أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-03-2015
2984
التاريخ: 1-10-2019
8789
التاريخ: 15-12-2019
1036
التاريخ: 15-12-2019
1680
|
أثرت المعطيات الدينية الرحلات الخياليّة بالرؤى والأفكار التي حملت جزءاً من المعاناة الإنسانية التي تلونّت بالسمة الدينية، ولا سيما، فيما يرتبط بمواقف الشعراء من الموت والحياة والخير والشرّ والقيامة والبرزخ.
وقد تعدّدت صور تأثّر الشعراء بالدين بدءاً من القرآن الكريم إلى الحديث النبوي الشريف إلى الفلسفة الإسلامية.
* التأثر بالقرآن الكريم:
فالشاعر عبد الفتاح القلعجي اقتبس كثيراً من الآيات القرآنية وبثّها في ثنايا رحلته الخياليّة ((ملحمة القيامة)) وقد استطاعت الآيات القرآنية أن تحمل في موقعها من النصوص الشعرية روح الشعر الوثّابة إضافة إلى مدلولها القرآني المعجز في الأصل، وبهذا المزج بين الأداءين القرآني والشعري تتشكّل صورة شعرية جديدة تختصر الزمان والمكان ممّا ((يؤدّي-بالضرورة-إلى تكثيف التجربة الفنية والتعبير بدقّة لغوية مركّزة عمّا كان الشاعر مضطراً إلى شرحه والإسهاب فيه)) (1).
يقول الشاعر:
... عادَ إلى رَحِمِ الصّلصَالِ
على الشَّاطِئ هَمسةُ رُوحٍ في جَسدِ خَليَهْ
... ((هل أتى على الإنسانِ حينٌ من الدَّهر
... لمْ يكُنْ شَيئاً مَذكوراً))
قَالتْ غَبرةُ إِنسانٍ
... ((أ إنِنّا لمبعوثُونْ))؟
... ((أَ وآباؤُنا الأَوَلونْ))
سَأَلتْ ذَرّةُ عَظمٍ نَخِرهْ
... ((مَنْ يحيي العِظامَ وَهْي رَمِيمْ)). (2)
ولم يكن التأثّر بالقرآن الكريم باقتباس الآيات فحسب وإنّما أفاد الشعراء من قصص القرآن الكريم وتصويره للجنّة والنار والأعراف والمحشر، ولو نظرنا إلى بعض الرحلات الخياليّة لرأينا الفراتي يسوق في ((الكوميديا السماوية)) حديثاً طويلاً في ردّه على رفائيل الذي استفسر عن حياة أهل الأرض، فيسرد عليه الشاعر تاريخ الأديان البشرية مكثّفاً، فيبدأ معه بقصة خلق آدم عليه السلام، ونشوء العداوة الفطرية بين آدم وإبليس وقصة ابني آدم اللذين اقتتلا، ثمّ إرسال الله الأنبياء واحداً تلو الآخر:
فيقول:
وأُمُّهمُ حَوَّاءُ أَغْوَتهُ بالّتي ... نَهى اللهُ أنْ يَجنِي جَنَاها ويَطْعَمُ
فَقَال: اهبِطا منها وكانَتْ وزَوجُها ... بِجنّاتِ عَدنٍ قَبلَ ذَا تَتَنعّمُ
أزَلَّهُما الشَّيطَانُ عَنها فَعُوقِبا ... بِمَا نَحنُ مِنهُ الدَّهرَ نَشقَى ونَألمُ
عَصى آدمٌ أَمرَ الإلهِ وزَوجُهُ ... فَهلْ نَحنُ مِنْ جرَّاءِ ذلك نُظلَمُ(3)
ونلحظ مثل هذا التأثر بقصة آدم وإبليس في قصيدة ((في حانة إبليس)) للفراتي أيضاً فهو يقول على لسان إبليس:
أَبُوكُمْ آدَمٌ أَغْوَتـ ... ـهُ في الجنَّاتِ حَواءُ
وأَنتُمْ بَعْدُ تَغويكُمْ ... بِها هِندٌ وأَسْماءُ
عَصَيتُ الأَمرَ عَن خَطأٍ ... وعَنْ قَصدٍ عَصى الأمرَا
فقرَّبَهُ وأبعدنِي ... فقُلْ لي كَيفَ لا أَضرَى(4)
وفي هذا يقول الله تعالى (وعصَى آدمُ ربَّهُ فغوَى ثمَّ اجتباهُ ربُّهُ فتابَ عليهِ وهدَى، قالَ اهبِطَا منها جميعاً فإمَّا يأتينَّكُمْ منّي هدىً فمنْ اتبعَ هدايَ فلا يضلُّ ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكاً ونحشرهُ يومَ القيامةِ أعمى) (5).
ويقول تعالى في آية أخرى (فتلقّى آدمُ من ربِّهِ كلماتٍ فتابَ عليهِ إنَّهُ هو التّوابُ الرحيمُ) (6).
وقد أفاد إبراهيم الهوني من قصّة خلق الله لآدم وما سبق هذا الخلق من استفسار الملائكة عن استخلاف هذا المخلوق الجديد، ووظّفه في حواره مع الملك الذي تعجّب من وصول الشاعر إلى هذا المقام فيقول:
فَنحنُ عَبيدُ اللهِ مِن نورِ نُورِهِ ... خُلِقنا ومَا لله في الخَلْقِ منْ مِثْلِ
عَبدناهُ حتَّى مَا تنامُ عُيونُنا ... وأَنتُمْ خُلِقتُمْ مِن تُرابٍ ومِن رَملِ
فقُلْتُ أَلا زِلتُمْ تَقولونَ هكَذا ... وَقَد قُلتُمُ في آدَمَ القَولَ مِن قبلِ
ولمَّا أرادَ اللهُ إسنادَ مُلكِهِ ... لآدَمَ قُلتُمْ يُفسِدُ الأَرضَ بالقَتلِ
فَقَالَ: نَعمْ قُلْنَا بأَمرِ إِلهِنا ... وإِنّ الذي قُلْناهُ حُقّقَ بالفِعلِ(7)
ويقول الله تعالى: (وإذْ قالَ ربُّكَ للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتجعلُ فيها مَن يُفسدُ فيها ويسفكُ الدّماءَ، ونحنُ نسبِّحُ بحمدكَ ونقدِّسُ لكَ قالَ إنِّي أعلمُ مالا تعلمونَ) (8).
وقد أغنى وصف القرآن الكريم للجنّة والنار خيال شعراء الرحلات الذين استعانوا بأوصافه لرسم صورة الجنّة والنار وفق رؤاهم الفكرية والنفسية فقد فصّل الله تعالى في صورة النار بما فيها من أهوال وأنكال وعذاب. وفي دركاتها وأبوابها يقول تعالى: (كلاّ إنّها لظىً، نزّاعةٌ للشَوَى) (9) ويقول عزّ وجلّ:
(وما أدراكَ ما سقرُ، لا تُبقِي ولا تَذرُ لوَاحةٌ للبشرِ، عليها تسعةَ عشرَ) (10) ويقول تعالى عنها: (وما أدراكَ ما الحطمةُ، نارُ اللهِ الموقدةُ التي تطّلعُ على الأفئدةِ إنَّها عليهمْ مؤصدةٌ في عمدِ ممددةٍ) (11).
وقد التقط عبد الفتاح القلعجي الكثير من الصفات والتقسيمات والتصويرات الخاصّة بالنار في القرآن وبثّها في وصف نار ملحمته فتحدّث عن أبواب جهنّم السبعة وعن خطاب جهنم لورّادها، فيقول:
صوتُ جهنَّمَ: يا وُرَّادي
يا مَنْ كذَّبتُمْ بِلقاءِ اللّهِ /بجنَّتِهِ/ بوُجُودِي
ماذَا قُلْتُمْ في العاجِلةِ/ الدّنيا؟
المُحتَشِدون ((قُلْنا لولا أُنزِلَ علينا مَلائكةً
أَو نَرى رَبَّنا)) (12)
وفي محلّ آخر يقول:
صوتُ الحقِّ مُخَاطِباً جهنَّم ((هل امتلأْتِ))
صوتُ جهنَّمَ: ((هلْ مِن مزيدْ؟)) (13)
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الخطاب في قوله: (يومَ نقولُ لجهنَّمَ هلْ امتلأتِ وتقولُ هلْ مِن مزيدٍ) (14).
وقد أفاد الزهاوي من أوصاف القرآن الكريم لجهنّم حين وصف النار التي نقله إليها الملكان، فوصف ما فيها من طعام الزقّوم وشراب اليحموم، وشهيق جهنّم وزفيرها فقال:
إنّها في أعماقِهَا طَبقَاتٌ ... بَعضُهَا تَحتَ بَعضِهَا مَحفُورُ
وأَشدُّ العذابِ ما كانَ في الها ... وِيةِ السُّفلى حَيثُ يَطغَى السَّعيرُ
حَيثُ لا يَنصُرُ الهَضيمَ أَخوهُ ... حَيثُ لا يُنجِدُ العَشيرَ العَشيرُ
الطّعامُ الزَّقومُ في كلِّ يومٍ ... والشَّرابُ اليَحمُومُ واليَحمُورُ
ولَقَدْ يُسقَى الظّامِئُونَ عَصيراً ... هُو مِن حَنظَلٍ وسَاءَ العَصيرُ
ولَها مِن بَعدِ الزَّفير شَهيقٌ ... ولَها مِن بَعدِ الشَّهيق الزَّفيرُ
ولَهُمْ فيها كُلَّ يومٍ عّذابٌ ... ولَهُمْ فيها كُلَّ يومٍ ثَبُورُ(15)
وفي نظرة لبعض الآيات نجد الزهاوي قد استقى معاني القرآن الكريم ومنها قوله تعالى: (إذا أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفورُ، تكادُ تميّزُ من الغيظِ كلّما ألقِيَ فيها فوجٌ سألهمْ خزنتُها ألمْ يأتِكُمْ نذيرٌ..)(16) وفي محل آخر يقول تعالى: (إنّ شجرةَ الزقّومِ، طعامُ الأثيمِ، كالمهلِ يغلِي في البطونِ، كغلي الحميم) (17).
ويبدو التأثّر واضحاً في رسم صورة الجنّة عند عبد الفتاح القلعجي، حيث يأخذ الصورة من المعتقد الديني ويتكئ كثيراً على القرآن الكريم في رسم ملامحها، وإن برزت خصوصيّة رؤيته في كثير من التفصيلات. فإنّ الخطوط العامّة للصورة استقيت من القرآن فأبوابها ومراتب المؤمنين فيها والنعيم الموعود وكثير من صوره يرسمها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، يقول تعالى في سورة الواقعة: (وأصحاب اليمين ما أصحابُ اليمينِ، في سدرٍ مخضودٍ، وطلحٍ منضودٍ، وظلٍّ ممدودٍ وماءٍ مسكوب، وفاكهةٍ كثيرة، لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ، وفرشٍ مرفوعةٍ، إنّا أنشأناهُنَّ إنشاءً، فجعلناهُنَّ أبكاراً، عرباً أتراباً، لأصحابِ اليمينِ...) (18).
والشاعر يقول في المعنى نفسه:
وأصْحَابُ اليمينِ
اليومَ في شُغلٍ
تراهُمْ فاكهينَ، ونُورُهُمْ يَعدُو أَمَامَهمُ
لهُمْ ما يشتهُونَ: الماءُ والظّلُّ
وفاكِهَةُ السَّماءِ
وكلّما رُزِقُوا ثِمارَ الجَهْدِ والغُفرانِ قَالوا
... ((هَذا الذي رُزِقنَا مِن قَبلُ
... ... وأُوتُوا بهِ مُتشَابِها))(19)
وربّما اقترب الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري كثيراً من معنى الأعراف في القرآن الكريم، فكما هي في القرآن الكريم منزلة بين منزلتين يمثّلها قوله تعالى: (بينهما حجابٌ وعلى الأعرافِ رجالٌ يعرفونَ كلاً بسيماهُمْ ونادوا أصحابَ الجنَّةِ أنْ سلامٌ عيكُمْ لم يدخلوها وهمْ يطعمونَ، وإذا صُرفتْ أبصارهُمْ تلقاءَ أصحابِ النَّارِ قالوا ربّنا لا تجعلْنا معَ القومِ الظالمينَ)(20) وهي عند الهمشري تمثّل مرحلة فاصلة لابدّ للروح من اجتيازها للوصول إلى السعادة، فيقول:
الشَّاعرُ: إيهِ ربّاهُ مَا أَراهُ أَمَامي؟
أيُّ نُورٍ في أيّما أَسدافِ؟
الآلهةُ: هُو شَطُّ الأَعرافِ
الشّاعرُ: أيّةُ شَطٍّ ذا المُسمّى بشَاطئ الأعرافِ
الآلهةُ:
هُو مَثوى الألحانِ بعدَ شَتَاتٍ ... ومَقرُّ الأَرواحِ بَعدَ طوافِ
تَرْقُبُ المَوتَ والحياةَ تَسيرا ... نِ على الوقْتِ وهْو كالرَّجّافِ(21)
وهكذا أسهم القرآن في إغناء الرحلات الخياليّة، ولا سيما فيما يتعلق بالموضوعات الدينية والرؤى الفكرية وقصص الأنبياء وأوصاف الجنّة والنار وَقد تنوّعت وجوه التأثّر من اقتباسات وتضمينات إلى تأثّر بمعانيه وبغيبياته التي أخبر عنها.
* التأثر بالحديث النبوي الشريف:
ويأتي الحديث النبوي الشريف بعد القرآن الكريم أهمية في إغناء مادة الرحلات الخياليّة سواء تمّ هذا الإغناء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة.
وقد كان عبد الفتاح القلعجي أكثر الشعراء تأثّراً بأحاديث النبيّ الكريم عليه الصلاة والسلام فبنى الملحمة على أساس أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن علامات القيامة وما يكون بين يدي الساعة من أحاديث وأهوال وأسباب تهيّئ لقيامتها.
ويمكن الوقوف بوضوح على هذا التأثّر في حديث الشفاعة الكبرى ومقارنته مع حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ((فعن أبي هريرة رضي الله عنه أُتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوماً بلحم فرفع إليه الذراع -وكانت تعجبه- فنهش منها نهشة، فقال: أنا سيّد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغمّ والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبونا أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح، أنت أوّل الرسل إلى الأرض، وسمّاك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربّنا، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم نوح: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّي قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم أنت نبيّ الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله فضّلك الله برسالته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربّي قد غضب اليوم
غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّي قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلّمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمّد صلى الله عليه وسلم، فيّأتون فيقولون يا محمّد: أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربّي، ثمّ يفتح الله عليّ ويلهمني من محامده وحسن الثّناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد غيري من قبلي، ثمّ يقول: يا محمّد ارفع رأسك سل تعطه، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول: يا ربّ أمّتي، فيقول: يا محمّد أدخل الجنّة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنّة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمّد بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى))(22).
ويقول الشاعر:
أينَ شفيعٌ مَنْ هَذا الطّينِ اللاّزِبْ
نَادى صَوتُ الحقٍّ
((مَنْ يشفَعُ عِندهَ إلاّ بإذنِهْ))
- (وفدٌ مَنْ المؤمنينَ يطرقَونَ أبوابَ الرّسلِ طالبينَ لإخوانهمْ الذينَ في النّارِ الشّفاعَةَ، يقفونَ أمامَ بابِ آدمَ ينادُون)
الوفدُ: ((يا آدمُ:
أنتَ أبو البَشَرِ
خلقكَ الله بيدهِ، ونفخَ فيكَ من روِحِهِ، وأَمَرَ
الملائكةَ فسجدُوا لكَ، / وأسكنَكَ الجنّة.
ألا تشفعْ لنا إلى ربِّكَ؟ ألا ترى ما نحن فيهِ وما بلغنا؟
آدمُ: إنَ ربّي غَضبَ اليومَ غضباً لم يغضبْ قبلَهُ مثلَهُ،
ولا يغضبُ بعدَهُ مثلَهُ،
إنّهُ نهاني عَن الشجرةِ... فَعصيتُ
نفسي... نفسِي... نفسِي
اذهبوا إلى غيري... اذهبوا إلى نوحٍ)) (23)
وهكذا يستمر الشاعر في اقتباس حديث الشفاعة حرفيّاً فيذكر ذهاب الوفد إلى نوح ومن بعد نوح إبراهيم ومن بعده موسى فعيسى ثم إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول عن شفاعته:
صوتُ الحقِّ: ((يا محمّدُ
ارفعْ رأسَكَ
سلْ تعطَهْ... واشفعْ... تشفّعْ))
محمّدٌ: -يرفعُ رأسَه-((أمّتي يا ربُّ. أمّتي يا ربُّ. أمّتي يا ربُّ))
أيّةُ سَجدةٍ؟
كانَتْ للنّاسِ خَلاصاً
أنهَتْ فَصلَ عذابِ المَطهَرْ.
((إنْ منكُمْ إلاّ واردُهَا))
أيّة كلمةٍ
قرّبتْ النّاسوتَ من اللاهوتْ
فغدا الطّينُ شَفيعاً... مَشْفوعاً
وتمجَّد اسمُ الماءِ الدّافِقْ:
مِن بينِ الصُلبِ والتّرائِبْ
محمّدٌ: يا ربُّ
ائذنْ لي فيمَنْ قالَ لا إله إلاّ اللّه))...(24)
وواضح اقتباس الشاعر حديث الشفاعة كاملاً وتحميله روحاً شعرياً ينقله في سياقه بين الأسطر إلى تجربة شعرية ذات روح شفّاف ولا يقتصر الأمر على حديث الشفاعة فهناك الكثير من الأحاديث كحديث ((آخر عناقيد الجنّة)) و((آخر الخارجين من النار)) وغيرها ممّا بثّه الشاعر في ثنايا ملحمته متساوقاً مع القرآن الكريم. ولم يقتصر التأثير في ملحمة القيامة وحسب بل يمكن أن نلمس آثار ذلك في رؤى بعض الرحلات الخياليّة الأخرى على نحو ما في مطوّلة عبقر حين يرى شفيق معلوف أن رأس الشرور الكذب وأن الشياطين لا تسير حتى يرفع شيطان الكذب رأيته، فيقول:
أَبناءُ إبليسَ مَا ... جالُوا بميدَان
ولا امتطَوا خَيلَهُمْ ... للعالِمِ الثّانِي
إلاّ إذا ما ركِبْ ... مِسوَطُ قُّدامَهُمْ
يرفعُ بندَ الكَذِبْ(25)
والرسول صلّى الله عليه وسلم يقول ((يطبع المؤمنين على الخلال كلّها إلاّ الخيانة والكذب))(26).
* التأثّر بالإسراء والمعراج:
ويتجلّى إثراء الحديث النبويّ الشريف للرحلات الخياليّة في وصف الجنّة والنّار وقد أسهمت أحاديث الإسراء والمعراج بالقسم الأعظم. وقد أخذ الزهاوي أكثر أوصافه منها في ثورته الجحيمية، ولا سيّما، في وصف الجنّة فيقول:
جنَّةٌ عرضُها السَّماوات والأر ... ض بها مِن شَتَّى النَّعيمِ الكَثيرُ
فَطَعامٌ للآكِلينَ لَذيذٌ ... وشَرابٌ للشّاربينَ طَهورُ
سَمكٌ مَقليٌّ وطَيرٌ شَويُّ ... ولذيذٌ مِن الشّواءِ الطيورُ
وبها بَعدَ ذَلكُمْ ثَمراتٌ ... وبهَا أكوابٌ وفيها خُمورُ
وبها دوحَةٌ يُقالُ لها الطّو ... بى لها ظِلٌّ حَيثُ سِرتَ يَسيرُ
تتدلّى غُصونُها فَوقَ أرضٍ ... عَرضُها مِن كلِّ النَواحِي شُهورُ
وعَلى تِلكُمُ الأَسّرةِ حورٌ ... في حُلْيٍّ لها ونِعمَ الحُورُ
ولقَدْ يُعطى المَرءُ سَبعينَ حَورا ... ءَ عليهُنّ سُندسٌ وحَريرُ
يتهادَينَ كالجُمانِ حِساناً ... فوقَ صرحٍ كأَنَّهُ بَلُّورُ(27)
وهذا غيض من فيض فقد استوفت أبيات الوصف هذه سبعة وسبعين بيتاً، ولعلّ نظرة إلى حديث الإسراء والمعراج تقرّب لنا مدى تأثّر الزهاوي به. يقول الحديث: ((فأتى على واد فوجد ريحاً طيّبة وريح مسك وسمع صوتاً فقال: يا جبريل ما هذه الريح الطيّبة الباردة، وما هذا المسك وما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت الجنّة تقول: يا ربّ آتني بما وعدتني فقد كثرت غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وصحافي وأباريقي وكؤوسي وعسلي ومائي ولبني وخمري فأتني بما وعدتني...)) (28).
وفي حديث آخر يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((ثمّ إنّي رفعت إلى الجنّة فاستقبلتني جارية، فقلت لمن أنت يا جارية؟ قالت لزيد بن حارثة، وإذا بأنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه وأنهار من خمر لذيذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفّى وإذا رمَانها كالدلاء عِظماً وإذا أنا بطيرها كأنّها يخنكم هذه)) (29).
وهكذا أغنت الثقافة الدينية الرحلات الخياليّة فأمدتها بالمادة الفكرية والثقافية التي حملت شيئاً من روح التجربة الشعرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عيد، رجاء، لغة الشعر أبولو، ص: 120.
(2) القلعجي، عبد الفتاح، ملحمة القيامة، ص: 27.
(3) الفراتي، محمد، الكوميديا، مج 31، ع3-4، ص:150.
(4) الفراتي، محمد، النفحات، ص: 273.
(5) سورة طه، الآية: 120.
(6) سورة البقرة، الآية: 37.
(7) الهوني، إبراهيم، الديوان، ص37.
(8) سورة البقرة، الآية: 30.
(9) سورة المعارج، الآية: 15-16.
(10) سورة المدثر، الآيات: من 26-30.
(11) سورة الهمزة، الآيات: من 5-9.
(12) القلعجي، عبد الفتاح، القيامة، ص: 138.
(13) المصدر نفسه، ص: 146.
(14) سورة ق، الآية: 30.
(15) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص: 730.
(16) سورة الملك، الآية: 7-8.
(17) سورة الدخان، الآيات: من 43-46.
(18) سورة الواقعة، الآيات: من 27-38.
(19) القلعجي، عبد الفتاح، القيامة، ص: 187.
(20) سورة الأعراف، الآية: 46-47.
(21) شرف، عبد العزيز، الهمشري شاعر أبولو، ص:136.
(22) البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، تحقيق د. مصطفى البغا، دار ابن كثير، 1987، رقم الحديث: 4343.
(23) القلعجي، عبد الفتاح، ملحمة القيامة، ص: 126-127.
(24) المصدر السابق، ص: 129.
(25) المعلوف، شفيق، عبقر، ص: 211.
(26) ابن حنبل، أحمد، المسند، مؤسسة التاريخ العربي، دار إحياء التراث العربي، 1991، حديث رقم: 21149.
(27) الزهاوي، جميل صدقي، الديوان، ص: 727.
(28) الأنصاري، إسماعيل، الإسراء والمعراج، من تفسير الحافظ بن كثير، ط1، الرياض، 1973، ص71.
(29) المصدر نفسه، ص: 50.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|