أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-03-2015
7634
التاريخ: 2023-02-13
1150
التاريخ: 24-03-2015
2218
التاريخ: 24-03-2015
3280
|
المناظرات
مرّ بنا في كتاب العصر العباسي الأول ما يصور اندلاع المناظرات بين المعتزلة وطوائف المتكلمين وبينهم وبين أصحاب الملل والنحل اندلاعا هيّأ لظهور كثير من كبار المناظرين في شئون الدين والعقل كما هيأ لبسط المعاني ومدّها بذخائر جديدة من توليد الأفكار وتشعيبها والتعمق في مساربها الخفية، وقد أسلفنا أن مجد المعتزلة سقط في هذا العصر منذ وقف المتوكل قولهم القائل بخلق القرآن وفسح لآراء أهل السنة، وقد غضب غضبا شديدا على ممثل المعتزلة في بلاط المعتصم والواثق من قبله، ونقصد أحمد بن أبي دؤاد.
لم يعد للمعتزلة مجدهم القديم، ولكنهم لم يتراجعوا عن الوظيفة التي ندبوا لها أنفسهم إزاء أصحاب النحل والملل، فكانوا بالمرصاد للملاحدة، ومرّ بنا كتاب الانتصار للخياط المعتزلي الذي ردّ ردّا مفحما على ابن الراوندي الملحد. وظل الجدل عنيفا بين المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، على نحو ما يصور لنا ذلك الجاحظ في كتاباته وخاصة في كتابه «فضيلة المعتزلة» وتلاه في رياسة المعتزلة بالبصرة أبو يعقوب الشّحّام، وكان يعاصره في بغداد جعفر بن حرب المعتزليّ، وحكى الخياط مناظرة بينه وبين السّكاك الرافضي في علم الله جلّ جلاله وحدوثه وقدمه وإثباته ونفيه (1)، وفى موضع آخر يحكى المناظرات التي انعقدت بين هذا الرافضي وأبي جعفر الإسكافي المعتزلي قائلا: «وهذه مجالسة مع أبي جعفر الإسكافي معروفة يعلم قارئها والناظر فيها مقدار الرجلين وفرق ما بين المذهبين (2)». وكانت تدور في مجالس أبي علي الجبّائي المتوفى سنة 303 مناظرات كثيرة أهمها ما دار بينه وبين ربيبه وتلميذه أبي الحسن الأشعري المتوفى سنة 324، وكانت ترجح كفّة الأشعري غالبا. من ذلك مناظرتهما في الصلاح والأصلح إذ كانت المعتزلة ومعهم أبو علي الجبّائي يوجبون على الله فعل الأصلح، وقد سأله الأشعري في أثناء احتدام
ص536
المناظرة عن عاقبة ثلاثة: مؤمن وكافر وصبّي ماتوا جميعا، فأجابه بأن المؤمن من أهل الدرجات والكافر من أهل الهلكات والصبّي من أهل النجاة. وأخذ الأشعري يراجعه إلى أن قال له: فلو قال الكافر: يا رب علمت حال الصبي وأنه لو بقى لعصى وعوقب فراعيت مصلحته، وعلمت حالي مثله، فهلاّ راعيت مصلحتي. حينئذ انقطع الجبّائي وألزمه الأشعري أن الله يخصّ من شاء برحمته ومن شاء بعقابه وأن أفعاله غير معلّلة (3).
وكان الخلاف واسعا بين بعض أصحاب المذاهب الفقهية، فكثرت المناظرات بينهم، وفي طبقات الشافعية للسبكي أطراف من هذه المناظرات، ومما يذكره أن أبا العباس بن سريج القاضي رئيس الشافعية ببغداد كان مشغوفا بمناظرة داود الظاهري، حتى إذا توفى داود مضى يناظر ابنه محمدا في المذهب الظاهري، يقول: ولهما المناظرات المشهورة والمجالس المروية، ويحكى أن ابن داود قال لابن سريج يوما: أبلعني ريقي، فقال له: أبلعتك نهر دجلة، وقال له يوما: أمهلني ساعة، فقال له: أمهلتك من الساعة إلى قيام الساعة (4). وبالمثل كان اللغويون والنحاة يتناظرون، وشائعة معروفة مناظرات المبرد مع ثعلب بدار محمد بن عبد الله بن طاهر حاكم بغداد في مسائل اللغة والنحو (5). وكان تلاميذ ثعلب يتعرضون أحيانا للمبرد في محاضراته بالمسجد، فما يزال يناظرهم ويجادلهم ويجاورهم حتى ينزعهم من أستاذهم ثعلب ويلحقهم بتلامذته وحلقته (6).
ومن المناظرات التي اشتهرت بأخرة من العصر مناظرة السيرافي ومتّى بن يونس المترجم المتفلسف في مجلس الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات لسنة 320 وكان السيرافي من علماء النحو النابهين، وله كتاب كبير في شرح كتاب سيبويه. وكان موضوع المناظرة النحو والمنطق أيهما أكثر نفعا في معرفة صحيح الكلام من سقيمه. وقد روى المناظرة أبو حيان التوحيدي ونقلها عنه ياقوت في معجمه (7)، والطريف أنه يذكر في فاتحتها من كان في المجلس من العلماء والفضلاء، ويذكر
ص537
أنهم كتبوا المناظرة في ألواح وبمحابر كانت معهم، مما يعطى صورة عن مجلس المناظرات حينئذ. وتبدأ المناظرة بسؤال السيرافي لمتّى بن يونس عن المنطق ما يعنى به، حتى يكون كلامه معه في قبول صوابه وردّ خطئه على سنن مرضىّ وطريقة معروفة، ويجيبه متى: أعنى به أنه آلة من الآلات يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه وفاسد المعنى من صالحه كالميزان فإنه يعرف به الرجحان من النقصان والشائل من الجانح. ويقول السيرافي:
«أخطأت لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالعقل. هبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن من لك بمعرفة الموزون أهو حديد أو ذهب أو شبه (نحاس) أو رصاص؟ وأراك بعد معرفة الوزن فقيرا إلى معرفة جوهر الموزون وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدّها. فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذى كان عليه اعتمادك، وفى تحقيقه كان اجتهادك، إلا نفعا يسيرا من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه، فأنت كما قال الأول: «حفظت شيئا وضاعت منك أشياء» وبعد فقد ذهب عليك شيء ههنا، ليس كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يوزن، وفيها ما يكال، وفيها ما يذرع (يقاس بالذراع) وفيها ما يمسح، وفيها ما يحزر. وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية فإنه أيضا على ذلك في المعقولات المقروءة، والإحساس ظلال العقول، وهى تحكيها بالتبعيد والتقريب مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة. ودع هذا إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها من أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه حكما لهم وعليهم وقاضيا بينهم ما شهد له قبلوه وما أنكره رفضوه. قال متّى: إنما لزم ذلك لأن المنطق يبحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة ويتصفّح الخواطر السانحة والسوانح الهاجسة والناس في المعقولات سواء، ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم؟ وكذلك ما أشبهه». قال السيرافي:
«لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة أنهما ثمانية زال الاختلاف
ص538
وحضر الاتفاق، ولكن ليس الأمر هكذا، ولقد موهت بهذا المثال، ولكم عادة في مثل هذا التمويه، ولكن ندع هذا. إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟ ».
ويناقش السيرافي متّى في ترجمة المنطق من اليونانية إلى السريانية ثم إلى العربية وأنه ربما حدث حيف على المنطق في أثناء هذا الطريق الطويل الذي سلكه إلى الفصحى، ويقول له: كأنك تقول لا حجة إلا عقول يونان ولا برهان إلا ما وصفوه.
ويقول متّى إنهم أصحاب عناية بالحكمة ولولاهم ما نشأت العلوم وأصحاب الصناعات. وهو تعميم أكثر مما ينبغي. ويحتدّ الجدال، ويسأله السيرافي عن حرف واحد من الحروف التي يهتمّ بها النحو يدور في كلام العرب وهو حرف الواو ومعانيه المتميزّة عند النحاة، ويقول له استنبطها من ناحية منطق أرسططاليس الذي تدلّ به وتباهى بتفخيمه وعرّفنا ما أحكامه وكيف مواقعه وهل هو على وجه واحد أو وجوه. ويبهت متّى، ويقول: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، أما النحوي فمحتاج إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مرّ المنطقي باللفظ فبالعرض وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.
وينكر عليه السيرافي قوله ويحاول أن يثبت أن النحو يدور على المعاني ويسأله عن معاني الواو وكيف أنه يجهلها، وهي حرف واحد، فما باله لو سأله عن معاني جميع الحروف، ويصوّر له معانيها وأن المنطق الذي يزهى به متّى لا يستطيع بيانها.
ثم يعرض عليه قولهم: «زيد أفضل الإخوة»، ويسأله أيجوز أن يقال: زيد أفضل إخوته، ولا يستطيع متّى التفرقة بين العبارتين فيقول له إن العبارة الثانية لا تصح في الكلام لأن إخوة زيد هم غير زيد، وزيدا خارج عن جملتهم، ويقحمه في متشابكات نحوية وعبارات موهمة لا يحلها سوى النحو. ويعرض عليه طائفة من مصطلحات المناطقة والفلاسفة، ويقول له إن كل ذلك لا حاجة للعقل السليم به.
وفي الحق أن لسن السيرافي وفصاحته وقدرته على التعبير كل ذلك هو الذي أتاح له الظفر بخصمه في تلك المناظرة الطويلة التي امتدت إلى أكثر من عشرين صحيفة،
ص539
وقد أردنا بعرضها أن نصور احتدام المناظرات في العصر وأنها تناولت كل جوانب المعرفة.
وحتى الكتب المؤلفة في العصر نجد عليها مسحة المناظرة والجدل واضحة، حتى على عنواناتها، إذ كثيرا ما تعنون بكلمة الرد أو كلمة النقض، فالكتاب يؤلّف ردّا أو نقضا لكتاب آخر، وكأن المناظرات لم تقف عند المجالس والمحاضرات في المساجد. بل امتدت إلى الكتب والمصنفات، ويوضح ذلك الجاحظ في بعض كتبه ورسائله، فقد بنيت في جمهورها على فكرة المناظرات إذ نرى الحيوان» يبني على مناظرة امتدت إلى أكثر من مجلد بين معبد والنظام في الكلب والديك أيهما أفضل؟ . وله كتاب افتخار الشتاء والصيف وهو مناظرة واضحة بين الفصلين، وكتاب الفخر ما بين عبد شمس ومخزوم، وهو مناظرة بين العشيرتين القرشيتين، وكتاب فخر القحطانية والعدنانية وهو مناظرة بين اليمنية والمضرية. وقد يمدح الشيء في رسالة ثم يمدحه في أخرى، وكأنه يكتب مناظرة في رسالتين مثل رسالته في مدح النبيذ ورسالته في ذم النبيذ ومثل رسالته في مدح الكتّاب ورسالته في ذم الكتّاب، ومثل رسالته في مدح الورّاق (بائع الكتب) ورسالته في ذم الوراق وله كتب مختلفة يجعل عنوانها كلمة الرد مثل كتاب الرد على المشبّهة وكتاب الرد على النصارى وكتاب الرد على اليهود، وله كتاب العثمانية وكتاب الرد على العثمانية.
وله كتاب نقض الطب ومن رسائله التي أدارها على المناظرة رسالته «فخر السودان على البيضان» ورسالته «مفاخرة الجواري والغلمان». وقد لا توضع فكرة المناظرة أو الرد والنقض أو المدح والذم على الكتاب والرسالة، فإذا قرأنا فيهما وجدناهما يأخذان شكل مناظرة كبيرة مثل كتاب التربيع والتدوير، نراه فيه ينتصر للقصر تارة وللطول تارة ثانية، وتارة ثالثة للتوسط بين الطرفين المتناقضين.
وكأنما كانت المناظرات والمحاورات لغة العصر الفكرية، فدائما مناظرات ومجادلات في كل مكان وفي كل موضوع علمي أو فلسفي أو أدبى. والمناظر ينتصر تارة، وتارة ينهزم في تلك الساحة الفكرية الكبيرة: بغداد، وهم لا يكلّون ولا يملّون ولا يتوقفون فدائما جدل وحوار وتشعيب لدقائق المعاني وغوص على خفياتها وكوامنها
ص540
المستورة، ولا يمنع الانهزام يوما صاحبه من التجمع للمناظرة والتحفز للحوار في يوم ثان أو لقاء ثان، بل قد ينهزم المناظر وينتصر في المجلس الواحد مرارا، وفى هذا الحوار الواسع ومعاركه الدائرة دون توقف يقول ابن الرومي مشيرا إلى المتناظرين وجدالهم العنيف:
لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم … حجج تضلّ عن الهدى وتجور
وهم كآنية الزجاج تصادمت … فهوت وكلّ كاسر مكسور
ويبدو ابن الرومي نفسه في شعره مناظرا كبيرا، إذ تطبع جوانب من شعره كما أسلفنا-بطوابع الجدال وما يطوى فيه من قدرة وبراعة على نسج الأدلة تارة ونقضها تارة أخرى. ومرّ بنا ذمه للورد ونقضه محاسنه وقلبها مساوئ ذميمة في قصيدته «النرجس والورد» وهى مناظرة شعرية طريفة.
وتسرى هذه الروح في قصص وحكايات وأخبار جمعت ونسّقت في الكتاب المسمى بكتاب المحاسن والأضداد المنسوب خطأ إلى الجاحظ، لأنه يفتتح بكلمة: «قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ» وتتوالى نقول عنه في فضائل الكتب ووصف فوائدها، نجدها مبثوثة في كتاب الحيوان. ولعل هذا الاستهلال هو الذى جعل القدماء يظنون أن الكتاب من تأليف الجاحظ، وأيضا فإنه ينقل عنه في بعض فصوله نقولا مختلفة، ولكن من يعرف أسلوب الجاحظ المطّرد في كتبه يعرف توّا أن الكتاب ليس له، والطريف أن صاحبه ذكر في مستهله عن الجاحظ قوله في بعض رسائله: «إنى ربما ألفت الكتاب المحكم المتقن في الدين والفقه والرسائل والسيرة والخطب والخراج والأحكام وسائر فنون الحكمة وأنسبه إلى نفسى فيتواطأ على الطعن فيه جماعة من أهل العلم بالحسد المركّب فيهم، وهم يعرفون براعته ونصاعته، وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفا لملك معه المقدرة على التقديم والتأخير والحطّ والرفع والترهيب والترغيب فإنهم يهتاجون عند ذلك اهتياج الإبل المغتلمة. . . وهم قد ذموه وثلبوه لما رأوه منسوبا إلىّ وموسوما بي. وربما ألفت الكتاب الذى هو دونه في معانيه وألفاظه فأترجمه باسم غيرى وأحيله على من تقدمني عصره مثل ابن المقفع والخليل وسلم صاحب بيت الحكمة ويحيى بن
ص541
خالد والعتّابي ومن أشبه هؤلاء من مؤلفي الكتب فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم الطاعنون على الكتاب الذى كان أحكم من هذا الكتاب لاستنساخه وقراءته علىّ، ويكتبونه بخطوطهم ويصيّرونه إماما يقتدون به ويتدارسونه بينهم ويتأدبون به ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم ويروونه عنى لغيرهم من طلاب ذلك الجنس فتثبت لهم به رياسة. ويأتمّ بهم قوم فيه لأنه لم يترجم باسمي ولم ينسب إلى تأليفي». وقد يكون في ذلك ما يدل على أن المؤلف رأى أن يحاكى الجاحظ في إنكاره لاسمه أحيانا على بعض آثاره، فنسبه إليه. ليرى رأى الناس فيه وحكمهم عليه. وربما كان هو نفس مؤلف كتاب المحاسن والمساوئ الذي سنعرض له عما قليل. ومما يشهد بأن الكتاب ليس للجاحظ وإنما هو لمؤلف تال لعصره أن نجد فيه نقولا عن عبد الله بن المعتز (8)، وكان في الثامنة من عمره حين توفى الجاحظ.
والكتاب مجموعة كبيرة من المناظرات في الأخلاق والشمائل، فكل خلق أو كل شيء تعرض محاسنه ثم تعرض معايبه، وتصوّر المعايب والمحاسن في أخبار وأقاصيص وحكايات، تلتقى فيها الثقافات المعروفة حينئذ وما كان يتسرب منها إلى كتب السمر، وفى مقدمتها الثقافة الإسلامية، وهى تتضح في الاقتباس أحيانا من الذكر الحكيم (9) والاستشهاد الدائم بالأحاديث النبوية (10)، وتتسع الثقافة الدينية لتجلب بعض أقوال الزهاد أو بعض قصص الأنبياء أو بعض وصايا من التوراة من مثل: «اشكر من أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعم إذا شكرت ولا إقامة لها إذا كفرت، والشكر زيادة في النعم وأمان من الغير» (11) وبجانب ذلك تلقانا عناصر كثيرة من الثقافة العربية في مقدمتها الأمثال (12)، والأشعار وهى أكثر من أن ندلّ عليها في موضع معين من الكتاب. وتكثر أخبار الجاهليين وأقاصيصهم المصوّرة لمكارم أخلاقهم أو مذامها. وبالمثل أخبار حكّام العرب وحكاياتهم على توالى الحقب من إسلاميين وعباسيين وخاصة حكام بنى أمية والرشيد والمأمون، وتكثر أخبار الأعراب وأقاصيصهم ويلمع فيها اسم الأصمعى.
ص542
وتلقانا حكم وأقاصيص منقولة عن بعض كتب الهند من مثل: «ليس لكذوب مروءة ولا لضجور رياسة ولا لملول وفاء ولا لبخيل صديق» (13)، وبالمثل تلقانا أقاصيص وأخبار وحكم منقولة عن اليونان من مثل: «كلّم رجل سقراط عند قتله بكلام أطاله، فقال أنساني أول كلامك طول عهده وفارق آخره فهمى لتفاوته، ولما قدّم بكت امرأته فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: تقتل ظلما قال: وكنت تحبين أن أقتل مظلوما أو أقتل ظالما» (14). ولملوك الفرس ووزرائهم شطر كبير من الأقاصيص والأخبار. ونختار بابا من أبواب المحاسن نسوق منه ما يصور سيول هذه الثقافات، وهو باب محاسن السخاء، ومما جاء فيه (15):
«روى عن نافع قال: لقى يحيى بن زكريا عليه السلام إبليس لعنه الله فقال له: أخبرني بأحب الناس إليك وأبغضهم، قال: أحبهم إلىّ كل مؤمن بخيل وأبغضهم إلىّ كل منافق سخىّ قال: ولم ذاك؟ قال إبليس: لأن السخاء خلق الله الأعظم فأخشى أن يطلع عليه في بعض سخائه فيغفر له وقال النبي صلى الله عليه وسلم: السخىّ قريب من الناس بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة قريب من النار، والجاهل السخى أحب إلى الله عزّ وجل من عابد بخيل، وأدوأ الدواء البخل. وقال صلى الله عليه وسلم: ما أشرقت شمس إلا ومعها ملكان يناديان يسمعان الخلائق غير الجن والإنس وهما الثقلان: اللهم عجل لمنفق خلفا ولممسك تلفا، وملكان يناديان: أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى. وعن الشعبي قال: قالت أم البنين ابنة عبد العزيز أخت عمر بن عبد العزيز وزوجة الوليد بن عبد الملك: لو كان البخل قميصا ما لبسته أو طريقا ما سلكتها، وكانت تعتق في كل يوم رقبة (عبدا) ونحمل على فرس مجاهدا في سبيل الله. . . وقال بهرام جور: من أحب أن يعرف فضل الجود على سائر الأشياء فلينظر إلى ما جاد الله به على الخلق من المواهب الجليلة والرغائب النفيسة. . . وقال الموبذان لأبرويز (ملك فارس): أكنتم تمنّون أنتم وآباؤكم بالمعروف وتترصّدون عليه المكافأة؟ قال: ولا نستحسن ذلك لعبيدنا، فكيف
ص543
نرى ذلك وفى كتاب ديننا (كتاب زرادشت: الأفستا) من فعل معروفا خفيّا وأظهره ليتطوّل به على المنعم عليه فقد نبذ الدين وراء ظهره واستوجب ألا نعدّه من الأبرار ولا نذكره في الأتقياء والصالحين. وسئل الإسكندر: ما أكبر ما شيّدت به ملكك؟ قال: ابتداري إلى اصطناع الرجال والإحسان إليهم. وكتب أرسططاليس في رسالته إلى الإسكندر: اعلم أن الأيام تأتى على كل شيء فتخلقه (فتبليه) وتخلق آثاره وتميت الأفعال إلا ما رسخ في قلوب الناس، فأودع قلوبهم محبة بأثرك تبقى بها حسن ذكرك وكريم فعالك وشريف آثارك. ولما قدّم بزرجمهر (وزير فارسى) إلى القتل قيل له: إنك في آخر وقت من أوقات الدنيا وأول وقت من أوقات الآخرة، فتكلم بكلام تذكر به، فقال: أي شيء أقول، الكلام كثير ولكن إن أمكنك أن تكون حديثا حسنا فافعل. وتنازع رجلان أحدهما من أبناء العجم والآخر أعرابى في الضيافة فقال الأعرابي: نحن أقرى للضيف، قال:
وكيف ذلك؟ قال: لأن أحدنا ربما لا يملك إلا بعيرا فإذا حلّ به ضيف نحره له، فقال له الأعجمي: فنحن أحسن مذهبا في القرى (الضيافة) منكم، قال:
وما ذلك، قال: نحن نسمى الضيف: مهمان، ومعناه أنه أكبر من في المنزل وأملكنا له. وقال المأمون: الجود بذل الموجود والبخل سوء الظن بالمعبود. وشكا رجل إلى إياس بن معاوية (قاضى البصرة المشهور في العصر الأموي) كثرة ما يهب ويصل وينفق، فقال: إن النفقة داعية إلى الرزق، وكان جالسا بين بابين فقال للرجل:
أغلق هذا الباب، فأغلقه، فقال: هل تدخل الريح البيت قال: لا، قال:
فافتحه، ففتحه، فجعلت الريح تخترق البيت، فقال: هكذا الرزق أغلقت البيت فلم تدخل الريح، فكذلك إذا أمسكت لم يأتك الرزق. ونزل على حاتم ضيف ولم يحضره القرى فنحر ناقة الضيف وعشّاه وغدّاه، وقال له: إنك أقرضتني ناقتك فاحتكم علىّ، قال الرجل: راحلتين قال حاتم: لك عشرون أرضيت؟ قال: نعم وفوق الرضا. . . وقيل في المثل هو أجود من كعب بن مامة الإيادي، وبلغ من جوده أنه خرج في ركب فيهم رجل من بنى النّمر في شهر قيظ. فضلّوا وتصافنوا (تقاسموا بالحصص) ماءهم، فجعل النمري يشرب نصيبه ويظهر أنه عطشان، فكان كعب إذا أصاب نصيبه قال للساقي: آثر أخاك النّسري حتى أضرّ به العطش فلما رأى ذلك استحثّ راحلته وبادر حتى وصل
ص544
إلى ورد ماء، وقيل له: رد كعب، إنك وارد، ولكن العطش غلبه فمات. . .
ومن قول أبي تمام.
ولو لم يكن في كفه غير نفسه … لجاد بها فليتّق الله سائله»
وإنما سقنا ذلك كله لندل على المزيج الثقافي الذى يتكوّن منه كتاب المحاسن والأضداد، وهو مزيج به عناصر قصصية عن الأنبياء وعناصر إسلامية من الحديث النبوي وعناصر عربية من أخبار العرب رجالا ونساء، وعناصر فارسية من أخبار الفرس وحكاياتهم وعناصر يونانية من أخبار الإسكندر المقدوني وكلاّم أرسططاليس. وبين السطور نحسّ شعوبية المؤلف حين يعلى ضيافة الفرس وكرمهم على ضيافة العرب وما عرف عنهم من خصلة الكرم والجود.
ولم يكفه ذلك فقد جعل حاتما يذبح ناقة ضيفه ليقدّم له الغداء والعشاء، وإن عاد يقول إنه أعطاه بدلا منها عشرين ناقة، فكأنه يريد أن يستر شعوبيته. ولعل هذا الجانب في الكتاب هو الذي جعل المؤلف لا يظهر اسمه، حتى لا يؤخذ به. وفي هذه الفقرة الطويلة ما يصور سيول الأخبار وما قد يكون فيها من قصّ. ودائما نلتقى في الكتاب بطرائف من الحكم والأخبار، على نحو ما جاء في محاسن حفظ اللسان إذ قيل: إنه تكلم أربعة من الملوك بأربع كلمات كأنما رميت عن قوس واحد، قال كسرى: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر منى على ردّ ما قلت. وقال ملك الهند: إذا تكلمت بكلمة ملكتني وإن كنت أملكها. وقال قيصر: لا أندم على ما لم أقل وقد ندمت على ما قلت. وقال ملك الصّين: عاقبة ما قد جرى به القول أشد من الندم على ترك القول (16). وفي الكتاب قصص كثير متنوع في موضوعاته وفى مصادره وموارده، ويكثر فيه القصص عن المرأة العربية، وكذلك عن المرأة الفارسية، فمما جاء فيه عن المرأة العربية قصة رواها العتبي على هذا النمط (17):
«قال العتبى: كنت كثير التزوج فمررت بامرأة فأعجبتني، فأرسلت إليها ألك زوج؟ قالت: لا فصرت إليها، فوصفت لها نفسى، وعرّفتها موضعي فقالت: حسبك قد عرفناك، فقلت لها: زوّجيني نفسك، قالت نعم:
ص545
ولكن ههنا شيء هل تحتمله؟ قلت: وما هو؟ قالت: بياض في مفرق رأسي.
قال: فانصرفت، فصاحت بي ارجع، فرجعت إليها، فأسفرت عن رأسها.
فنظرت إلى وجه حسن وشعر أسود، فقالت: إنا كرهنا منك، عافاك الله، ما كرهت منا، وأنشدت:
أرى شيب الرجال من الغواني … بموضع شيبهنّ من الرجال
وهي قصة طريفة، وفي الكتاب قصص عن النساء ووفائهن وكيدهن، تكثر فيها عناصر التشويق، مما يجعلها قصصا بديعة من ذلك قصة أضيفت إلى شيرين الملكة الفارسية المشهورة ملخصها أن زوجها كسرى أبرويز أتاه صياد بسمكة كبيرة (18) فأعجب به وأمر له بأربعة آلاف درهم، فقالت له شيرين: أمرت لصياد بأربعة آلاف درهم فإن أمرت بمثلها لرجل من وجوه حاشيتك قال: إنما أمر لي بمثل ما أمر به للصياد. فقال لها كيف أصنع وقد أمرت له بما أمرت؟ قالت إذا أتاك فقل له:
أخبرني عن السمكة أذكر هي أم أنثى؟ فإن قال: أنثى فقل: لا تقع عيني عليك حتى تأتيني بالذكر، وإن قال: ذكر، فقل له: لا تقع عيني عليك حتى تأتيني بالأنثى، فلما غدا الصياد على الملك قال له: أخبرني عن السمكة أذكر هي أم أنثى؟ قال: بل أنثى قال: فآتني بذكرها، قال: عمّر الله الملك إنها كانت بكرا لم تتزوج بعد، فقال له الملك: حسنا، حسنا، وأمر له بأربعة آلاف درهم، وأمر أن يكتب في ديوان الحكمة: إن الغدر ومطاوعة النساء يورثان الغرم. وبعض قصص النساء بها غير قليل من الفحش، وقد تذكر أشياء غريزية تنبو عن الأذواق (19) على نحو ما يجرى في بعض قصص ألف ليلة وليلة، وكانت قد ترجمت، فربما تأثر المؤلف بها، وربما تأثر المؤلف في ذلك بالشعر المفحش الكثير الذي كان موجودا في العصر. وقد يكون ذلك من أسباب تنكر المؤلف وإخفائه لاسمه. ويلقانا قصص ديني عن بعض الزهاد، وقد نلتقى بحكايات صوفية، بل قد نلتقى بما يصور كرامات المتصوفة التي سبق أن تحدثنا عنها التي كان ينكرها وشيوخهم الأجلاء، فمن ذلك ما رواه الكتاب،
ص546
قال (20): «عن أبي مسلم الخولاني قال: إنه خرج إلى السوق بدرهم يشتري لأهله دقيقا، فعرض له سائل، فأعطاه بعضه، ثم عرض له سائل آخر فأعطاه الباقي فأتى درب النّجّارين، فملأ جرابه أو مزوده من نشارة الخشب، لتنتفع بها امرأته في إيقاد التّنّور وأتى منزله، فألقاه، وخرج هاربا من زوجته. وأخذته فإذا هو دقيق أبيض حوّارى (فاخر) لم تر مثله، فعجنته وخبزته، فلما جاء ووجد الخبز سألها: من أين لك هذا الخبز، قالت له: من الدقيق الذي جئتنا به»! . ويذكر الكتاب كرامة لسفيان الثوري لا تقل غرابة عن الكرامة السابقة. ولا نريد أن نسترسل في نقل هذا القصص الكثير الذي يزخر به كتاب المحاسن والأضداد، إنما نريد أن نوضح كيف أن هذا القصص يحتوي على عناصر مشوقة كثيرة. وأنه كان يدخل في الأدب الشعبي العام، ولذلك يخلو من استعمال السجع والأساليب المنمقة، والطريف أنه عرض ليجسّم وجهين متقابلين في كل خلق وكل خصلة، فمثلا الصدق له محاسنه، ولهذه المحاسن أقاصيصها وله معايبه، ولهذه المعايب أقاصيصها. وبالمثل كل فضيلة، فوفاء النساء لمحاسنه أقاصيصها ولمعايبه أقاصيص تقابلها وتناقضها أشد المناقضة. وبذلك يأخذ عرض هذه الأقاصيص وما يتصل بها من الأخبار والأقوال والأشعار شكل مناظرات أدبية لا تعتمد على الجدال والحوار بالدليل ضد الدليل والحجة العقلية ضد الحجة العقلية، وإنما على الحوار والجدال بالخبر ضد الخبر والشعر ضد الشعر والقصة ضد القصة والحكاية ضد الحكاية.
ويلتقى بهذا الكتاب في موضوعاته وأكثر مادّته كتاب المحاسن والمساوئ لإبراهيم بن محمد البيهقي، وقد أغفلت الحديث عنه كتب التراجم. غير أنه يفهم مما ذكره عن الخليفة المقتدر في آخر حديثه (21) عن محاسن المسامرة أنه ألف كتابه في زمنه. وهو يستهلّ كتابه بالحديث عن فضائل الكتب ووصف محاسنها مثل المحاسن والأضداد، ويماثله أيضا في النقل كثيرا عن الجاحظ. ثم يفتح طائفة من الفصول لم ترد في الكتاب السالف يتحدث فيها عن محاسن الرسول صلى الله عليه وسلم
ص547
وفضائله ومساوئ المتنبئين ومحاسن الخلفاء الراشدين ومناقبهم ومساوئ من عادى علي بن أبي طالب ومحاسن ابنيه الحسن والحسين ومساوئ قتلة الأخير ومحاسن السابقين إلى الإسلام ومساوئ المرتدين ومحاسن كلام الحسن بن علي وعبد الله بن العباس وفضائل بني هاشم ومحاسن الافتخار بالرسول. وكل هذه المقدمات ينفرد بها هذا الكتاب بالقياس إلى كتاب المحاسن والأضداد، وبمجرد أن نفرغ منها نجد الكتابين يلتحمان، حتى ليصبح كتاب المحاسن والمساوئ كأنه نسخة جديدة لكتاب المحاسن والأضداد، مما يؤكد أن مؤلفهما واحد، وكأن البيهقي ألّف الكتاب الأول، وأقحم فيه ما أقحم من أفكار الشعوبية والفحش في القصص، ثم رأى أن يخرجه إخراجا جديدا وينسبه إلى نفسه، منحّيا منه ما يصور شعوبيته وما ينبو عن الأذواق السليمة من القصص المفحش مع وضع المقدمات آنفة الذكر. ويبدو منها أنه كان يكنّ نزعة شيعية، وإن لم يبرزها بقوة خوفا على نفسه من المقتدر وحواشيه. وهو في هذه النسخة الجديدة للكتاب يذكر ابن المعتز (22) على نحو ذكره له في النسخة القديمة أو بعبارة أخرى في المحاسن والأضداد.
وطبيعي أن تكون مصادر هذا الكتاب هي نفسها مصادر الكتاب الأول المنحول للجاحظ، لأنه ليس أكثر من نسخة مجدّدة له، وغاية ما هناك أنه دخله تنقيح وتهذيب كثير، وإذن فكل ما قلناه عن المزيج الثقافي في المحاسن والأضداد ينطبق بحذافيره على هذا الكتاب، ففيه بعض آي القرآن والأحاديث النبوية وأقوال بعض الصحابة والزهاد، وفيه أخبار وأقاصيص منقولة عن الأنبياء وعن عيسى وحوارييه، ومن طريف ما نقله عنه، قوله (23):
«إن ابن آدم خلق في الدنيا في أربع منازل، هو في ثلاثة منها واثق بالله عزّ وجلّ، وهو في الرابعة سيّئ الظن، يخاف خذلان الله عزّ وجلّ إياه، فأما المنزلة الأولى فإنه خلق في بطن أمه خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث:
ظلمة البطن وظلمة الرّحم وظلمة المشيمة، ينزل الله جلّ وعزّ عليه رزقه في جوف ظلمة البطن. فإذا خرج من ظلمة البطن وقع في اللبن لا يخطو إليه بقدم
ص548
ولا ساق ولا يتناوله بيد ولا ينهض بقوة ويكره عليه إكراها، حتى ينبت عليه عظمه ودمه ولحمه. فإذا ارتفع من اللبن وقع في المنزلة الثالثة في الطعام بين أبوين يكتسبان عليه من حلال وحرام، فإن مات أبواه من غير شيء عطف عليه الناس، هذا يطعمه، وهذا يسقيه، وهذا يؤويه. فإذا وقع في المنزلة الرابعة واشتدّ واستوى وكان رجلا خشى ألا يرزق، فيشب على الناس، فيخون أماناتهم، ويسرق أمتعتهم ويكاثرهم على (يغصبهم) أموالهم مخافة خذلان الله عزّ وجلّ إياه».
والنص موجود في المحاسن والأضداد (24)، ولكن العبارة هنا نقحت وهذّبت بصور مختلفة، وكذلك النصوص الأخرى حين نعارض الكتابين فيها بعضهما على بعض نجد دائما هذا التنقيح، مما يشهد بأن يدا واحدة هي التي كتبتهما، وأن أولهما كان أشبه بمسوّدة واتخذ الثاني شكل نسخة مهذبة منقحة قد صفّيت وأخليت من كل الشوائب اللغوية وغير اللغوية، ودخلتها إضافات من الأمثال والأحاديث النبوية والأشعار والأخبار والأقاصيص، كهذه الأقصوصة التي تلقانا في الحديث عن محاسن الولايات، وهي تمضي على هذا النمط (25):
«دخل محمد بن واضح دار المأمون، وخلفه أكثر من خمسمائة راكب، كلهم راغب إليه وراهب منه، وهو إذ ذاك يلى عملا من أعمال السّواد (الأرض المزروعة) في العراق. فدعا به المأمون فلما حضر بين يديه قال:
يا أمير المؤمنين أعفني من عمل كذا وكذا، فإنه لا قوة لي عليه، فقال له المأمون:
قد أعفيتك. واستعفى من عمل آخر. وهو يظن أنه لا يعفيه. فأعفاه، حتى خرج من كل عمل في يده في أقل من ساعة، وهو قائم على قدميه. فخرج وما في يده شيء من عمله، فقال المأمون لسالم الحوائجي: إذا خرج فانظر إلى موكبه وأحص من بقى معه-وكان المأمون قد رآه من مستشرف له حين أقبل-فخرج سالم وراء محمد بن واضح وقد استفاض الخبر بعزله عن عمله. فنظر فإذا هو لا يتبعه أحد إلا غلام له بغاشية (26). فرجع سالم إلى المأمون فأخبره، فقال: ويلهم
ص549
لو تجمّلوا له ريثما يرجع إلى بيته كما خرج منه، ثم تمثل فيهم:
ومن يجعل المعروف في غير أهله … يلاق الذى لاقى مجير أمّ عامر (27)
ثم قال: صدق رسول الله وكان للصدق أهلا حين قال: لا تنفع الصنيعة إلا عند ذي حسب أو دين».
ويفيض هذا الكتاب كما تفيض مسوّدته: «المحاسن والأضداد» بكثير من أحوال العصور العربية السياسية والاقتصادية والحضارية، وخاصة العصر العباسي، ونرى البيهقي يفتح فيه-كما أشرنا إلى ذلك في غير هذا الموضع-فصلا طويلا عن أصناف (28) المكدين وأفعالهم وهو فيه ينقل عن الجاحظ وما كتبه عنهم في مصنّفه البخلاء، وقد عرض فيه حيلهم وتجوالهم في البلدان ونوادرهم، فمن ذلك (29):
«أنه أتى سائل دارا يسأل منها، فأشرفت عليه امرأة من غرفة. فقال لها:
يا أمة الله بالله أن تصدّقي علىّ بشيء، قالت: أي شيء تريد؟ قال: درهما، قالت: ليس عندي، قال: فدانقا (جزءا من درهم)، قالت: ليس عندي، قال: ففلسا (جزءا من دانق)، قالت: ليس عندي، قال: فكسوة، قالت: ليس عندي، قال: فكفّا من دقيق، قالت: ليس عندي. قال:
فزيتا. . . حتى عدّ كل شيء يكون في البيوت، وهي تقول ليس عندي، فقال لها: فما يجلسك عندك، مرى، اسألي معي».
وواضح أننا لا نعثر في المادة الأدبية التي يحتويها هذا الكتاب وسالفه على شيء من السجع أو التكلف لألوان البديع أو لأى زخرف أو تنحيق، فهي مادة سهلة.
ليس فيها أي حليات لفظية ولا غير لفظية، وليس فيها أي صعوبات لغوية، وهى لذلك تعدّ مادة شعبية، أو قل إن الكتابين مصنفان كبيران من الأدب الشعبي في العصر، وضعهما أديب ممتاز في شكل مناظرات ومحاورات، حتى يشوّق إلى قراءتهما. ولم يكتف بهذا التشويق العام، فقد أدخل في الأخبار والأقاصيص عناصر كثيرة منه تدفع العامة والخاصة إلى الشغف بقراءة الكتابين.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) الانتصار للخياط ص 110.
(2) الانتصار ص 142.
(3) طبقات الشافعية للسبكي 3/ 356 وما بعدها.
(4) السبكي 3/ 23.
(5) تاريخ بغداد 5/ 208 وإنباه الرواة 1/ 141 ومعجم الأدباء 5/ 137.
(6) معجم الأدباء 19/ 117.
(7) معجم الأدباء 8/ 190.
(8) المحاسن والأضداد (طبع دار مكتبة العرفان ببيروت) ص 138، 169.
(9) المحاسن والأضداد ص 39، 42.
(10) انظر مثلا ص 32.
(11) المحاسن والأضداد ص 31.
(12) انظر مثلا ص 55، 104، 175.
(13) المحاسن والأضداد ص 38.
(14) المحاسن والأضداد ص 22.
(15) المحاسن والأضداد ص 62 وما بعدها.
(16) المحاسن والأضداد ص 21.
(17) المحاسن والأضداد ص 184.
(18) المحاسن والأضداد ص 201.
(19) انظر مثلا القصة في ص 193 وص 214.
(20) المحاسن والأضداد ص 141.
(21) انظر المحاسن والمساوئ (نشر مكتبة نهضة مصر ومطبعتها) 2/ 238.
(22) راجع المحاسن والمساوئ ص 1/ 276، 2/ 44، 45
(23) المحاسن والمساوئ 1/ 459.
(24) المحاسن والأضداد ص 128.
(25) المحاسن والمساوئ 1/ 273.
(26) غاشية: غطاء.
(27) أم عامر: الضبع.
(28) المحاسن والمساوئ 2/ 413.
(29) المحاسن والمساوئ 2/ 417.
ص550
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|