
الوجه الثاني: من الملاحظ أنّ "النابغة" خاطب الملك بكاف الخطاب، وهو يريد سُلْطته عن طريق جنُوده، إذْ هو بشخصه لا يستطيع أن يُدْرِكَ النابغة لو أراد الفرار منه، وهذا من إطلاق السبب وإرادة المسبَّب، فهو من المجاز المرسل أحَدِ العناصر التي تُسْتَخْدَم للإِيجاز، والتقدير فإنّ سُلْطَتَكَ التي تَسْتَخْدِمُ فيها جُنُودُكَ الكثيرين كاللَّيْلِ الذي هو مدركي، وهذا إيجاز بالحذف.
الوجه الثالث: بالَغَ النابغة فشبَّه "النُّعمان" باللَّيل، فزادَ عمَّا يُريد التعبير عنه من أنّ الملك قادر على أن يوجّه أوامره فتلْحَق جنودُه بمَنْ يفرُّ منه فتقبض عليه، وهذه الزيادة ذات فائدة، فهي من الإِطناب الحسن.
الوجه الرابع: أنّ الشطر الأوّل من البيت كافٍ للدّلالة على مقصوده، إلاَّ أنه زاده تأكيداً بقوله في الشطر الثاني: "وَإِنْ خِلْتُ أنَّ المنتأَى عنك واسعُ" وهذا إطنابٌ بِزِيادةٍ مفيدةٍ.
المثال الثالث:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول).
{مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}.
يَقْرُبُ هذا المثال من أن يكون مثالاً صالحاً للمساواة، إلاَّ أن استعمال عبارة: {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} تَصْلُحُ لأَنْ تكونَ مِثَالاً للإِيجارُ بالْحَذْفِ، إذْ التقدير: فَعَلَيْهِ يَنْزِلُ عِقَابُ كُفْرِه.
وكذلك عبارة: {فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} إذْ تقديرُها: فَلَخَيْرِ أنفسهم، أو لمصلحة أنفسهم يَمْهَدُونَ.
يضاف إلى هذا أنّ عبارة {وَمَنْ عَمِلَ صَالحاً} فيها إيجاز بالحذف أيضاً، إذ التقدير: ومَنْ عمل عملاً صالحاً هُو ثَمَرَةُ إيمان صحيح.
المثال الرابع:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (الطور/ 52 مصحف/ 76 نزول):
{كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ}.
أي: كُلُّ امْرِئ محبوسٌ بما كسب.
هذا المثال مع قُربه لأن يكون مثالاً صالحاً للْمسَاواة، إلاَّ أننا نجد فيه لدى التحليل إيجازاً بالحذف، إذ التقدير: كلُّ امْرِئٍ كَسَبَ إثْماً فهو بما كسَبَ منه محبوسٌ حتَّى يُحَاسَبَ على ما كسَب ويجازى، أو يغفر الله له.
المثال الخامس:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول) خطاباً للمؤمنين الذكور حول المواريث:
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ...} [الآية:12].
نظرتُ في هذا النصّ فوجَدْتُ معظَمَهُ صالحاً لأن يكون مثالاً للمساواة، إلاَّ أنّ من الملاحظة فيه أنّ عبارة: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} الواردة فيه مرّتين تشتمل على إيجاز بالحذف، إذ التقدير: من بعْدِ عَزْلِ وصِيَّةٍ أو من بَعْدِ تَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ.
المثال السادس:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (النساء) أيضاً:
{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
يبدو أن هذا النّصّ صالحٌ لأن يعتبر مثالاً للمساواة، إذْ لم ألاحظ فيه عبارةً فيها إيجاز، ولا عبارةً هِيَ من قبيل الإِطناب. إلاَّ أنْ يقال: إنّ المراد من عبارة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} تجري مِنْ تَحْتِ قُصُورِها، أو تَجْري من تَحْتِ فُرُوع أشجارها.
وقد يجاب بأنّ {جَنَّات} يُطلَقُ على السّاترات من الأشجار والقصور لا على الأرض من تحتها، فتكون الأنهار الجاريات على أراضيها جارياتٍ من تحتها، ولا حاجة إلى تقدير مضافٍ محذوف.
المثال السابع:
وذكروا من أمثلة الكلام الموصوف "بالمساواة" قول الشاعر:
*وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنىً كُلَّ حَاجَةٍ * وَمَسَّحَ بالأَرْكانِ مَنْ هُو مَاسِحُ*
*وَشُدَّتْ عَلَى دُهْمِ الْمَطَايَا رِحَالُنا * وَلَمْ يَنْظُر الْغَادِي الَّذِي هُوَ رَائِحُ*
*أَخَذْنَا بِأَطْرَافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا * وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الأَبَاطِحُ*
المثال الثامن:
وذكروا منها أيضاً قول أبي نواس الذي قال "الجاحظ" بشأنه: لا أعرف شعراً يَفْضُلُه:
*وَدَارِ نَدَامَى عَطَّلُوهَا وَأَدْلَجُوا * بِهَا أَثَرٌ مِنْهُمْ: جَدِيدٌ وَدَارِسُ*
*مَسَاحِبُ مِنْ جَرِّ الزِّقَاقِ عَلَى الثَّرَى * وَأَضْغَاثُ رَيْحَانٍ: جَنِيٌّ وَيَابسُ*
*حَبَسْتُ بِهَا صَحْبِي فَجَدَّدْتُ عَهْدَهُمْ * وَإنِّي عَلَى أَمْثَالِ تِلْكَ لَحَابِسُ*
*تُدَارُ عَلَيْهَا الرَّاحُ فِي عَسْجَدِيَّةٍ * حَبَتْهَا بأَنْواعِ التَّصَاوِيرِ فَارِسُ*
قَرَارَتُهَا كِسْرَى وَفِي جَنَباتِهَا * مَهاً تَدَّرِيَها بِالْقِسِيِّ الْفَوارِسُ*
*فَلِلرَّاح مَا زُرَّتْ عَلَيْهِ جُيُوبُها * ولِلْمَاءِ مَا دَارَتْ عَلَيْهِ الْقَلاَنِسُ*
لكنّ هذين المثالين الأخيرين يحتاجان إلى دراسةٍ تحليليّة للتحقّق من انطباق عنوان "المساواة" عليهما.
الفصل الثالث: الإيجاز
التعريف
الإِيجاز لغة: اختصار الكلام وتقليل ألفاظه مع بلاغته، يقالُ لغة: أوجز الكلامَ إذا جعله قصيراً ينتهي من نطقه بسرعة.
ويقال: كلامٌ وجيز، أي: خفيفٌ قصير. ويقال: أوْجَزَ في صَلاتِه إذا خفَّفها ولم يُطِلْ فيها.
فالمادّة تدور حول التخفيف والتقصير، وفي الحديث أنَّ رَجُلاً قال للرسول صلى الله عليه وسلم: عِظْنِي وأوجِزْ، أي: قُلْ لي كلاماً خفيفاً قصيراً أحْفَظُهُ عنك فيه موعظةٌ لي.
روى الإِمام أحمد بسنده عن أبي أيّوبَ الأنصاري قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: عِظْنِي وأوجز. فقال:
"إِذَا قُمْتَ فِي صَلاَتِكَ فَصَلّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ، ولا تَكَلَّمْ بِكَلامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَداً، وأَجْمِع الإِيَاسَ مِمَّا في أيْدِي النَّاسِ".
فوعظه الرسولُ صلى الله عليه وسلم بهذه الفقراتِ الثلاث، وأَوْجَزَ له فيها.
الإِيجاز في اصطلاح البلاغيين: هو التعبير عن المراد بكلامٍ قصير ناقص عن الألفاظ التي يُؤَدَّى بها عادةً في متعارف الناس، مع وفاة بالدّلالة على المقصود.
أو نقول: هو صياغة كلام قصير يدلُّ على معنىً كثير وافٍ بالمقصود، عن طريق اختيار التعبيرات ذات الدَّلالات الكثيرات، كالأمثال والكليّات من الكلمات، أو عن طريق استخدام مجاز الحذف، لتقليل الكلمات المنطوقة، والاستغناء بدلالة القرائن على ما حُذِف، أو عن طريق استخدام ما بني على الإِيجاز في كلام العرب، كالحصر، والعطف، والضمير، والتثنية، والجمع، وأدوات الاستفهام، وأدوات الشرط، وألفاظ العموم، وغير ذلك.
فإذا لم يكن الكلام وافياً بالدّلالة على المقصود كان الإِيجاز فيه إيجازاً مُخِلاًّ، إذ رافق التقصير في الألفاظ تقصيرٌ في المعنى الذي أراد المتكلّم التعبير عنه.
قالوا: ومن أمثلة التعبير بكلام قصير فيه إخلال بأداء المعنى المراد قول "الحارث بن حِلِّزَةَ الْيَشْكُرِي" هو شاعر جاهليّ من أهل بادية العراق، وهو أحد أصحاب المعلّقات:
*عِشْ بِجَدٍّ لاَ يَضِرْكَ النَّوْكُ مَا أُولِيتَ جَدّا*
*والْعَيْشُ خَيْرٌ فِي ظِلاَلِ النَّوْكِ مِمَّنْ عَاشَ كدّا*
بِجَدٍّ: أي: بحظٍّ من الدنيا، كالنعمة والسّعة.
لاَ يَضِرْكَ: أي: لا يُنْزِلْ بكَ ضَرَراً، من "ضارَهُ يَضِيرُهُ".
النَّوْكُ: الحماقة من قلة العقل.
قال في البيت الأول: إِذَا كان لك حظٌّ من الدّنيا يُسْعِدُك وكُنْتَ أحْمَق فَعِشْ بحظِّكَ فإنّ حماقَتَك لا تَضِيرُكَ.
وقال في البيت الثاني: والعيشُ مع الحظّ السعيد في ظلال النَّوْك (=الحمق) خَيْرٌ ممَّن عَاشَ عَيْشاً كدّاً مُضْنِياً بعَقْلٍ ورُشْدٍ دُونَ أن يكون محظوظاً بما يُسْعِده في دُنْيا.
لكنّ هذا المعنى الذي أراده لا تدلُّ عليه عبارات البيت الثاني مَهْما تكلّفْنَا في استخراج اللّوازم الذهنيّة، لكثرة المحاذيف فيه، مع عدم وجود قرائن تدلُّ عليها، ولولا البيت الأوَّل لصَعُبَ جدّاً إدْراكُ مُرَادِه، فهُو من الإِيجاز المخلّ.
ولدى إبراز المحاذيف نقول: والعيْشُ بِجَدٍّ في ظلال النَّوْكِ خيرٌ ممن عاش عيشاً كدّاً غير محظوظٍ في ظلال العقل والرُّشد.
ومن أمثلة الإِيجاز المخلّ على ما قالوا قولُ "عُرْوةَ بْنَ الْوَرْدِ بن زيْدٍ العَبْسِي" هو شاعر جاهليّ، كان من فرسان قومه وأجوادهم:
*عَجِبْتُ لَهُمْ إِذْ يَقْتُلُونَ نُفُوسَهُمْ * وَمَقْتَلُهُمْ عِنْدَ الْوَغَى كَانَ أَعْذَرا*
قالُوا: أراد إذ يقتلونَ نُفُوسَهُمْ في السِّلْم من غَيْرِ حرب، فحذَفَ عبارة: "في السِّلْم" وهذا من الإِيجاز المخلّ.
أقول: لقد استغنى بدَلاَلَةِ الشطر المقابل، إذْ قَيَّدَ القتل الّذِى يُعْذَرُ به القتيل بأن يكون عند الوغى، أي: عند الحرب، وهذه قرينةٌ كافية لمثل هذا الحذف، تَقَابُلُ التضاد ذو دلالة قويّة، وقرينتُه تدلُّ على المحذوف في مقابله بسهولة، وله نظائر في القرآن المجيد.
وذكروا من أمثلة الإِيجاز المخلّ قولَ الشاعر:
*أَعَاذِلُ عَاجِلُ مَا أشْتَهِي * أحَبُّ مِنَ الأَكْثَرِ الرَّائِش*
الرَّائش: بمعنى المعين، والمنعش، والمغني بالمال الوفير.
يريد أن يقول: إنّ عاجل ما يشتهي مع قلّتِه أحبّ إلى نفسه من المؤجل وإنْ كان كثيراً منعشاً مغنياً.
فحذف محاذيف لا تُسْتَخرج إلاَّ بصعوبة، فهو من الإِيجاز المخلّ على ما ذكروا.
(2)
تقسيم الإِيجاز
الإِيجاز السّويّ ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: "إِيجَازُ الْقِصَر" وهو الإِيجاز الذي لاَ يُعْتَمَدُ فيه على استخدام الحذفِ.
القسم الثاني: "إيجازُ الْحَذْف" وهو الإِيجاز الذي يكون قِصَرُ الكلام فيه بسبب استخدام حذف بعض الكلام اكتفاءً بدلالة القرائِن على ما حُذف.
(3)
شرح إيجاز الْقِصَر
سبق بيان أنّ "إيجازَ القِصَر" هُو الإِيجاز الذي لا يُعْتَمَدُ فيه على استخدام الحذف.
ولكن كيف يكون "إيجاز القِصَرِ" هذا؟.
لقد جاء في وصف خاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: أنَّهُ أُوتِيَ جَوَامعَ الكَلِم، ونجد في أقواله أمثلةً كثيرةً جدّاً ينطبق عليها عنوان "إيجاز الْقِصَر" ألفاظُها قليلة، ومعانيها غزيرة، دون أن يكون فيها ما يدُلُّ على كلام مطويّ محذوف من اللّفظ، مُشارٍ إليه بقرينة من قرائن المقال، أو قرائن الحال، أو الاقتضاء العقلي.
وفي القرآن أمثلة رائعة وكثيرة جدّاً، يَرَى فيها متدبّر وكتاب الله المجيد قِصَراً في ألفاظها، وثَرْوَةً واسعةً في معانيها ودَلالتها، مع أنَّها لا تطوي في مثانيها محاذيف، بل جاءت ثَرْوَةُ المعاني من منطوق الألفاظ المختارة بعناية فائقة.
ولعلَّنا بنظرة تحليليَّةٍ مُتَأَنِّيةٍ فاحصة نكتشفُ أسبْابَ قِصَرِ العباراتِ وغزارة المعاني.
أولاً: من الملاحظ أنَّ مُتَتَبِّعَ الجزئيّات بالبحث والتأمّل يكتشف صفاتها أفراداً، ثمّ بعد أن يجمع في نفسه أو في سجلاّته صفات هذه الجزئيّات يلاحظ أنّها قد تشترك جميعاً في بعض الصفات التي وجدها فيها، فإذا أراد أن يتحدّث عمّا اكتشفه فأمَامَهُ طريقان:
* إمّا أن يفصّل فيذكَر كُلَّ جزئيّة ويعدّد صفاتها، لكنّه في هذا التفصيل سيجد نفسه مضطرّاً أنْ يكرّر بعض هذه الصفات مع ذكر كلّ جزئية، وعندئذٍ يطول معه حبْلُ الكلام طولاً مُمِلاًّ مكروها.
* وإمَّا أن يَلْجأ إلى اختيار عبارة كليّة شاملة موجزة مختصرة قليلة الكلمات تدلُّ على أن جميع الجزئيات التي تَتَبَّعَها وَيَدُلُّ عليها لفظ "كذا" تتّصف بصفة "كذا وكذا".
وهنا نلاحظ أنّ "القِصَرَ" في التعبير قد جاء من جمع الجزئيّات التي تتبَّعَها بلفظ عامٍّ يشملها، ووصفها جميعاً بالوصف الذي رآها تتصف به، فيقول مثلاً دارسُ طبائع بعض الحيوانات:
"الثَّبَاتُ والسَّطو في الأسود، والغدرُ في النمور، والحيلةُ في الثعالب، والهمَّةُ والخيلاء في الخَيْل، والجلَدُ في البغال، والبلادةُ في الحمير".
وبهذا يكون قد أوجز في عباراته، إذْ جمع تفصيلات كثيرات، دون أن يُقَدِّر في كلامِهِ محاذيف، وكانت وسيلته في هذا الإِيجاز استخدام العبارات ذوات الدلالات الكليّات الشاملات.
ثانياً: وقد يجد مُنْشِئ الكلام أنّ ما يُريد الحديث عنه لَهُ صفاتٌ كثيراتٌ يحتاج تفصيلها إلى بيان طويل قد يُكتبُ في صفحات أو كُرَّاساتٍ أو أكثر من ذلك.
ثمّ ينظر في مخْزونات معارفه فيرى صُورةً من صُوَرِ الكَوْنِ مثلاً، أو طائفةً من المعلومات الجزئيّة مجتمعةً في إطارٍ واحدٍ له عنوان خاصٌّ يدلُّ على الْمُحَاطِ به، ويُلاَحِظُ أنّ ما يُرِيدُ الحديث عنه متشابهٌ لهذه الصورة، أو لما أحيط بهذا الإِطار ذي العنوان الخاصّ، فيهتَبِلُها فُرْصَةً يُوفّر بها على نفسه كلاماً طويلاً؛ إذْ يُبيّن أنّ ما يُرِيدُ التحدّث عن صفاته مشابهٌ لهذه الصورة، أو لما أُحيط بهذا الإِطار، ثمّ إنّ المتلقّي يتَتَبَّع تفصيل الصفات عن طريق النظر في العناصر المتشابهة بين المشبَّه والمشبَّهِ به، وهذه إحدى الفوائد الثمينة من ضرب الأمثال.
فإذا قال المتحدّث: لمّا ألقَى الأمريكيون القنبلة الذّرّية على المدينة اليابانية "هيروشيما" صارت هذه المدينة كلُّها كما لو تفجّرتْ ألف ألف قنبلة فنثرت رماداً ودخاناً في الجوّ.
فإنّه قد اختصر تفصيلات المشهد العظيم كلِّه بهذه العبارة التمثيلية.
وبهذا يكون قد أوجز في عبارته، إذ جمع تفصيلات كثيرات، دون أن يُقدِّر في كلامه محاذيف، وكانت وسيلته في هذا الإِيجاز استخدام أسلوب التشبيه وضَرْبِ المثل.
ثالثاً: وقد يجد منشئ الكلام أنّه يحتاج إلى عدد من الكلمات أو العبارات حتَّى تُؤَدِّيَ معنىً مِن المعاني، ثمّ يرى أنّ باستطاعته أن يختار كلمة واحدة، أو عبارةً ما قصيرة، تستدعي بطبيعة معناها لوازم فكريّة، يستطيع المتلقّي أن يكتفي بها عن الكلمات أو العبارات المتعدّدات إذا جاءت بديلاً في الكلام.
عندئذٍ يَعْدِلُ إلى اختيار الكلمة أو العبارة ذات اللّوازم الفكرية، مستغنياً بها عن كلام طويل، ليوجز في كلامه ويجعله قصيراً مع غزارة في معانيه.
فمن الأمثلة نلاحظ أن كلمة "الذِّكْر" المختارة للتعبير بها عن القرآن في كثير من نصوص الكتاب العزيز تُغْنِي بلوازمها الفكريّة عن جملة كلمات أو عبارات تتضمّن المعانيَ التالية "تبليغ القرآن - وجوب تلقيه عن المبلّغ - وجوب فهمه وتدّبره - وجوب حفظه - وجوب جعله حاضراً في الذاكرة ليُرْجَعَ إلى نصوصه عند كلّ مناسبة داعية لمعرفة دين الله وأحكامه".
كلُّ هذه المعاني فهمناها باللُّزوم الذهني، لأنَّهُ لا يكون ذِكْراً دواماً ما لم يكن مسبوقاً بالتبليغ والتلقّي والفهم والتدبّر والحفظ فمن استوفي كلّ هذه الأمور كان القرآن بالنسبة إليه ذكراً، وإلاَّ كان مَتْرُوكاً منسيّاً.
فأغنت كلمة واحدة ذات لوازم ذهنيّة عن عَددٍ من الكلمات أو العبارات، دون أن يُقَدَّرَ في الكلام محاذيف، والوسيلة هنا في هذا الإِيجاز الاستغناءُ بما تُعْطيه اللوازم الفكرية، وحُسْنُ انتقاء الكلمات التي تَدُلُّ على اللوازم الفكريّة المطلوبة.
بهذه النظرات التحليليّة استطعنا أن نكشف أسباباً ثلاثةَ نستطيع بوساطتها أن نجعل الكلام قصيراً موجزاً، مع دلالته على معانٍ غزيرة كثيرة، دون الحاجة إلى تقدير محاذيف حُذِفت من منطوق اللّفظ وبقيت مقدّرةً فيه ذهْناً.
وتلخيص هذه الأسباب الثلاثة فيما يلي:
السبب الأوّل: اختيار الألفاظ والتعبيرات الكليّة، ذوات الدلالات العامّاتِ الشاملات.
السبب الثاني: الاستغناء عن التفصيلات الكثيرات بالأمثال والتشبيهات التي تدلُّ فيها الأشباه والنظائر على مقابلاتها، إذْ يدلُّ الممثَّل به الجامع لصُوَرٍ وصفاتٍ ومعَانٍ كثيرة على صُورٍ وصفاتٍ ومَعَانٍ موجودَةٍ في الممثّل له.
السبب الثالث: الاستغناء بما تعطيه اللّوازم الفكريّة لعبارة، عن ذكر كلامٍ ذي دلالات مباشرات تَدُلُّ بالمطابقة على هذه اللَّوازم.
أمثلة على "إيجاز الْقِصَر"
المثال الأوّل:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الزلزلة/ 99 مصحف/ 93 نزول):
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
وصف الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القول بأنَّه فَاذٌّ جَامعٌ، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أنّ الرَّسول تحدث عن اقتناء الخيل فقسَّمها ثلاثة أقسام، وشرحها، وبعد ذلك سُئِلَ عَنِ الْحمُرِ فقال:
"مَا أُنْزِلَ عَلَيّ فيهَا إلاَّ الآيَةُ الْفَاذَّة الجامِعَة": {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
جعل الآيتَيْنِ لترابطهما بمثابة الآية الواحدة، ووصفها بأنَّها فَاذَّةٌ، وَبِأَنَّها جامعة.
* أمَّا كونُها فاذّة فمعناه أنَّها منفردة فيما دلّت عليه من معنى، لم يأتِ في القرآن نظيرها بهذا الإِيجاز الجامع.
* وأمّا كونها جامعةً فمعناه أنَّها شاملةٌ عامّةٌ تتناول كُلَّ عَمَلٍ صغيراً كان أو كبيراً خيراً كان أو شرّاً، فهي من جوامع الكلم.
إنّ هذا البيان القرآني على قِصَرِه وقلَّةِ كلماته يَدُلُّ على مَعَانٍ يمكن أن تُفَصَّل وتُشْرَحَ بسِفْرٍ، لما جاء فيها من اختيار الألفاظ ذَواتِ الدلالات العامّات الشاملات.
(1) كلمة "مَنْ" من ألفاظ العموم، فهي تعطي دلالة كليّة عامَّة تَشْمَلُ كلَّ مكلَّف، وهي اسم شرط جازم.
(2) وفعل الشرط "يَعْمَل" يشمل كلّ عَمَلٍ إراديٍّ من الأعمال الظاهرة والباطنة.
(3) وعبارة "مثقال ذرّة" عبارةٌ ذات شمول يبدأ من أصغر الأعمال وأقلّها عدداً، وينطلق دون حدود عِظَماً وعدداً كثيراً.
(4) وكلُّ من كَلمَتِيْ: "خيراً" و "شرّاً" تمييز على تقدير "من" وهو منكر، فهو يفيد العموم الذي يشملُ كلَّ خير وكلَّ شرّ ظاهر أو باطن.
(5) وكلمة: "يَرَهُ" التي هي جواب الشرط تدلُّ على حتميّة رؤيَةِ عَمَلِهِ الذي كان عَمِلَهُ في الدنيا، إذْ يراهُ في كتاب أعماله مسجَّلاً بالصُّورة والصوت والخواطر والنّيات.
هذا من أبدع وأعْجَب "إيجاز الْقِصَرِ" وطريقُه اختيار الألفاظ والتعبيرات ذوات الدَّلالات العامَّات الشّاملات.
المثال الثاني:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
إنّ جملة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} من أبْدع وأتْقَنِ "إيجَازِ الْقِصَر" الذي لا حَذْف فيه، إنّما فيه حُسْنُ انتقاء الكلمات، مع اتقان الصياغة، فهي على قِصَرِها وقلّةِ ألفاظها تَدُلُّ على معنىً كثيرٍ جِدّاً.
وطريق الإِنجاز فيها اختيار الألفاظ ذوات الدَّلالات العامَّاتِ الشاملات.
وقد اشتغل البلاغيّون في تحليل هذه العبارة القرآنية لاكتشاف عناصر إيجازها البديع المتقَن، ولمقارنتها بما كان لدى فصحاء العرب من عبارة مناظرة كانوا يردّدونها ويعتبرونها من أقصر الْكَلمِ وأوجزه، وهي قولهم: "القتْلُ أنْفي للقتل".
وأعرض فيما يلي أبرزها مع إضافات تحليليّة من عندي:
(1) إنّ كلمة "القِصَاص" كلمة عامّة تشمل القتل بالقتل، والقطع بالقطع، والجروح بالجروح، وتدخلُ فيها كُلُّ تفصيلات الجنايات ممّا يتعلّق بذوات الأحياء من الناس، أنفسِهِمْ فما دون ذلك.
(2) وإنّ كلمة "حياة" تشمل حياة النفس، وحياة كلّ بعْضٍ من أبعاض الجسد الذي إذا انقطع مات، فيكون حاله كحال كلّ الجسد إذا ماتت النفس.
وتنكير لفظ "حياة" يدلُّ على أصل بقاء الحياة للنفس، ويدُلُّ على نوع نفيس من أنواع الحياة يتَمنّاه الأحياء، وهو نوع الحياة الآمنة، التي لا خوف فيها ولا قلَقَ، والذي يتحقّق بتقرير حكم القصاص وتنفيذه، وذلك لأنّ من تُحَدِّثُه نفسُهُ بالعدوان على فردٍ أو أكثر من أفراد المجتمع في كلّ النفس، أو في بعض أعضاء الجسد، فإنَّ خوفه من القصاص يروعُه فيكُفُّ عن ارتكاب الجريمة، وبهذا تَقِلُّ جرائم القتل والقطع والجروح في المجتمع إلى أدنى الحدود، فيعيش أفراد المجتمع مطمئنينَ حياةً آمِنة.
وبالمقارنة بين العبارة القرآنية: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وبين أوجز عبارة مشابهة كان العرب يردِّدونها، وهي قولهم: "الْقَتْلُ أنْفي لِلْقَتل" ظهر ما يلي:
(1) إنّ حروف العبارة القرآنية: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أقل من عبارة العرب: "الْقَتْلُ أنْفي للقتل".
(2) العبارة القرآنية ذكرت "الْقِصَاصَ" فعمَّت كلَّ ما تُقَابَلُ به الجناية على الأنفس فما دون الأنفس من عقوبة مُمَاثلة، وحدّدَتِ الأمر بأنْ يكون عقوبة لعمل سبق، ودلّت على مبدأ العدل.
أمّا عبارة العرب فقد ذكرت القتل فقط، ولم تقيّده بأن يكون عقوبة، ولم تُشِرْ إلى مبدأ العدل، فهي قاصرة وناقصة.
(3) العبارة القرآنية نصَّتْ على ثبوت الحياة بتقرير حكم القصاص.
أما عبارة العرب فذكرت نَفْي القتل، وهو لا يَدُلُّ على المعنى الذي يَدُلُّ عليه لفظ "حياة".
(4) العبارة القرآنية خالية من عيب التكرار، بخلاف الأخرى.
(5) العبارة القرآنية صريحة في دلالتها على معانيها، مستغنية بكلماتها عن تقدير محاذيف.
بخلاف عبارة "العرب" فهي تحتاج إلى عدّة تقديراتٍ حتى يَستقيم معناها، إذْ لا بُدَّ فيها من ثلاثة تقديرات، وهي كما يلي:
"القتلُ" قصَاصاً "أنْفي من تركه "لِلقَتْلِ" عمْداً وعدواناً.
(6) في العبارة القرآنية سَلاَسة، لاشتمالها على حروف متلائمة سهلة التتابع في النطق.
أمّا عبارة "العرب" ففيها تكرير حرف القاف المتحرِّك بين ساكنين، وفي هذا ثقل على الناطق.
(7) في العبارة القرآنية من البديع "الطباق" بين لفظتي: القصاص والحياة.
(8) العبارة القرآنية خالية من عيب إيهام التناقض، إذْ الموضوع تشريع لا يحتمل مثل هذا الإِيهام الذي قد يَحْسُنُ في موضع آخر، كالمدح والذّمّ.
فظاهر عبارة "القتل أنفي للقتل" متناقض، ولا يستقيم المعنى، إلاَّ بملاحظة المقدَّرات المحذوفة من اللفظ.
إلى غير ذلك من دقائق يكشفها المحلّل الخبير بتحليل دلالات الكلام.
المثال الثالث:
قول الله عزّ وجلّ لرسول في سورة (الحجر/ 15 مصحف/ 60 نزول):
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}.
إنّ جملة {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} موجزةُ العبارة، لكنَّهَا تَدُلُّ على معانٍ كثيرة، وقد ذكرها "ابْنُ أبي الإِصبع" من أمثلة "الإِيجاز" ونبَّهَ على ما في عبارة {فَاصْدَعْ} من دقائق، فقال:
"المعنى: صَرِّحْ بجميع ما أُوحِي إليك، وبلِّغ كُلَّ ما أُمِرْتَ ببيانه، وإنْ شقَّ بعضُ ذَلِكَ عَلى بعضِ القلوبِ فانْصَدَعَتْ".
وأشار إلى أنّ استعمال {فَاصْدَعْ} هُنَا هو استعمال على سبيل الاستعارة، ومعلوم أنّ الاستعارة عِمَادُها التشبيه، فشَبَّهَ تأثير التصريح في القلوب الكارهة للبيانات الدّينيَّة، بالضرب على الزجاج الذي يَنْصَدعُ دون أن يتكسَّر ويتفرّق، فتابع قائلاً:
"والمشابهة بينَهُما فيما يؤثِّرُهُ التصريح في القلوب، فيظْهَرُ أثَرُ ذلك على ظاهر الوجوه من القبض والانبساط، وما يلوح عليها من علامات الإِنكار والاستبشار، كما يظهر على ظاهر الزجاجة المصدوعة.
فانظر إلى جليل هذه الاستعارة، وعِظَم إيجازها، وما انطوت عليه من المعاني الكثيرة".
وحُكِيَ أَنّ بعض الأعراب لمّا سمع هذه الآية سَجَدَ، وقال سَجَدْتُ لفصاحة هذا الكلام.
أقول: إنّ إيجاز هذه الجملة القرآنية: "إيجازُ قِصَرٍ" وطريقُه التشبيه الذي جاء بأسلوب الاستعارة، و "إِيجازُ حَذْفٍ" إذْ في العبارة حذفُ المفعول به لفعل "تُؤْمَرُ" والتقدير: فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ أَنْ تُبلِّغَهُ للناس.
المثال الرابع:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) خطاباً لرسوله فكلّ داع إلى سبيل ربّه:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
في هذه الآية إيجاز عجيب، إذْ تتألف من كلمات معدودات، إلاَّ أنّها تدلُّ على معانٍ كثيرة.
وطريق الإِيجاز فيها استخدام التعبيرات الكلية ذوات الدلالات العامّات الشاملات، والاستغناء بما تعطيه اللوازم الفكرية.
وقد شرحْتُ هذا النصّ وآيات ثلاثاً بعده في كتاب "أمثال القرآن وصُور من أدبه الرّفيع" فلا داعي لإِعادة شرحه هنا.
المثال الخامس:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (هود/ 11 مصحف/52 نزول) في عرض لقطات من قصة نوح وقومه:
{وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
قالوا في هذه الآية من الإِيجاز ما يعجز البيان عن استيفاء تحليله وشرحه، فقد أمر فيها ربُّنا ونَهَى، وأخبرَ، ونادَى، ونعَتَ، وسمَّى، وأهْلَكَ وأبْقَى، وأسْعَدَ، وأشْقَى، وقصَّ من الأنباء ما حقّق به الغاية القصْوَى من البيان.
وطريق الإِيجاز فيها التعبيرات الكليّة العامّة، والاستغناء بما تعطيه اللوازم الفكريّة.
وقد شرحت هذه الآية في كتاب "نوح عليه السلام وقومه في القرآن المجيد".
المثال السادس:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/48 نزول) في عرض لقطات من قصة سليمان وجنوده:
{حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}.
قالوا: إنَّ التعبير عن قول النملة قد جمع ثلاثة عشر جنساً من الكلام:
(النداء - الكناية في "أيُّ" - التنبيه في "ها" - التسمية في (النمل) - الأمر - القصة في "مساكنكم - النهي التحذيري - التخصيص في "سليمان" - التعميم في "وجنوده" - الكناية بالضمير في مواضع - العذر في "وهم لا يشعرون" - التأكيد في "لا يحطِمَنَّكُم" - الإِيجاز بالعطف -).
وفي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الإِيجاز الشيء الكثير.
ونجد أيضاً في أقوال فصحاء العرب، وبلغاء الأدباء والكتاب أمثلة كثيرة. وفيما أوردته من أمثلة قرآنية كفاية.
(4)
شرح "إيجاز الحذف"
سبق بيان أنّ "إيجاز الحذف" هو الإِيجاز الذي كونُ قِصَرُ الكلام فيه بسب استخدام حذف بعضه، اكتفاءً بدلالة القرائن على ما حُذِف.
إنّ من طبيعة البلغاء والمتحدّثين الأذكياء أن يَحْذِفوا من كلامهم ما يَرَوْن المتَلَقِّيَ له قادراً على إدْراكه بيُسْرٍ وسُهُولة، أو بشيء من التفكير والتأمُّل إذا كان أهلاً لذلك.
والسبب في هذا أنّ الإِسراف في الكلام لا يَليق برَزَانَةِ ورَصَانةِ أهل العقل والفكر الحصيف، بل هو من صفات الثرثارين وأهل الطيش والخفّة، وهو في الغالب من طبائع النساء.
وقد سمَّى "ابن جنيّ" الحذفَ شجاعَةَ العربيّة، وقال: "عبد القاهر الجرجاني": "ما من اسم حُذِفَ في الحالة التي يَنْبَغي أن يُحْذَفَ فيها إلاَّ وحَذْفُهُ أحْسَنُ من ذِكْره".
وأعالج شرح "إيجاز الحذف" من خلال ثلاثة مباحث مع الأمثلة.
المبحث الأول: فوائد الحذف.
المبحث الثاني: شروط الحذف.
المبحث الثالث: أنواع الحذف.
وفيما يلي التفصيل والشرح.
أوّلاً - فوائد الحذف:
ذكر الباحثون في هذا المجال إحدى عشرة فائدة أجْمَعُها في "تِسْع" إذا تحققت واحدة منها فأكثر دون الإِساءة إلى المعنى المراد فالحذف بشروطه عمل بليغ، ومسلك في الكلام رشيد.
الفائدة الأولى: الاختصار اقتصاداً في التعبير، واحترازاً عن البعث، عند تحقُّق المطلوب بظهور المعنى المراد لدى المتلَقِّي، ككَوْن المذكور لا يصلُح إلاَّ للمحذوف، ومنه حذف المبتدأ إذا كان الخبر من الصفات التي لا تصلُحُ إلاَّ لله عزّ وجلّ، وككْون المحذوف حتى يكون ذكره وحذفه سواء.
الفائدة الثانية: التَّنْبيهُ على أنّ الوقت مع الحدث لا يتسع للتصريح بالمحذوف من اللفظ، أو أنّ الاشتغال بالتصريح به يُفضي إلى تفويت أمْرٍ مُهِمّ، وتظهر هذه الفائدة كثيراً في باب "التحذير والإِغراء" ومنه ما في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الشمس/ 91 مصحف/ 26 نزول) المشتمل على قول صالح عليه السلام لقومه:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}.
فحذَّرَّهُمْ أن يَمَسُّوا نَاقَةَ الله، فحذَف فِعْلَ التحذير فقال: "نَاقةَ الله" والتقدير: ذَرُوا نَاقَةَ الله.
وأغراهم بأن يحافظوا على شروط سُقْيَاها، فحذف فِعْلَ الإِغراء فقال: "وسُقْيَاها" والتقدير: الزموا سقياها، أو الزموا شروط سقياها.
الفائدة الثالثة: التفخيم والتعظيم، أو التهويل ونحو ذلك، بسبب ما يُحْدِثُه الحذف في نفس المتلقّي من الإِبهام الذي قد يجعل نَفْسَه تقدّر ما شاءت دون حدود، ويَحْسُنُ مثل هذا الحذف في المواضع التي يُراد بها التعجيب والتهويل وأن تذهب النفس في تقدير المحذوف كلَّ مذهب.
كحذف جواب الشرط في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الزمر/ 39 مصحف/ 59 نزول):
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}.
وتقدير الجواب: لَرَأَوْا شيئاً عظيماً جدّاً تعجز عباراتهم عن وصفه.
وكحذف جواب الشرط أيضاً في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
أي: ولو تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ لَرَأَيْتَ مَا هُمْ فيه من الرُّعْبِ وَالكَرْبِ والْحَسْرَةِ والنَّدَمِ شيئاً لا تستطيع وصفه بالعبارة.
الفائدة الرابعة: التخفيف على النُّطْق لكثرة دَوَرَانه في الكلام على الألسنة.
وهذه الفائدة تظهر في حذف أداة النداء، وحذف النون من فعل "يكُن" المجزوم، وحذف ياء المتكلم، وحذف مثل ياء "يَسْرِي" كما قال تعالى: {واللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} وحذف آخر المرخّم في النداء، ونحو ذلك.
الفائدة الخامسة: صيانة المحذوف عن الذكر تشريفاً له.
الفائدة السادسة: صيانة اللّسان عن ذكره فيحذَفُ تحقيراً له وامتهاناً.
الفائدة السابعة: إرادة العموم، مثل قولنا في الفاتحة خطاباً لربِّنا: {وَإيَّاكَ نَسْتَعين} أي: في أمور دنيانا وأُمور أخرانا.
الفائدة الثامنة: مراعاة التَّناظُر في الفاصلة، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الضُّحى/ 93 مصحف/11 نزول):
{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}.
أي: وما قَلاَكَ.
الفائدة التاسعة: إرادة تحريك النَّفْس وشَغْلِهَا بالإِبهام الذي يتبعه البيان، حتى يكون البيان أوقع وأثبت في النفس.
مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول):
{...وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.
أي: ولو شاء هدايتكُمْ لسلبكُمُ الاختيار ولجعلكم مجبورين، وإذن لهداكم أجمعين.
قالوا: إنّ مفعول المشيئة والإِرادة بعد الشرط لا يذكر غالباً إلاَّ إذا كان غريباً أو عظيماً.
ثانياً - شروط الحذف:
ذكروا شروطاً سبعة لجواز الحذف، منها ما هو بلاغيّ، ومنها ما يدور في فَلَكِ الصناعة النحويّة، ولكِنْ لم يتّضِحْ لي منها بلاغيّاً غير شرطين:
الشرط الأول: أنْ لا يُؤَدّيَ الحذْفُ إلى الجهل بالمقصود، فَيُشْتَرطُ أنْ يُوجَدَ دليلٌ يدلُّ علَى المحذوف، وقد يُعَبَّرُ عنه بالقرائن الدالة.
الشرط الثاني: أنْ لا يَكُونَ المحذوف مُؤكِّداً للمذكُور، إذْ الحذْفُ منافٍ للتأكيد.
والدليل الدّالُّ على المحذوف:
(1) إمَّا أنْ يكون من قرائن المقال الموجودةِ في السِّبَاق أَوْ في السِّيَاق.
(2) وإمَّ أن يكون من قرائن الحال.
(3) وإمّا أن يكون من المفاهيم الفكرية والاقتضاءات العقليَّة، واللّوازم الذهنيّة.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول) في عرض لقطة من أحداث يوم الدّين:
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً...} [الآية:30].
أي: قالوا: أنْزَلَ رَبُّنَا خَيْراً. إنّ إجابتهم تقتصر على ذكر المفعول به فقط، وهو لفظُ "خيراً" وقد دلَّت قرينة المقال في سباقه على المحذوف.
المثال الثاني:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (الذاريات/ 51 مصحف/ 67 نزول):
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}.
هؤلاء الضيوف كانوا الملائكة الذين بشّروه بغلام عليم من زوجته "سارَة" وأخْبَرُوهُ بأنَّهُمْ ذاهبون لإِهلاك قَوْم لوط.
وقد جرى في تحيّتهم له حذف، وفي رَدّ إبراهيم عليهم حذف أيضاً ودَلَّ على المحذوف قرينة الحال، وتقدير الكلام إذا رَدَدْنا المحذوفات كما يلي:
قالوا: نُسَلِّمُ عليك سَلاَماً.
قال: سَلامٌ عليكم أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُون.
وداعي الحذف هنا الإِيجاز والتخفيف لكثرة دوران مثل هذا الاستعمال على الألسنة.
المثال الثالث:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول):
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ...} [الآية:1].
وقوله في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول):
{وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}.
إنّ العقودَ والْعُهُودَ التزاماتٌ بالقول يُنْشِئُها المتعاقدون والمتعاهدون، وترتبط ذه الالتزامات الإِنشائية بإبرامها بالقول، فكيف يُطالِبُ اللَّهُ عزّ وجلّ بالْوَفاء بها وقد استوفَتْ شروط إبرامها؟.
الدّليل العقلي يَهْدِي إلى أنّ المطلوبَ الْوَفَاءُ بمقتضاها، لأنّ العقود والعهود تُبْرَمُ بالأَقوال ثم على مَنْ أبْرَمَها أن يلتزم بمقتضاها.
فالكلام إذن على تقدير: أوفُوا بمقْتَضَى العقود، وأوفوا بمقتَضَى العهد. والدليل الذي دلّ على المحذوف الاقتضاء العقلي.
المثال الرابع:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول):
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً...} [الآية:10].
في هذه العبارة محاذيف يدلُّ عليها النظر الفكري والتأمل، إذ المعنى: من كان يريد العزَّة فلّيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، ولْيَطْلُبْهَا مِنْهُ، ولْيَسْلُكْ سَبيل الوصول إليها عن طريق مرضاته، فَلِلَّهِ الْعِزَّة جميعاً.
إنّ جواب الشرط "مَنْ كان يُريدُ العزّة" الذي جاء بصيغة "فلِلَّهِ العزَّةُ جَمِيعاً" يسلتزم عقلاً التوجيه لطَلَبِها عند من يَمْلِكُها، ولمَّا كانَتِ العزَّةُ كلُّها للَّهِ عزَّ وجلّ فَعَلى مَنْ يُريدُها أنْ يَطْلُبَها منه، وطَلَبُها إِنَّما يكون بالإِيمان به، والإِسلام له، وسلوك السبيل التي ارتضاها لعباده، والعمل بمراضيه، وسؤاله النصر والتأييد، والاستعانة به، وذِكْرِهِ كثيراً.
فالدليل الدالُّ على المحذوف هنا فكريٌّ عقلي.
المثال الخامس:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ...} [الآية:160].
أي: فَضَرَب مُوسَى بِعَصَاهُ الْحَجَر فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة عَيْناً.
انْبَجَسَتْ: أي: انْفَجَرَتْ.
قَالُوا: الفاء في [فَانْبَجَسَتْ] هي الفاء الفصيحة، إذْ أفْصَحَتْ عن محذوفات في النّص.
أقول: الذي دَلَّ على هذه المحذوفات دليلُ النظر الفكري، والتأمُّل في اللّوازم الذهنيَّة التي تَرْبِط بين الأمْرِ بأن يضرب بعصاه الحجر، وبين حدوث ظاهرةِ تفجُّرِ الْحَجَرِ بالماء، والفاء لم تدلُّ إلاَّ على الترتيب مع التعقيب.
ثالثاً - أنواع الحذف:
ذكروا أنّ الحذف ينقسم إلى خمسة أقسام.
القسم الأول: الاقتطاع.
القسم الثاني: الاكتفاء.
القسم الثالث: التضمين.
القسم الرابع: الاحتباك.
القسم الخامس: الاختزال.
وفيما يلي الشرح مع الأمثلة:
شرح القسم الأول: الاقتطاع:
الاقتطاع: هو حذف بعض حروف الكلمة أو ما هو بمثابة الكلمة الواحدة، تخفيفاً على مخارج الحروف، أو لداعي السرعة، أو لأجل القافية في الشعر، أو الفاصلة في النثر، أو التجبُّبِ في النداء، أو نحو ذلك من دواعي بلاغية.
* فمنه حذف نون فعل "يكون" المجزوم، كما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (القيامة/ 75 مصحف/ 31 نزول):
{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى}.
الأصل: "ألَمْ يَكُنْ" فَحُذِفَت النُّونُ تخفيفاً، وربّما لأغراضٍ أخرى تتصل بأعداد الحروف، أو لغير ذلك.
*ومنه حذف إحدى التاءَيْن المتوالِيَتَيْن في الفعل الوارد على وزن "تَتَفعل" كما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):
{ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
تَذَكَّرُون: أصلُها تَتَذكَّرون، فَحُذِفْت إحدى التّاءَيْن تخفيفاً.
وكما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (عَبَسَ/ 80 مصحف/ 24 نزول) خطاباً لرسوله:
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى}.
تَصَدَّى: أصلُها تتصدَّى، فحذفت إحدى التّاءَيْن تخفيفاً.
* ومنه حذف التاء من استطاع على غير قياس، كما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) حكاية لما قال الخضر لموسَى عليهما السلام:
{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً}.
بعد أن قال له قبل هذا:
{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً}.
ولعلّه أشار أخيراً بفعل "تَسْطعْ" إلى طبيعة موسى عليه السلام التي تقلُّ فيها استطاعة الصبر، فناسبها تقليل حروف الكلمة.
* ومنه الترخيم في النداء، كما جاء في قول امرئ القيس:
*أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هَذا التَّدَلُّلِ * وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلي*
أي: أَفَاطِمَةُ.
* ومنه حذف آخر الكلمة لمراعاة التناسب في الفواصل، كما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (الفجر/ 89 مصحف/ 10 نزول):
{وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}.
يَسْرِ: أصْلُها يَسْرِي، فَحُذِفَ آخر حرف فيها لمراعاة الفاصلة.
وكذلك قوله تعالى فيها:
{وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذي الأَوْتَادِ}.
بِالْوَادِ: أصْلُها "بالوادي" فَحُذِفَتِ الياء لمراعاة الفاصلة.
* ومنه حذف ياء المتكلم، كما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول):
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}.
ونُذُرِ: أي: ونُذُرِي، فَحُذِفَتْ ياء المتكلم لمراعاة التناظر في الفواصل.
إلى غير ذلك.
شرح القسم الثاني: الاكتفاء:
الاكتفاء: هو أن يقتضي المقام ذِكْرَ شيئَيْنِ بَيْنَهُمَا تَلازُمٌ وارتباط، فَيُكْتَفي بأَحَدِهما عن الآخر لنكتةٍ بلاغيّة.
ويختصُّ غالباً بالارتباط العاطفي.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول):
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}.
ففي قوله تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} إيجازٌ بالحذف، على سبيل الاكتفاء، إذِ التَّقْدير: تقيكُمُ الْحَرَّ والْبَرْدَ.
قالوا: وخُصَّ الحرُّ بالذكْرِ لأَنَّ المخاطَبين الأَوَّلِينَ كانوا عَرباً، وبلادُهُمْ حارَّة، والوقاية من الحرّ هي الأهم لدى معظمهم.
أقول: إنَّ من أساليب القرآن تَجْزِئَةَ العناصر الفكريّة على النصوص، وقد جاء فيه الامتنان بالدفء في قوله تعالى في سورة (النحل) أيضاً:
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}.
فتكامل النصّان في الدَّلاَلة على الوقاية من الحرّ والبرد.
المثال الثاني:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
أي: وله ما سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ في اللّيلِ والنّهار، لأنّ كلّ ساكنٍ في الوجود هو ذُو حَركة ما، فالأمران مُتَلازمان فحصل الاكتفاء بأحدهما عن الآخر.
شرح القسم الثالث: التضمين:
التّضمين: هو تضمين كلمة معنى كلمة أُخْرى، وجَعْلُ الكلام بعدها مَبْنيّاً على الكلمة غير المذكورة، كالتعدية بالحرف المناسب لمعناها، فتكون الجملة بهذا التضمين بقوّة جملتين، دلَّ على إحداهما الكلمة المذكورة التي حُذِف ما يَتَعلَّقُ بها، ويُقَدَّرُ معناه ذهْناً، ودَلَّ على الأَخْرَى الكلمةُ التي جاءتْ بعدها المتعلّقةُ بالكلمةِ المحذوفةِ الْمُلاحَظِ مَعْنَاها ذهْناً.
وهذا التضمين فَنٌّ رَفيعٌ من فنون الإِيجاز في البيان، وهو لا يخضع لقواعد الاستعمالات العربيّة الجامدة التقليديّة، الّتي قد يتقيَّد بها النحاة، بل هو لَمْحٌ ابتكاريٌّ يُلاحظه البَلِيغُ، إذْ يَرى فِعْلَيْنِ مُتَقَاربَيْنِ، أَوْ نَحْوَهُما، وهو يريد استعمالَ كلٍّ منهما في كلامه، وهذا يقتضي منه أن يصوغَهُما في جُمْلَتين، وَيُعْطِيَ كُلاًّ مِنْهُما تعديَتهُ التي تلائمه، لكنَّهُ يرَى ما هو أبْدَعُ من ذلك وأخْصَرُ، وأرفع أسلوباً في أداء بيانيٍّ جميلً، يُحَرِّكُ ذهنَ المتلَقِّي لفهمه، ويُعْجب لمَّاحي الذَّكَاء من البلغاء، وهو أن يختار أحدَ الفعلَيْنِ بفنّيّةٍ، فيذْكُرَهُ بلفْظِه، ثمّ يأتي بما يتعدّى إليه الفعلُ الآخر، أو يَعْمَلُ فيه، فَيَذْكُرُه، ويَحْذِفُ مَعْمُولَ الفِعْل الّذِى ذكّرَهُ، إذا كان له معمول، سواءٌ أكان مفعولاً به، أمْ غير ذلك، ويَسْتَغْنِي بذكر جُملَةٍ واحدةٍ عن جملتين.
ولدى تَحْلِيل التضمين يظهر لنا أنّه صنف من أصناف الحذفِ الّذِي يُتْرَكُ في اللَّفظ ما يَدُلُّ عليه.
فالفعلُ المذكور يَدُلُّ بحسب تَعْدِيَتِهِ العربيَّةِ على معموله المحذوف، والمعمول المذكور مع قرائن النصّ يدُلُّ على عامِلِه المحذوف، ويَنْتُجُ عن ذلك أداءٌ مُوجَزٌ بليغ، اعتمد على أسلوبٍ بيانِيٍّ ذكيّ.
ولا بُدّ أن نُدْرِك أنَّ مثل هذا الإِجراء البيانيّ لا يستقيم بين كلِّ فعلَيْنِ أو ما يَعْمَلُ عمَلَهُما، حتَّى يُطَبَّقَ بغباء، سواءٌ استقام الاداءُ البيانيّ أمْ لم يستَقِم، بل يحتاج من البليغ رؤيَةً فَنّيَّةً بَيَانيَّة، يَصِلُ بها إلَى أنَّهُ لو استخدم هذا الأسلوب في جُمْلَتِه لأدركه الْبُلَغَاءُ والأَذكياء، دون إعنات ذهْنِيّ، ويُدْرِكُه الآخَرُون بالتَّدَبُّر والتأمُّل.
فمثلاً: أُرِيدُ أنْ أقولَ: جَلَسْتُ عَلى فِراشي، وأَمَلْتُ جِسْمِيَ إلى مُتَّكَئِي، فأخْتَصرُ الكلام فأقُولُ: جَلَسْتُ إلى مُتَّكَئِي.
ومثل هذا الإِيجاز القائم على الحذف والإِيصال، أُسْلوبٌ ينهجُه بُلَغاءُ الْعَرب، وتقدير الكلام: جَلَسْتُ مائلاً إلى مُتَّكَئِي.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِنسان/ 76 مصحف/ 98 نزول):
{إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً}.
إنّ فعل: "يَشْرَبُ" يُعَدَّى لغةً بحرف "مِنْ" لكنّه جاء في النّصّ هنا متعدّياً بحرف "الباء" فَلِماذا؟
بالتأمُّل يظهر لنا أنّ فِعْلَ "يشرب" ضُمِّنَ معنَى فِعْلِ: "يتلَذّذ" أو "يَرْتَوِي" الذي يُعَدَّى بحرف "الباء" فَعُدّي تعديته، والتقدير: عيناً يَشْرَبُ منها مُتَلذّذاً بها عبادُ الله، فأغنى "يَشْرَبُ بها" عن عبارة: يشربُ منها ويتلّذذ بما يشرب عباد الله.
الفعلُ المذكور دلَّ على معناه بصريح العبارة، وحرف الجرّ "الباء" دلَّ على الفعل المحذوف الذي ضُمِّنَ الْفِعْلُ المذكور معناه، فأغنت جُمْلةٌ عن جُمْلَتَيْن، وعبارةٌ عن عبارتين، وهذا من روائع الإِيجار في القرآن المجيد.
المثال الثاني:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ....} [الآية:187].
كَلِمَةُ "الرَّفَثِ" مَصْدَرُ "رَفِثَ يَرْفَثُ رَفَثاً" أي: صَرَّحَ بكلامٍ يتعلَّقَ بالجماعِ ومُقدّماته، أو فعَلَ ما يتَّصِل بذلك.
وأصل الرفَث لا يَتَعدَّى لغة بحرف "إلَى" لكنّه ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلِ "أَفْضَى" فَعُدِّيَ تعديتَه، يُقَالَ: أَفْضَى إلى زوجته، أي: أزال ما بَيْنهما من الفضاء فالتصقَ بها، وهو كناية عن الجماع.
وتقدير الكلام: أُحِلّ لَكُمْ ليلةَ الصّيام الرَّفَثُ بالحديث مع نسائكم مُقَدِّمَةً مُنَاسِبَةً يكونُ بَعْدَها الإِفضاء إليّهن وجماعُهُنَّ، والله بهذا يُعَلِّم الأزواج أدب المعاشرة باستخدام المقدمات قبل الإِفضاء والمعاشرة الزوجيّة.
المثال الثالث:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النازعات/ 79 مصحف/ 81 نزول):
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}.
هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى؟: عبارة: "هَلْ لَكَ" وخبَرٌ مقدَّم والمبتدأ محذوف تقديره: "هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ" وكلمةُ "رغْبَة" تُعَدَّى بحرفِ "في" لا بحرف "إلَى" لكن ضُمّنَت معنى فعل "أدعو" فَعُدّيَتْ تَعْدِيته، والتقدير: هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ في أن أَدْعُوَك إلَى أن تَزَكَّى؟
المثال الرابع:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشورى/ 42 مصحف/ 62 نزول):
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}.
إنّ فعل "يَقْبَلُ" يتعدَّى لغة بحرف "من" فيقال: قَبِل الله منه توبته.
ولكنْ عُدّيَ هنا بحرف "عَنْ" لأنَّه ضُمِّنَ معنى فِعْلِ "عَفَا" أو "صَفَحَ" فَعُدِّي تعديته، والتقدير: وهو الذي يَقْبَلُ التوبَةَ من عباده إذْ يَعْفُو ويَصْفَحُ عنهم.
المثال الخامس:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) بشأن منافقي العرب:
{وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
إنَّ فعل "خَلاَ" يأتي في اللّغة للدّلالة على معنَى انفراد الإِنسان في خَلْوَة، لا يكون معه فيها أحَدٌ، فيقولون: خلا الرجل، ورُبَّما قالُوا: خلا بنَفْسِه، فإذا أرادوا بيان أنّ الخلوة حصلَتْ مَعَ فريقٍ آخر قالوا: خَلاَ به، أو خلا معه، ولاَ يُعَدَّى فِعْلُ "خَلا" بحرف "إلى" بحسب أصل الاستعمال.
فكيف نُفَسِّر هذه التعدية؟
أقول: إنَّ فعل "خلا" ضُمّن معنى فعل "رجَعَ" فَعُدِّي تَعْدِيته، والتقدير: وإذا خَلَوْا راجِعينَ إلى شياطينهم قالوا لهم: إنّا معكم إنَّما نَحْنُ مستهزئون بالمؤمنين.
المثال السادس:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (ص/ 38 مصحف/ 38 نزول) في حكاية فتوى داود عليه السلام للفريقين الّذَيْنِ تَسَوَّروا عليه المحراب:
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ...} [الآية:24].
إنّ كلمة "سُؤَال" لا تُعَدَّى بحرف "إلَى" ولكنّها ضُمّنَت معنى الجمْع والضّمّ فعدّيَتْ بحرْفِ "إلى" والتقدير: لقد ظلمك بسؤال نَعْجَتِكَ ضامّاً إيَّاها إلى نعاجه.
قال ابن تيمية.
"والعرب تُضمّن الفعل معنى الفعل، وتُعَدِّيه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، كما يقولون في قوله: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} أي: مع نعاجه و {وَمَنْ أَنْصَارِي إلَى الله} أي: مع الله، ونحو ذلك.
والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين، فسؤال النعجة يتضمّن جمعها وضَمَّها إلى نعاجه، وكذلك قوله: {وَإِنْ كادوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ضُمِّنَ مَعْنَى "يُزِيغُونك" و "يَصُدُّونَكَ" وكذلك قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} ضُمّنَ معنى "نَجَّيْنَاه" و "خَلَّصْنَاهُ" وَكَذَلِكَ قوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبادُ الله} ضُمِّنَ "يَرْوَى بها" ونظائره كثيرة.
المثال السابع:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول):
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}.
اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ: أي: تَثَاقَلْتُمْ مائِلينَ أَوْ مُخلِدين إلى الأرض، فعُدِّيت كلمة "اثَّاقَلْتُم" بحرف "إلى" لأنها ضُمّنَت معْنَى كلمة "أخلد" أو "مَالَ".
انظر طائفة من الأمثلة الأخرى في كتابي "قواعد التدبّر الأمثل لكتاب الله عزَّ وجلَّ".
شرح القسم الرابع: الاحتباك:
الاحتباك: هو أن يُحْذَفَ من الأوائل ما جاء نظيره أو مقابلة في الأواخر، ويُحْذَفَ من الأواخر ما جاء نظيره أو مقابلة في الأوائل.
ومأخذ هذه التسمية من الْحَبْك، وهو الشدّ والإِحكام، وتحسين أثر الصنعة في الثوب، فَحَبْكُ الثوب هو سَدُّ ما بين خيوطه من الْفُرَج وشَدُّهُ وإحكامه إحكاماً يمنع عنه الْخَلَل، مع الْحُسْنِ والرونق. وبيان أخذ هذه التسمية من حَبْكِ الثوب أنّ مواضع الحذف من الكلام شُبِّهَتْ بالْفُرَجِ بين الخيوط، فلمّا أدْركها المتدبر البصير بصياغة الكلام، الماهر بإحكام روابطه، وأدْرك مقابلاتها، تنبّه إلى ملء الفُرَج بأمثال مقابلاتها، كما يفعل الحائل حينما يُجْري حبكاً مُحْكماً في الثوب الذي ينسجه.
يقال لغة: حبَكَ الثوبَ، وحَبّكَه، واحْتَبَكَهُ إذا أجاد نسجه وأتقنه، وحَبكَ الحبْلَ، إذا شدَّ فتله. وحبَكَ الثوب، إذا ثنَى طرفَه وخاطه.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول):
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}.
نُلاحظ في هذه الآية حَذْفاً مِنَ الأَوَائل لدلالة ما في الأواخر، وحذْفاً من الأواخِرِ لِدَلاَلَةِ مَا فِي الأوائل، وهذا من بدائع القرآن وإيجازه الرائع.
إنّ إبراز المحاذيف يتطلّب منا أن نقول:
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ} مُؤْمِنَةٌ {تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ} فئة {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} تُقَاتِلُ فِي سبيل الطّاغوت {يَرَوْنَهُمْ...} إلى آخره.
فتحقّق "الاحتباك" بدلالة ما في الأوائل على المحذوف من الأواخر، ودلالة ما في الأواخر على المحذوف من الأوائل.
المثال الثاني:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول):
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
قالوا: أي: خَلَطُوا عَمَلاً صَالحاً بِسَيِّئٍ وعملاً آخَرَ سيّئاً بصالح.
أقول: مثل هذا التقدير ليس أمراً لازماً في هذا الشاهد، بل الأولى - فيما أَرَى - فهمُهُ على الوجه التالي:
{وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا} أي: جَمَعُوا جمعاً مختلطاً أَعَمْالاً مختلفة "عملاً صالحاً وآخر سَيّئاً".
والمعنى أنّهم يعملون عملاً صالحاً، ويعملون بعده عملاً سيّئاً، وهكذا دواليك، فهذا المعنى التتابعي الذي يجمع في صحائفهم خليطاً غير متجانس لا يؤدّيه تقدير: خلطوا عملاً صالحاً بسيِّئ وعملاً آخر سيّئاً بصالح.
المثال الثالث:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) حكاية لَما خاطب به موسى عليه السلام عند تكليمه:
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ...} [الآية:12].
التقدير: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} تَدْخُلْ غَيْرَ بيضاء. وأَخْرِجْهَا {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}.
فدلَّ لفظ "بيضاء" في الأواخر على عبارة "غير بيضاء" المحذوفة من الأوائل، ودلَّتْ عبارة "وَأَدْخِلْ" في الأوائل على عبارة "وأخرجها" المحذوفة من الأواخر، فتمّ الاحتباك.
شرح القسم الخامس: الاختزال:
الاختزال: هو كلُّ حذف في الكلام لا يدخل في واحد من الأقسام الأربعة السابقة "الاقتطاع - الاكتفاء - التضمين - الاحتباك".
وقد تتبّع البلاغيون والنحويّون والمفسّرون هذا الحذف المسمّى بالاختزال فوجدوا أنَّهُ يَشْمَلُ حذف الاسم، والفعل، والحرف، وحذف جملةٍ، أو عدّةِ جملٍ، وحذفَ كلام طويل في قصّةٍ ذات أحداث كثيرة.
وتتبعوا الأمثلة بالتفصيل فوجدوا أمثلةً من كلّ ما يلي:
(1) حذف المضاف، وهو كثير جدّاً في القرآن، حتّى عَدَّ "ابن جنّي" منه زُهاءَ ألف موضع.
(2) حذف المضاف إليه.
(3) حذف المبتدأ.
(4) حذف الخبر.
(5) حذف الموصوف.
(6) حذف الصفة.
(7) حذف المعطوف عليه.
(8) حذف المعطوف مع العاطف.
(9) حذف المبدَلِ منه.
(10) حذف الفاعل.
(11) حذف المفعول به.
(12) حذف الحال.
(13) حذف المنَادى.
(14) حذف العائد.
(15) حذف الموصول.
(16) حذف الفعل.
(17) حذف الحرف.
(18) حذف أكثر من كلمة، وقد تَبْلغ جملاً كثيرة، وأحداثاً طويلةً من قصة.
وإذْ يطول بي هنا ذكر الأمثلة مع شرحها وتحليلها، فإني اقتصر الآن على طائفة يسيرة منها، وأُحِيلُ القارئ على ما فَصَّلْتُ في القاعدة الرابعة عشرة، من كتابي: "قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله عزَّ وجلَّ" وعلى كتاب "الإِشارة إلى الإِيجاز في بعض أنواع المجاز" للشيخ "عزّ الدين بن عبد السلام" وعلى ما جاء في كتاب "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام، في الباب الخامس منه، فقد فصل في أواخره القول في الحذف.
أقول: إنّ المهمّ في الدراسة البلاغيّة لظاهرة "الحذف" اكتشاف الداعي البلاغي له في الكلام، والتنبيهُ عليه.
أمثلة:
(1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول):
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ...} [الآية:3].
أي: حُرِّمَ عليكم أَكْلُ هذِهِ المذكورات، وهذا من حذف الاسم المضاف.
(2) وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الروم/ 30 مصحف/ 84 نزول) بشأن الروم إذْ غُلِبوا من قبل الفرس وبيان أنهم سَيَغْلِبُون:
{لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ...} [الآية:4].
أي: للَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلِ الْغَلَبِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَلَبِ، وهذا من حذف المضاف إليه.
(3) وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الكهف/ 18 مصحف/ 69 نزول) في حكاية بيان الخضر لموسى عليهما السلام أسباب أعماله التي استنكرها:
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}.
أي يأخُذُ كُلَّ سفينةٍ غَيْرِ مَعِيبَةِ غَصْباً، بدليل قوله: فأرَدْتُ أنْ أعيبها. وهذا من حذف الصفة.
وهكذا....
الفصل الرابع: الإِطناب
التعريف
الإِطناب في اللُّغة: يدور حول معنى الإِطالة والإِكثار والطول والكثرة والزيادة عن المعتاد.
يقال لغة: أطْنَبَ النهرُ إذا طال مجراه. وأطنبت الرّيحُ إذا اشتدت مثيرةً غباراً. وأطنبتِ الدّواب، إذا تَبِعَ بعضُها في السّير وطالَ تتابُعُها. وأطْنَب الْعَدَّاء في عَدْوه، إذا بالَغَ فيه وابتعد.
ويقال أيضاً: أطنب الرجل في الكلام أو الوصف أو الأمر، إذا بالَغَ وأكثر وزاد في ذلك.
الإِطناب في اصطلاح البلاغيين: كوْنُ الكلام زائداً عمّا يُمْكن أنْ يُؤَدَّى به من المعاني في معتاد الفصحاء، لفائدة تُقْصَد.
ويقال للمتحدِّث بالكلام الذي فيه إطناب: أطنب في كلامه فهو مُطْنِب.
واحْتُرِز بقيد: "لفائدة تُقْصَدُ" لإِخراج الزيادة في الكلام دون فائدة تُقْصَد لدى البلغاء، وقد يطلق على هذه الزيادة لفظ "الإِسهاب". والزيادةُ في الكلام بلا فائدة تُقْصَد تكون - كما سبق به البيان في الفصل الأوّل من هذه الباب - بالتطويل: كذكر المترادفين، أو بالحشو، وكلاهما أمران مَعِيبان، وأضيف هنا أنّ الحشو قد يكون حشواً غير مفسد للمعنى، فهو كالتطويل، وقد يكون مفسداً للمعنى وهو حينئذٍ حشوٌ ساقط، وضربوا مثلاً للحشو الساقط بقول المتنبي يتحدّث عن الحياة الدنيا:
*وَلاَ فَضْلَ فِيها للشَّجَاعَةِ والنّدَى * وصَبْرِ الْفَتَى لَولاَ لِقَاءُ شَعُوبِ*
شَعُوب: اسم علَمٌ على المنيّة.
قالوا: جاءت عبارة "والنّدى" حشْواً مفسداً للمعنى، وذلك لأنَّ الإِنسان إذا أَمِنَ من ملاقاة الموت زاد تعلّقه بالمال، إذْ تعظُم حاجته إليه بدوام الحياة، فلا يكون لديه جُودٌ به، وعندئذٍ يظهر فَضْلُ النَّدَى أي: الجود، بخلاف مترقّب الموت فإنّه يكثر جوده. أمّا الشجاعة فعلَى عكس الندى، لولا توقُّع ملاقاة الموت بها، ولولا الخوف منه، لما تفاضل الناس بها.
ولم يتعرّض العكبري لهذا النَّقْد، بل شرح كلام المتنبي دُونَ تعقيب.
أما الحشو غير المفسد فمنه قول أبي العيال الهذلي:
*ذَكَرْتُ أخِي فَعَاوَدَنِي * صُدَاعُ الرأْسِ والْوَصَبُ*
فجاء ذكر الرأس حشواً غير مفسد، لأنّ الصداع لا يكونُ إلاَّ في الرأس.
وقول أبي عديّ:
*نَحْنُ الرّؤوسُ وَمَا الرُّؤُوس إِذَا سَمَتْ * في الْمَجْدِ لِلأَقْوَامِ كَالأَذْنَابِ*
فجاء ذكر "للأقوام" حشواً غير مفسد، وهكذا.
(2)
تقسم الإِطناب
ينقسم الإِطناب إلى قسمين: إطناب بالبسط، وإطناب بالزيادة:
أمّا القسم الأول: وهو "الإِطناب بالْبَسْط" فيكون بتكثير الجمل وبسط المعاني، واستعمالِ كلامٍ طويل يُغْنِي عنه كَلامٌ قصير، دون أنْ تكون فيه ألفاظ زائدة.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
في هذه الآية إطنابٌ بالبسط، لتوجيه الأنظار لآيات كونيَّة دالاَّتٍ على طائفةٍ من صفات الله عزّ وجلّ، منها شمول علمه، وعظيم قدرته، وكمالُ إرادته، وجليلُ حكمته وإتقانه وإبداعه لمخلوقاته، وعنايته بعباده.
وهذا البسط آتٍ من ذكر طائفة مفصّلة من آياته في كونه، كلُّ واحدة منها تدلُّ على كلٍّ هذه الصفات، فذكرها هو من البسط في إقامة الأدلّة دون زيادةٍ في الألفاظ لدى ذكر كلّ آية منها.
والآيات هي الآيات السبع التاليات:
الأولى: ظاهرة خلق السماوات والأرض.
الثانية: ظاهرة اختلاف اللَّيل والنهار.
الثالثة: ظاهرة الْفُلْكِ التي تجري في الْبَحْر بما يَنْفَعُ النّاس.
الرابعة: ظاهرة الماء الذي يُنْزله الله من السماء فَيُحْيِي به الأرض بعد موتها.
الخامسة: ما بَثَّ اللَّهُ في الأرض مِنْ كلّ دابَّةٍ تَدِبُّ عليها.
السادسة: تَصْرِيفُ الرِّياح بتدبير أَمْرِها وتوجيهها لتحقيق أُمُورٍ جليلة في الكون.
السابعة: تسخير السحاب بين السماء والأرْض.
المثال الثاني:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول):
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ...} [الآية:7].
إنّ عبارة {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} وَصْفاً للملائكةِ الذين يَحْمِلُون العرش، وللملائكة الذينَ من حول العرش من الإِطناب بالبسط، وذلك لأنَّ إيمانهم معلوم من نصوص سابقة التنزيل، ومن كونهم يُسبّحون بحَمْدِ رَبِّهم.
والغرض البلاغيّ من هذا الإِطناب إظهار شرف الإِيمان، والترغيبُ فيه، والإِشارة إلى أنّ تسبيحهم بحمد ربِّهم ثمرةٌ من ثمراتِ إيمانهم، وليس تسبيحاً جَبْرِياً كتسبيح السماوات والأرض والشجر والجماد، إذن فهم يملكون جهازاً يُفَكّر، وجهازاً يؤمن بالإِرادة.
المثال الثالث:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
في هذه الآية إطنابٌ بالبسط، فالْغَرضُ بَيَانُ مُضَاعَفَةِ أجْرِ المنفق في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف فما فوق ذلك، وهذا المعنى يُؤَدَّى بعبارة قصيرة، لكِنْ جاء في الآية مبْسُوطاً، وطريقُ البسط تمثيلُ المنفق لحبَّةٍ واحدةٍ في سبيل الله بزارعِ حبَّةٍ أنبتَتْ سبْعَ سنابلٍ في كلِّ سُنْبُلَةٍ مئَةُ حبَّةٍ.
والغرضُ من هذا الْبَسْطِ إثارةُ مِحْور الطّمع في المخاطبين إذْ يُعْرَضُ لهم الأَجْرُ الموعودُ به على الإِنفاق في سبيل الله في صورة مثالٍ يَشْهَدون نظائره في الظواهر الزراعيّة، ليكون هذا الطمع محرّضاً ذاتيّاً في الأنفس على بَذْلِ الأموال في سبيل الله.
المثال الرابع:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (فُصّلت/ 41 مصحف/ 61 نزول):
{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}.
إنّ عبارة {الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} من الإِطناب، لأنّ المشركين لا يُزَكُّونَ.
والداعي لهذا الإِطناب حثُّ المؤمنين على أداء الزكاة، وتحذيرهم من المنع إذْ أبان الله أنَّهُ من صفات المشركين، وفيه دلالة على أنَّ من آثار الشرك جَفَافَ الرحمة على ذوي الحاجات، فهم لا يشعرون بمشاعر ذوي الحاجات، بخلاف المؤمنين بالله واليوم الآخر، إذ الإِيمان يولّد في قلوبهم خلق الرحمة، وعاطفة حبّ العطاء ومساعدة ذوي الحاجات.
وأمّا القسم الثاني: وهو "الإِطناب بالزيادة" فيكون بزيادةٍ في الألفاظ على أصل المعنى الذي يُرادُ بيانه لتحقيق فائدةٍ ما.
فمنه قول الله عزّ وجلّ في سورة (القدر/ 97 مصحف/ 25 نزول):
{تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}.
إنّ عبارَة: {والرُّوح} وهو جبريل عليه السلام من الإِطناب بالزيادة، لأنّ جبريل داخلٌ في عموم الملائكة، ولكنّها زيادة ذاتُ فائدة، إذ الغرضُ من تخصيصه بالذكر بعد دخوله في عموم الملائكة الإِشعارُ بتكريمِهِ وتعظيمِ شأنه، حتَّى كأنَّهُ جنْسٌ خاصٌّ يُعْطَفُ على الملائكة.
* ومنه قول الشاعر "الحسين بن مطير" من الشعراء الذين عاصروا الدولتين الأموية والعبّاسية، يَرْثي "مَعْنَ بْنَ زائدة":
*فَيَا قَبْرَ مَعْنٍ أَنْتَ أَوَّلُ حُفْرَةٍ * مِنَ الأَرْضِ خُطَّتْ للسَّمَاحَةِ مَوْضِعاً*
*وَيَا قَبْرَ مَعْنٍ كَيْفَ وَارَيْتَ جُودَةُ * وَقَدْ كَانَ مِنْهُ الْبَرُّ والْبَحْرُ مُتْرَعاً*
إنَّ قولَهُ: "وَيَا قَبْرَ مَعْنٍ" في البيت الثاني هو من الإِطناب بالزيادة، لفائدة، وطريقته التكرير.
والداعي البلاغي لهذا الإِطناب "التحسُّر".
* ومنه قول "ابْنِ المعتزّ" يَصِفُ فَرَساً:
*صبَبْنَا عَلَيْهَا - ظَالِمِينَ - سِيَاطَنَا * فَطَارَتْ بِهَا أَيْدٍ سِرَاعٌ وَأَرْجُلُ*
إنَّ قولَهُ: "ظالِمِينَ" من الإِطناب بالزيادة لفائدة.
والداعي البلاغي لهذا الإِطناب "الاحتراس" لذلك يسمَّى به، إذْ لو لم يُوجَدْ هذا الاحتراس لتوهَّمَ المتَلَقِّي أنَّ فَرَسَ "ابْنِ المعتز" كان بليداً يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بالسّياط، فكان قولُهُ ظالِمينَ دافعاً لهذا التوهُّم.
(3) طرائق الزيادات الإِطنابية المفيدة ودواعيها البلاغية.
نظر البلاغيون في الزيادات الكلامية التي يحْصُلُ بها الإِطنابُ المفيد، فرأوا أنَّها تكون في طرائق من القول، جَمَعْتُهَا في (15) طريقة كنتُ في كثير منها متبعاً، وفي بعضها محرّراً ومُصَنِّفاً.
وبحثوا في الدواعي البلاغيّة لاختيار الإِطناب المفيد بهذه الطرائق فتجمَّعَتْ لَدَيْهم نتائج أفادتني في التصنيف والتمثيل.
وأشير هنا إلى أنّ بعض الأمثلة قد تَصْلُح أمثلة لأَكثر من طريقة من الطرائق التالية البالغة خمس عشرة طريقة:
الطريقة الأولى: "الإِيضاح بعد الإِبهام" وذلك بأن يُورِدَ المتكلّم المعنى مُبْهَماً، وبَعْدَ ذلك يُورِدُه مُوَضَّحاً، قال أهل البيان: إذا أردت أن تُبْهِمَ ثم توضِّح فَإنَّكَ تُطنِب.
ووجه حُسْنِ هذه الطريقة مع الفوائد التي تتحصّل بها أن فيها ما يلي:
(1) إبراز الكلام في مَعْرض الاعتدال الذي يدلُّ عليه الإِيجازُ بالإِبْهام، والإِطنابُ بالإِيضاح، فتكون المحصّلة اعتدالاً.
(2) إيهَام الْجَمْعِ بين المتنافِيَيْنِ، هما الإِيجاز والإِطناب، إذ الجمع بين المتنافِيَيْن من الأُمور الغريبة المستطرفة المثيرةِ للإِعجاب.
ومن فوائد "الإِيضاح بعد الإِبْهام" الداعيةِ للإِطناب به ما يلي:
(1) تقديم المعنى الواحد في صورتين مختلفتين إحداهما مبهمة والأخرى موضَّحة، كما تُقَدَّم الحسناءُ في كِلَّةٍ أوَّلاً، وبَعْدَ ذَلِكَ تُعْرَضُ مَجْلُوَّةً إذْ تُرْفَعُ الكِلَّةُ عن وَجْهِها ورَأْسِها ومواطِنِ زينتها، فتنجلي للأعين محاسِنُها.
(2) تمكين المعنى في نَفْسِ الْمُتَلَقِّي تمكيناً زائداً، لوقوعه بعد استشراف النفس إليه بالإِبْهام.
(3) تكميل لذّة العلم به، إذْ بدأتْ ناقصةً بالإِبْهام، وكَمُلَتْ بالإِيضاح، فالشيء إذا علم ناقصاً تشوّقت النفس إلى العلم به كاملاً، وحصل لديها ظمأ لمعرفته، فإذا استكملت النفس معرفته كانت لذّتها أشدّ من حصول العلم به دفعة واحدة.
* ومن هذه الطريقة ما يُسَمَّى "التوْشِيعُ".
وهو أن يُؤْتَى في عَجُزِ الكلام بمثنَّىً مُفَسَّرٍ باسْمَيْنِ، ثَانيهما معطوفٌ على الأوَّل مِنْهما، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري ومسلم عن أنس قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبٌّ مِنْهُ اثْنَانِ: الحرصُ على المال، والحرصُ عَلَى الْعُمْرِ".
وأيضاً عن أبي هريرة:
"لاَ يَزَالُ قَلْبُ الكَبِيرِ شَابّاً فِي اثْنَتيْن: في حُبِّ الدّنْيا، وطُولِ الأَمَلَ".
ومن التوشيع قول الشاعر:
*وَلاَ يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ * إِلاَّ الأَذَلاَّنِ: عَيْرُ الْحَيِّ والْوَتِدُ*
ومن التوشيع أيضاً قول الشاعر:
*سَقَتْنِيَ فِي لَيْلٍ شَبِيهٍ بِشَعْرِهَا * شَبِيهَةَ خَدَّيْها بِغَيْرِ رَقيب*
*فَمَا زِلْتُ فِي لَيْلَيْنِ: شَعْرٍ وظُلْمَةٍ * وَشَمْسَيْنِ: مِنْ خَمْرٍ وَوَجْهِ حَبِيبِ*
ومن هذه الطريقة "التفصيل بعد الإِجمال" مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113/ نزول):
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [الآية:36].
فعبارة: "مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ" تفصيل بعد إجمال.
* ومنها "الإِجمالُ بَعْدَ التفصيل" مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...} [الآية:196].
جاءت في هذه الآية عبارة: "تِلْكَ عشَرَةٌ كامِلَةٌ" إجمالاً بَعْدَ تفصيل، لرفْع توهُّم أن "الواو" في عبارة "وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ" هي بمعنى "أو" فتكون الثلاثة داخلة في السبعة، فجاء ذكر الأيّام كلّها مجملةً بعبارة "تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَة".
ومثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً...} [الآية:142].
جاءت في هذه الآية عبارة: "فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" إجمالاً بعد تفصيلٍ لرفع توهُّم أن عبارة: "وأتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ" تَعْنِي كَوْنَ "ثَلاَثِينَ لَيْلَةً" كانَتْ عشرين أُتِمَّتْ بعشرٍ فصارت ثلاثين، فدُفعَ هَذا التوهُّمِ بالإِجمال اللاّحق.
وذكروا من أمثلة الإِيضاح بعد الإِبهام ما يلي:
(1) قول الله عزّ وجلّ:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي? أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.
قالوا: كان يكفي أن يقول: أَلَمْ نَشْرَحْ صَدْرك. ووَضَعْنا وزْرَكَ الذي أنقض ظهرك ورَفَعْنَا ذِكْركَ، لكن إضافة "لَكَ" في موضعَيْن و "عَنْكَ" في موضِعٍ، تُفيد الإِبهام أوّلاً فتَسْتَشْرِفُ النفس للإِيضاح، وتَتَشوَّقُ للتفسير، وبعبارات: "صَدْرَك - وِزْرَكَ - ذِكْرَكَ" يرتَفعُ الإِبهام ويرتوي ضمأ النفس للمعرفة الذي أثاره التشويق، مع ما في "لَكَ" و "عَنْكَ" من تأكيد وتمكين، لأنّ المقام مقام امتنانٍ سبَقَتْ دواعيه.
ونظيره قول موسى عليه السلام الذي جاءت حكايتُه بقول اللَّهِ عزَّ وجلّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول):
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي? أَمْرِي}.
الطريقة الثانية: "ذِكْرُ الْخاصِّ بَعْدَ الْعَامّ" ونظيره "ذِكْرُ الْعَامّ بعد الخاصّ".
المراد بالعامّ هنا ما كان شاملاً في معناه لمقابلة، لا العام والخاص في مصطلح علم أصول الفقه.
وفائدة ذكر الخاصّ بعد العامّ التنبيه على فضله، حتَّى كأنّه ليْسَ من جنس العامّ أو نوعه، تنزيلاً للتغاير في الوصف منزلة التغايرُ في الذّات.
وفائدة ذكر العامّ بعد الخاصّ التعميم، وجاء إفراد الخاصّ بالذكر اهتماماً بشأنه، مع ما في إدْخاله ضمن العامّ من تأكيد وتكرير ضمناً.
الأمثلة:
المثال الأول:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ}.
نلاحظ أنّ الصَّلاة الوسْطى - وهي في أظهر الأقوال صلاةُ الْعَصْر - داخلةٌ في عموم لفظ "لصَّلَوات" لكن خُصَّتْ بالذكْر وعُطِفَتْ على عموم الصلوات اهتماماً بشأنها، وتوجيهاً لتخصيصها بعناية فائقة خاصّة، وهذه فائدة الإِطناب بذكرها، إذْ هي داخلةٌ في عموم لفظ "الصّلوات" الوارد قبلها في النص.
هذا المثال من عطف الخاص على العام.
المثال الثاني:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة) أيضاً:
{مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ}.
إنّ جبريل وميكائيل عليهما السلام داخلان في عموم الملائكة ولكنْ خُصَّ جبريل بالذكر تحذيراً لليهود من معاداتهم له، وضُمَّ إليه ميكائيل لقيامه بوظيفة أرزاق العباد التي بها حياة الأجساد، مقابل قيام جبريل بوظيفة الوحي الذي به حياة القلوب والنفوس.
هذا المثال من عطف الخاصّ على العامّ أيضاً.
المثال الثالث:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (نوح/ 71 مصحف/ 71 نزول) حكاية لدعاء نوح عليه السلام:
{رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً}.
تباراً: أي: هلاكاً.
لقد خَصَّ نوح عليه السلام نفسه بطلب المغفرة من ربّه، وأتْبَعَهُ بطلب المغفرة لوالديه، وأَتْبع ذلك بطلب المغفرة لكلِّ مَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ مُؤْمِناً، فَعَمَّم، ومعلومٌ أنَّه ممَّنْ دَخلَ بيتَهُ مُؤْمِناً فأدْخَلَ نفسه في العموم، وأخيراً قال: "وللمؤمنين والمؤمِنَات" ومعلوم أنَّ من دَعَا لهم سابقاً يَدْخلون في عموم المؤمنين أو في عموم المؤمنات. فكأنّه شمَلَهم بالدّعاء الأخير، فأفاد هذا التعميم بعد التخصيصي تأكيد الدعاء وتكريره لمن ذُكِرُوا سابقاً.
هذا المثال من ذكر العام بعد الخاصّ.
المثال الرابع:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (التحريم/ 66 مصحف/ 107 نزول) خطاباً لاثنتين من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم:
{إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}.
فذكرَ جبريل أوّلاً على سبيل الخصوص وبعد ذلك ذكر عموم الملائكة ومعلومٌ أنَّ جبريل عليه السلام يدخل في عموم الملائكة، لكن جاء إفراد جبريل بالذكر أوّلاً اهتماماً بشأنه، وتعظيماً لمقامه، وإشادة بمكانته عند الله.
الطريقة الثالثة: "التكرير" لدَاعٍ بلاغي، كقول عنْتَرة بين شدّاد في بعض روايات معلقته:
*يَدْعُونَ عَنْتَرَ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّها * أَشْطَانُ بِئْرٍ فِي لَبَانِ الأَدْهَمِ*
*يَدْعُون عَنْتَرَ والسُّيُوفُ كَأنَّهَا * لَمْعُ الْبَوَارِقِ في سَحَابٍ مُظْلِمِ*
أَشْطَانُ بِئر: أي: حِبَالُهُ الّتي تُعلِّقُ بها الدِّلاَء.
في لَبَانِ الأَدْهَمِ: أي: في صَدْرِ الْفَرَسِ الأدْهم.
فكرّر عبارة "يَدْعون عَنْتَرَ" في البيتين إذْ قَصَد الافتخار بشجاعته، وبطلب الفرسان له في أحرج مواقف القتال.
والدواعي البلاغي للتكرير متعدّدة، فمنها ما يلي:
(1) تمكين المعنى وتأكيده في نفس المتلقِّي، وزيادة التنبيه على ما ينفي التهمة إذا كان البيان يقتضي ذلك.
(2) التلذّذ بتكرير عبارات الفخر والإِشادة بالمآثر الحميدة.
(3) التنفيس عن النفس بعبارات التحسّر والندم أو الحزن، أو الفرح.
(4) طول الفاصِل في الكلام الذي تدعو الحاجة معه إلى التنبيه بالتكرير.
(5) المدح أو الذمّ أو الشتيمة.
(6) التنبيه على تعدُّد المقتضي لذكر العبارة المكرّرة.
(7) جعل العبارة المكررة فاصلةً في الكلام ذاتَ تأثير فَنِّي جماليّ بديع مستطرف، كأنّها أعلام ترفرف على مفاصيل السّور، أو لوحة مكرَّرة على مقاطع من الطريق.
مع ما فيها من معنىً قد يحتاج تكريراً لتثبيته، أو استثارةِ دافع من دوافع النفس به، أو تهييج عاطفة، كالكليّات العامّة، وكالمعاني التي فيها ترغيب أو ترهيب، أو تحذير أو إنذار، أو تشويقٌ، أو تنديمٌ أو تحْسير، أو نحو ذلك.
(8) أنْ يكون المكرّر متعلّقاً في الذكر الثاني بغير ما تعلَّقَ به في الذكر الأول، ويسمَّى هذا "ترديداً" ويكثر فيه الداعي الجمالي الفنيّ.
(9) التعظيم والتهويل.
إلى غير ذلك من دواعي بلاغيّة.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عزّ وجلّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول):
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ...} [الآية:35].
جاء في هذه الآية تكريرُ "المصباح" مرَّتَيْن، وتكرير "الزُّجَاجة" مرتَيْن إلاَّ أنّ المكرّر متعلّق في الذكر الثاني بغير ما تعلّق به في الذّكر الأول، فهو ممّا يسمَّى "تَرديداً" ولا يخفي ما في هذا الترديد في الآية من جمالٍ فنِّي بديع.
المثال الثاني:
جاء في سورة (الرحمن/ 55 مصحف/ 97 نزول) تكرير عبارة:
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
إحدى وثلاثين مرّة خطاباً للإِنْسِ والجنّ المخلوقين للامتحان في ظروف الحياة الدنيا.
فبأَيّ آلاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبان: أي فبأيّ نِعَمِ رَبّكُمَا عَلَيْكُما تُكذِّبان. إنّ نِعَمَ الله على العباد لا يستطيع العباد إحصاءها، ومع كلّ فقرة من فقرات حياتهم بتتابع السّاعات والأوقات تمرُّ على كلِّ فَرْدٍ منْهُمْ نِعَمٌ كثيرة وجليلة، وانصرافه الدائم إلى الاستمتاع بها دون ملاحظة خالقها والمتفضِّل على عباده بها يحتاجُ تذكيراً بها، ليقوم بحقّ اللَّهِ عليه في مقابلها، بالإِيمان والطاعة والْحَمْدِ والشّكر.
ففي هذا التكرير عقب ذكْرِ كُلِّ فقرة من فقرات آيات صفاتِ الله في كونه، المشتملة على بعض نِعَمِه، أو الإِنْذار، بعقابه وعذابه، تنبيهٌ على حاجة العبد المبتَلَى أن يَذْكُرَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ دَواماً عند كلِّ فقرة من فقرات حياته، ومَوْجَةٍ من موجات نهرها الجاري، لئلاَّ تَجُرَّهُ الغفلات إلى النسيان، فالمعصية، فاجتيال الشياطين لفِكْرِه ونَفْسِه وعَواطِفه، ودفعه إلى السُّبُلِ المزلقة إلى الشقاء، فالعذاب، فنار جهنّم.
فجُعِلَتْ هذه العبارة فاصلة في السّورة، وهذه الفاصلة تأثير فَنِّيّ جماليّ مستطرف، مع ما تشتمل عليه من معنىً يدلُّ على حاجَةِ العباد إلى ذكر نعم الله عليهم مع كلّ موجةٍ من موجات نَهَرِ حياتهم، سواءٌ أكانت ممّا يحبّون أو ممّا يكرهون، ممّا يَطْمَعُون فيه أو ممّا يحذرون منه.
المثال الثالث:
جاء في سورة (المرسلات/ 77 مصحف/ 33 نزول) تكرير عبارة:
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}.
تسْعَ مرّات، إنْذاراً للمكذبين بيوم الدّين، وترهيباً من عذاب جهنم الذي سيلاقونه، إذا أصَرُّوا على كفرهم وتكذيبهم وماتوا على ذلك دون توبة.
ومع أنّ كلّ مرّة قد جاءت عقب توجيه إقناع بقانون الجزاء الرَّبّاني، أو إخبارٍ ببعض الأحداث التي تكون قبل يوم القيامة، أو تقديم لقَطَاتٍ من مشاهد الحساب، أو مشاهد الجزاء بالعقاب أو بالثواب، أو تحريكِ سَوْطٍ تهديدي بما سينزل بهم من عذاب أليم، فإنّ تكريرها قد جاء بمثابة فاصلةٍ ذات إيقاعٍ، فهي تُعادُ وتكرّر في السّورة بفنّيّة بديعة، ومضمونُها ممّا يستدعي حال المكذبين تكريره، إذْ فيها تَهْدِيدٌ ووَعيد، وفيهم مكابرةٌ وإصرار على الكُفْرِ عنيد، هم يكرّرون إصرارهم، والعبارة تكرّر تهدْيدِهم بالويل.
الويل: كلمة عذاب، فيها معنى الوعيد بحلول عقاب الله، وورد أنّ كلمة "ويل" اسْمٌ علم على وادٍ في جهنم.
المثال الرابع:
جاء في سورة (القمر/ 54 مصحف/ 37 نزول) تكرير عبارة:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}.
أرْبَع مرَّات، لأنها تضمّنَت حثّاً على تَلَقّي القرآن وتدَبّره وتذكّره، فمضمونها يحمل معنًى كلّياً من كُلّيّاتِ التكاليف الدينيّة التي تتطلَّبُ طبائع النفوس تكريرها، لكثرة شرودها عنها، ورغبتها في التفلّتِ من واجباتها.
واختيرت أن تكون هذه العبارة بمثابة فاصلة ذاتِ جمالٍ فنِّي تُتْلَى بَيْنَ فِقَراتٍ من السّورة، فجاءت عقب ذِكْرِ موجز قصة إهلاك قومِ نوح عليه السلام، وعقب ذكر موجز قصة إهلاك عاد قوم هود عليه السلام، وعقب ذكر موجز قصّة إهلاك ثمود قوم صالح عليه السلام، وعقب ذكر موجز قصة إهلاك قوم لوط عليه السلام.
وفي تكريرها عقب عرض موجز كلّ قصة من قصص هؤلاء الأقوام إشارةٌ إلى أنَّهم لو تلَقَّوْا ما أنْزِلَ إليهم من ربّهم عن طريق رسُلهم، وتدبّروه، وَوَضَعُوه في ذاكراتهم، وادَّكَرُوه حيناً فحيناً ما عرّضوا أنفسهم للهلاك الشامل المعجّل في الدنيا، وللعذاب الخالد المؤجّل إلى يوم الدّين.
فمن تنبّه إلى هذه الإِشارة من أمّة رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم اتّعظ بأحوال الأمم السابقة، فاشتغل بحفظ القرآن الميسّر للذّكر، واشتغل بتدبّر معانيه، وادّكَرَ آياتِهِ حيناً فحيناً عند كلّ مناسبة داعية.
المثال الخامس:
جاء في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) تكرير عبارة:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
ثمانِيَ مرّاتِ، أُولاَهَها جاءَتْ عَقِب بيان تكذيب الذين كذّبوا محمّداً صلى الله عليه وسلم وبما جاء به عن ربّه، ثم جاءت كلُّ مرَّةٍ من المرّات الباقيات عقب عرض قصَّةٍ من قِصَصِ المكذّبين الأولين، فكان لكل مرّةٍ منها داعيتها من القصّة التي جاءت قبلها، فإذْ تعَدَّدَ المقتضي حَسُنَ إعادة ذكر العبارة نفسها.
المثال السادس:
كان "عَمْرو بْنُ هِنْدِ" ملكاً في الحيرَة من ملوك العرب، وكان جبّاراً عنيداً، لا يَرَى في الناس من يَدانيه في الشرف والمنزلة، فأراد أنْ يستذلّ الشاعر "عمرو بن كُلثوم" باتّخاذ أُمِّه وصيفةً لأمّه، فثارت الحميّة في قلب عمرو بن كلثوم، فسَلَّ سيفه وضرب الملك فقتله، وقَرَضَ مُعَلَّقته التي جاءت فيها:
*بِأَيِّ مَشِيئَةٍ عَمْروَ بْنَ هِنْدِ * نَكُونُ لِقَيْلِكُمْ فِيهَا قَطِينَا*
*بِأَيِّ مَشِيئةٍ عَمْروَ بْنَ هِنْدٍ * تُطِيعُ بِنَا الوُشَاةَ وتَزْدَرينَا*
فكرّرَ عبارته: "بأَيِّ مَشيئَةٍ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ" لأنّه في مقامٍ الْفَخْر وإباء الضَّيْم، وبيان عُذْرِه في قتل الملك إذْ أراد الملك إِذْلاله وإهانته.
لِقَيْلِكُم: الْقَيْل: هو الملك دون الملك الأعظم.
قَطِينا: أي: خَدَماً.
ويمكن القياس على هذه الأمثلة مع ملاحظة الداعي البلاغي في كُلٍّ مِنها.
ملاحظة:
توجد تعبيرات يُظَنُّ أنّها من التكرير، ولدى البحث والتدبر والتحرير، يظهر أنها ليست من التكرير، فعلى دارس النصوص ومتدبّرها أن يُمْعِن فيها النظر طويلاً حتَّى لا يُعْطِيَ النّصّ حكْماً ليس هو له.
فمن ذلك ما جاء في سورة (الكافرون) ومنها ما يكون المقصود فيه مختلفاً في الألفاظ المكرّرة، اختلاف أمكنة، أو اختلاف أزمان، أو اختلاف أنواع أو أصناف أو أفراد، إلى غير ذلك.
الطريقة الرابعة: "الإِيغال".
الإِيغال في اللّغة: الإِمعان في التعمّق والمبالغة في الابتعاد، يقال لغة: أوْغَلَ في البلاد، إذا ذهب فيها وبالَغَ وأبعد. وأوْغَلَ في السَّيْرِ إذا أسْرَع فيه وابتعد.
والإِيغال عند البلاغيين: هو إضافة أخيرة تأتي في الكلام بعد انتهاء المقصود منه، لكنَّها ذَاتُ فائدة ما، والدّاعي لها قد يكون الاحتياج إلى القافية في الشعر، أو إلى تناظر الفقرات في النثر، أو استغلال حالة طارئة عرضت للمتكلم، أو غَيْرَ ذلك.
* سئل الأصمعي: مَنْ أشعر الناس؟
فقال: مَنْ ينقضي كلامُه قبل انقضاء القافية، فإذا احتاج إلَيْهَا أفادَ بها مَعْنىً.
قيل: نحوُ مَنْ؟
قال: ذو الرّمّة حيث يقول:
*قِفِ الْعِيسَ في أَطْلاَلِ مَيَّةَ فَاسْأَلِ * رُسُوماً كَأَخْلاَقِ الرِّدَاءِ الْمُسَلْسَلِ*
فَتَمَّ كلامُهُ بالرّداء، ثم قالَ: "الْمُسَلْسَل" فزاد به شيئاً، ثم قالَ:
*أظُنُّ الّذِي يُجْدِي عَلَيْكَ سُؤَالُهَا * دُمُوعاً كتَبْذِيرِ الْجُمَانِ الْمُفَصَّلِ*
فَتَمَّ كلامُهُ بالجمان، ثم قال: "المفصّل" فزاد شيئاً.
قيل: ونَحْوُ مَنْ؟
قال: الأعشى إذْ يقول:
*كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيَفْلِقَهَا * فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِلُ*
فَتَمَّ كَلاَمُهُ بِيَضِرْها، فلمّا احتاج إلى القافية قال: وأوهَى قرنَه الْوَعِلُ، فزاد معنىً.
قال السائل: وكيف صار الْوَعِلُ مفضَّلاً على كلِّ ما ينْطَح؟
قال: لأنّه ينحطُّ من قُلّةِ الجبل على قَرْنَيْه فلا يضرُّه.
* ومن الإِيغال قول الخنساء في رثاء أخيها "صَخْر".
*وَإِنّ صَخْراً لتأتَمُّ الْهُدَاةُ به * كَأنَّهُ عَلَمٌ في رأْسِهِ نارُ*
لقد تمّ المقصود بقولها: "كأنّه علم" ولمّا احتاجت إلى القافية أضافة خاتمة مفيدة ذات حُسْن فقالت: "في رأْسِهِ نارُ" فبالغت في بيان أنّه رجلٌ تَأْتَمُّ بِهِ الْهُداة.
* ومنه قول امرئ القيس:
*كأَنَّ عُيُونَ الْوَحْشِ حَوْلَ خِبَائِنَا * وأَرْحُلِنَا الْجَزْعُ الّذِي لَمْ يُثَقَّبِ*
الْجَزْع: خرز يماني فيه سواد وبياض، يشبّه به عُيُون الوحش، قال الأصمعي: الظبيُ، والبقرة إذا كانا حيَّيْنِ فعُيُونُهما كلُّها سُود، فإذا مَاتَا بدا بياضها.
وقد شبَّهَها امرؤ القيس بالْجَزْعِ، لأنّها عُيُونُ ما صَادَ من الوحش، وحَقَّق بزيادته، التَّشْبِيهَ الذي أراده.
* ومنه قول زهير بن أبي سُلْمَى:
*كَأَنَّ فُتَاةَ الْعِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ * نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الْفَنَا لَمْ يُحَطَّمِ*
الْعِهْن: الصّوف المصبوغ ألواناً.
الفنا: عِنَبُ الثعلب، نبات له ثمر بعناقيد صغار الحبّ، كحبّ العنب، إذا نضج احمرّ، أو كان مختلط الألوان حمرة وخضرة، وباطن هذا الحبّ أبيض.
لقد تمّ كلامه بقوله "حبُّ الفنا" ولمّا احتاج إلى القافية قال: "لم يُحطَّم" فجاء بزيادة إيغالية مفيدة، قيَّد بِهَا المشبّه به محافظةً على سلامةِ تشبيهه.
* ومنه ما كان هارون الرشيد يُعْجَبُ به، وهو قول "مسلم بن الوليد":
*إذَا مَا عَلَتْ مِنَّا ذُؤَابَةُ شَارِبٍ * تَمَشَّتْ بِهِ مَشْيَ الْمُقَيَّدِ فِي الْوَحْلِ*
ذُؤَابَةُ: الذُّؤابَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلاَهُ.
شارب: الشارب الشعر الذي ينبت على الشفة العليا.
أي: إذا عَلَتْ ذُؤابَةُ شَارِب الناشئ من قومِنا جعلته يمشي متبختراً متثاقلاً افتخاراً بمجد قومه.
وكان الرشيد يقول: قاتله الله، أمَا كفاه أن يجعله مقيداً حتى جعله في وحْل.
فعبارة "في الوحل" إيغال.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول):
{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ ياقَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}.
لقد تَمَّ المعنى المقصود ببيَانِ أَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ يَدْعُونَ إلى الحق، ولا يسألون الناس أجراً فليس لهم مصلحة لدى من يدعونهم إلى دين الله، وبعد ذلك جاءت جملة: {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} إيغالاً، فكَوْن هؤلاء المرسلين مهتدين، أي: يسلكون في أعمالهم وأخلاقهم وكلّ تصرّفاتهم سبيل الهداية، دليلٌ على صدقهم، وهذا يدعو إلى اتِّباعهم وعدم رفض دعوتهم.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول) خطاباً لرسوله ويُلْحَقُ به كُلُّ داعٍ إلى الله من بَعْده:
{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ}.
إنّ عبارة {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} جاءت إيغالاً لتأكيد كون الصُّمّ لاَ يَسْمَعُونَ الدُّعاء.
وفائدة هذا الإِيغال الإِشارةُ إلَى أنَّ الأصَمَّ إذا كان مُواجِهاً لمن يدعوه، كان قادراً على إدْراك أنّه يدعوه، من تحريك فمه وحركات جسده عند التكلّم، لكنه إذا كان مُدْبراً مبتعداً لم يَسْمَعْ صوتاً ولم يُدْرِكْ حركةً دالَّةً عليه. وفيه هنا أيضاً مُراعَاةُ كوْنِ المتحدّث عَنْهم صُمّاً صَمَماً معنوياً بكُفْرِهِمْ وعَدَم إيمانهم، وهؤلاء قد يسمعون بعض سماعٍ دُونَ أَنْ يُؤثّر فيهم حالةَ المواجهة، فإذا وَلَّوْا مُدْبِرين لم يَسْمَعُوا شيئاً، فأفاد هذا الإِيغال معانيَ نفيسة.
* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الذاريات/ 51 مصحف/ 67 نزول):
{وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}.
إنّ عبارة: {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} جاءت إيغالاً بَدِيعاً بعد انتهاء المعنى المقصود، إذ شبَّهَ ضَمَانَ الرزق للعباد الذي يحرّكون أفواههم عليه في طعامهم، بقدرتهم على النطق حينما ينطقون، أي: كما أقدركم الله على إخراج نطقكم من أفواهكم أقدركم على كسب أرزاقكم وإدخالها إلى بطونكم عن طريق أفواهكم.
الطريقة الخامسة: "الاعتراض".
الاعتراض في اللّغة: الدّخول بين الشَّيْئَيْن حتى يكون الداخل المعترضُ فاصلاً بينهما، ويُسَّمى "عَارِضاً" أي: حائلاً ومانعاً بينهما، ومنه أُخِذ الاعتراض في البلاغة والنحو.
الاعتراض اصطلاحاً: أنْ يُؤتَى في أثْنَاءِ الكلام أو بين كلاَميْن متَّصِلَيْن في معناهما بجملة أو أكثر لا محلّ لها من الإِعراب لنكتة بلاغيّة سِوَى دفع الإِيهام.
فإذا كان لدفع الإِيهام فهو من طريقة (الاحتراس = التكميل) الآتي بيانُها إن شاء الله.
ويؤتي بالاعتراض لدواعي بلاغية منها ما يلي:
(1) التنزيه والتعظيم.
(2) الدّعاء.
(3) التنبيه على أمْر، وكذلك الإِشارة إلى أنّ ما وقع به الاعتراض قد حصل مضمونه خلال الزمن الفاصل بين الكلامين المتّصلَيْن.
(4) التبرُّك.
(5) التقرير في نفس السامع.
(6) التصريح بما هو المقصود.
(7) الاستعطاف.
(8) انتهاز الفرصة المواتية، والمبادرة لبيان أمْرٍ ذي أهميّة. إلى غير ذلك.
ووجه حُسْن الاعتراض اهْتِبَالُ الْفُرْصَةِ المواتية للإِفادة والبيان، أو التعبير عمّا في النفس، مع مجيئه مجيء غير المترقّب، فيكونُ كالشيء السّارّ الذي يأتي الإِنسانَ من حيْثُ لا يحتسب.
ولحسنه جاء في أرفع الكلام إعجازاً، وجاء في أقوال الفصحاء والبلغاء.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول):
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ}.
عبارة: "سبحانه" جملة اعتراضية بين كلامين متصلين في معناهما، للمبادرة إلى تنزيه الله عن أن يكون له بنات، والتشنيع على من جعلَهُنّ له بتصوّرهم الفاسد، وأقوالهم الكاذبة.
المثال الثاني:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفتح/ 48 مصحف/ 111 نزول):
{لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ...} [الآية:27].
عبارة: {إنْ شاء الله} جملة اعتراضيّة في أثناء كلام مُتَّصلٍ في معناه، للمبَادرة إلى تعليم المؤمنين أن يقولُوا في كلّ ما يرجون وقوعه أو يريدون إيقاعه مستقبلاً. "إنْ شاء الله" وتعليمهم كيف يكون إدْخال هذا التعليق على مشيئة الله في كلامهم.
المثال الثالث:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ * نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.
إنّ عبارة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} عبارَةٌ اعتراضيَّة، بين كلامَيْنِ مُتّصلَيْنِ في معناهما، فقوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} متّصل بقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} وجاءت العبارة الاعتراضيّة للمبادرة إلى الحثّ على الطهارة واجتناب الأدْبار والتّوبَةِ من إثْمِ إتيانها الذي ربّما كان يفعله بعض الأزواج قبل البيان القرآني.
المثال الرابع:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (هود/ 11 مصحف/ 52 نزول) ضمن عرض قصّة إغراق قوم نوح عليه السلام:
{وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
جاءت في هذه الآية ثلاث جُمَلٍ اعتراضيّة بين كلامَيْنِ مُتَّصِلَيْن في معناهما، وهي: "وغِيضَ الماءُ وقُضِيَ الأَمْرُ واسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِي".
هذا الاعتراض بهذه الجمل الثلاث أفاد أنَّ مضمونها قد حَصَل بين زمَنَي القولَيْنِ المتّصلَيْنِ في معناهما: [وَقيل...-وقيل...].
ويلاحظ أنّ جملة: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} اعتراضٌ في اعتراض، إذ الجملتان: {وَغِيضَ الْمَآءُ} و {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ متصلتان في معناهما، وجاءت {وَقُضِيَ الأَمْرُ} معترضة بينهما.
المثال الخامس:
قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول):
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}.
في هذا اعتراض بين القسم وجوابه بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ - لَّوْ تَعْلَمُونَ - عَظِيمٌ} للتنبيه على عظم هذا القسم مع الفرصة المواتية.
واعتراضٌ في داخل الجملة المعترضة بين خبر "إنّ" وصفته، بجملة {لَّوْ تَعْلَمُونَ} للتنبيه على أنّ المخاطبين يجهلون عظمة مواقع النجوم.
المثال السادس:
قول العباس بن الأحْنف:
*إِنْ تَمَّ ذَا الْهَجْرُ - يَا ظَلُومُ وَلاَ تَمَّ -* فَمَالِي فِي الْعَيْشَ مِنْ أَرَبِ*
ظَلُوم: اسْمُ صاحبته. والأرب: الحاجة.
في هذا البيت اعتراض بين الشرط وجوابه بنداءِ مَنْ يُحِبّ والمبادرة إلى الدعاء بأنْ لاَ يتمَّ مضمونُ الشرط، والداعي له المبادرة إلى استعطاف "ظلوم" التي يُحِبُّها، وسؤال الله أن لا يَتِمّ هجرها له، والدافع له في نفسه رغبته في وصلها وخوفه من هجرها.
المثال السابع:
قول عوف بن ملحم الشيباني يشكو كِبَرَهُ وضعفه:
*إِنَّ الثَّمَانِينَ - وَبُلِّغْتَها - * قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلَى تُرْجُمانٍ*
فجملة: "وَبُلِّغْتَها" جملةٌ اعتراضيةٌ دُعَائية، استغلت فيها المناسبة استغلالاً حسناً ليدعو لمن يخاطبه بطول العمر.
المثال الثامن:
قول أبي الطيّب المتنبّي:
*وَخُفُوقُ قَلْبٍ لَوْ رَأَيْتِ لَهِيبَهُ * -يَا جَنَّتِي- لَرَأيْتِ فِيهِ جَهَنَّما*
قوله: "يا جَنَّتِي" جملة معترضة، والداعي لها الاستعطاف، واستغلال المناسبة ليُجْزِيَ مطابقة بين الجنة وجهنّم.
المثال التاسع:
قول ابن ميّادة:
*فَلاَ هَجْرُهُ يَبْدُو - وفي اليأسِ راحَةٌ - * وَلاَ وَصْلُهُ يَبْدُو لَنَا فَنُكارِمهْ*
قولُهُ: "وفي اليأْسِ رَاحَةٌ" جملةٌ اعتراضيّة جاءت تعليلاً لأمر من المستغرب أن يكون مطلوباً، وهو إبرامُ الهجر وعدم التردد فيه، إذ المحبُّون لا يطلبونه عادة، فبادر لبيان السبب فجاء بالجملة الاعتراضية، وهي مبادرة حسنة.
الطريقة السادسة: "الاحتراس = التكميل".
الاحتراس: أو التكميل: اسمان أُطْلِقا على مسمَّى واحد، هو زيادة إطنابيّةٌ في الكلام يَدْفَع بها المتكلّم إيهاماً اشتمل عليه كلامه.
ويكون هذا الاحتراس حينما يأتي المتكلم بكلام يوهم خلاف ما يُريد، ويأتي بَعْدَه بكلامٍ يدفع به ذلك الإِيهام، ومثل هذا يُوجَد في أرفع الكلم لتحقيق غرضٍ بلاغي، وقد يوجد في كلام أهل الخطب الارتجالية على سبيل التدارك لما جاء في كلامهم ففطنوا إليه فاحترسوا تكميلاً.
أمثلة:
المثال الأول:
قول الله عزَّ وجلَّ لموسى عليه السلام كما جاء في سورة (النمل/ 27 مصحف/ 48 نزول):
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}.
إنّ عبارة: {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ} قَدْ تُوِهمُ أَنَّ بَيَاضَهَا رُبَّمَا كَانَ عَنْ بَرَصٍ، فجاءَت عبارة: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} تَكْمِيلاً احْتراسِيّاً لدَفْعِ هذا الإِيهام.
المثال الثاني:
قول طرفة بن الْعَبْد من قصدية يمدح بها قتادة بن مسلمة الحنفي، على ما كان منه تجاه قومه، إذْ بذل لهم في سنةٍ أصابتهم:
*فَسَقى دِيَارَكَ - غَيْرَ مُفْسِدِها - * صَوْبُ الرَّبِيعِ وَدِيمَةٌ تَهْمِي*
الصّوب: المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذي.
الدّيمة: المطر يدوم زمانهُ في سكون.
تَهْمِي: تسيل.
قوله: {غَيْرَ مُفْسِدِها} تكميل احتراسي، لأنّ سُقْيا الدّيار بمطر كثير قَدْ يفسدها، فدَفع هذا الإِيهام بالاحتراس الذي جاء به.
المثال الثالث:
قول كعب بن سَعْد الغنوي:
*حَلِيمٌ إِذَا ما الْحِلْمُ زَيَّنَ أَهْلَهُ * مَعَ الْحِلْمِ في عَيْنِ الْعَدُوِّ مَهِيبُ*
في هذا البيت احتراسان كمّل بهما الشاعر كلامه: فقوله: "إذا ما الحليم زيّنَ أهله احترس به لدفع توهم أن يكون حمله عن ضعف، وقوله "في عين العدوّ مهيب" احتراسٌ آخر.
الطريقة السابعة: "التذييل".
التذييل: تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها توكيداً لمنطوقها، أو لمفهومها، وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مَا يجري مجرى المثل، وهو ما استقلّ معناه واستغنى عمّا قبله، مثل قول الله تعالى في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول):
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}.
إنّ جملة {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} تتضمّن معنى الجملة التي جاءت قبلها، فهي إطناب على طريقة التذييل، وعبارتها ممّا يجري مجْرى المثل، وهي تُؤكّد منطوق الجملة التي جاءت قبلها.
القسم الثاني: مَا لا يجري من التذييل مجرى المثل، وهو ما لا يستقلُّ معناه عمّا قبله، كقول ابن نُبَاتَة السّعْدِي:
*لَمْ يُبْقِ جُودُكَ لِي شَيْئاً أُأَمِّلُهُ * تَرَكْتَنِي أَصْحَبُ الدُّنْيا بِلاَ أَمَلِ*
فالشطر الثاني من هذا البيت أكّدَ مَفْهوم الشطر الأول، وهو ليس مما يجري مجرى المثل.
أمثلة:
(1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) خطاباً لرسوله:
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}.
إنّ جملة {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} تذييلٌ يؤكّد منطوق الجملة التي جاءت قبلها، وهي ممّا يجري مجرى المثل.
(2) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (سبأ/ 34 مصحف/ 58 نزول):
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَازِي? إِلاَّ الْكَفُورَ}.
إنّ جملة {وَهَلْ نُجَازي إلاَّ الكفُور؟} تذييل يؤكّد مفهوم الجملة التي جاءت قبلها، وهي ممّا لا يجري المثل، إذ المعنى: لا نجزي مثل هذا الجزاء المعجّل بالعقاب المهلك الشامل للقوم إلاَّ من كان كفوراً.
(3) قول الحطيئة:
*نَزُورُ فَتَىً يُعْطِي على الْحَمْدِ مالَهُ * وَمَنْ يُعْطِ أَثْمَانَ الْمَحَامِدِ يُحْمَدِ*
الشطر الثاني من هذا البيت تذييلٌ يؤكّد منطوق الشطر الأول منه، وهو مما يَجْري مجرى المثل، فهو تذييل جميل.
(4) قول أحد الشعراء لمن أعطاه ومنَّ عليه:
*أَفْسَدْتَ بِالْمَنِّ مَا أَسْدَيْتَ مِنْ حَسَنٍ * لَيْسَ الْكرِيمُ إِذَا أَعْطَى بِمَنَّانِ*
الشطر الثاني من هذا البيت تذييل يؤكّد به الشاعر مفهوم الشطر الأوّل منه، وهذا التذييل مما يجري مجرى المثل، فهو إطنابٌ تَذييليٌّ جميل.
(5) قول أبي الطيّب المتنبّي:
*مَا كُلُّ مَا يتمنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ * تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لاَ تَشْتَهِي السُّفُنُ*
الشطر الثاني من هذا البيت تذييل أكّدَ به الشاعر منطوق الشطر الأول منه، وقد جرى مثلاً.
قال العكبري: وهو من أحسن الكلام.
(6) قول زُهَيْر:
*تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً * كَأَنَّكَ تُعْطِيه الّذِى أَنْتَ سَائِلُهُ*
الشطر الثاني من هذا البيت "تذييل" أكّد به الشاعر منطوق الشطر الأول منه، وهو ليس ممّا يجري مجرى المثل.
(7) قول الشاعر:
*وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتِي * إِنَّ الْمَنَايَا يَا لاَ تَطِيشُ سِهَامُهَا*
الشطر الثاني من هذا البيت "تذييل" أكّد به الشاعر منطوق الشطر الأول منه، وهو مما يجري مجرى المثل.
الطريقة الثامنة: "التتميم".
التتميم: الإِتيان بفضلة مفيدة في كلام لا يوهم خلاف المراد.
يلاحظ أنّ قيد "في كلام لا يوهم خلاف المراد" قد أضيف هنا للتفريق بين التتميم و"الاحتراس=التكميل" الذي سبق بيانه وشرحه.
أمثلة:
(1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإنسان/ 76 مصحف/ 98 نزول) يصف الأبرار.
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً}.
قالوا: عبارة: {عَلَى حُبِّهِ} جاءَت تتميماً مفيداً حصلت به المبالغة في أنَّهم حريصون جدّاً على إطعام الطعام على الرغم من حبِّهِمْ له، وتعلُّقِ شَهْوَتِهم به، فالإِطعام في هذه الحالة أبلغ في الدلالة على ابتغاء مرضاة الله، وهو بسبب ذلك أعظم أجراً عند الله.
أقول: إنّ عبارة {عَلَى حُبِّهِ} قيد لازم لإِدْخل المطعم للطعام في مرتبة الأبرار، وهي فوق مرتبة المتقين الذين يكفيهم أن يطعموا الطعام الواجب عليهم أن يُطْعِموه، ولو كان هذا الطعام غير محبوب لهم.
ونظير هذا الْقَيْدِ القيدُ الذي جاء في الآية (177) من سورة (البقرة) فهو قيد لازم حتى يكون من يؤتي المالَ مرتقياً ببذله إلى مرتبة الأبرار، إذ قدّم عملاً هون من أعمال البرّ، فأعمالُ البرّ توسُّعٌ في الخير زائِدٌ على أعمال التقوى.
(2) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول):
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ...} [الآية:1].
جاءت في هذه الآية كلمة "ليلاً" تتميماً، وذلك لأنّ الإِسراء لا يكون إلاَّ باللَّيْل، وفائدة هذا التتميم الإِشارة إلى قِصَرِ المدّةِ التي حصل فيها الإِسراء ذهاباً وعودة، والإِشارة إلى أنّ لِلّيْلِ خصَائِصَ من نفحاتِ الله وإكراماته التي يفيض بها على بعض عباده.
(3) قول "زهير بن أبي سُلْمَى" يمدح "هَرِم بْنَ سِنان".
*مَنْ يَلْقَ يَوْماً عَلَى عِلاَّتهِ هَرِماً * يَلْقَ السَّمَاحَةَ مِنْهُ والنَّدَى خُلُقاً*
عَلى عِلاَّتِهِ: أي: عَلى كُلِّ حَالٍ من أحواله، في انشراحه وانقباضه، وسروره وحُزْنه، ويُسْرِه وعُسْرِه.
فقد جاءت عبارة "عَلَى عِلاَّتِهِ" تَتْميماً جميلاً ذا فائدة.
(4) قول أحد الشعراء:
*إِنِّي عَلَى مَا تَرَيْنَ مِنْ كِبَرِي * أَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ تُؤْكَلُ الكَتِفُ*
فقوله: "على مَا تَرَيْنَ من كبري" كلامٌ لم يدفَعْ به إيهاماً، إلاَّ أَنّه زيادة أفادَتْ فائدة حسنة، فهو "تَتْمِيم" تخلّص به من تُهْمَة تأثير كبر السنّ عليه.
(5) قول المعرّي:
*وإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ الأَخِيرَ زَمَانُهُ * لآَتٍ بمَا لَمْ تَسْتَطِعْهُ الأَوَائِلُ*
فقوله: "وإِنْ كُنْتُ الأَخير زَمَانُهُ" كلامٌ لم يدفع به إيهاماً، إلاَّ أنَّهُ زيادة أفادت التَّنْبيهَ على أنّ المتأخرين قَدْ يأتُونَ بما لم يأت به الْمُتَقدِّمون، وأنّ مقولَةَ: ما تركَ الأوّل للآخِرِ شيئاً مقُولَةٌ غَيْرُ صحيحة، فهذا القول "تتميم" أشار به إلى ردّ مقولة باطلة:
(6) قول المتنبي في صباه يمدح محمّد بن عُبَيْدِ اللَّهِ العلَويّ:
*لَهُ أَيَادٍ إليَّ سَابِقَةٌ * أَعُدُّ مِنْهَا وَلاَ أُعَدِّدُهَا*
أي: له أيادٍ محسناتٌ إليّ، أو سابقةٌ إلي أَعْدُّ بَعْضَها وَلا أستطيعُ أنَّ أُعَدِّدَهَا كُلَّها مُحْصِياً.
فعبارة "ولا أُعَدِّدُها" جاءت زائدة على المقصود من القول، ولم تدفع إيهاماً، لكنَّها زيادة مفيدة أشار بها إلى كثرة أيادي ممدوحة، فهو لكثرتها غير قادِرٍ على أنْ يعدّدها محصياً لها، فالعبارة إذن "تتميم" جميل.
(7) قول الْحُصَيْن بْنِ الْحُمام:
*فَلَسْنَا عَلَى الأَعْقَاب تَدْمَى كُلُومُنَا * وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُر الدَّمَا*
الشطر الثاني من هذا البيت زائد على المقصود من القول، ولم يدفع إيهاماً، فهو تتميم أكّدَ بِهِ الشاعر أنّه وقومه شجعان يواجهون المقاتلين بصدورهم، ولا يفرّون مُدْبرين، فإذا أصابتهم الكلوم "أي: الجروح" في الحرْب كانت من جهة وجوههم فتتساقط الدماء على أقدامهم، ولم تكن من جهة ظهورهم.
الطريق التاسعة: "الطرد والعكس".
الطرد والعكس: هو أن يُؤْتَى بكلامَيْنِ يُقَرِّرُ كُلُّ مِنْها بمنطُوقه مفهوم الثاني منهما.
فهو من الإِطناب ذي الفائدة، وفائدته تأكيد منطوق كلٍّ منهما لمفهوم الآخر.
أمثلة:
(1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (التحريم/ 66 مصحف/ 107 نزول):
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
إنّ جملة: {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ} تفيدُ بمنطوقها نفي المعصية عنهم وتفيد بمفهومها إثبات الطاعة لهم.
وإنَّ جملة: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} تُفيدُ بمنطوقها إثبات الطاعة لهم، وَتفيد بمفهومها نفْيَ المعصية عنهم.
(2) قول الله عزّ وجلّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول):
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صلاةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
جاء في هذه الآية الأمْرُ بالاسْتئذان في ثلاثة أوقات، وهذا يفيد بمفهومه عدم وجوب الاستئذان في غيرها.
وجاء بعد ذلك رَفْعُ الجناح عن الطواف دون استئذان في غير الأوقات الثلاثة، وهذا يفيد بمفهومه وجوب الاستئذان فيها.
فكان كلٌّ من القولين مقرّراً بمنطوقه مفهوم الثاني منهما، وهو من التأكيد اللطيف.
الطريقة العاشرة: "الاستقصاء".
الاستقصاء: هو أن يتناول المتكلّم بيانَ معنىً، فيستقصيَهُ من كلّ جوانبه، آتياً بجميع عوارضه، ولوازمه، بعد أن يستقصي جميع أوصافه الذاتية، حتَّى لا يَتْرُكَ لمَنْ يتناولُهُ بعْدَهُ مقالاً إضافيّاً فيه.
ومن الأمثلة الرائعة للاستقصاء قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) للتحذير من إبطال أثَر الصّدقاتِ بالمنّ والأذى:
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}.
نلاحظ في هذه الآية اسْتِقْصَاءَ عجيباً.
إنّ الاقتصار على لفظ "جنَّة" كان كافياً، لكن لم يأت في الآية الاقتصار عليه، بل جاء في تفسير الجنة أنّها من نخيل وأعناب أشرف الأشجار عند العرب، فكشف الله بهذا البيان أنّ المصاب بإحْرَاق الجنة أشدّ وأعظم من كونها مجرّد جنة عاديّة.
وبعده زاد قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فصوَّر بهذه الزيادة مبلغ عناية صاحبها بها.
وأضاف بعد ذلك وصفها بقوله: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} فأتَى بكلّ ما يكونُ في الجنان، لإِظهار شدّة حزن صاحبها عليها إذا نزل به إعصار فأحرقها.
وقال بعد ذلك في وصف صاحبها: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} والإِنسان حينما تكبر سنّة يشتد حرصه على بستانه، وينقطع أَمَلُهُ مِن إِعَادَةِ تشجيره والعناية به.
وأتبع ذلك بقوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ} فأبان بهذا مبْلَغَ لَهْفَتِه، على جنته، من أجْلِ ذُرّيّتِهِ الضعفاء.
بعد هذا الاستقصاء في وصف الجنّة، ووصف حال صاحبها، ومبلغ تعلّقه بها وحرصه عليها، قال تعالى:
{فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ} والإِعصارُ أشدُّ الظواهر الكونية المهلكة للجنّات، ولم يقتصر على ذكر الإِعصار بل أضاف قولَهُ: {فِيهِ نَارٌ} وهو أعْنَفُ أنواع الأعاصير المهلكة.
وقدّم أخيراً فِقرةَ الختام التي أتمّ بها أحداث المأساة فقال تعالى: {فَاحْتَرَقَتْ}.
وكان هذا الختام آخر استقصاء صارت به الجنّة البديعة المثمرة رماداً.
كذلك حالُ من يُتْبِعُ صدَقته بالمنّ والأذى.
ما أروع هذا التمثيل وأتقَنَهُ، وأَكْثَرَه تَتبُّعاً واستقصاءً للجزئيات حتى لا مزيد عليها.
أقول: حسْبُ الاستقصاء هذا الشاهد القرآني، لأننا لا نكاد نجد في غير القرآن استقصاءً بديعاً إلاَّ في الْقِصَص المطوّلة.
الطريقة الحادية عشرة: "التعليل".
التعليل: زيادةٌ في الكلام عن أصل المعنى الذي يُقْصَدُ التعبير عنه لبيان علّته، أو سببه، أو الدليل على صحته أو نفعه وفائدته.
وفائدة التعليل الشاملِ لبيان العلّة أو السب أو الدليل:
(1) الإِقناع بصحة الكلام، أو بفائدة العمل بمقتضاه.
(2) توليد الدافع الذاتي للعمل بمقتضاه.
(3) زيادة تقرير مضمون الكلام بذكر علته، لأنّ النفوس أكثر استعداداً لتقبل الأخبار أو التكاليف المعلّلة المقرونة ببيان أسبابها وأدلتها، ممّا لو قُدّمت لها الأخبار أو التكاليف مجرّدة من ذلك.
فيكون تطويل الكلام بالتعليل وبيان الدليل إطناباً حسناً مفيداً، ذا أثرٍ في نفوس المتلقّين له.
وغالب ما جاء في القرآن من تعليل قد جاء بمثابة جواب سؤالٍ مقدّر ذهناً غير مذكور في اللّفظ.
أمثلة:
(1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأنفال/ 8 مصحف/ 88 نزول):
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}.
إنّ عبَارَةَ: {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} هي بمعنى لِتُفْلِحُوا على سبيل الرّجاء.
لقد تَمَّ المطلوب بعبارة {فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} لَكِنْ جاء التعليل بعدها لتوليد الدافع الذاتي للعمل بهذا المطلوب.
فزيادة التعليل قد كانت إطناباً نافعاً.
(2) قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول):
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}.
في هذا النصّ اقْتَرن النهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأَزْلاَمِ ببيان العلّة أو السبب أو الحكمة، لتوليد الدافع الذّاتي لاجتنابها.
فهي:
* رِجْسٌ من عَمَلِ الشيطان.
* واجْتِنَابُها سَبَبٌ يُرْجَى معه الفلاح.
* والشيطان يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس في تعاطيهم الخمرَ والْمَيْسِر، ويُريد أنْ يَصُدَّهم بهما عن ذكر اللَّهِ وعن الصلاة.
هذه الأسباب كافية في النصّ قد كانت إطناباً نافعاً.
(3) قول الله عزّ وجلّ في سورة (التين/ 95 مصحف/ 28 نزول) خطاباً للمكذّب بالدّينونة والجزاء:
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}.
جاءت آية {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} دَلِيلاً على الدينونة والجزاء، لأنّ أحكم الحاكمين لا يُمْكِنُ عقلاً أن يُسَوِّيَ بين المسلمين والمجرمين.
(4) قول الله عزّ وجلّ في سورة (العنكبوت/ 29 مصحف/ 85 نزول):
{وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
أي: ومَنْ جَاهَدَ ابْتِغَاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ فإنَّهُ إِنَّمَا يُجَاهِدُ ليُحَقِّقَ لنفسه عند الله ثواباً عظيماً، وهو بجهادِهِ لا يُضِيف إلى مُلْكِ اللَّهِ شيئاً.
هنا يَرِدُ سؤال مُقَدّر: ما السبب في قَصْرِ نفع جهاده على نفسه؟
فجاء الجواب التعليلي بعبارة: {اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، أي: إنّ الله قادرٌ على نُصْرة دينه دون مجاهد المجاهدين المؤمنين، لكن ابتلاءهم في الحياة الدنيا اقتضى تكليفهم بالجهاد لنصرة دينه، وتركَ الأمر للأسباب التي وضعها للناس.
الطريقة الثانية عشرة: "التفسير".
التفسير: أنْ يُؤْتَى بكلامٍ لاَحقٍ يُفَسَّرُ به كلامٌ سابق لإِزالة ما فيه من لَبْسٍ أو خفاءٍ.
ولمّا كان التفسير زيادة في الكلام مفيدة كان إطناباً حسناً كلَّما اقتضاه الحال، ومن التفسير أن يؤتى بالمرادف الأظهر بعد المرادف الأخفى.
أمثلة
(1) قول الله عزّ وجلّ في سورة (المعارج/ 70 مصحف/ 79 نزول):
{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}.
جاءت الآيتان "20 -21" من هذا النَّصّ مُفَسِّرَتَيْنِ لِمَعْنَى كلمة "هَلُوع" كما قال أبو العالية وغيره من قدماء أهل التفسير.
فالْهَلُوع: هو الذي إذا مسَّهُ الشَّرُّ كان جَزُوعاً، وإذا مَسَّهُ الْخَيْرُ كان منوعاً.
وهذا التفسير لم يضف إلى المعنى الذي دلّت عليه كلمة "هلوع" شيئاً، لكنَّه كان مفيداً إذْ شرح معنى كلمة هلوع، فهو إطناب حسن.
(2) قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) خطاباً لبني إسرائيل:
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}.
يَسُومُونَكُم: أي: يُحَمِّلُونَكُمْ وَيُكَلِّفُونَكُمْ.
سُوءَ العذاب: أي: أشَدَّ العذاب وأكثره مشقةً وظُلْماً.
نلاحظ في هذه الآية أنّ قَوْلَ الله تعالى فيها: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} قد جاء تفسيراً لبعض مضمون قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} فهو إطناب مفيد حَسَن.
ومعنى: {ويستحيون نساءكم} يبقون نساءكم على قيد الحياة للتسخير والخدمة.
(3) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الممتحنة/ 60 مصحف/ 91 نزول):
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ...} [الآية:1].
إنّ عِبَارَةَ: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} بيانٌ لبعض عناصر اتخاذ أعداء الله وأعداء المؤمنين أولياء، فهو من التفسير الجزئيِّ للموالاَة، وهو يدلُّ على النظير قياساً، وعلى ما هو أشدّ منه من باب أولى.
فهذا التفسير من الإِطناب المفيد الحسن.
(4) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}.
إنّ عبارة: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بيانٌ لبعض عناصر الكُفْر وَأسْبَابِه، فَهُوَ من التفسير الجزئي لكلمة {الْكَافِرِين}.
فهذا التفسير من الإِطناب المفيد الْحَسَن.
(5) قول الله عزّ وجلّ في سورة (الصمد):
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}.
قال "محمد بن كعب القرظي": {لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ} تفسيرٌ للصَّمد.
أقول: هو من التفسير الجزئيّ لا من التفسير المطابق.
الطريقة الثالثة عشرة: "وضع الاسم الظاهر موضع المضمر".
سبق في الفصل السادس "الخروج عن مقتضى الظاهر" من الباب الثاني "أحوال عناصر الجملة" جوانب مهمّة من وضع الاسم الظاهر موضع الضمير، وما يأتي في بحث "الإِطناب" هنا يُعْتَبرُ مكملاً لما جاء في بحث الخروج عن مقتضى الظاهر، وجاء التكرار لاختلاف الاعتبارات فالباحثان متكاملان.
أصل وضع الضمائر في اللّغة إنّما كان للاختصار، والتقليل من طول الكلام الذي يحصل بذكر الأسماء الظاهرة ابتداءً أو تكراراً.
فيحصل الاكتفاء بأن يكنَّى بالضمائر عن الأسماء الظاهرة، وبها يَقْصُر طول الكلام، وبهذا صار للضمائر في الكلام مواضع يعتبر استعمالها فيها هو الأصل.
ولكن قد تدعو دَوَاعي بلاغيّة لوضع الأسماء الظاهرة في مواضع استعمال الضمائر، وتَحَمُّلِ طُولِ الكلام بهذِه الأسماء الظاهرة، وبهذا دخل استعمال الاسم الظاهر موضع المضمر ضمن طرائق الإِطناب.
ونظر البلاغيّون في الدواعي البلاغيّة لهذا الاستعمال وفوائده فظهرت لهم الدواعي التالية المتضمّنة فوائده:
(1) إرادة زيادة التقرير والتمكين.
(2) قصد التعظيم والإِجلال، أو قصد تعظيم الشيء وبيان ارتفاع منزلته.
(3) قصد الإِهانة والتحقير.
(4) إرادة إزالة اللّبس إذا كان استعمال الضمير يُفضي إليه.
(5) تربية المهابة وإدْخال الرّوع على ضمير المتلقي بذكر الاسم الظاهر إذا كان ممّا يقتضي ذلك.
(6) إرادة تقوية الدافع إلى تنفيذ الأمر وتحقيق الطاعة.
(7) إرادة التلذّذ بذكر الاسم الظاهر، فالعشّاق يتلذّذون بذكر أسماء من يُحِبون، أو ما يحبّون.
(8) إرادة التوصل إلى الوصف باستعمال الاسم الظاهر.
(9) إرادة التنبيه على علة الحكم إذا كان الاسم الظاهر يدلُّ عليها أو يشير إليها.
(10) إرادة العموم إذا كان الاسم الظاهر يفيده، أو يُذْكَرُ ليُقْرَنَ بما يفيده.
(11) إرادة الخصوص إذا كان الاسم الظاهر يفيده، أو يُذْكَرُ ليقرن بما يُفيدُه.
(12) قصد الإِشارة إلى استقلاق الجملة، وعدمِ دخولها في حكم سابقتها إذا كان استعمالُ الضمير يفيدُه.
(13) إرادة مراعاة صورة جمالية في اللّفظ، أو محسّن من محسنات البديع كالجناس والتَّرصيع، إذا كان ذكر الاسم الظاهر يفيد ذلك.
إلى غير ذلك من دَوَاعي مقبولة لدى البلغاء الأذكياء.
أمثلة:
أوّلاً: في النصوص التالية وُضِعَ الاسم الظاهر موضع الضمير لزيادة التقدير والتمكين:
* {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [من سورة الصمد].
"الله" في الآية الثانية.
* {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإِسراء:105].
"بالحقّ" الثانية.
* {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} [غافر:61].
"النّاس" الثانية.
* {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78].
"الكتاب" الثانية.
* {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ...} [آل عمران:78].
"الله" الثانية.
ثانياً: في النصوص التالية وُضِعَ الاسم الظاهر موضع الضمير لقصد التعظيم والإِجلال، وقَصْد تعظيم الشيء وبيان ارتفاع منزلته:
* {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة].
* {أُوْلَائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة].
* {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإِسراء].
* {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].
وضع لفظ "ذلك" بدل الضمير.
* {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ...} [الإِنسان:1].
كان من الممكن أن يقال: إنّ خلقناه.
ثالثاً: في النصوص التالية وُضِع الاسم الظاهر موضع الضمير لقصد الإِهانة والتحقير:
* {أُوْلَائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} [المجادلة].
* {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [الإِسراء].
* {فَقَاتِلُواْ? أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء].
رابعاً: في النصوص التالية وُضِع الاسم الظاهر موضع الضمير، لإِرادة إزالة اللَّبْسِ إذ استعمال الضمير يفضي إليه:
* {الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6].
فلو قال: عليهم دائرته لأوهم أنّ الضمير عائد على الله عزَّ وجلَّ.
* {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} [يوسف/ 76].
فلو قال: ثم استخرجها من وعائه لأوهم أنَّ أخاه استخرجها من وعاء نفسه.
خامساً: في النّصوص التالية وُضع الاسم الظاهر موضع الضمير لإرادة تربية المهابة وإدخال الرّوع على ضمير المتلقّي:
* {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت].
* {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات].
* {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل].
سادساً: في النصوص التالية وُضِع الاسم الظاهر موضع الضمير لإرادة تقوية الدافع إلى تنفيذ الأمر وتحقيق الطاعة:
* {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران].
* {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ? إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج].
* {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران].
سابعاً: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير للتلذّذ بذكر الاسم قول عاشق ليلى:
*بِاللَّهِ يَا ظَبَيَاتِ الْقَاعِ قُلْنَ لَنَا * لَيْلاَيَ مِنْكُنَّ أَمْ لَيْلَى مِنَ الْبَشَرِ*
وهذا الغرض هو الذي جعل أبا نواس يقول في خمريّاته:
*أَلاَ فَاسْقِنِي خَمْراً وَقُلْ لِي: هِيَ الْخَمْرُ * وَلاَ تَسْقِنِي سِرّاً إِذَا أَمْكَنَ الْجَهْرُ*
ثامناً: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير بغية التوصّل إلى وصفه ما جاء في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) خطاباً من الله لرسوله:
{قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا اله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
إذا اعتبرنا أنَّ عِبَارةَ: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ...} من جملة ما أُمَرَ اللَّهُ به رسوله أن يقوله للناس، فقد كان الأصل أن يقول: فآمِنُوا باللَّهِ وَبي... لكنّ قصد التوصّل إلى وصف الرسول حسَّنَ وضع الاسم الظاهر موضع الضمير.
ويحتمل أن يكون الكلام قد انتهى عند لفظه: {يُمِيت} وأنْ يكونَ الكلام بَدْءاً من: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...} خطاباً مباشراً من اللَّهِ للناس، وهذا هو الأرجح فيما أرى.
تاسعاً: في النصوص التالية وُضِع الاسم الظاهر موضع الضمير للتنبيه على علة الحكم:
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [البقرة].
لم يأت النصّ: فأنزل عليهم، إنما جاء: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} للتَّنْبِيه على أنّ الحكم عليهم بإنْزَالِ الرّجز "= العذاب" كان بسبب ظُلْمِهِمْ الذي ظهرت آثاره بأعمال الفسق الذي كانوا يفسقونه.
* {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام].
كان الأصل أن تأتي العبارة بالضمير: إنَّهُمْ لاَ يُفْلِحُون، لكنْ جاء الاسم الظاهر {الظالمون} للتنبيه على أن فَلاحهم إنما هو بسبب ظلمهم.
عاشراً: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير لإِرادة العموم أو إرادة الخصوص ما يلي:
* {وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]، لم يقل: "إنَّها لأمّارَةٌ بالسُّوء" لأنّه أراد تعميم هذه الصفة على كلّ النُفُوس.
* {أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء:151]، لم يقل: "واعتدنا لهم" لأنه أراد تعميم استحقاق هذا العذاب على كلّ الكافرين.
* {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ...} [الأحزاب:50] لم يقل: "إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لَكَ" كما في مقتضى السّياق لئلاّ يُتوهَّمَ قياسُ غيره عليه، فجاء الاسم الظاهر "للنّبِيّ" للتنبيه على أنَّ الحكم خاصٌّ بالنبيّ لكونه نَبِيّاً.
أحد عشر: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير لقصد الإِشارة إلى استقلال الجملة مُعْظَمُ خواتم الآياتِ التي تنتهي بنحو:
{إنّ اللَّهَ خَبِيرٌ بما تَعْمَلوُن - إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - إنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقينَ - وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}.
وَبهده الاستقلاليّة تكون الجملة بمثابة قضيّة كليّة لها صفة العموم.
اثنا عشر: ومن وضع الاسم الظاهر موضع الضمير لمراعاة صُوَر جماليّة في اللّفظ أو مُحَسِّنٍ من مُحَسِّنَاتِ البديع، قول الله عزّ وجلّ:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * اله النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}.
{عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى}.
ملاحظات:
قالوا:
(1) إعادة الاسم الظاهر بمعناه أحْسَنُ من إعادة بلفظه.
أقول: ليس هذا عامّاً، بل ربّما كانت إعادة بلفظه هي الأحْسَن، كما وجدنا هذا في كثير من نصوص التنزيل.
(2) إعادة الظاهر في جملة أُخْرى أحْسَنُ منه في الجملة الواحدة.
(3) إعادة الظاهر بعد طول الفاصل أحسَنُ من الإِضمار، لئلا يشتغل الذهن بالبحث عمّا يعود عليه الضمير.
الطريقة الرابعَةَ عشْرة: "التأكيد".
الأصل في الكلام لتأدية المعنى المراد أنْ لا تزيد كلماتهُ عمَّا يُؤَدّي أصل المعنى، فإذا زادت عمّا يؤدّي أصل المعنى المقصود بالبيان لغرض يُقْصَدُ لدى البلغاء كان ذلك إطناباً مفيداً، كلّما دعت الحاجة إليه، كأن تكون الزيادة معه يقتضيها حال المتلقّي للكلام، أو حال المعبّر عما في نفسه، كعاشق، أو فرِحٍ أو حزين.
ومن الزيادات في الكلام عن أصل المعنى المقصود بالبيان إضافةُ المؤكّداتِ إليه مراعاةً لحال من يُوَجِّه له.
وقد سبق في الفصل الثالث من الباب الأول "مدخل إلى علم المعاني" بيان التأكيد وعدمه في الجملة الخبرية، وبيان مؤكّدات الإِسناد الخبري.
ونبحث هنا التأكيد من جهة كون الألفاظ الدالة عليه زوائد تجعل الكلام الذي أضيفت إليه يندرج في قسم الإِطناب.
والتأكيد هنا يشْمَلُ تأكيد المفرد، وتأكيد الجملتين الخبريّة والإِنشائية.
وأُبيّنُ هنا أنّ من يُوجَّهُ له الكلام، إذا كانت حاله لا تقتضي تأكيداً، كانت إضافة المؤكّدات إلى الكلام الموجّه له إسهاباً وتطويلاً لا داعِيَ له، وكان الكلام الموجّه له غير بليغ، إذ الكلام البليغ هو المطابق لمقتضى الحال.
ومن المستحسن هنا أن أُوجز عرْضَ المؤكّدات، والدواعِيَ البلاغيّة للتأكيد وأحيل مع هذا على ما سبق في الباب الأوّل من الكتاب.
إجمال المؤكّدات:
نظر البلاغيّون في المؤكّدات عند علماء العربيّة فقسّموها إلى الأقسام السّتَّة التالية:
القسم الأول: الزوائد من الحروف والكلمات التي يؤتَى بها للتوكيد.
(1) منها "أحرف الصلة" وهي حروف تُزاد للتأكيد، وهي: "إِنْ - أَنْ - مَا - مِنْ - الباء" مثل: "مَا إنْ فعلْتُ مَا تكره - لمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِير - أكْرَمْتُكَ مِنْ غَيْرِ مَا مَعْرِفَة - مَا جَاءَنَا مِنْ أَحَدٍ - مَا أَنَا بمُهمِلٍ - أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ".
قالوا: وتُزَاد "مِنْ" في النفي خاصَّة، لتأكيده وتعميمه، مثل: {مَا جَاءَنَا من بَشِيرٍ ولاَ نَذِير}.
ونظير النفي الاستفهام، مثل: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غير الله - وتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيد}.
وتزاد الباء لتأكيد النفي، وتزاد أيضاً لتأكيد الإِيجاب، مثل:
* {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}: أي: أليس اللَّهُ كافياً عبْدَهُ.
* قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بِحَسْبِ أصْحَابي الْقَتْل" أي: يكفيهم.
* {وَكَفي باللَّهِ نصيراً} أي: وكَفي اللَّهُ نَصِيراً.
وتُزاد "مَا" بعد "إذا" مثل: {وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} أي: وإِذَا أنزلت سورة... وتزادُ كَافَةً عَنْ عمل الرفع، وهي المتصلة بـ "قَلَّ" و "طَالَ" و "كَثُر" فتقولُ: قلَّمَا، وَطَالَ ما، وكثُر مَا، وتفيد التأكيد، وما هنا كفّت الفعل عن طلب الفاعل. وتُزَادُ كَافّةً عن عمل النصب والرفع، وهي المتصلة بـ "إِنَّ" وأخواتها "إنّما - أنَّما - ليتما...". وتزاد كافةً عن عمل الجرّ، وهي التي تتصل بأحرف جرّ، أو بظروف، فالأحرف التي تتصل بها هي: "رُبّ - الكاف - الباء - مِنْ" فيقال: "رُبّما - كَمَا - بِمَا - مِمّا" وتتصل بظرفين: هما: "بعد - بين" فيقال: "بَعْدَما - بينما". وقد تُزاد بين المضاف والمضاف إليه، مثل: "من غيرِ ما مَعْرِفَة".
وأكثر ما تزاد "إِنْ" بعد "ما" النافية، مثل: "مَا إِنْ فَعَلْتُ هذا" وقد تُزَادُ بَعْدَ "مَا" الموصولة الاسمية، وبعد "ما" التي بمعنى حين، مثل قول جابر بنِ رَأْلاَن:
*وَرَجِّ الْفَتَى لِلْخَيْرِ مَا إِنْ رَأَيْتَهُ * عَلَى السِّنِّ خَيْراً لاَ يَزَالُ يَزِيدُ*
وقد تُزادُ بعد "ألاَ" الاستفتاحيّة.
وَتُزَادُ "أَنْ" بعد "لمَّا" الحينيّة، مثل: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ البشير}.
وقد تزاد بين الكاف الجارّة ومجرورها، مثل قول كَعْب بن أرقم اليشكري:
* ويَوْماً تُوافِينَا بِوَجْهٍ مُقَسَّمٍ * كَأنْ ظَبْيَةٍ تَعْطُو إِلَى وَارِقِ السَّلَم*
وقد تزاد بين فعل الْقَسَمِ وحروف "لو" مثل: أُقْسِمُ أَنْ لَوْ جَاءنَي البشير لأُكَافِئنَّه.
وَتُزَادُ "مِنْ" فتُفِيد التوكيد، أو التنصيص على العموم، أو تأكيد التنصيص على العموم، ولا تكون زائدة إلاَّ بثلاثة شروط:
الأوّل: أن يسبقَها نفيٌ، أو نَهْيٌ، أو استفهامٌ بحرف "هل".
الثاني: أن يكون مجرورها نكرة.
الثالث: أن يكون مجرورها إمَّا فاعلاً، مثل {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ}.
وإمّا مفعولاً، مثل: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ}.
وَإمّا مُبْتدأً، مثل: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله}.
(2) وقد يُزادُ للتأكيد فعل "كان" وفعل "أصبح" قالوا: ومن زيادة فعل "كان" ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ: {قَالُوا: كَيْفَ نُكلِّمُ مَنْ كانَ في الْمَهْدِ صَبِيّاً} أي: كيف تكلّم صبيّاً في المهد، فجاء تأكيد هذا الوصف بِزيادة فعل "كان".
(3) وقد يزاد للتأكيد لفظ "أَمَا" بمعنى "حقّاً" مثل: "أَمَا إِنَّه رَجُلٌ عاقل".
(4) ويزادُ للتأكيد حرفا الاستقبال، وهما: "السين - وسوف" إذْ هما لتأكيد معنى الاستقبال في الفعل المضارع.
(5) ومن المؤكّدات الأحرف المشبّهة بالفعل: "إِنَّ - أَنَّ - كَأَنَّ - لَكِنَّ - لَيْتَ - لَعَلَّ".
* فحرفا "إِنَّ - وأَنَّ" لتأكيد الجملة الخبريّة.
* وحرف "كَأَنَّ" للتشبيه مع التأكيد.
* وحرف "لَكِنَّ" للاستدراك مع التأكيد.
* وحرف "لَيْتَ" للتّمَنِّي مع التأكيد.
* وحرف "لَعَلَّ" للترجّي مع التأكيد.
(6) ومن المؤكدات: "لام الابتداء" وهي اللام التي تفيد توكيد مضمون الجملة، وتخليص المضارع للحال، وتدخل على صدر الجملة الاسميّة، والفعل المضارع، والفعل الذي لا يتصرّف.
ومن لام الابتداء اللاّم المزحلقة عن صدر الجملة الاسميّة فتدخل على خبر "إنّ" أو معمول خبرها، أو على اسم "إنّ" إذا كان متأخّراً عن الخبر، وعلى ضمير الفصل.
وتأتي اللام زائدة للتوكيد كقول رؤبة بن العجاج:
*أُمُّ الْحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ * تَرْضَى مِنَ اللَّحْمِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ*
(7) ومن المؤكّدات "ضمير الشأن" و "ضمير الفصل".
(8) ومن المؤكّدات حرف "قد" و "أمَّا" الشرطية للدلالة على الشرط مع التأكيد.
(9) ومن المؤكّدات "نونا التأكيد الثقيلة والخفيفة".
(10) ومن المؤكّدات "لَنْ" لتأكيد النفي في المستقبل و "لَمَّا" لتأكيد النفي في الماضي.
(11) قالوا: وفي "ألا" و "أما" الاستفتاحيتان معنى التأكيد.
وفي "هاء" التنبيهِ التنبيهُ مع التأكيد، وقد تأتي "يا" للتنبيه مع التأكيد، وصورتها صورة "يا" التي ينادى بها.
(12) وما يُقْسَمُ به من حروف أو أفعال أو أسماء هي مؤكدات تضاف في الكلام للتأكيد، وكذلك اللام الواقعة في جواب القسم.
(13) ومن المؤكدات "لا" النافية للجنس.
القسم الثاني: "التوكيد اللفظي":
ويكون بإعادة المؤكَّدِ بلفظه أو بمرادفه، سواءٌ أكان اسماً ظاهراً، أمْ ضميراً، أم فعلاً، أم حرفاً، أم جملةً.
وفائدة التوكيد اللّفظي تقرير المؤكَّد لَدَى من يُوجَّه له الكلام، وتمكينه في نفسه، وإزالةُ ما لديه من شُبَهٍ حوله، مثل: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} ومن التأكيد بالمرادف قول الله عزَّ وجلَّ: {أمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}.
القسم الثالث: "التوكيد المعنوي":
ويكون بذكر ألفاظ "النفس - أو العين - أو كُلّ - أو جميع - أو عامّة - أو كِلاَ - أو كلتا".
ويشترط للتأكيد بها أن تضاف إلى ضمير يناسب المؤكَّدَ، مثل: "جاء خالد نفسه - حضر رئيسا البلدين أنفسهما - اجتمعت الضَّرَّتَان كلتاهما - فسجَدَ الملائكة كُلُّهُم أَجْمَعُون".
ويقوَّى التوكيد المعنوي بالكلمات المؤكّدة التالية:
(1) "أجمع" يؤتَى بها بعد كلمة "كلّه" مثل: "جاء القطيع كلُّه أجمع".
(2) "جَمْعَاء" يؤتَى بها بعد كلمة "كلّها" مثل: "حضرت القبيلة كلُّها جمعاء".
(3) "أجمعون" يؤتى بها عد كلمة "كلّهم" مثل: "جاهد القوم كلُّهم أَجْمَعُون".
(4) "جُمَع" يؤتى بها بعد كلمة "كلُّهُن" مثل: "نجح طالبات المدرسة كُلُّهُنَّ جُمَع".
وقد يؤكد بهذه الكلمات دون أن يتقدَّمَهُنَّ لفظ "كُلّ".
القسم الرابع: "تأكيد الفعل بمصدره".
ويكون بما يُسَمَّى "المفعول المطلق" وهو عوضٌ عن تكرار الفعل مرتين.
وفائدته رفع توهم المجاز في الفعل، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ: {وَكلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليماً} أي تكليماً حقيقيّاً، لا تكليماً مجازيّاً.
القسم الخامس: "الحال المؤكّدة".
وهي الحال التي يُسْتفاد معناها بدونها، وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الحال المؤكّدة لعاملها، وتكون:
(1) من لفظ العامل، مثل: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً}.
(2) أو من معنى العامل، مثل: "مشَى الرَّجُل سَيْراً".
النوع الثاني: الحال المؤكّدة لصاحبها، مثل قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس:99].
النوع الثالث: الحال المؤكّدة لمضمون جملة، مثل ما جاء في قول الله تعالى: {هَاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}. [الأعراف:73].
والعامل في هذه الحال المؤكدة لمضمون جملة محذوفٌ مقدّر ذهناً بما يلائم الكلام في الجملة.
القسم السادس: صيغ المبالغة التي يؤتى بها للتأكيد، مثل: "غَفّار - شكور - رحيم - جبّار - قهّار" إلى غير ذلك من صيغ المبالغة القياسية والسماعية.
دواعي التأكيد:
للتأكيد دواعي كثيرة، منها ما يلي:
(1) حالة الإِنكار لدى من يُوجّه له الكلام، وتزداد المؤكِّدات بحسب قُوَّة الإِنكار.
(2) حالة الشّكّ والتردّد لذى من يُوجّه له الكلام، وتزداد المؤكدات بحسب قوة الشك والتردّد.
(3) تنزيل غير المنكر وغير الشاك منزلة أحدهما، إذا ظهرت عليه علامات الإِنكار أو الشك، أو لم يعمل بمقتضى علمه بحسب ما لديه من ذلك.
(4) دفع توهم المجاز.
(5) تقرير الكلام وتمكينه وتثبيته، مراعاة لمضمون الكلام الذي تتطلب طبيعته تقريراً وتمكيناً، أو مراعاة لحال من يوجّه له الكلام.
إلى غير ذلك من دواعي بلاغية، كالترغيب، والترهيب، والإِطماع.
وقد يترك التأكيد مع إنكار من يوجّه له الكلام لداعٍ بلاغيّ آخر أقوى، كأن يكون الكلام مقترناً بأدلّة قوية ظاهرة لو تأمّلها لرجع عن إنكاره.
أمثلة:
المثال الأول:
في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول) ضرب الله مثلاً قصة أصحاب القرية التي جاءها المرسلون (ذكروا أنها أنطاكية) قال الله عزَّ وجلَّ:
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ? إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ}.
دَلَّ هذَا عَلَى أنَّ الْمُرْسَلَيْنِ الاثنْين قالاَ لأصْحَاب القرية: نَحْنُ رسُولاَنِ إليكم، فكذّبُوهما.
فأرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ مُرْسَلاً ثَالِثاً، قال الله تعالى:
{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ? إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ}.
هنا نلاحظ أنّ إنكارَهُمْ ناسَبَهُ أَنْ يُؤَكَّدَ لَهُمُ الكلام، فاقترنت عبارتهم: {إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} بمؤكِّدَين: الجملة الاسمية، وحرف "إنَّ" وقد نلاحظ في تقديم المعمول {إليكم} مع التخصيص أو الاهتمام معنى التأكيد.
فكان موقف أصحاب القرية ما أبانه الله بقوله:
{قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَانُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ}.
فاقتضى هذا الإِصرار على الإِنكار والتكذيب، أن يزيد الرُّسُل بيانَهُمْ تأكيداً، قال الله عزَّ وجلَّ:
{قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}.
فأضَافُوا إلى المؤكّدات السابقات تَأْكيداً بالْقَسَمِ: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} وباللاّم المزحلقة، الّتي هي لام الابتداء، زُحْلِقَتْ إلى خبرَ "إنّ" فهي الداخلة على "مُرْسَلُون".
فتكاثرتْ نِسْبَةُ المؤكّدات بحسب الإِمعان في التكذيب والإِنكار.
المثال الثاني:
في عرض لقطات من قصة نوح عليه السلام وقومه في سورة (المؤمنون/ 23 مصحف/ 74 نزول) أبان الله عزَّ وجلَّ أنّ نوحاً سأل ربَّه أن ينْصُرَهُ فقال: {رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}.
فأوحى الله إليه أن يصْنَعَ الفلْكَ، حتَّى إذا أتَّمَهَا وَجَاءَ أَمْرُ اللَّهِ فَإنّ عليه أولاً: أنْ يَسْلُكَ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَجَميعَ أَهْلِهِ باسْتِثْنَاءِ مَنْ سَبَقَ عَلَيْه قَوْلُ اللَّهِ بأنَّهُ من المهلكين بسبب كفره، وإنّ عليه ثانياً أنْ لا يسأَلَ رَبَّهُ في رفْعِ عَذَاب الْهَلاَكِ عَنْ قَوْمِهِ.
ولمّا كان قَلْبُ نوح الحليم الرحيم من طبيعته أن يتحرّكَ بعاطفة نَحْو قومه، فلَرُبّما سألَ رَبَّهُ أن يرفع العذاب عنهم أو يؤخره، كانت حالته تستدعي تأكيد القضاء الرّبّانيّ بإغراقهم، حتَّى لاَ يكون لدى نوح أمَلٌ بخلاف ذلك، فقال الله تعالى له: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ}
فأكَّدَ له قرار إغراقهم بحرف التأكيد "إنَّ" مراعاةً لحالته القلبيَّة الحليمة الرّحيمة.
المثال الثالث:
* وفي إطماع الله عبادَه أكَّدَ لهم أنّه تَوَّابٌ رَحِيمٌ، فقال تعالى في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
فأكَّدَ بِصِيغَتَيْنِ مِنْ صيغ المبالغة وبالجملة الاسميّة.
* وفي معرض بيان توبة اللَّهِ على آدم عليه السلام، واطماعاً لكلّ التائبين من بعده قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة) أيضاً:
{فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
فأكَّدَ بالمؤكدات التالية: "إِنَّ - والجملة الاسميّة - وضمير الفصل - وصيغتي المبالغة".
الطريقة الخامسة عشرة: "زيادة بعض التوابع في الكلام".
قد تزادُ بعض التوابع في الكلام دون أن يكون وجودها مؤدّياً شيئاً من المعاني الأصليّة المقصودة بالبيان، لكنَّ زيادتها في الكلام مفيدة فائدة تُقْصَدُ لدى البلغاء، فتكون هذه الزيادة من الإِطناب البليغ، إذا دعت الحاجةُ إليها.
أمّا إذا كان المعنى المقصود بالبيان لا يتحقّق إلاَّ بذكرها في الكلام، فإنّ ذكرها لا يكون زيادةً أصلاً، ولا يكون به الكلام داخلاً تحت عنوان الإِطناب.
وظاهر أَنَّ الزيادة إذا لم تكن ذات فائدةٍ تُقْصَدُ لدى البلغاء كانت إسهاباً وَتطويلاً غير بليغ.
وهذه التوابع: هي "الصفة - البدل - عطف البيان - عطف النسق".
ويلاحظ في الدواعي البلاغية لزيادة التوابع في الكلام ما يلي:
الداعي الأول: التأكيد.
الداعي الثاني: التوضيح ودفع الاشتباه.
الداعي الثالث: المدح، أو الذَّم.
الداعي الرابع: التفجّع.
الداعي الخامس: إرادة التعريض بغير المذكور.
إلى غير ذلك مما يزيد على المعاني الأصليّة المقصودة بالبيان. فالزيادة بذكر بعض التوابع لتحقيق غرضٍ بلاغي هي من الإِطناب المفيد البليغ.
أمثلة:
(1) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 12 نزول):
{إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاءَ...} [الآية:44].
جاء في هذه الآية وصْفُ النبيين بعبارة {الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} وهذا الوصف من الأوصَاف التي تضمَّنَهَا كوْنُهُمْ نَبِيّين، فَهُو زيادة، لكنّها زيادة مفيدة، وفائدتُها إظهارُ شَرَفِ التطبيق الإِسلاميّ وعظمِ مكانته عند الله، والتَّعْريضُ باليهود المخالفين لما كان عليه أنبياؤُهم، وبيان أنّ النّبيّ لا يُعْفي من التطبيقات الإسلامية.
(2) عبارة "أَعَوذُ باللَّهِ من الشَّيْطَانِ الرجيم" جاء فيها وصف الشيطان بأنه رجيم، مع أنّ ذكر كلمة الشيطان تدلُّ على أنّه مطرودٌ من رحمة الله، ومرجوم بكلّ مذمّة، لكنّ ذكر كلمة رجيم ذو فائدة، وفائدتُه تكرير التذكير بطرد اللَّهِ له، للتّنفير من تسويلاته ووساوسه، وشَحْنِ النفس بمعاداته، وعَدَمِ اتّباع خُطُواته.
(3) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول):
{وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ الهيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ اله وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ}.
جاء وصف لفظ: {الهيْنِ} بكلمة {اثْنَيْنِ} مع أنّ التثنِيَة تَدُلُّ على هذا الوصف، فما الفائدة من هذه الزيادة لتكون إطناباً بليغاً؟
أقول: إنّ كلمة {إلهين} قد تُوهِمُ أنّ صنفان أو نوعان من الآلهة، كإلهَيْن مخلوقين، أو حادثين، أو قديمَيْن أو نحو ذلك، فجاء الوصف بكلمة {اثْنَين} لإِفادة النَّهْي عَنْ مُجرّد جعل المعبود اثنين بأيّةِ صورة من الصُّور، وجاءت عبارة {إِنَّمَا هُوَ اله وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} للدّلالة على بطلان تعدّد الآلهة اثنين فصاعداً.
(4) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحاقة/ 69 مصحف/ 78 نزول):
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}.
جاء في هذا النصّ وصف النفخة بأنها واحدة، ووصف الدكَّةِ بأنّها واحدة، وقد يقول قائل: أليست كلمة "نفخة" وكلمة "دكَّة" تدلُّ على كونها واحدة.
والجواب: أنّ كلمة "نفخة" وكذلك "دكَّة" ونظائرهما استعمال قد يُراد به الجنس، وهو يَصْدُقُ بالواحد من الجنس فأكثر، ودفعاً لهذا الاحتمال الذي قد يدلُّ عليه مثل هذا الاستعمال جاء الوصف مُحَدِّداً بأنَّ النفخة واحدةٌ عدداً، وبأنّ الدَّكَّةَ واحدةٌ عدداً، فهذه الزيادة من الإِطناب البليغ.
(5) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.
جاء في هذه الآية وَصْفُ كلمة [طَائِرٍ] بعبارة: [يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ] وقد يقول قائل ما فائدة هذا الوصف مع أنَّ من المعروف أنَّ الطائر يَطيرُ بجناحيه؟
والجواب: أنّ كلمة: "طَائر" عامّةٌ في كُلِّ ما يرتَفعُ إلى الأعلى، وقد يُطْلَق مجازاً على الذي يسير بسرعة على الأرض، وقد أطلق هذا اللفظ في القرآن مراداً به العمل الذي يطير عن الذي عمله بمجرّد فعله له، وهذا في قول الله تعالى في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول):
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفي بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}.
فدفعاً لتوهُّم إرادة كلِّ كما يمكن إطلاق لفظ "طَائِر" عَلَيهِ حقيقة أو مجازاً، وللنصّ على أنّ المراد الحيوان الذي يطير بجناحيه، جاء في الآية الوصف بأنّه يطير بجناحيه، فهو من الإِطناب البليغ.
(6) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفاتحة):
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ}.
إنّ عبارة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدَلٌ من عبارة {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وهذا البدل هو الإِطناب البليغ، إذْ لا يتوقَّفُ عليه أصل المعنى، لكنَّهُ ذو فائدة جليلة، وهي بيان أنَّ الصراط المستقيم هو صراط كلّ الذين أنعم الله عليهم في كُلّ الأُمَم سواءٌ أكانُوا رُسُلاً أم غير رُسُل.
(7) قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112):
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ...} [الآية:97].
إنّ عبارة {البيت الحرام} هي عطف بيان، وقد زيد في الكلام للمدح وبيان حرمة الكعبة، فهو إطنابٌ مفيد.
ملاحظة:
ذكروا من الأمثلة ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحج/ 22 مصحف/ 103 نزول):
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
قالوا: إنّ وصف {القلوب} بعبارة: {الّتي في الصُّدُور} هو من الإِطناب.
أقول: إِنَّ الْقَلْبَ أُطْلِقَ في الْقُرْآنِ على القوّة المدركة للمعارف، وأُطْلِقَ على مواطِنِ الإِرادة والعواطف، أو مراكز التأثُّرِ بها.
فالقوة المدركة للمعارف هي في الدماغ، وهو في الرأس، أمَّا مواطن ظهور الرَّغبات، والعواطف والانفعالات، ومَرَاكزُ حركة عواطف الإِيمان والكفر، وحركة الإِرادات للأعمال، فهي في القلوب الّتي في الصدور، وهذه القلوب التي في الصدور قد يحصل لديها عَمَىً، فتخالِفُ ما أدركته الأذهان من الحق، لانطماس بصيرتها بالأهواء والشهوات، فيكون من آثار ذلك كفرٌ وحركة إراداتٍ نحو أفعال الشرّ، وهذا هو الْعَمَى الحقيقي الذي يُصَاب به أهل الكفر والضلال.
إنّ قُواهم المدْركة الذهنية قد لا تكون عمياء، لكنّ مراكز ظهور وحركةِ إرادتهم وعواطفهم ورغباتهم هي العمياء، وهذه في الصدور لا في الرؤوس.
وبهذا التحليل يكون وصف (القلوب) بعبارة: (التي في الصدور) قيداً لازماً في هذا المقام، ولا يتمُّ المعنى المقصود إلاَّ به، فهو ليس من الإِطناب أصلاً، بل الجملة تدخل تحت عنوان "المساواة".
أمّا نَفْيُ العمَى عَن الأبْصار في عبارة: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ} فالمراد منه نَفْيُ الْعَمَى الدَّافعِ إلى الكفر والضلال، إذِ الكلام في الآية جَارٍ في الْمَساق، وهذا حقٌّ، والواقع المشاهد يُؤَيِّده فكثيرٌ منَ الذين كُفَّتْ أَبْصَارُهُم عن النظر هم من أكثر الناس إيماناً وهدايةً واستقامةً على صراط الهداية، ولَمْ يؤثّر عليهم حِرْمَانُهُمْ مِنْ نعمة الْبَصَر تأثيراً سَلْبِيّاً تُجَاهَ الْحَقّ والخير والفضيلة وفعل الصالحات.
فالعَمى الحقيقيُّ الصارف عن السعادة الخالدة هو عَمَى القُلُوبِ الَّتِي في الصُّدُور.
وأمّا عَمَى الأذهان والأفكار فهو مَرَضٌ يَرْفع المسؤوليَّة عن المكلَّف، ويُدْخِلُه في صنف الْبُلْهِ أو المجانين.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|