أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-8-2019
3830
التاريخ: 6-8-2019
3965
التاريخ: 13-8-2019
7915
التاريخ: 6-8-2019
3799
|
قال تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة : 5 - 8] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
قال تعالى : {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة : 5-6] .
بين سبحانه الحكم في المشركين بعد انقضاء المدة فقال : {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} ، قيل : هي الأشهر الحرم المعروفة : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ثلاثة سرد وواحد فرد ، عن جماعة . وقيل : هي الأشهر الأربعة التي حرم القتال فيها ، وجعل الله للمشركين أن يسيحوا في الأرض آمنين ، على ما ذكرناه من اختلاف المفسرين فيها ، وعلى هذا فمنهم من قال : معناه فإذا انسلخ الأشهر بانسلاخ المحرم ، لأن المشركين من كان منهم لهم عهد ، أمهلوا أربعة أشهر من حين نزلت {براءة} ، ونزلت في شوال ، ومن لا عهد لهم ، فأجلهم من يوم نزول النداء ، وهو يوم عرفة ، أو يوم النحر ، إلى تمام الأشهر الحرم ، وهي بقية ذي الحجة ، والمحرم كله ، فيكون ذلك خمسين يوما . فإذا انقضت هذه الخمسون يوما ، انقضى الأجلان ، وحل قتالهم سواء كان لهم عهد خاص ، أو عام .
ومنهم من قال : معناه إذا انسلخ الأشهر الأربعة التي هي عشرون من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشر من شهر ربيع الآخر ، إذ حرمنا فيها دماء المشركين ، وجعلنا لهم أن يسيحوا فيها آمنين . {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} أي : فضعوا السيف فيهم حيث كانوا في الأشهر الحرم ، وغيرها ، في الحل ، أو في الحرم ، وهذا ناسخ لكل آية وردت في الصلح ، والإعراض عنهم . {وخذوهم} قيل : فيه تقديم وتأخير ، وتقديره فخذوا المشركين حيث وجدتموهم ، واقتلوهم . وقيل : ليس فيه تقديم وتأخير ، وتقديره فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، أو خذوهم واحصروهم على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين . وقوله {واحصروهم} معناه : واحبسوهم ، واسترقوهم ، أو فادوهم بمال . وقيل : وامنعوهم دخول مكة ، والتصرف في بلاد الاسلام .
{واقعدوا لهم كل مرصد} أي : بكل طريق ، وبكل مكان تظنون أنهم يمرون فيه ، وضيقوا المسالك عليهم ، لتمكنوا من أخذهم . وقوله : {لهم} معناه لقتلهم وأسرهم . {فإن تابوا} أي : رجعوا من الكفر ، وانقادوا للشرع {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} أي : قبلوا إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لأن عصمة الدم لا تقف على إقامة الصلاة وأداء الزكاة ، فثبت أن المراد به القبول . {فخلوا سبيلهم} أي : دعوهم يتصرفون في بلاد الاسلام ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم . وقيل : معناه فخلوا سبيلهم إلى البيت أي : دعوهم يحجوا معكم . {إن الله غفور رحيم} .
واستدلوا بهذه الآية على أن من ترك الصلاة متعمدا ، يجب قتله ، لأن الله تعالى أوجب الامتناع من قتل المشركين بشرط أن يتوبوا ، ويقيموا الصلاة ، فإذا لم يقيموها وجب قتلهم {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} معناه : وإن طلب أحد من المشركين ، الذين أمرتك بقتالهم ، منك الأمان من القتل ، بعد الأشهر الأربعة ، ليسمع دعوتك واحتجاجك عليه بالقرآن ، فأمنه ، وبين له ما يريد ، وأمهله حتى يسمع كلام الله ويتدبره . وإنما خص كلام الله لأن معظم الأدلة فيه . {ثم أبلغه مأمنه} معناه : فإن دخل في الاسلام ، نال خير الدارين ، وإن لم يدخل في الاسلام ، فلا تقتله ، فتكون قد غدرت به ، ولكن أوصله إلى ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله . {ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} أي ذلك الأمان لهم بأنهم قوم لا يعلمون الإيمان والدلائل ، فآمنهم حتى يسمعوا ، ويتدبروا ، ويعلموا .
وفي هذا دلالة على بطلان قول من قال : المعارف ضرورية ، وفي الآية دلالة على أن المتلو والمسموع كلام الله ، لأن الشرع والعرب ، جعلا الحكاية كعين المحكى ، يقال هذا كلام سيبويه ، وشعر امرئ القيس . ومن ظن أن الحكاية تفارق المحكي ، لأجل هذا الظاهر ، فقد غلط ، لأن المراد ما ذكرناه .
- {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة : 7-8] .
لما أمر سبحانه بنبذ العهد إلى المشركين ، بين أن العلة في ذلك ما ظهر منهم من الغدر ، وأمر بإتمام العهد لمن استقام على الأمر ، فقال : {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله} أي : كيف يكون لهؤلاء عهد صحيح مع إضمارهم الغدر والنكث! وهذا يكون على التعجب ، أو على الجحد ، ويدل عليه ما روي أن في قراءة عبد الله : {كيف يكون عهد عند الله ولا ذمة} فأدخل الكلام (لا) لأن معنى الأول جحد أي : لا يكون لهم عهد . وقيل : معناه كيف يأمر الله ورسوله بالكف عن دماء المشركين ، ثم استثنى سبحانه ، فقال : {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام} أي : فإن لهم عهدا عند الله ، لأنهم لم يضمروا الغدر بك ، والخيانة لك .
واختلف في هؤلاء من هم ، فقيل : هم قريش ، عن ابن عباس . وقيل : هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله يوم الحديبية ، فلم يستقيموا ، ونقضوا العهد بأن أعانوا بني بكر على خزاعة ، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الفتح أربعة أشهر ، يختارون أمرهم : إما أن يسلموا ، وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا ، فأسلموا قبل الأربعة الأشهر ، عن قتادة ، وابن زيد . وقيل : هم من قبائل بكر : بنو خزيمة ، وبنو مدلج ، وبنو ضمرة ، وبنو الدئل ، وهم الذين كانوا قد دخلوا عهد قريش يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش ، فلم يكن نقضها إلا قريش وبنو الدئل من بكر ، فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن له نقض إلى مدته . وهذا القول أقرب إلى الصواب ، لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد ، وبعد فتح مكة .
{فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} معناه : فما استقاموا لكم على العهد ، أي : ما داموا باقين معكم على الطريقة المستقيمة ، فكونوا معهم كذلك . {إن الله يحب المتقين} للنكث والغدر {كيف وإن يظهروا عليكم} : هاهنا حذف ، وتقديره : كيف يكون لهم عهد ، وكيف لا تقتلونهم ، وإنما حذفه لأن ما قبله من قوله : {كيف يكون للمشركين عهد} يدل على ذلك ، ومثله قول الشاعر يرثي أخا له قد مات :
وخبر تماني أنما الموت بالقرى * فكيف وهاتا هضبة وقليب (3)
أي : فكيف مات ، وليس بقرية ؟ ومثله قول الحطيئة :
فكيف ولم أعلمهم حدلوكم * على معظم ، ولا أديمكم قدوا (4)
أي : وكيف تلومونني على مدح قوم ، وتذمونهم؟ فاستغنى عن ذكر ذلك ، لأنه جرى في القصيدة ما يدل على ما أضمره . ومعناه : كيف يكون لهؤلاء عهد عند الله ، وعند رسوله ، وهم بحال أن يظهروا عليكم ، ويظفروا بكم ، ويغلبوكم {لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة} أي : لا يحفظوا ، ولا يراعوا فيكم قرابة ، ولا عهدا . والإل :
القرابة ، عن ابن عباس ، والضحاك . والعهد ، عن مجاهد ، والسدي ، والجوار ، عن الحسن ، والحلف ، عن قتادة ، واليمين ، عن أبي عبيدة . وقيل : أن الإل اسم الله تعالى ، عن مجاهد ، وروى أن أبا بكر قرئ عليه كلام مسيلمة ، فقال : لم يخرج هذا من إل ، فأين يذهب بكم؟ ومن قال إن الإل هو العهد ، قال : جمع بينه وبين الذمة ، وإن كان بمعناه ، لاختلاف معنى اللفظين ، كما قال : {وألفى قولها كذبا ومينا} وقال : {متى أدن منه ينأ عني ، ويبعد} .
{يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم} معناه : يتكلمون بكلام الموالين لكم لترضوا عنهم ، وتأبى قلوبهم إلا العداوة ، والغدر ، ونقض العهد . {وأكثرهم فاسقون} أي متمردون في الكفر والشرك ، عن ابن الأخشيد . وقال الجبائي : أراد كلهم فاسقون ، لكنه وضع الخصوص موضع العموم . وقال القاضي : معناه أكثرهم خارجون عن طريق الوفاء بالعهد ، وأراد بذلك رؤساءهم .
___________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج5 ، ص 15-19 .
3 . قائله كعب بن سعد الغنوي . والهضبة : الجبل . الرابية .
4 . حدل حدلا وحدولا : جار وظلم . وفي التبيان : (خذلوكم) بمعجمتين . (وقد الأديم) قيل ههنا كناية عن هتك العرض .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :
{ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } . وجدتموهم أدركتموهم ، وخذوهم ائسروهم ، واحصروهم احبسوهم ، واقعدوا لهم كل مرصد راقبوهم وترصدوهم في كل طريق يمرون به ، ولا تدعوا أحدا يفلت منهم . أما الأشهر الحرم فقد ذكرنا عند تفسير الآية 194 من سورة البقرة : ان اللَّه حرّم القتال في أربعة أشهر : ذي القعدة ، وذي الحجة ، والمحرم ، ورجب . وهذه الأشهر غير مرادة هنا ، وانما المراد بالأشهر الحرم في هذه الآية الأشهر الأربعة التي حرّم اللَّه فيها قتال مشركي الجزيرة العربية ، وأباح لهم طوال هذه المدة ان يسيحوا في الأرض آمنين ابتداء من عاشر ذي الحجة سنة 9 ه إلى عاشر ربيع الآخر سنة 10 ه ، وبعدها أمر المسلمين بقتل المشركين وأسرهم وحبسهم وملاحقتهم انّي اتجهوا إذا لم يسلموا أو يهاجروا من الجزيرة قبل انتهاء المدة اتقاء لشرّهم وفسادهم .
{ فَإِنْ تابُوا وأَقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهً غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
أي ان أظهروا الإسلام قبل انقضاء الأجل المضروب لهم ، وأقاموا الشعائر الاسلامية وأهمها إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ان فعلوا ذلك فهم في أمن وأمان يجري عليهم ما يجري على المسلمين ، دون تفاوت .
{ وإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } .
ان أي مشرك ممن يجوز قتله إذا استجار وطلب الأمان من المسلمين فعليهم ان يجيروه ويعطوه الأمان على نفسه وماله ، وان يدعوه إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ، فان قبل جرت عليه أحكام المسلمين ، وان رفض فلا يحل قتله ، ويجب أن يوصله المسلمون إلى مكان يأمن فيه على نفسه { ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ } ذلك إشارة إلى إجارة المسلم للمشرك ، وإسماعه كلام اللَّه ، وإبلاغه مأمنه ، وقوله :
{ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ } بيان للسبب ، وهو جهل المشركين المستجيرين بالإسلام وحقيقته .
وأفتى الفقهاء بأن للمسلم ان يؤمّن حين القتال آحادا من المشركين المقاتلين شريطة عدم المفسدة في الأمان بأن لا يكون المستجير جاسوسا ، ولا يتعطل الجهاد والقتال بأمانه .
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ } . هذه الآية مكملة للآية الأولى والرابعة من هذه السورة ، فقد أوجب سبحانه في الآية الأولى نقض العهد مع المشركين الذين خانوه ولم يفوا به ، وهؤلاء الناكثون هم المعنيون بقوله تعالى هنا : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ } . وأوجب سبحانه في الآية الرابعة الوفاء بعهد المشركين الذين وفوا بالعهد ولم ينقصوا منه شيئا ، وهم قوم من كنانة كما أشرنا ، وهؤلاء الأوفياء هم المعنيون بالاستثناء في قوله تعالى : { إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهً يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } . أي أبقوا معهم على عهد المهادنة والمسالمة ما بقوا عليه ، لأن اللَّه يكره أهل الخيانة والغدر ، ويحب الأوفياء والأتقياء ، وقوله : عند المسجد الحرام يشير إلى المكان الذي تم فيه الاتفاق مع كنانة ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) عاهدهم مع من عاهد في الحديبية ، وهي قريبة من مكة المكرمة .
{ كَيْفَ وإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا ولا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وتَأْبى قُلُوبُهُمْ وأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ } . ضمير يظهروا ويرقبوا يعود إلى الناكثين ، وقد وصفهم عظمت صفاته أولا باللؤم والشراسة ، لأنهم لو قدروا على المسلمين لفعلوا بهم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد ولا لإنسانية ، ووصفهم ثانية بالنفاق وانهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، وثالثا وصفهم بالفسق ، وكل صفة من هذه الثلاث تقضي عليهم بأشد العقوبات ، وبإسقاطهم من جميع حقوق الإنسانية ، لا من حق الوفاء لهم بالعهد فقط ، فكيف إذا اتصفوا بالرذائل الثلاث مجتمعة ! وتسأل : ان الكفار كلهم فاسقون ، لأن الكفر فسق وزيادة ، فكيف استثنى سبحانه البعض بقوله : { وأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ } ؟ .
الجواب : ان معنى قوله { وأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ } . ان أكثرية الكفار يستمرون على الكفر والفسق ولا ترجى هدايتهم بحال ، وقليل منهم من يرجع عن غيّه ، وعلى هذا يكون المراد بالفسق هنا الاستمرار عليه وعدم الرجوع عنه ، وهذا النوع من التعبير كثير في القرآن الكريم .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 12-14 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد﴾ أصل الانسلاخ من سلخ الشاة وهو نزع جلدها عنها ، وانسلاخ الشهر نوع كناية عن خروجه ، والحصر هو المنع من الخروج عن محيط ، والمرصد اسم مكان من الرصد بمعنى الاستعداد للرقوب .
قال الراغب : الرصد الاستعداد للترقب يقال : رصد له وترصد وأرصدته له ، قال عز وجل : ﴿وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل﴿ ، وقوله عز وجل : ﴿إن ربك لبالمرصاد﴾ تنبيها أنه لا ملجأ ولا مهرب ، والرصد يقال للراصد الواحد والجماعة الراصدين وللمرصود واحدا كان أو جمعا ، وقوله تعالى : ﴿يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا﴾ يحتمل كل ذلك ، والمرصد موضع الرصد .
والمراد بالأشهر الحرم هي الأربعة الأشهر : أشهر السياحة التي ذكرها الله سبحانه في قوله : ﴿فسيحوا في الأرض أربعة أشهر﴾ وجعلها أجلا مضروبا للمشركين لا يتعرض فيها لحالهم وأما الأشهر الحرم المعروفة أعني ذا القعدة وذا الحجة والمحرم فإنها لا تنطبق على أذان براءة الواقع في يوم النحر عاشر ذي الحجة بوجه كما تقدمت الإشارة إليه وعلى هذا فاللام في الأشهر الحرم للعهد الذكري أي إذا انسلخ هذه الأشهر التي ذكرناها وحرمناها للمشركين لا يتعرض لحالهم فيها فاقتلوا المشركين إلخ . . .
ويظهر بذلك أن لا وجه لحمل قوله : ﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم﴾ على انسلاخ ذي القعدة وذي الحجة والمحرم بأن يكون انسلاخ الأربعة الأشهر بانسلاخ الأشهر الثلاثة منطبقا عليه أو يكون انسلاخ الأشهر الحرم مأخوذا على نحو الإشارة إلى انقضاء الأربعة الأشهر وإن لم ينطبق الأشهر على الأشهر فإن ذلك كله مما لا سبيل إليه بحسب السياق وإن كان لفظ الأشهر الحرم في نفسه ظاهرا في شهور رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم .
وقوله : ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ محقق للبراءة منهم ورفع الاحترام عن نفوسهم بإهدار الدماء فلا مانع من أي نازلة نزلت بهم ، وفي قوله : ﴿حيث وجدتموهم﴾ تعميم للحكم فلا مانع حاجب عن وجوب قتلهم حيثما وجدوا في حل أو حرم بل ولو ظفر بهم في الشهر الحرام - بناء على تعميم ﴿حيث﴾ للزمان والمكان كليهما - فيجب على المسلمين كائنين من كانوا إذا ظفروا بهم أن يقتلوهم ، كان ذلك في الحل أو الحرم في الشهر الحرام أو غيره .
وإنما أمر بقتلهم حيث وجدوا للتوسل بذلك إلى إيرادهم مورد الفناء والانقراض ، وتطييب الأرض منهم ، وإنجاء الناس من مخالطتهم ومعاشرتهم بعد ما سمح وأبيح لهم ذلك في قوله : ﴿فسيحوا في الأرض أربعة أشهر﴾ .
ولازم ذلك أن يكون كل من قوله : ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ وقوله : ﴿وخذوهم﴾ وقوله : ﴿واحصروهم﴾ وقوله : ﴿واقعدوا لهم كل مرصد﴾ بيانا لنوع من الوسيلة إلى إفناء جمعهم وإنفاد عددهم ، ليتفصى المجتمع من شرهم .
فإن ظفر بهم وأمكن قتلهم قتلوا ، وإن لم يمكن ذلك قبض عليهم وأخذوا ، وإن لم يمكن أخذهم حصروا وحبسوا في كهفهم ومنعوا من الخروج إلى الناس ومخالطتهم وإن لم يعلم محلهم قعد لهم في كل مرصد ليظفر بهم فيقتلوا أو يؤخذوا .
ولعل هذا المعنى هو مراد من قال : إن المراد : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أو خذوهم واحصروهم على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين ، وإن كان لا يخلو عن تكلف من جهة اعتبار الأخذ والحصر والقعود في كل مرصد أمرا واحدا في قبال القتل ، وكيف كان فالسياق إنما يلائم ما قدمناه من المعنى .
وأما قول من قال : إن في قوله : ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم﴾ تقديما وتأخيرا ، والتقدير : فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم فهو من التصرف في معنى الآية من غير دليل مجوز ، والآية وخاصة ذيلها يدفع ذلك سياقا .
ومعنى الآية : فإذا انسلخ الأشهر الحرم وانقضى الأربعة الأشهر التي أمهلناهم بها بقولنا : ﴿فسيحوا في الأرض أربعة أشهر﴾ فأفنوا المشركين بأي وسيلة ممكنة رأيتموها أقرب وأوصل إلى إفناء جمعهم وإمحاء رسمهم من قتلهم أينما وجدتموهم من حل أو حرم ومتى ما ظفرتم بهم في شهر حرام أو غيره ومن أخذهم أو حصرهم أو القعود لهم في كل مرصد حتى يفنوا عن آخرهم .
قوله تعالى : ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم﴾ اشتراط في معنى الغاية للحكم السابق ، والمراد بالتوبة معناها اللغوي وهو الرجوع أي إن رجعوا من الشرك إلى التوحيد بالإيمان ونصبوا لذلك حجة من أعمالهم وهي الصلاة والزكاة والتزموا أحكام دينكم الراجعة إلى الخالق جميعا فخلوا سبيلهم .
وتخلية السبيل كناية عن عدم التعرض لسالكيه وإن عادت مبتذلة بكثرة التداول كان سبيلهم مسدودة مشغولة بتعرض المتعرضين فإذا خلي عنها كان ذلك ملازما أو منطبقا على عدم التعرض لهم .
وقوله : ﴿إن الله غفور رحيم﴾ تعليل لقوله : ﴿فخلوا سبيلهم﴾ إما من جهة الأمر الذي يدل عليه بصورته أو من جهة المأمور به الذي يدل عليه بمادته أعني تخلية سبيلهم .
والمعنى على الأول : وإنما أمر الله بتخلية سبيلهم لأنه غفور رحيم يغفر لمن تاب إليه ويرحمه .
وعلى الثاني : خلوا سبيلهم لأن تخليتكم سبيلهم من المغفرة والرحمة ، وهما من صفات الله العليا فتتصفون بذلك بصفة ربكم وأظهر الوجهين هو الأول .
قوله تعالى : ﴿وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله﴾ إلى آخر الآية ، الآية تتضمن حكم الإجارة لمن استجار من المشركين لأن يسمع كلام الله ، وهي بما تشتمل عليه من الحكم وإن كانت معترضة أو كالمعترضة بين ما يدل على البراءة ورفع الأمان عن المشركين إلا أنها بمنزلة دفع الدخل الواجب الذي لا يجوز إهماله فإن أساس هذه الدعوة الحقة وما يصاحبها من الوعد والوعيد والتبشير والإنذار ، وما يترتب عليه من عقد العقود وإبرام العهود أو النقض والبراءة وأحكام القتال كل ذلك إنما هو لصرف الناس عن سبيل الغي والضلال إلى صراط الرشد والهدى ، وإنجائهم من شقاء الشرك إلى سعادة التوحيد .
ولازم ذلك الاعتناء التام بكل طريق يرجى فيه الوصول إلى هداية ضال والفوز بإحياء حق وإن كان يسيرا قليلا فإن الحق حق وإن كان يسيرا ، والمشرك غير المعاهد وإن أبرأ الله منه الذمة وأهدر دمه ورفع الحرمة عن كل ما يعود إليه من مال وعرض لكنه تعالى إنما فعل به ذلك ليحيي حق ويبطل باطل فإذا رجي منه الخير منع ذلك من أي قصد سيء يقصد به حتى يحصل اليأس من هدايته وإنجائه .
فإذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقة ويتبعها إن اتضحت له كان من الواجب إجارته حتى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل وتتم عليه الحجة فإذا تمادى بعد ذلك في ضلاله وأصر في استكباره صار ممن ارتفع عنه الأمان وبرئت منه الذمة ووجب تطييب الأرض من قذارة وجوده بأية وسيلة أمكنت وأي طريق كان أقرب وأسهل وهذا هو الذي يفيده قوله تعالى : ﴿وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون﴾ الآية بما يكتنف به من الآيات .
فمعنى الآية : إن طلب منك بعض هؤلاء المشركين الذين رفع عنهم الأمان أن تأمنه في جوارك ليحضر عندك ويكلمك فيما تدعو إليه من الحق الذي يتضمنه كلام الله فأجره حتى يسمع كلام الله ويرتفع عنه غشاوة الجهل ثم أبلغه مأمنه حتى يملك منك أمنا تاما كاملا ، وإنما شرع الله هذا الحكم وبذل لهم هذا الأمن التام لأنهم قوم جاهلون ولا بأس على جاهل إذا رجي منه الخير بقبول الحق لو وضح له .
وهذا غاية ما يمكن مراعاته من أصول الفضيلة وحفظ الكرامة ونشر الرحمة والرأفة وشرافة الإنسانية اعتبره القرآن الكريم ، وندب إليه الدين القويم .
وقد بان بما قدمناه أولا : أن الآية مخصصة لعموم قوله في الآية السابقة : ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾ .
وثانيا : أن قوله : ﴿حتى يسمع كلام الله﴾ غاية للاستجارة والإجارة فيتغيا به الحكم ، فالاستئمان إنما كان لسمع كلام الله واستفسار ما عند الرسول من مواد الرسالة فيتقدر الأمان الذي يعطاه المستجير المستأمن بقدره فإذا سمع من كلام الله ما يتبين به الرشد من الغي ويتميز به الهدى من الضلال انتهت مدة الاستجارة وحان أن يرد المستجير إلى مأمنه والمكان الخاص به الذي هو في أمن فيه ، لا يهدده فيه سيوف المسلمين ليرجع إلى حاله الذي فارقه ، ويختار لنفسه ما يشاء على حرية من المشية والإرادة .
وثالثا : أن المراد بكلام الله مطلق آيات القرآن الكريم ، نعم يتقيد بما ينفع المستجير من الآيات التي توضح له أصول المعارف الإلهية ومعالم الدين والجواب عما يختلج في صدره من الشبهات كل ذلك بدلالة المقام والسياق .
وبذلك يظهر فساد ما قيل : إن المراد بكلام الله آيات التوحيد من القرآن ، وكذا ما قيل : إن المراد به سورة براءة أو خصوص ما بلغوه في الموسم من آيات صدر السورة فإن ذلك كله تخصيص من غير مخصص .
ورابعا : أن المراد بسمع كلام الله الوقوف على أصول الدين ومعالمه وإن أمكن أن يقال : إن لاستماع نفس كلام الله فيما إذا كان المستجير عربيا يفهم الكلام الإلهي دخلا في ذلك أما إذا كان غير عربي ولا يفهم الكلام العربي فالمستفاد من السياق أن الغاية في حقه مجرد تفقه أصول الدين ومعالمه .
وخامسا : أن الآية محكمة غير منسوخة ولا قابلة له لأن من الضروري البين من مذاق الدين ، وظواهر الكتاب والسنة أن لا مؤاخذة قبل تمام الحجة ، ولا تشديد أي تشديد كان إلا بعد البيان فالجاهل السالك في سبيل الفحص أو المستعلم للحق المستفهم للحقيقة لا يرد خائبا ولا يؤخذ غافلا فعلى الإسلام والمسلمين أن يعطوا كل الأمان لمن استأمنهم ليستحضر معارف الدين ويستعلم أصول الدعوة حتى يتبعها إن لاحت له فيها لوائح الصدق ، وهذا أصل لا يقبل بطلانا ولا تغييرا ما دام الإسلام إسلاما فالآية محكمة غير قابلة للنسخ إلى يوم القيامة .
ومن هنا يظهر فساد قول من قال : إن قوله : ﴿وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله﴾ الآية منسوخة بالآية الآتية : ﴿وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة﴾ الآية .
وسادسا : أن الآية إنما توجب إجارة المستجير إذا استجار لأمر ديني يرجى فيه خير الدين ، وأما مطلق الاستجارة لا لغرض ديني ولا نفع عائد إليه فلا دلالة لها عليه أصلا بل الآيات السابقة الآمرة بالتشديد عليهم في محلها .
وسابعا : أن قوله في تتميم الأمر بالإجارة : ﴿ثم أبلغه مأمنه﴾ مع تمام قوله : ﴿فأجره حتى يسمع﴾ بدونه في الدلالة على المقصد يدل على كمال العناية بفتح باب الهداية على وجوه الناس ، والتحفظ على حرية الناس في حياتهم وأعمالهم الحيوية ، والإغماض في طريقه عن كل حكم حتمي وعزيمة قاطعة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ، ولا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .
وثامنا : أن الآية - كما قيل - تدل على أن الاعتقاد بأصل الدين يجب أن يكون عن علم يقيني لا يداخله شك ولا يمازجه ريب ولا يكفي فيه غيره ولو كان الظن الراجح ، وقد ذم الله تعالى اتباع الظن ، وندب إلى اتباع العلم في آيات كثيرة كقوله تعالى : ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم﴾ [الإسراء : 36] وقوله : ﴿إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا﴾ [النجم : 28] وقوله : ﴿ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون﴾ [الزخرف : 20 ] .
ولو كفى في أصل الدين الاعتقاد التقليدي لم يستقم الحكم بإجارة من استجار لتفهم أصول الدين ومعارفه لجواز أن يكلف بالتقليد والكف عن البحث عن أنه حق أو باطل هذا .
ولكن المقدار الواجب في ذلك أن يكون عن علم قطعي سواء كان حاصلا عن الاستدلال بطرق فنية أو بغير ذلك من الوجوه المفيدة للعلم ولو على سبيل الاتفاق ، وهذا غير القول بأن الاستدلال على أصول المعارف لا يصح إلا من طريق العقل فإن صحة الاستدلال أمر ، وجواز الاعتماد على العلم بأي طريق حصل أمر آخر .
قوله تعالى : ﴿كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله﴾ الآية ، تبيين وتوضيح لما مر إجمالا من الحكم بنقض عهد المشركين ممن لا وثوق بوفائه بعهده ، وقتلهم إلى أن يؤمنوا بالله ويخضعوا لدين التوحيد ، واستثناء من لم ينقض العهد وبقي على الميثاق حتى ينقضي مدة عهدهم .
فالآية وما يتلوها إلى تمام ست آيات تبين ذلك وتوضح الحكم واستثناء ما استثني منه والغاية والمغيا جميعا .
فقوله : ﴿كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله﴾ استفهام في مقام الإنكار ، وقد بادرت الآية إلى استثناء الذين عاهدوهم من المشركين عند المسجد الحرام لكونهم لم ينقضوا عهدا ولم يساهلوا فيما واثقوا به بدليل قوله تعالى : ﴿فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم﴾ وذلك أن الاستقامة لمن استقام والسلم لمن يسالم من لوازم التقوى الديني ، ولذلك علل قوله ذلك بقوله : ﴿إن الله يحب المتقين﴾ كما جاء مثله بعينه في الآية السابقة : ﴿فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين﴾ .
قوله تعالى : ﴿كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة﴾ إلى آخر الآية ، قال الراغب في المفردات : ، الإل كل حالة ظاهرة من عهد حلف ، وقرابة تئل : تلمع فلا يمكن إنكاره ، قال تعالى : لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، وآل الفرس : أسرع ، حقيقته لمع ، وذلك استعارة في باب الإسراع نحو برق وطار .
وقال أيضا : الذمام - بكسر الذال - ما يذم الرجل على إضاعته من عهد ، وكذلك الذمة والمذمة ، وقيل : لي مذمة فلا تهتكها ، وأذهب مذمتهم بشيء : أي أعطهم شيئا لما لهم من الذمام .
وهو ظاهر في أن الذمة مأخوذة من الذم بالمعنى الذي يقابل المدح .
ولعل إلقاء المقابلة في الآية بين الإل والذمة للدلالة على أنهم لا يحفظون في المؤمنين شيئا من المواثيق التي يجب رقوبها وحفظها سواء كانت مبنية على أصول واقعية تكوينية كالقرابة التي توجب بوجه على القريب رعاية حال قريبه ، أو على الجعل والاصطلاح كالعهود والمواثيق المعقودة بحلف ونحوه .
وقد كررت لفظة ﴿كيف﴾ للتأكيد ولرفع الإبهام في البيان الناشئ من تخلل قوله : ﴿إلا الذين عاهدتم﴾ الآية بطولها بين قوله : ﴿كيف يكون للمشركين﴾ الآية وقوله : ﴿وإن يظهروا عليكم﴾ الآية .
فمعنى الآية : كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله والحال أنهم إن يظهروا عليكم ويغلبوكم على الأمر لا يحفظوا ولا يراعوا فيكم قرابة ولا عهدا من العهود يرضونكم بالكلام المدلس والقول المزوق ، ويأبى ذلك قلوبهم ، وأكثرهم فاسقون .
ومن هنا ظهر أن قوله : ﴿يرضونكم بأفواههم﴾ من المجاز العقلي نسب فيه الإرضاء إلى الأفواه وهو في الحقيقة منسوب إلى القول والكلام الخارج من الأفواه المكون فيها .
وقوله : ﴿يرضونكم﴾ الآية تعليل لإنكار وجود العهد للمشركين ولذلك جيء به بالفصل ، والتقدير : كيف يكون لهم عهد وهم يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون .
وأما قوله : ﴿وأكثرهم فاسقون﴾ ففيه بيان أن أكثرهم ناقضون للعهد والميثاق بالفعل من غير أن ينتظروا ظهورهم جميعا عليكم فالآية توضح حال آحادهم وجميعهم بأن أكثرهم فاسقون بنقض العهد من غير أن يرقبوا في مؤمن إلا ولا ذمة ، ولو أنهم ظهروا عليكم جميعا لم يرقبوا فيكم الإل والذمة .
___________________________
1 . تفسير الميزان ، ج9 ، ص 124-130 .
تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
قال تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة : 5 - 6] .
الشدّة المقرونة بالرّفق :
نقرأ في الآيتين أعلاه بيان وظيفة المسلمين بعد انتهاء مدّة إمهال المشركين «الأشهر الأربعة» وقد أصدر القرآن أوامره الصارمة في هذا الصدد فقال : {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} «2».
ثمّ يقول : {وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} «3».
ويلاحظ في هذه الآية أربعة أوامر صارمة صادرة في شأن المشركين «إيصاد الطرق بوجههم ، محاصرتهم ، أسرهم ، ثمّ قتلهم». وظاهر النص أنّ الأمور الأربعة ليست على نحو التخيير ، بل ينبغي ملاحظة الظروف والمحيط والزمان والمكان والأشخاص ، والعمل بما يناسب هذه الأمور ، فلو كان في الأسر والمحاصرة وإيصاد السبيل بوجه المشركين الكفاية فيها ، وإلّا فلا محيص عن قتالهم.
وهذه الشدّة متناغمة ومتوائمة مع منهج الإسلام وخطته في إزالة الوثنية وقلعها من جذورها ، وكما أشرنا إلى ذلك سلفا ، فإنّ حرية الإعتقاد «أي عدم إكراه أهل الأديان الأخرى على قبول الإسلام» تنحصر في أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولا تشمل عبدة الأوثان ، لأنّ الوثنية ليست عقيدة صحيحة ، ولا دينا كي تلحظ بعين الاحترام ، بل هي تخلّف وخرافة وانحراف وجهل ، ولا بدّ من استئصال جذورها بأي ثمن كان وكيف ما كان.
وهذه الشدّة والقوّة والصرامة لا تعني سدّ الطريق ، - طريق الرجوع نحو التوبة- بوجههم ، بل لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويعودوا إلى سبيل الحق ، ولذلك فإنّ الآية عقبت بالقول : {فَإِنْ تابُوا وأَقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}.
وفي هذه الحال ، أي عند رجوعهم نحو الإسلام ، لن يكون هناك فرق بينهم وبين سائر المسلمين ، وسيكونون سواء وإياهم في الحقوق والأحكام.
{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . يتوب على عباده المنيبين إليه.
وتستكمل الآية التالية هذا الموضوع بأمر آخر ، كما يتّضح بجلاء أن هدف الإسلام من هذا الأمر إنّما هو نشر التوحيد والحق والعدالة ، وليس هو الاستثمار أو الاستعمار وامتصاص المال ، أو الاستيلاء على أراضي الآخرين ، إذ تقول الآية : {وإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} .
أي عليك أن تعامل من يلجأ إليك من المشركين برفق ولطف ، وامنحه المجال للتفكير حتى يبيّن له محتوى دعوتك في كمال الإرادة والحرية ، فإذا أشرقت أنوار الهداية في قلوبهم فسيؤمنون بدعوتك.
ثمّ تضيف الآية قائلة : {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وأوصله إلى مكان آمن حتى لا يعترضه أحد في طريقه.
وأخيرا فإنّ الآية تبين علة هذا الحكم ، فتقول : {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} .
فبناء على ذلك لو فتحت أبواب اكتساب المعرفة بوجوههم ، فإنّه يؤمّل فيهم خروجهم من الوثنية التي هي وليدة الجهل- والتحاقهم بركب التوحيد الذي هو وليد العلم والمعرفة.
وقد ورد في كتب السنة والشيعة أنّ أحد المشركين (عبدة الأصنام) سأل عليّا عليه السلام بعد إلغاء المعاهدة فقال : يا ابن أبي طالب ، لو أراد أحد أن يواجه النّبي بعد هذه المدّة «الأشهر الأربعة» ويسأله أو يسمع كلام اللّه منه ، أهو آمن؟! فقال علي عليه السلام : أجل ، إنّ اللّه يقول : {وإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ} «4».
وهكذا تتوازن وتتساوى كفتا الشدّة المستفادة من الآية الأولى- محل البحث- واللين المستفاد من الآية التي تليها ، فإنّ سبيل التربية قائم على الشدة المشفوعة باللين ، ليكون منهما الدواء الناجع .
- {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة : 7 - 8] .
المعتدون النّاقضون العهد :
كما لا حظنا في الآيات السابقة الإسلام ألغى جميع العهود التي كانت بينه وبين المشركين وعبدة الأوثان- إلّا جماعة خاصّة- وأمهلهم مدّة أربعة أشهر ليقرروا موقفهم منه .
وفالآيات- محل البحث- بيان لعلة إلغاء العهود من قبل الإسلام ، فتقول الآية الأولى من هذه الآيات مستفهمة استفهاما إنكاريا : {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ} ؟! أي أنّهم لا ينبغي لهم أن يتوقعوا أو ينتظروا الوفاء بالعهد من قبل النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ومن جانب واحد ، في وقت تصدر منهم المخالفات وعدم الوفاء بالعهد.
ثمّ استثنت الآية مباشرة أولئك الذين لم ينقضوا عهدهم ، بل بقوا أوفياء له ، فقالت : {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
وفي الآية التالية يثار هذا الموضوع بمزيد الصراحة والتأكيد ، ويستفهم عنه استفهاما إنكاريا أيضا ، إذ تقول الآية : {كَيْفَ وإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا ولا ذِمَّةً} .
وكلمة «الإلّ» معناها القرابة ، وقال بعضهم : إنّها تعني هنا العهد والميثاق.
فعلى المعنى الأوّل أي «القرابة» يكون المراد من ظاهر الآية أنّه بالرغم من أنّ قريشا تربطها برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وبعض المسلمين علاقة قربى ، إلّا أنّها لا ترقب هذه القرابة أو الرحم ولا ترعى حرمتها ، فكيف إذن تتوقع من النّبي والمسلمين احترام علاقتهم بها.
وعلى المعنى الثّاني تكون كلمة «إلّ» مؤكّدة بكلمة (ذمّة) وتعني العهد والميثاق أيضا ، قال الراغب في المفردات : إن «الإل» كل حالة ظاهرة من عهد حلف وقرابة تئل (أي تلمع) فلا يمكن إنكاره «4».
وتضيف الآية معقبة بأن هؤلاء يريدون أن يخدعوكم بألفاظهم المزوّقة فقالت : {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وتَأْبى قُلُوبُهُمْ} .
لأن قلوبهم مليئة بالحقد والقسوة وطلب الانتقام وعدم الاعتناء بالعهد وعلاقة القربى ، وإن أظهروا المحبّة بألسنتهم.
وفي نهاية الآية إشارة إلى جذر هذا الموضوع وأساسه وهو فسقهم ، فتقول : {وأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ} .
_____________________________
1. تفسير الأمثل ، ج5 ، ص 153-158 .
2. الفعل «انسلخ» مأخوذ من الانسلاخ ومعناه الخروج ، وأصله من «سلخ الشاة» أي إخراج الشاة من جلدها عند الذبح .
3. المرصد مأخوذ من الرّصد ويعني الطريق أو الكمين .
4. تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 106 وتفسير الفخر الرازي ، ص 226 .
4. المفردات ، ص 20 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ندوات وأنشطة قرآنية مختلفة يقيمها المجمَع العلمي في محافظتي النجف وكربلاء
|
|
|