المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية



الشيخ درويش  
  
2001   03:28 مساءً   التاريخ: 30-9-2019
المؤلف : عمر الدسوقي
الكتاب أو المصدر : في الأدب الحديث
الجزء والصفحة : ص281-287ج1
القسم : الأدب الــعربــي / تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-1-2016 4393
التاريخ: 14-08-2015 3409
التاريخ: 2-3-2018 2085
التاريخ: 21-06-2015 6049

 

والشيخ درويش من الشخصيات التي أثَّرت في عقل محمد عبده وفي نفسه وفي خلقه, وحددت له أهدافه في الحياة، ولا يذهبن بك الظن، فتتخيل أن الشيخ درويشا هذا فيلسوف أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وأنه عالم من علماء التربية الأفذاذ, فلم يكن -علم الله- إلّا شيخًا صوفيًّا سليم العقيدة، نَيِّرَ البصيرة, على حظٍّ قليل من العلم وكثيرٍ من التجارب، فقد تتلمذ على السنوسي بطرابلس، وجاب بعض الأقطار يتلقى على رؤساء الصوفية طريقة الدعوة وسياسة النفس.
جاء الشيخ محمد عبده إلى الشيخ درويش هاربًا)1) من العلم, وكان في الخامسة عشرة من عمره فتيًّا قويًّا مغرمًا بركوب الخيل واللهو مع أمثاله من الشباب، ولكن الشيخ درويش تلقَّاه كما يتلقى الطبيب المريض, وعالج هذه العقدة التي كونتها "الاجرومية" في نفس الفتى، وأعطاه كتابًا سهلًا في المواعظ
(1/281)

والأخلاق, ولم يكن للفتى صبرٌ على القراءة, وسرعان ما مل المجلس، ولكن الشيخ درويشًا أخذه برفقٍ وتؤدة, وكان يفسِّرُ له ما يقرأ, فوجد الفتى فيما قرأ لذة، وانصرف عن اللهو، وعكف على قراءة الكتب، ويقول في ذلك: "وطلبت منه يومًا إبقاء الكتاب معي، فتركه، ومضيت أقراؤه، وكلما مررت بعبارةٍ لم أفهمها وضعت علامةً لأسأله عنها، إلى أن جاء وقت الظهر وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة في اللعب، وهوًى ينازعني إلى البطالة، وعصر ذلك اليوم سألته عمَّا لم أفهمه, فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندي من الرغبة في المطالعة, والميل إلى الفهم, ولم يأت اليوم الخامس إلّا وقد صار أبغض شيءٍ إليَّ هو ما كنت أحبه من لهوٍ وفخفخةٍ وزهوٍ، وعاد أحب شيءٍ إليّ ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم"(2).
وهكذا استطاع الشيخ درويشًا أن يحل العقدة النفسية، ويعيد للفتى ثقته بنفسه وفي ذكائه، ويرغبه في العلم, وقد أفاد الفتى من ذلك درسًا لم ينسه مدى حياته، وهو أن الأزهر بحاجةٍ إلى الإصلاح الشامل في كتبه التي تدرس, وفي المعلمين الذين يقومون بالتدريس, وكان هذا أحد أهدافه في الحياة كما سترى.
وقد أفاد من الشيخ درويش درسًا آخر وقر في نفسه, وبدَّلَ من قيم الأشخاص والناس عنده, فلم يعد يهتم بالتفوق الماديّ والغنى والجاه، بل علمه أن الإنسان الكامل في هذه الحياة هو من أمن وعمل صالحًا سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، وعلمه كذلك أن الإسلام الصحيح يتنافى مع الأخلاق المنحلة والفساد؛ لأنه عقيدة وعمل، لا ألفاظ تقال، ثم عَلَّمَه كذلك أن الإسلام دينٌ سهلٌ سمحٌ، وأن مصدره الذي يجب أن يؤخذ منه هو القرآن وحده(3).
ظلت هذه الدروس التي تلقاها في صباه تنمو وتترعرع في نفسه, حتى صارت مبدأ يسعى إليه وغاية يصبوا إلى تحقيقها.
(1/282)

وليس هذا كل ما فعله الشيخ درويش من توجيه لتلميذه، بل كان يلقاه في الإجازات الصيفية بعد عودته من الأزهر، ويلومه على عزلته وعدم الاختلاط بالناس ودراستهم وإفادتهم بما عرف، وكان يغشى به المجالس, ويحمله على أن يتحدث إلى الناس ويجيب عن أسئلتهم ويكون لهم مرشدًا؛ لأن العلماء الذين يعنون بعلمهم على الناس لا خير فيهم، وقد بقي الشيخ محمد عبده حتى مات وهو يعمل بهذه النصيحة، ويرشد الناس كبارًا وصغارًا, رعيةً وساسةً، فرحم الله الشيح درويشًا, لقد أدى للإسلام ولمصر وللشرق خدمة جليلة.
في الأزهر:
وتحول الشيخ محمد عبده من الجامع الأحمديّ إلى الأزهر، وكان الأزهر في ذلك الوقت على حالة من الفساد لا تطاق، وبحسبك أن تقرأ تقريرًا وضعه الشيخ عبد الكريم سلمان(4) عن هذا المعهد وحال أساتذته وطلبته، ومدة الدراسة فيه(5) وحال العلم، فإن الكتب التي كانت تدرس به من نتاج العصور المتأخرة, يدرسها أساتذة لا يفهمون الغاية منها، ولا يستطيعون كتابة أربع جمل صحيحة(6)، وكان به كثير من ضيقي الفكر الذين يرمون الناس بالزندقة والكفر جزافًا؛ مثل: الشيخ عليش، ولكن كان به مَنْ هيأتهم الظروف لأن يتسع أفقهم بعض السعة كالشيخ البسيوني، والشيخ حسن الطويل، وكان ذكيًّا حكيمًا له نظرات في الحياة صائبة، يقرأ الفلسفة فيُرْمَى بالزندقة.
(1/283)

كانت هذه حال الأزهر العلمية حين وفد إليه محمد عبده، ناهيك بالقذارة التي كانت تلوث المسجد وصحنه، ودورة مياهه وأروقته، والفوضى الخلقية التي كانت سائدةً بين طلابه, وأخذ الشيخ محمد عبده يدرس العلوم المتداولة بالأزهر حينذاك؛ من نحو وفقه وتفسير، وأما العلوم الحديثة فلم يكن يسمع عنها الأزهر ورجاله، ومن يتعرض لها فهو كافرٌ في عرفهم, مارق عن جادة الدين.
وكان الشيخ درويش حينما يعود الطالب الفتى يسأله عمَّا درس بالأزهر في عامه, بعد أن يستمع إليه قليلًا يسأله: ما درست المنطق؟ وما درست الحساب؟ وما درست الهندسة؟ فيجيب الشيخ محمد عبده بأن هذه الدروس لا يرى الأزهريون تعليمها, فيقرر له هذا الصوفيّ المنزوي في قريته بأن كل العلوم يجب أن تعلم، وعلى الطالب أن يسعى إليها في كل مكان، ويقول له: "إن الله هو العليم الحكيم, ولا علم يفوق علمه وحكمته، وإن أعدى أعداء الحكيم هو السفيه! وما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة، فلا شيء من العلم بممقوت عند الله، لا شيء من الجهل بمحمود لديه إلّا ما يسميه بعض الناس علمًا، وليس في الحقيقة بعلم؛ كالسحر, والشعوذة, ونحوهما, إذا قصد من تحصيلهما الإضرار بالناس, فأي رجل كان الشيح درويش هذا؟ وعلى أي حال من الجهل كان الأزهر؟
التمس الشيخ محمد عبده بعض هذه الدروس التي وجهها إليه مرشده عند الشيخ حسن الطويل(7)، بيد أن هذه الدروس لم تشبع نهم نفسه، على الرغم من طرافتها، وذكاء مدرسها, وسعة مداركه، وإنما كانت مثيرة لنفس الشيخ محمد عبده، تبعث فيها الرغبة إلى الاستقراء والتعمق والوصول إلى الحقائق الواضحة
(1/284)

بدون تردد أو التواء، وأن تستشف ما وراء هذه الألفاظ القديمة، وأن تصل هذا العلم القديم بالحاضر الجديد، وتحل مشكلات الحياة بعامة، ومشكلات مصر بخاصة، ولم يكن ذلك ميسورًا عند الشيح حسن الطويل، وإنما تهيأ لمحمد عبده أن يدرك هذه الغاية عند أستاذه الأكبر جمال الدين الأفغاني حين وفد على مصر وقد تحابَّا وتصادقَا، ووجد جمال الدين في محمد عبده التربة الخصبة التي تحيل تعاليمه عملًا صادقًا قويًّا لا ينقص منه شيء, بل يزيد على مرور الأيام نماءً، ووجد محمد عبده في جمال الدين الأستاذ الذي كمل له ما كان يشعر به من نقص؛ فإذا كان الشيخ درويش قد لقنه شيئًا من التصوف سابقًا, فقد كان تصوفًا خياليًا, تحوَّل على يد جمال الدين إلى تصوفٍ عمليٍّ، وإذا كان الشيخ درويش قد بعث فيه الجرأة لمواجهة الناس والتحدث إليهم وبث تعاليمه بينهم، فقد مكنه جمال الدين من اختيار الموضوعات الصالحة التي يتكلم عنها، وأفسح أمامه أفق الإصلاح, فتعددت شعبه وميادينه؛ من دينية وخلقية واجتماعية، ثم إن جمال الدين حرضه على استخدام سلاحٍ آخر في ميدان الدعوة، غير الخطابة والمشافهة، ألا وهو سلاح القلم؛ حتى تسير دعوته مشرقة ومغربة، فتشمل القريب والبعيد، وحتى تكون متقنةً رائعةً تغذيها التؤدة والفكر الناضج والمنطق, وقد فتن محمد عبده بجمال الدين وبدروسه وبروحه المتوجهة وحماسته العارمة، ونشاط فكره, ونظراته للحياة، ووجد فيه ما لم يجده عند حسن الطويل, فلا بدع إذا رأيناه يكتب بخط يده على نسخة من كتاب قديم: "وكان الفراغ من قراءته وتقريره عند لسان الحق، وقائد الخلق إلى جناب الحق، خلاصة من تحلى بالحكمة، ومنقذ الضالين في تيه الجهالة والغمة، ومحيى الحق والدين, أستاذنا السيد جمال الدين" وكان يلقبه "الحكيم الكامل".
وكان جمال الدين يبادل محمد عبده حبًّا بحبٍّ, وإعجابًا بإعجابٍ، فقال عندما رحل من مصر سنة 1879: "تركت لكم الشيخ محمد عبده، وكفى به لمصر عالمًا". وهى كلمة تدل على مبلغ اعتقاد هذا المصلح الكبير في تلميذه, وقدرته على تنفيذ تعاليمه, والقيام بالدعوة إليها من بعده, وقد روى المخزومي في خاطراته أن جمال الدين لم يذكر اسم محمد عبده إلّا مقترنًا بكلمة "الصديق" أو "صديق

(1/285)

الشيخ"، ولما اعترض عبد الله نديم على ذلك وقال له ذات يوم: "أيها السيد, ما غفلت مرةً عن إضافة لفظ الصديق إلى الشيخ محمد عبده, كأنه لم يكن بين الناس صديق غيره؛ إذ تراك تنعت من سواه بلفظ صاحبنا أو فلان من معارفنا، أجاب جمال الدين بقوله: وأنت يا عبد الله صديق، ولكن الفرق بينك وبين الشيخ محمد أنه صديقي على الضرَّاء، وأنت صديقي على السراء، ويعترف محمد عبده بأنه مدينٌ بالشيء الكثير لجمال الدين ويقول: "إن أبي وهبني حياة يشاركني فيها "أخواي" علي ومحروس, والسيد جمال الدين وهبني حياة أشارك فيها محمدًا وإبراهيم وموسى وعيسى والأولياء والقديسين" وقد مرت بك كلمته في قدرة جمال الدين على تفتيق المعاني, وكيف يتكلم في كل فنٍّ كأنه من كبار أساتذته.
ومنذ اتصل محمد عبده بجمال الدين ابتدأ اتصاله بالحياة العامة، والجهاد في سبيل إصلاحه الأمة, وهو بعد طالب في الأزهر، ولم ينل شهادةً تجيز له التدريس, فقد كتب في "الأهرام" في السنة الأولى من صدورها بعض مقالاتٍ دلَّت على روحه وجرأته مثل: "الكتابة والقلم" و"المدبر الإنساني والمدبر الروحاني" "والعلوم الكلامية الدعوة إلى العلوم العصرية"(8). ولخص بعض دروس أستاذه في الفلسفة بجريدة "مصر" التي كان يصدرها أديب إسحق، وكان من الطبيعيّ أن يثير هذا ضجةً حول ذلك الشيح الأزهريّ الجريء, فمن معجب به ومن حاقد عليه، ومن جامدٍ ساخطٍ يرميه بالزندقة.
وأخيرًا تقدم الشيح محمد عبده لنيل شهادة العالمية، وقد تآمر الممتحنون عليه قبل مثوله أمامهم، وعزموا على ألّا يمنحوه العالمية، بيد أنه خيب أملهم بعلمه ومهاراته في تصريف الكلام, وسعة اطلاعه, وسرعة بديهته، ووجد من الشيخ العباسي المهدي عطفًا، واستطاع الشيح العباسي أن يقنعهم بوجوب منحه الشهادة, ولكن أصروا في عنادٍ على أنه لن ينالها من الدرجة الأولى, واكتفوا بإعطائه الدرجة الثانية(9) في غرة رجب 1294هـ-1877م.
(1/286)

وتصدَّى الشيخ محمد عبده بعد ذلك للتدريس بالأزهر، وأثار حوله ضجةً كبيرةً, فالشيخ عليش يهم بضربه؛ لأنه رجَّحَ مذهب المعتزلة في مسألة من مسائل على مذهب أهل السنة، وتراه يتحدى علماء الأزهر جميعًا بإعطاء مائة جنيه لمن يبرهن على "أن الله واحد" وينظرهم إلى الغد، ويفتتح الدرس ويسأل الحضور -وقد توافدوا أفواجًا- عن العالم الذي يريد مائة جنيه, ويقرر في حجج دامغة وحدانية الله، ويسود الصمت، وتضطرب القلوب، وتتقلب الأبصار مدةً غير وجيزةٍ, ثم يبدأ هذا العالم الصغير درسه غير تاركٍ شبهةً إلا وضحها, ولا حجةً إلا أوردها، ولا عويصًا إلا حله، فترك في بعض القلوب فرحة، وفي كثير من القلوب غصة.
وكان يخص بعض مريديه بدروس في منزله تختلف نوعًا عن دروس الأزهر, فيدرس لهم "تهذيب الأخلاق" لابن مسكويه، ويقرأ لهم كتاب "التحفة الأدبية في تاريخ تمدين الممالك الأوربية" للمؤلف الفرنسيّ "جيزو" وقد عربه "حنين نعمة خوري".
ثم عُيِّنَ الشيخ محمد عبده في أواخر سنة 1878 مدرسًا للتاريخ بدار العلوم؛ إذ توسط رياض باشا في هذا التعيين، ولم يدرس ملخصًا من ابن الأثير أو الطبري أو ما شاكلهما من الكتب القديمة, ولكن عمد إلى "مقدمة ابن خلدون" يبسط في درسه آراء هذا النابغة في أصول المدنية والاجتماع، وألف كتابًا في "علم الاجتماع والعمران" فُقِدَ ولم يعثر عليه(10)، وعُيِّنَ محمد عبده في نفس الوقت مدرسًا للعلوم العربية بمدرسة الألسن، وكان همه -سواء كان في الأزهر أو دار العلوم أو الألسن- هو إيجاد نابتة من المصريين تحيي اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وتقوم عوج الحكومة"(11):

(1/287)


 

__________
(1) مع العلم أنه كان قد تزوج وصمم على المكث بالبلدة، ولكن والده أمره بالذهاب إلى طنطا بعد أربعين يومًا من زواجه.

(2) وبهذا برهن الشيخ درويش في قريته على أنه أقدر من علماء الأزهر في هداية الطلاب وتحبيبهم في القراءة, ولقد كان مشايخ الصوفية في الماضي رسل هداية وتبشير, وعلى أيديهم أسلم كثير من وثنيي السودان وزنوج غابات إفريقية، وهم الذين نشروا الإسلام في كثير من بقاع الأرض, فأين منهم متصوفة زماننا الذين لا هَمَّ لهم إلّا ملء البطون وكنز الأموال.
)
3) كان الشيح درويش تلميذًا للسنوسيين كما رأينا، وهؤلاء كانوا يتبعون مذهبًا شبيهًا بالمذهب الوهابي، وهو الرجوع بالإسلام إلى بساطته الأولى، متجنبين البدع وتفسيرات المتأخرين وزياداتهم في العقائد والفروع.

(4) لم يحمل التقرير اسم الشيح عبد الكريم, ولكن اشتهر بأنه له, وفيه أعمال مجلس إدارة الأزهر من ابتداء تأسيسه سنة 1321هـ, وهي مدة اشتغال الشيح محمد عبده في مجلس الأزهر.
 كانت إجازات الطلاب كثيرة, ففي مولد السيد البدوي، والدسوقي، ويوم   (5)

عاشوراء, والمولد الحسيني، ومولد الشافعي، والعفيفي, والشرقاوي، وهذا عدا الأعياد الإسلامية, والمولد النبوي, ورمضان, والأعياد الرسيمة, ولم تكن مدة الدراسة تزيد عن ثلاثة أشهر ونصف, يخرج منها الخميس والجمعة من كل أسبوع.
(6)وقد مَرَّ بك وصف عبد الله فكري لهم في ص157 من هذا الكتاب, وقد كان الشيح أحمد الرفاعي يدرس في ذلك الوقت كتاب "المطول في البلاغة" ويعترف أنه لا يحسن أن يكتب خطابًا ولو غير بليغ؛ لأن هذا عمل تلاميذ المدرسة المدنية "أحمد أمين بمجلة الثقافة العدد 388" واعتذر أحد أكابر العلماء وهو الشيخ الإمبابي عن حضور وليمةٍ في رمضان؛ فكتب رسالة الاعتذار على ورقةٍ من أوراق العطار, وأخطأ فيها عشرة أخطاء نحوية، "محمد عبده لمحمد صبيح ص65، وتقرير الشيح عبد الكريم سليمان".

(7) وكان الشيح حسن الطويل من الشخصيات الفذة في عصره، ذا ذكاء حادٍّ ومعرفةٍ بالرياضيات، وكان مدرسًا بدار العلوم، وقد بلغ من مهارته في الرياضيات أن كان يحل لطلبتها ما أشكل عليهم من تمرينات الهندسة، وكان على معرفة بكتب الفلسفة القديمة, وبالدنيا والسياسة, وكان ذا شجاعة في الكلام بما يعتقد لو حرم منصبه بدار العلوم، وزهد في الدنيا, حتى لا يهمه منها شيء، يلبس ثيابًا رخيصة،

ويأكل قليلًا, ويدعى إلى موائد الأغنياء للإفطار في رمضان فيأكل من طبق الفول, ويزهد فيما عداه، ويطرد من دار لعلوم لكلامه في السياسة, فنيفق عليه صاحب مقهى بلدي، فلما عاد إلى عمله سلمه الشيح حسن الطويل مرتبه لينفق كما كان يفعل وهو مطرود، وكان يدرس في الأزهر الفلسفة والمنطق.

(8) انظر تاريخ الشيخ محمد عبده لرشيد رضا ج27-57, وسنتكلم عن هذه المقالات فيما بعد من حيث قيمتها الأدبية.
(9) وقد رجع الأزهر فيما بعد ذلك بست وعشرين سنة عن هذا القرار, ومنح الشيح محمد عبده في سنة 1904 العالمية من الدرجة الأولى، وكان شيخ الأزهر إذ ذاك الشيخ علي الببلاوي.
(10) أحمد أمين في مجلة الثقافة العدد 389, والمنار ج8 ص403-404.
(11) المنار ج8 ص404.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.