أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-10-2019
1068
التاريخ: 24-03-2015
1652
التاريخ: 23-03-2015
2757
التاريخ: 15-12-2019
5962
|
ومن الأغراض القديمة التي خلع عليها البارودي لباس الجدة، وظهرت فيها شخصيته واضحةً مجليةً تفصح عن نفسه الأبية المتمردة على الظلم والطغيان، المحبة للعدالة والشورى والمساواة بين الناس، ذلك الشعر السياسيّ الوطنيّ الذي دفعه إلى مركز الصدارة بين أبناء شعبه، وجعل منه زعيمًا محبوبًا، ولذلك أُلْقِيَ به في غيابة السجن، ورُمِيَ به بعيدًا عن وطنه، ويا ليته كفَّ عن مثل هذا الشعر وهو يتجرع غصص النفي والتشريد والمرض، بل زفر زفرات حارة كادت تحرق الطاغين المعتدين بشواظها الملتهب، ولذلك طالت غيبته عن دياره, وخالف أولو الأمر من عودته حتى لا يعيدها جذعًا مشبوبة الضرام، ولما هدأت ثائرته، وكسرت حدته وخفت شرته، واشتكى ما به من ضعف وهزال، ودَبَّ إلى جسمه دبيب الفناء، أمنوا جانبه, فأعادوه إلى وطنه.
كان البارودي طموحًا، يعتلج في حنايا صدره أمل كبير يود أن يجدد به مجد أسلافه، وقد رزق العقل الذكيّ، والفؤاد الأبيّ، والعلم والبصيرة، فلِمَ لا يصل إلى ما لا يريد؟ ولكن ما كل ما يشتيه الإنسان ويأمله يسهل نواله، وقد وقفت في سبيل البارودي عقبات شتَّى, وظل الأمل يساروه على الرغم من هذه الصعاب.
ويلاه من حاجة في النفس هام بها ... قلبي، وقصر عن إدراكها باعي
أسعى لها وهي مني غير دانية ... وكيف يبلغ شأو الكوكب الساعي؟
ويعترف بهذه العراقيل التي تعترض طريقه، ولولاها لنال ما تمنى.
وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت ... لسطوته البدو المغيرة والحضر
وهذا من أصرح الأبيات التي أشار فيها إلى ما يهيم به فؤاده، وإن كان قد ساقه في معرض الفخر بالشجاعة واقتحام ميادين القتال, وقد أخفق البارودي في تحقيق آماله, واعتذر عن هذا الإخفاق كما مر بنا.
(1/207)
ويلوح لنا أن البارودي كان بطبعه محبًّا للحرية, ومتمردًا على الظلم، شأن كل شجاعٍ شريفٍ، ولعل للوراثة، وللنشأة أثرًا في هذا؛ ولقد غذاهما ما حفظه من شعر الحماسة والقوة عند العرب، وهم أبطال الحرية في فيافيهم الواسعة، وقد تغنوا بحروبهم وشجاعتهم وانتصاراتهم وأنفتهم، وكان شعرهم سجلًّا وافيًا لمكارم أخلاقهم، وقد قرأه البارودي وهو بعد شاب غرير، فرسخت هذه الصفات في ذهنه، وشَبَّ مطبوعًا عليها يتمثلها نماذج يحتذيها، يرددها في شعره, ويود أن يحققها عملًا في الحياة، ويقول:
لا عيب في سوى حرية مَلَكَت ... أعنَّتِي عن قبول الذل بالمال
تبعت خطة آبائي فسرت بها ... على وتيرة آداب وآسال(1)
ويقول:
دع الذل في الدنيا لمن خاف حتفه ... فللموت خير من حياة على أذى
ولقد صوّر البارودي الفساد الذي شاع أمره في مصر، واضطراب أحوالها, والفزع الذي ملأ قلوب الناس، وتنبأ بالثورة الدامية قبل حدوثها، مما يدل على أنه كان على صلة بزعمائها، وأن الناس قد ضاقوا ذرعًا بهذا الفساد وبرموا به, ولابد من سبيل إلى الإصلاح، وذلك حيث يقول:
تنكرت مصر بعد العرف واضطربت ... قواعد الملك حتى ريع طائره
فأهمل الأرض جر الظلم حارثها ... واسترجع المال خوف العدم تاجره(2)
واستحكم الهول، حتى ما يبيت فتى ... في جوشن الليل إلّا وهو ساهره(3)
ويلمه سكنًا، لولا الدفين به ... من المأثر ما كنا نجاوره
أرضى به غير مغبوط بنعمته ... وفي سواه المنى لولا عشائره
(1/208)
يا نفس لا تجزعي فالخير منتظر ... وصاحب الصبر لا تبلى مرائره
لعل بلجة نور يستضاء بها ... بعد الظلام الذي عمت دياجره
إني أرى أنفسًا ضاقت بما حملت ... وفي الجديدين ما تغنَّى فواقره
شهران أو بعد شهر إن هي احتدمت ... وفي الجديدين ما تغني فواقره
فإن أصبت فمن رأي ملكت به ... علم الغيوب، ورأي المرء ناظره
وقد ذكرنا فيما سبق كيف أن البارودي كان من زعماء الثورة، وأنه كان يطمع في الانقلاب، ولكن لما رأى التيار عنيفًا، وتدخلت فرنسا وإنجلترا، أحجم وتردد ونصح لقومه فلم ينتصحوا، ولم يكن بدًّا من السير في الشوط حتى الغاية، وللبارودي في إبَّان الثورة، وبعدها شعر ملتهب حمية وحماسة وتمردًا على الظلم، أنصت إليه وهو يحرض المصريين على الثورة, ويهيب بهم ألا يستكينوا للحاكم المستبد، ويصور لهم نفوسهم العاجزة الضعيفة بقوله:
فيا قوم هبوا إنما العمر فرصة ... وفي الدهر طرق جمة ومنافع
أصبرًا على مس الهوان وأنتم ... عديد الحصى؟ إني إلى الله راجع
وكيف ترون الذل دار إقامة ... وذلك فضل الله في الأرض واسع
أرى أرؤسًا قد أينعت لحصادها ... فأين ولا أين السيوف القواطع؟
فكونوا حصيدًا خامدين أو افزعوا ... إلى الحرب حتى يدفع الضيم دافع
أهبت فعاد الصوت لم يقض حاجة ... إليّ، ولباني الصدى، وهو طائع
فلم أدر أن الله صور قلبكم ... تماثيل لم يخلق لهن مسامع
فلا تدعوا هذي القلوب، فإنها ... قوارير محنيٌّ عليها الأضالع
(1/209)
ويقول معرضًا بالحاكم المستبد:
يأيها الظالم في ملكه ... أغرك الملك الذي ينفد
اصنع بنا ما شئت من قسوة ... فالله عدل، والتلاقي غد
وكان من الداعين إلى نظام الشورى، وقد مدح توفيقًا لما تولّى أريكة مصر, وظن المصريون أنه سيحقق آمالهم الوطنية, ويلبي دعوتهم إلى الأخذ بالشورى؛ حتى لا يستبد الحكام، ولا يقعوا في أخطاء تجلب عليهم وعلى قومهم المصائب كما حدث لإسماعيل:
سن المشورة وهي أكرم خطة ... يجري عليها كل راع مرشد
هي عصمة الدين التي أوحى بها ... رب العباد إلى النبي محمد
فمن استعان بها تأيد ملكه ... ومن استهان بأمرها لم يرشد
أمران ما اجتمعا لقائد أمة ... إلّا جنى بهما ثمار السؤدد
جمع يكون الأمر فيما بينهم ... شورى، وجند للعدو بمرصد
هيهات يحيا الملك دون مشورة ... ويعز ركن المجد ما لم يعمد
ويقول فيها مادحًا توفيقًا:
أطلقت كل مقيد وحللت كل ... معقد وجمعت كل مبدد
وتمتعت بالعدل منك رعية ... كانت فريسة كل باغٍ معتد
ويحرِّضُ الأمة على اليقظة والقوة، حتى لا يستهين السلطان بأمرها:
وكذلك السلطان إن ظن بالأمة ... عجزًا سطا عليها وشدا
ولما أخفقت الثورة وتخاذل الثوار، وخان بعضهم بعضًا، ترك هذا الإخفاق، وذياك الخذلان في نفسه مرارة ظل أثرها في لسانه مدةً، فأخذ يلفظ بشعرٍ مريرٍ, فيه أثر الموجدة والغضب من مثل قوله:
(1/210)
كنا نود انقلابًا نستريح به ... حتى إذا تَمَّ ساءتنا مصايره
ويقول ذامًّا للثورة والثوار، ويحاول أن يتنصل من تبعاتها، وأن ما ناله كان بسبب ما دب بينهم من الشحناء، وأنهم غدورا به:
صبرت على ريب هذا الزمان ... ولولا المعاذير لم أصبر
فلا تحسبني جهلت الصواب ... ولكن هممت فلم أقدر
ثنت عزمتي ثورة المفسدين ... وغلت يدي فترة العسكر
وكنَّا جميعًا فلما وقعت ... صبرت وغادرني مشعري
ولو أنني رمت أعناتهم ... لقلت مقالة مستبصر
ولكنني حين جد الخصام ... رجعت إلى كرم العنصر
وحاول البارودي أن يبرئ نفسه, ويعلل هزيمته, ويصف حنث الثوار في أيمانهم ومواثيقهم وتخاذلهم، ويتندم على زعامته:
دعوني إلى الجلى فقمت مبادرًا ... وإني إلى أمثال تلك لسابق
فلما استمرَّ الجد ساقوا حمولهم ... إلى حيث لم يبلغه حاد وسائق(4)
فلا رحم الله أمر أباع دينه ... بدنيا سواه، وهو للحق رامق
على أنني حذرتهم غب أمرهم ... وأنذرتهم لو كان يفقه مائق(5)
وقلت لهم كفوا عن الشر تغنموا ... فللشر يوم -لا محالة- ماحق
فظنوا بقولي غير ما في يقينه ... على أنني في كل ما قلت صادق
فتبًّا لهم من معشر ليس فيهم ... رشيد ولا منهم خليل يصادق
ظننت بهم خيرًا فأبت بحسرة ... لها شجن بين الجوانح لاصق
فيا ليتني راجعت حلمي ولم أكن ... زعيمًا وعاقتني لذاك العوائق
ويا ليتني أصبحت في رأس شاهق ... ولم أر ما آلت إليه الوثائق
هم عرضوني للقنا، ثم أعرضوا ... سراعًا، ولم يطرق من الشر طارق
وقد أقسموا ألّا يزلوا فما بدا ... سنا الفجر، إلّا والنساء طوالق
(1/211)
ثم يصف فزعهم وفرارهم من المعركة بقوله:
مضوا غير معذورين لا النقع ساطع ... ولا البيض في أيدي الكماة دوالق(6)
ولكن دعتهم نبأة، فتفرقوا ... كما انقض في سرب من الطير باشق(7)
فكم آبقٍ تلقاه من غير طارد ... وكم واقف تلقاه والعقل آبق
إذا أبصروا شخصًا يقولون: جحفل ... وجبن الفتى سيف لعينيه بارق
أسود لدى الأبيات بين نسائهم ... ولكنهم عند الهياج نقانق(8)
إذا المرء لهم ينهض بقائم سيفه ... فيا ليت شعري، كيف تحمي الحقائق؟
وقد اتهم البارودي بأنه يطمع في الملك، وأنه يحاول ثل العرش، وخلع توفيق، فقال منكرًا هذه التهمة، معللًا ثورته بعد أن نُفِيَ إلى "سرنديب".
يقول أناس إنني ثرت خالعًا ... وتلك هنات لم تكن من خلائقي
ولكنني ناديت بالعدل طالبًا ... رضا الله، واستنهضت أهل الحقائق
أمرت بمعروف وأنكرت منكرًا ... وذلك حكم في رقاب الخلائق
فإن كان عصيانًا قيامي فإنني ... أردت بعصياني إطاعة خالقي
وهل دعوة الشورى على غضاضة ... وفيها لمن يبغي الهدى كل فارق؟
بلى! إنها فرض من الله واجب ... على كل حي من مسوق وسائق
وكيف يكون المرء حرًّا مهذبًا ... ويرضى بما يأتي به كل فاسق؟
فإن نافق الأقوام في الدين غدرة ... فإني بحمد الله غير منافق
على أنني لم آل نصحًا لمعشر ... أبى غدرهم أن يقبلوا قول صادق
رأوا أن يسوسوا الناس قهرًا فأسرعوا ... إلى نقض ما شادته أيدي الوثائق
فلما استمر الظلم، قامت عصابة ... من الجند تسعى تحت ظل الخوافق
وشايعهم أهل البلاد فأقبلوا ... إليهم سراعًا بين آتٍ ولاحق
يرومون من مولى البلادج نفاذ ما ... تألاه من وعد إلى الناس صادق
(1/212)
وإذا كان البارودي قد أنكر هذه التهمة هنا ونفاها عن نفسه، ففي شعره ما يثبتها ويدل على أنه كان يطلب من الثوار أن يولوه عليهم حاكمًا، ويمدح نفسه، ويطري حكمه، ومن البديهيّ أنه لم يرد رئاسة الوزارة, فقد كان رئيسًا للوزارة، ولكنه يريد ما هو أعلى منها، وتراه يذم هؤلاء الذين يقفون في سبيله ويكيدون له:
من كل وغد يكاد الدست يدفعه ... بغضًا ويلفظه الديوان من ملل
ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت ... قواعد الملك حتى ظل في خلل
وأصبحت دولة الفسطاط خاضعة ... بعد الإباء وكانت زهرة الدول
إلى أن يقول:
بئس العشير وبئست مصر من بلد ... أضحت مناخًا لأهل الزور والخطل
أرض تأثل فيها الظلم وانقذفت ... صواعق الغدر بين السهل والجبل
وأصبح الناس في عمياء مظلمة ... لم يخط فيها امرؤ إلا على زلل
أصوحت شجرات المجد أم نضبت ... غدر الحمية حتى ليس من رجل؟!
لا يدفعون يدًا عنهم ولو بلغت ... مس العفافة من جبنٍ ومن خزل(9)
فما لكم لا تعاف الضيم أنفسكم ... ولا تزول غواشيكم من الكسل
فبادورا الأمر قبل الفوت وانتزعوا ... شكالة الريث فالدنيا مع العجل
وقلدوا أمركم شهمًا أخًا ثقةً ... يكون ردءًا لكم في الحادث الجلل
ماضي البصيرة غلاب إذا اشتبهت ... مسالك الرأي صاد الباز بالحجل
إن قال بر، وإن ناداه منتصر ... لبى، وإن هم لا يرجع بلا ثقل
يجلوا البديهة باللفظ الوجيز إذا ... عز الخطاب وطاشت أسهم الجدل
ولا تجلوا إذا ما الرأي لاح لكم ... إن اللجاجة مدعاة إلى الفشل
هذي نصيحة من لا يبتغي بدلًا ... بكم وهل بعد قوم المرء من بدل؟
(1/213)
فهذا الشعر السياسيّ، وهذه النفس المتوثبة الطموح، وهذه الثورة المتأججة التي انتهت بصاحبها إلى النفي والتشريد, هي من الجديد في معاني البارودي وشعره، وهي جديدة حتى في الأدب العربيّ كله، وإن كان المتنبي قد حاول من قبل ملكًا وثار على الدنيا التي مكنت للعبيد والخصيان والعلوج في الأرض يسوسون شعوبًا ضعيفة, وجعل يقول:
في كل أرض وطئتها فُدُم ... ترعى بعبد كأنها غنم
فإنه اكتفى بالإشارة والتلميح والزفرة الحارة، وبملامة الدهر ومحاربته في مطلبه، ولكن البارودي كان يطلب شيئًا آخر: كان يطلب الحرية لقومه, والعدل والمساواة، كان يطلب العيشة الهنية في ظلال الحرية، ولا عليه إذا طلب بجانب هذا ملكًا عضوضًا ليحقق لقومه آمالهم، وهَبْ البارودي قَلَّدَ المتنبي في بعض معانيه، فهل كان اقتحامه نار الثورة تقليدًا؟ أو ليس شعره هذا وليد الحوادث وصدى لها؟ وهل فترت عزيمته، ووهنت قوته، وذلت نفسه وهو يقاسي ألم النفي والتشريد، ما دام يدب في جسمه شيء من العافية؟ كلا! وإذا شئت برهانًا فاستمع لهذه الكلمات التي كانت يخشى بأسها على البعد حكام مصر؛ كأنها جيش لهام يبدد سعادتهم.
أبى الدهر إلّا أن يسود وضيعه ... ويملك أعناق المطالب وغده
تداعت لدرك الثأر فينا ثعالة ... ونامت على طول الوتيرة أسده
فحتَّام نسري في دياجير محنة ... يضيق بها عن صبحة السيف غمده؟
إذا المرء لم يدفع يد الجور إن سطت ... عليه فلا يأسف إذا ضاع مجده
ومن ذل خوف الموت كانت حياته ... أضر عليه من حمام يؤده
وأقتل داء رؤية العين ظالمًا ... يسيء، ويتلى في المحافل حمده
علام يعيش المرء في الدهر خاملًا ... ويفرح في الدنيا بيوم يعده؟
يرى الضيم يغشاه فيلتذ وقعه ... كذى جرب يلتذ بالحلد جلده
(1/214)
عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش ... بها بطلًا يحمي الحقيقة شده
من العار أن يرضى الفتى بمذلة ... وفي السيف ما يكفي لأمر يعده
وإني امرؤ لا أستكين لصولة ... وإن شد ساقي دون مسعاي قده
أبت لي حمل الضيم نفس أبية ... وقلب إذا سيم الأذى شب وقده
وربما قيل: إن البارودي كان ذا أثرة، وأنه كان يسعى سعيه لتحقيق أمله, وأنه لم يكن مخلصًا في دعوته لمحابة الظلم, وسواء كان هذا صحيحًا أو غير صحيح، فالذي نلمسه هو أن البارودي كان يتغنى بمصر وأهلها ويظهر محبته لها، وحرصه على خيرها ونفعها، بما لم نسمعه قبل من شاعر، إنها الروح القومية الجديدة سرت في شعوب الأرض, وجعلتهم يطالبون بالحرية والاستقلال، ويشيدون بأوطانهم, ويتغنون بمآثر قومهم, وقد تمثلت هذه الروح في البارودي على غير انتظار, وعلى غير سابقة من شعراء وطنه وزمنه، أصغ إلى القطعة التالية، والمس ما بها من حرارة الصدق والمحبة؛ لتعرف أكان البارودي مخلصًا في دعواه أو مداجيًا؟
فيا مصر مد الله ظلك وارتوى ... ثراك بسلسالك من النيل دافق
ولا برحت تمتار منك يد الصبا ... أريجًا يداوي عرفه كل ناشق
فأنت حمى قومي، ومشعب أسرتي ... ومعلب أترابي، ومجرى سوابقي
بلاد بها أهلًا كرامًا وجيرةً ... لهم جيرة تعتادني كل شارق
هجرت لذيذ العيش بعد فراقهم ... وودعت ريعان الشباب الغرانق
إننا لانستطيع أن نحكم على البارودي وشعره ينطق بوطنيته، بأنه منافق خداع، إنه كان يحب وطنه، وفي سبيله شرد ونفي.
(1/215)
ومن عجائب ما لاقيت من زمني ... أني منيت بخطب أمره عجب
لم أقترف زلة تقضي عليّ بما ... أصبحت فيه، فماذا الويل والحرب؟
فهل دفاعي عن ديني وعن وطني ... ذنب أدان به ظلمًا وأغترب؟!
لقد كان يحب مصر حبًّا ملك عليه شغاف قلبه، وهو القائل فيها:
بلد نشأت مع النبات بأرضها ... ولثمت ثغر غديره المتبسم
فنسيمها روحي ومعدن تربها ... جسمي وكوثر نيلها محيا دمي
فإذا نطقت فبالثناء على الذي ... أولته من فضل عليّ وأنعم
هي جنة الحسن التي زهراتها ... حور المها، وهزار أيكتها فمي
ما إن خلعت بها سيور تمائمي ... حتى لبست بها حمائل مخذمي
إن هذه النغمة الوطنية جديدة -كما ذكرنا- في الشعر العربيّ, وحسب البارودي فخرًا أنه من أوائل من تغنَّى بأمجاد وطنه في العصر الحديث, ولقد كاد يقضي أسى وهو يغادر مصر إلى منفاه، وزفر زفرة ملتهبة ينفس بها عن جواه:
ولما وقفنا للوداع وأسبلت ... مدامعنا فوق الترائب كالمزن
أهبت بصبري أن يعود فبزني ... وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن
فكم مهجة من زفرة الشوق في لظى ... وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن
وما كنت جربت النوى قبل هذه ... فلما دهتني كدت أقضي من الحزن
ولكنه سرعان ما يثوب إلى رشده، ويكفكف من دمعه، ويتجلد أمام خصومه, ويظهر سمات الرضا، وأنه يؤثر أن يبرح أرضًا يغشيها الظلم، تصك أنات الجور مسمعيه، وتؤذي رؤية وجه الغدر ناظريه.
(1/216)
فيا قلب صبرًا إن جزعت فربما ... جرت سنحا طير الحوادث باليمن
فقد تورث الأغصان بعد ذبولها ... ويبدو ضياء البدر في ظلمة الوهن
وكيف مقامي بين أرض أرى بها ... من الظلم ما أخنى على الدار والسكن(10)
فسمع أنين الجور قد شاك مسمعي ... ورؤية وجه الغدر حل عرى جفني
ولقد زاده النفي حبًّا في وطنه وتعلقًا به، وترديدًا لمحاسنه، ويتمثله على البعد جنةً دانية القطوف, عبقة الشذى، فمن ذلك قوله وهو بالمنفى, ويتشوق إلى أيام لهوه التي حرمها، وإلى الأرض الطيبة التي أبعد عنها، ويصف جزيرة سرنديب وصفًا جميلًا، وفيه تصوير دقيق، يدل على حسٍّ مرهف، وذوق فنان عبقريٍّ.
لبيك يا داعي الأشواق من داعي ... أسمعت قلبي وإن أخطأت أسماعي
مرني بما شئت أبلغ كل ما وصلت ... يدي إليه فإني سامع واعي
إني امرؤ لا يرد العذل بادرتي ... ولا تفل شباة الخطب إزماعي(11)
أجري على شيمة في الحب صادقة ... ليست تهم إذا ريعت بإقلاع(12)
للحب من مهجتي كهف يلوذ به ... من غدر كل امرئ بالشر وقاع
يا حبذا جرعة من ماء محنية ... وضجعة فوق برد الرمل بالقاع
ونسمة كشميم الخلد قد حملت ... ريّا الأزهير من ميث وأجراع(13)
يا هل أراني بذاك الحي مجتمعًا ... بأهل ودي من قومي وأشياعي
وهل أسوق جوادي للطراد إلى ... صيد الجآذر في خضراء ممراع
منازل كنت منها في بلهنية ... ممتعًا بين غلماني وأتباعي
فاليوم أصبحت لا سهمي بذي صرد ... إذا رميت، ولا سيفي بقطاع(14)
(1/217)
أييبت في قنة قنواء قد بلغت ... هام السماك وفاتته بأبواع(15)
يستقبل المزن ليتيها بوابلة ... وتصدم الريح جنبيها بزعزاع(16)
يظل شمراخها يبسًا وأسفلها ... مكللًا بالندى يرعى به الراعي
إذا البروق ازمهرت خلت ذروتها ... شهمًا تدرع من تبر بأدراع
تكاد تلمس منها الشمس دانية ... وتحبس البدر عن سير وإقلاع
أظل فيها غريب الدار مبتئسًا ... نابي المضاجع من هَمٍّ وأوجاع
لا في "سرنديب" خل أستعين به ... على الهموم إذا هاجت ولا راعي
يظنني من يراني ضاحكًا جذلًا ... أني خلي، وهمي بين أضلاعي
ولا روبك ما جدوى بمندرس ... على البعاد ولا صبري بمطواع
لكنني مالك حزمي، ومنتظر ... أمرًا من الله يشفي برح أوجاعي
أكف غرب دموعي وهي جارية ... خوف الرقيب وقلبي جد ملتاع
فإن يكن ساءني دهري، وغادرني ... رهن الأسى بين جدب بعد إمراع
فإن في مصر إخوانًا يسرهم ... قربي، ويعجبهم نظمي وإبداعي
ويقول من قصيدة أخرى وهو في المنفى يتشوق إلى مصر:
يا "ورضة النيل" لا مستك بائقة ... ولا عدتك سماء ذات أغداق(17)
ولا برحت من الأوراق في حلل ... من سندس عبقريِّ الوشى براق
يا حبذا نسم من جوها عبق ... يسري على جدول بالماء دفاق
بل حبذا دوحة تدعو الهديل بها ... عند الصباح قماري بأطواق
مرعى جيادي، ومأوى جيرتي، وحمى ... قومي، ومنبت آدابي وأعراقي
أصبوا إليها على بعد، ويعجبني ... أني أعيش بها في ثوب إملاق
(1/218)
__________
(1) آسال: شبه وعلامات، ويقال فلان يسير على آسال من أبيه, أي: شبه منه، ولا واحد لها.
(2)جرا الظلم: من جرائه وبسببه.
(3) جوشن الليل: وسطه أو صدره.
(4) ساقوا حمولهم: كناية عن تخاذلهم.
(5) مائق: أحمق.
(6)دلق السيف: أخرجه من غمده.
(7) النبأة: الصوت, ويريد الخبر الكاذب، والباشق: من الطيور الجارحة.
(8) ج نقنق "بكسر فسكون" وهو الظليم، ذكر النعام, ويضرب به المثل في الجبن.
(9) الخزل: من الانخزال وهو الضلوع في المشي من أثر شوكة أو شبهها, مشي فيه تثاقل وتراجع.
(10) السكن: السكان.
(11)البادرة: ما يبدر من الإنسان عند حدة غضبه, والمراد بالبادرة هنا: شدة العزم وقوة الإرادة.
الإزماع: العزم.
(12) ريعت: أخفت: والإقلاع، الترك والكف.
(13) الميث: جمع ميثاء, وهي الأرض السهلة اللينة من غير رمل، والأجراع: جمع جرع "كجبل" هو الأرض الرملية السهلة.
(14) صرد: مصدر صرد السهم, أي: أصاب ونفذ.
(15) قنواء: عالية مرتفعة، الأبواع: جمع باع.
(16) الليتان: صفحتا العنق مثنى ليت, زعزاع: شديدة تزعزع الأشياء.
)17) البائقة الداهية: لا عدتك: لا تجاوزك، والمراد بالسماء السحب والأمطار.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|