المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19

Vowels NEAR
2024-03-22
بولاني j.c.polanyi
28-4-2016
الهليون Asparagus officinalis L
متى قال عمر: إن النبي ليهجر؟
29-11-2020
Summary Heads and modifiers
28-1-2022
بعض الموارد التي توهّم كونها من موارد الاصول المثبتة
24-5-2020


ابن الرومي  
  
9006   03:25 مساءً   التاريخ: 25-7-2019
المؤلف : د .شوقي ضيف
الكتاب أو المصدر : تاريخ الأدب العربي ـالعصر العباسي الثاني
الجزء والصفحة : ص 297ـ324
القسم : الأدب الــعربــي / تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-06-2015 2689
التاريخ: 26-12-2015 3081
التاريخ: 27-1-2016 3022
التاريخ: 22-7-2016 2997

ابن الرومي

هو علي (1) بن العباس بن جريج، ويبدو أن أول من أسلم من آبائه أبوه القريب العباس، وقد نشأ على الولاء لعبد الله بن عيسى بن جعفر بن المنصور العباسي. وكان يوناني الأصل كما يشهد بذلك اسم جده، ونراه في شعره ينسب نفسه إلى اليونان مرارا وقد يسميهم الروم أحيانا من مثل قوله:

ونحن بنو اليونان قوم لنا حجى … ومجد وعيدان صلاب المعاجم

ص297

وقوله في مواليه العباسيين:

مولاهم وغذىّ نعمتهم … والرّوم-حين تنصّني-أصلي

ولم تكن أمه رومية، بل كانت فارسية، وعلى نحو افتخاره بأصوله من الروم يفتخر بأصوله وخئولته من الفرس، حتى لينسب نفسه إلى ملوكهم الساسانيين، وهى نسبة لم يكن عليها حجاب، فكان كثير من الشعراء ذوى الأصول الفارسيّة يدّعونها، ومن فخره بنسبه العريق-في رأيه-من قبل أبيه وأمه قوله:

كيف أغضى على الدنيّة والفر … س خئولي والروم هم أعمامي

وقد ولد لأبويه ببغداد سنة 221 للهجرة نضوا ضئيلا نحيلا دميم الوجه تقتحمه العيون، وظل طوال حياته ينعى على نفسه دقة جسمه وضآلته وقبحه، وله في ذلك أشعار كثيرة يصرح فيها بدمامته وما انضم إلى ذلك من صلعه الذى كان يأخذ معظم رأسه حتى اضطر ألا يخلع العمامة أبدا، وله مقطوعة يصور فيها صلعه وقبح وجهه، ونراه يختمها بقوله (2):

شغفت بالخرّد الحسان وما … يصلح وجهي إلا لذي ورع

كي يعبد الله في الفلاة ولا … يشهد فيها مساجد الجمع

ويبدو أن أباه كان على شيء من اليسار، وحقّا توفى في مطالع حياته، ولكن يظهر أنه ترك للأسرة ما يتيح لها على الأقل كفاف العيش. وكان له ابن آخر يسمى محمدا عمل في الدواوين الحكومية، كما كانت له فتاة مائت قبل أمها، وابن الرومي في نحو الخمسين من عمره. على كل حال مكّن يسار هذه الأسرة لابن الرومي أن يتجه إلى التعلم فالتحق ببعض الكتاتيب، وكانت تعنى بتحفيظ القرآن الكريم وتلقين الناشئة النحو وبعض الأشعار والخطب وشيئا من الحساب، فالتهم ذلك كله الصبى، ثم مضى يختلف إلى حلقات العلماء في المساجد تارة يستمع إلى محمد بن حبيب الراوية المعروف أو إلى زميله ثعلب، وأخرى يستمع إلى بعض المحدّثين أو بعض الفقهاء أو بعض رواة التاريخ والأخبار. وكانت دار الحكمة التي عنى

  1.  

بها الرشيد والمأمون مدّ يده وعينه، وكانت تكتظ بكتب الفلسفة وعلوم الأوائل فانقض عليها انقضاضا يقرأ ويستوعب ويستسيغ ويتمثل تمثلا نادرا (3). وتكثر في أشعاره الإشارة إلى حكماء اليونان الأقدمين، كما تكثر أسماء الكواكب والنجوم.

ومما لاريب فيه أنه كان-كما مر بنا في غير هذا الموضع-يعتنق الاعتزال.

ويذكر معاصروه أنه كان ضيق الصدر سريع التغير والانقلاب، وسنرى أثر ذلك في أشعاره إذ كثيرا ما كان يضيق ببعض ممدوحيه فينقلب هاجيا لهم، ويذكر معاصروه أيضا أن من كان يلقاه يراه كالمتوجّس المذعور، وكأنما كان في أعصابه شيء من الاختلال، ولعل ذلك هو الذي أعدّه لأن يصبح أكبر شاعر متطيّر في عصره. وكان إذا روجع في كثرة تطيّره احتج بقوله إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة، أفتراه كان يتفاءل بالشيء ولا يتطيّر من ضده، ويقول إن عليّا لم يكن يغزو غزاة والقمر في برج العقرب، وكان يزعم أن الطّيرة موجودة في الطباع قائمة فيها (4). ويقصّ معاصروه عن طيرته أخبارا كثيرة، من ذلك أنه أغلق باب داره ثلاثة أيام لما تصادف من أنه كان يصير إلى الباب والمفتاح معه فيضع عينه على ثقب في خشب الباب فيرى جارا له أحدب كان نازلا بإزائه يقعد على الباب. فإذا نظر إليه رجع عن عزمه على الخروج وخلع ثيابه وقال لا يفتح أحد الباب (5). وافتقده في مجلسه بعض الأمراء، وكان يعلم حاله من الطيرة، فأرسل له غلاما يسمى إقبالا ليتفاءل به عند سماع اسمه، غير أنه لم يكد يعزم على المضي معه حتى بدا له اسمه معكوسا هكذا:

لا بقاء، فقال له امض إلى سيدك وأنبأه بما في نفسه! . وأرسل له بعض الأصدقاء غلاما له يسمى حسنا، وكان حسن الوجه، طالبا إليه أن يزوره، فخرج معه، وإذا أمام داره دكان خياط درفتاه على هيئة اللام ألف، هكذا: لا، وحانت منه التفاتة فرأى تحت الدرفتين نوى تمر، فتطير، وقال إن هذا يشير إلى:

ص299

أن «لا تمر» ورجع إلى داره ولم يذهب مع الغلام (6). ومن المؤكد أن هذه الأخبار وما يماثلها دخلتها مبالغة كثيرة، وقد يكون بعضها اختلق عليه اختلافا. ويتوقف القدماء عند قصيدة بائية مدح بها أبا العباس بن ثوابة الكاتب، وكان قد دعاه لزيارته في سامرّاء، فتعلل على سبيل الفكاهة بتصوير مخاطر الرحلة إليها من بغداد برا وبحرا بمثل قوله (7):

لقيت من البرّ التباريح بعد ما … لقيت من البحر ابيضاض الذوائب

وقد مضى يصف دجلة وبلاء الركوب فيه متفكها، فأدخلوا ذلك في باب طيرته، ولا طيرة ولا ما بشبه الطيرة. وليس معنى ذلك أننا نريد أن ننفي تطيره، إنما ننفي المبالغة فيه، أما بعد ذلك فقد كان ابن الرومي يتطير حقّا، واشتهر بالملك بين معاصريه، حتى لنرى الأخفش علي بن سليمان النحوي، وكان قد هجاه، يقتصّ لنفسه منه، بأن يقرع عليه الباب في الصباح، فإذا قال من القارع؟ أجابه بمثل مرّة بن حنظلة أو حرب بن مقاتل وغير ذلك من الأسماء التي تملؤه طيرة، فيحبس نفسه في بيته، ولا يخرج يومه أجمع (8).

وقد تفتحت موهبته الشعرية مبكرة، وهو لا يزال حدثا في الكتّاب، إذ تروى له أبيات حينئذ في هجاء غلام عباسي يسمى جعفرا كان زميلا له، وكأن ذلك كان إرهاصا بأن الهجاء سيغلب عليه طوال حياته. وقد مضى يتخذ الشعر -كلداته-حرفة يتكسب بها، فهو يعرضه على علية أهل بغداد، وكان طبيعيّا أن يعرضه على كبار الموظفين ورجال الدولة وفي مقدمتهم أبو العباس محمد بن طاهر حاكم بغداد منذ سنة 237، وأسرة الطاهريين معروفة كان طاهر بن الحسين قائدا للمأمون وهو الذي قضى على ثورة الأمين، وكان ابنه عبد الله بن طاهر أميرا لخراسان وخلفه عليها ابنه طاهر. وحاول ابن الرومي الزلفى إلى محمد بالمديح، ويبدو أنه لم يكن يتسع في ثوابه ومكافأته، وكان على علم بالشعر، فأخذ ينقد بعض أشعار ابن الرومي، وغاظ الشاعر الشاب نقده. بل لقد أخذ يحرمه نواله، مما جعل ابن

ص300

الرومي يوجه إليه مثل قوله (9):

مدحت أبا العباس أطلب رفده … فخيّبني من رفده وهجا شعري

ويبدو أنه كان بخيلا، وأن بخله كان السبب الحقيقي في انصرافه عن الشاعر، متعللا بأنه لا يعجب بشعره، مما جعل ابن الرومي يصبّ عليه سياطا حامية من الهجاء، وهو يعمم فلا يقف بهجائه له عنده وحده، بل يعمّ به أسرة الطاهريين جميعا من مثل قوله (10):

إذا حسنت أخلاق قوم فبئسما … خلفتم به أسلافكم آل طاهر

جنوا لكم أن تمدحوا وجنيتم … لموتاكم أن يشتموا في المقابر

وترنو عينه إلى سامرّاء حاضرة الخلافة ومجمع كبراء رجال الدولة ووزرائها وموظفيها العظام، ويقدم عليها لعهد المنتصر سنة 248، ويمدح أحمد بن الخصيب وزيره، ويعود سريعا إلى بغداد ويظهر أنه وجد الأبواب مغلقة أمامه. وقد يكون السبب الحقيقي في ذلك أنه عزف عن سامراء لتشيّع فيه كان يضمره في نفسه، فتركها وعاد إلى مسقط رأسه. ولا يلبث يحيى بن عمر العلوي أن ينهض بثورة عارمة في الكوفة ضد الدولة، ويجند جيشا كثيفا لحرب العباسيين، ويلتقي به محمد بن عبد الله بن طاهر لسنة 250، وتدور عليه الدوائر، ويقتل في ساحة المعركة ويغضب له ابن الرومي غضبا شديدا، ويرثيه بجيمية (11) طويلة، يندبه فيها ندبا حارّا، مصورا حرقة حزنه عليه بمثل قوله:

سلام وريحان وروح ورحمة … عليك وممدود من الظل سجسج

ويا أسفي أن لا يردّ تحيّة … سوى أرج من طيب نشرك يأرج

ألا إنما ناح الحمائم بعد ما … ثويت وكانت قبل ذلك تهزج

ولا يبكيه وحده، بل يبكي العلويين جميعا منذ شهيدهم الحسين المقتول في كربلاء، ويتفجع على قتله مصورا جزاءه في عليّين، ويأسى أن يكون للعلويين

ص301

دائما قتيل مضرج بالدماء دون خوف من الله وانتقامه ودون أي رعاية للرسول عليه السلام وآل بيته، ويتناول العباسيين في جرأة، ويتوعدهم أن يردّ الأمر إلى نصابه وأن يرجع الحق إلى أهله، على يد علوي ثائر، يحطم العباسيين بجيشه الكثيف حطما. ويتوجه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بالخطاب متمنيا أن تزول دولته ودولة آله في خراسان، ويعلن أنهم أعداء الرسول والإسلام جميعا، وأن دولتهم لا بد أن تدول وتمحق محقا فينطفئ غليل الصدور وتبرأ القلوب الكليمة.

وعلى هذا النحو أصبح ابن الرومي يجاهر بتشيعه، ولعل هذا الجانب فيه هو السبب الحقيقي في أنه لم يحاول المثول بين يدي الخلفاء مادحا، وبالتالي لم يظهر في مجالسهم بسامراء، ومع ذلك كان كثير التردد عليها، ولكنه لم يكن يتجاوز عتبة الوزراء، ويلاحظ أنه لم يحاول أن يمدح قواد الترك، وكأنهم كانوا أبعد من أن يفهموا الشعر أو يثيبوا عليه، ويشير الطبري إلى ذلك بقوله: إنهم لم يكونوا يعرفون حدود الكلام (12). ونمضي مع ابن الرومي بعد مرثيته الشيعية الآنفة الذكر، فنجده يقف مع عامة بغداد لسنة 251 حين لجأ إليها الخليفة المستعين، ووقعت الحرب بينه-ومعه أهل بغداد-وبين المعتز الذي بايعه الترك والجند في سامراء وينضم محمد بن عبد الله بن طاهر إلى عامة بغداد، ويحارب معهم جند المعتز، وتصفو العلاقة حينئذ بين ابن الرومي وابن طاهر، وبدا في نهاية الأمر رجحان كفة جند المعتز، فجنح ابن طاهر إلى الصلح وخلع المستعين، وانتهت الأمور بعزله ثم قتله في سنة 252. ويغضب ابن الرومي ولكن كأنما ذلك كان سحابة عارضة، فتظل صلته بابن طاهر وثيقة، على نحو ما يتضح من دالية له يرثيه بها حين توفى سنة 253 افتتحها بقوله (13):

إن المنيّة لا تبقي على أحد … ولا تهاب أخا عزّ ولا حشد

وفيها يشيد بكرمه وعدله في الرعية واصفا حزنها لفقده وألمها لموته وما سكبت عليه من عبرات. ويتولى مكانه حكم بغداد أخوه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر،

ص302

وهو أكثر الطاهريين معرفة وأدبا، وله كتب مصنفة مختلفة وأغان مدوّنة.

وهو أقرب ممدوحي ابن الرومي إلى نفسه، فقد أغدق عليه جوائز وأموالا كثيرة، وكان شاعرا، يحسن فهم الشعر وتذوقه، كما كان يحسن الفلسفة وفروعها المختلفة، ومرّ بنا تعرضه للبحتري ووقوفه ضده مع ابن الرومي ممثلا للذوق الجديد في الشعر لعصره. ووجد فيه ابن الرومي راعيه الحقيقي، راعيه المادي الذي يجزل له في العطاء وراعيه المعنوي الذي ينوّه بأشعاره ويصفق لطرائفه استحسانا، وراعيه ضد خصومه أصحاب الذوق الأدبي المحافظ من أمثال البحتري. وهكذا وجد عنده كل ما كان يبتغيه لنفسه، وكان عبيد الله يذهب إلى سامراء كثيرا للقاء الخليفة، فكان يصحب معه ابن الرومي. ونراه يمدح أحمد بن إسرائيل وزير المعتز لسنة 253 ويتعرّف في هذه الأثناء بأبي العباس أحمد بن ثوابة كاتب القائد التركي بايكباك لعهد المعتز والمهتدى، وأصبح فيما بعد رئيس ديوان الرسائل، وهو كاتب نابه، ومرّت بنا إشارة إلى مدحة له نظمها حين دعاه لزيارته في سامراء معتذرا بمخاطر الرحلة برّا وبحرا، آملا أن تصله مكافأته في بغداد، ولا تمضى صلته بابن ثوابة إلى نهاية الطريق (14). وهكذا هو دائما سرعان ما يتغير على ممدوحيه، إما لقلة الجائزة وإما لمنعها منه وحرمانه، وإما لأنه تخيّل أي شيء عارض جعله يظن بصديق الأمس الظنون. ويتعرف عنده على أبي الحسن بن علي الباقطائي كاتبه ونراه يعاتبه لتقديمه البحتري عليه (15). وأهم من ابن ثوابة وكاتبه أنه تعرف منذ سنة 255 على أبي الصقر إسماعيل بن بلبل رئيس ديوان الضياع، إذ نراه يهنئه برياسته لهذا الديوان، وسنراه فيما بعد يكثر من مديحه حين أصبح وزيرا للمعتمد. ويتردد على واسط ليمدح آل أبي شيخ.

ويعزل عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن حكم بغداد سنة 255 ويولّى مكانه أخوه سليمان، وكان أميرا لطبرستان فأخرجه منها الحسن بن زيد العلوي بعد حروب ومعارك طاحنة، وكأنما أعطى بغداد مكافأة له على هزيمته! . ويقف ابن الرومي في صف عبيد الله، ويعجب كيف يعزل ويولّى مكانه هارب، وكأنما يجزى بذلك خير الجزاء، أو قل كأنما هي غنيمة نالها ببأسه وشجاعته، وإنه

ص303

لخذلان من شانه أن يصرف الناس عن الإقدام في الحروب، ويسخر منه في مقطوعات مختلفة من مثل قوله (16):

هو الأسد الورد في قصره … ولكنه ثعلب المعركة

ويحدث أن يجمع الأتراك أمرهم ويصمموا على خلع المعتز، لإقدامه على قتل بعض رؤسائهم، ويرسلوا إلى سليمان بن عبيد الله بن طاهر حاكم بغداد أن يبعث إليهم بمحمد بن الواثق ليبايعوه بالخلافة، ويبعث به، وكأنما يجد ابن الرومي ففي ذلك نكثا من سليمان لبيعته للمعتز، فيصليه بقطعة من هجائه قائلا (17):

جاء سليمان بني طاهر … فاجتاح معتزّ بني المعتصم

كأن بغداد لدن أبصرت … طلعته نائحة تلتدم

مستقبل منه ومستدبر … وجه بخيل وقفا منهزم

ونتطور الظروف، ويجيب المعتز قواد الأتراك إلى الخلع، ويحبس ويقتل في محبسه بعد خلعه بستة أيام، وحينئذ نرى ابن الرومي يغيّر موقفه من المعتز فيحذّره حين حبس من أن يعاوده التفكير في الخلافة، وينظم في ذلك قصيدة بائية يقول فيها (18):

دع الخلافة يا معتزّ من كثب … فليس يكسوك منها الله ما سلبا

ويتغيّر تبعا لذلك موقف ابن الرومي من سليمان بن عبد الله بن طاهر، ويهديه بعض مدائحه، ويمنحه سليمان بعض الجوائز، ثم يحدث أن جارا ماكرا له من تجار بغداد كان يعرف باسم ابن أبى كامل تطمح نفسه إلى شراء داره، ويحاول أن يجبره على بيعها باغتصابه لبعض جدرانها وإفساد بعض جوانبها، ويستعدى عليه سليمان (19) بن عبد الله بكافية طريفة سبق أن أنشدنا منها في الفصل الماضي تعليله المشهور فيها لمحبة الأوطان، وهو يدور على كل لسان، وفيها يقول مصرّا على أنه لن يبيع داره:

ولى وطن آليت أن لا أبيعه … وأن لا يرى غيري له الدهر مالكا

ص304

ولوّح لسليمان بأنه يريد منه عونا ماليّا يصلح به داره، ولكن سليمان لم يبادر إلى عونه، فسخط عليه سخطا شديدا وعاد إلى هجائه بالجبن والبخل، وكان جده طاهر يلقب بذي اليمينين، فقال فيما قال من هجائه:

له شمالان حاز إرثها … عن ذي اليمينين شدّ ما اختلفا

ويدخل عصر المعتمد وأخيه الموفق الذي كان يعدّ الحاكم الحقيقي حينئذ، إذ قلّم أظفار الجند الأتراك وقضى على ثورة الزنج قضاء مبرما وهزم يعقوب الصفار هزيمة نكراء، ودان له الولاة: الطولونيون وغيرهم مذعنين خاضعين، وكان يتخذ صاعد بن مخلد كاتبا له، ورفعه إلى مرتبة الوزارة سنة 265 وامتد يمنه حينذاك إلى ابنه العلاء فأصبحت بغداد وواليها تابعين له، وكان عبيد الله قد عاد إلى حكم بغداد سنة 259 وظل يحكمها ثلاث سنوات، ثم وليها محمد بن طاهر بن عبد الله ابن طاهر ثم عاد إليها عبيد الله تابعا للعلاء بن صاعد سنة 266 حتى سنة 271.

وأقبلت الدنيا على ابن الرومي مع إقبالها على صديقه عبيد الله. فكانت تلك السنوات أهنأ أيامه، وأكثر فيها من مديح عبيد الله مع كل مناسبة: مع أعياد النيروز والمهرجان ومع عيدي الفطر والأضحى. وفي ديوانه مدائح مختلفة لصاعد وابنه العلاء، ويغلب أن يكون اتصل بهما مبكرا، حتى إذا أصبحت بغداد وعبيد الله ابن عبد الله بن طاهر تابعين للعلاء أكثر من الصلة بهما ومن مديحهما، وله فيهما دالية (20) طويلة. وفيهما يقول:

وكل مديح لم يكن في ابن صاعد … ولا في أبيه صاعد فهو حابط

وكانت قد أخذت المنافسة بينه وبين البحتري تمتدّ، وانقسم الأدباء قسمين:

قسما هو الأكثر لما كان يؤازره من اللغويين، وهم أنصار البحتري، وقسما مقابلا هو أنصار ابن الرومي وفي مقدمتهم عبيد الله بن عبد الله بن طاهر كما أسلفنا، ونرى ابن الرومي يهجو خصمه ببائية طويلة (21) يقول فيها إن الحظ أعمى ولولا ذلك ما نال البحتري ما نال من الشهرة بشعره الغث في رأيه، ويزعم أنه ليس له فيه شيء فكله إغارات وسرقات ونهب من دواوين أسلافه، ويستعدى عليه-كما مرّ بنا في غير هذا الموضوع-العلاء بن صاعد الذي أمّن الطرق من اللصوص قائلا:

ص

305

أيسرق البحتري الناس شعرهم … جهرا وأنت نكال اللصّ ذي الرّيب

يعيب شعري وما زالت بصيرته … عمياء عن كل نور ساطع اللهب

وفي البيت الثاني ما يدل على أن البحتري كان بدوره يبادله نقدا لشعره، وغضب له عبيد الله بن عبد الله بن طاهر كما مرّ بنا، وأصلى البحتري أشعارا حامية، نعى فيها عليه أنه غير مثقف بالثقافة الفلسفية الحديثة مثل ابن الرومي الذي لا يلحق شأوه، والذي تعمق الفلسفة والمنطق. وردّ عليه البحتري كما أسلفنا في حديثنا عنه. وما زالت المنافسة مشتدة بين الشاعرين حتى جمع بينهما بعض الأدباء مثل سليمان بن الحسن بن مخلد وعبد الله بن الحسين القطربلي، فتصافيا وتوادّا واعترف كل منهما بفضل صاحبه.

ومن الغريب أن ابن الرومي لم يكن يستطيع أن يبقى على علاقة حسنة بوزير أو بابن وزير، فقد كان يكفى كل منهما ألا ينفذ إليه الجائزة أو يقلل منها، فإذا هو خصم لدود، وإذا هو يسلّ لسانه ويبرى شعره سهاما مدمية. وهو ما حدث بينه وبين صاعد وابنه العلاء، فقد أخذا يهملان نواله على مدائحهما بعض الإهمال واستشاط غضبا، وأخذ ينزل عليهما شواظ هجائه من مثل قوله (22):

ليهنكم أن ليس يوجد منكم … لبوس ثياب المجد لكن خلوعها

وظل يتشفّى حتى بعد سقوطهما والإلقاء بهما في غياهب السجون سنة 272.

وكان يتصل ببعض كبار موظفي الدولة، وكان منهم من يتعصب للبحتري فكانوا يردّونه ردّا قبيحا، وقد يهملونه ولا ينيلونه أي عطاء على ما يقدّم إليهم من المدائح ومن خير الأمثلة على ذلك إبراهيم بن المدبر ممدوح البحتري وصديقه الذي ولى ديوان الرسائل حينا وتولى ولايات مختلفة. وكان قد اشترك-كما مر بنا في الحديث عن البحتري-في حرب الزنج، ومدحه ابن الرومي فلم يلتفت إليه، وتصادف أن كان يلي خراج الأهواز سنة 257 ودخلها بعض جنود صاحب الزنج فثبت لهم فيمن ثبتوا، وأصابته شجّة في وجهه، وأسر، واستطاع التخلص من أسره، ونرى ابن الرومي يشمت به، ويسجل عليه جبنه وبخله في قصائد ومقطوعات مختلفة، وله يقول (23):

ص306

قل لي بأية حيلة أعملتها … هتفوا بأنك-لا حفظت-جواد

لقد استفاض لك الثناء بحيلة … صعب الأمور بمثلها ينقاد

ومرّ بنا أنه تعرف على أبي الصقر إسماعيل بن بلبل منذ عصر المعتز حين أصبح رئيس ديوان الضياع في سامرّاء. وظل منذ هذا الحين موصولا به، وكان الموفق قرّبه منه واتخذه كاتبا له، فكان يغدو عليه ويروح سواء حين يكون في سامرّاء، أو مع الموفق في واسط في أثناء معاركه مع الزنج. ورفعه الموفق إلى مرتبة الوزارة فترة لسنة 265 حتى إذا نكّل بصاعد سنة 272 استوزره من بعده له ولأخيه المعتمد، وفرح ابن الرومي بما ناله، فدبّج فيه قصيدة طويلة (24)، استهلها بالغزل نافذا إلى طريقة جديدة، إذ عرض من خلال وصفه لصاحبته ما في الحدائق من فواكه شهية، حتى سماها عبيد الله بن عبد الله بن طاهر دار البطيخ أي حانوت الفواكه، ومضى بعد ذلك في مديح أبى الصقر مدحا رائعا، غير أنه لما استمع إلى قوله:

قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم … كلا لعمري ولكن منه شيبان

ظن أنه يعرّض به، لأنه كان يدعى نسبه من شيبان ولم يكن شيبانيّا حقيقة فقال: هجاني، وراجعه بعض الحاضرين قائلا له: إن هذا من أحسن المدح، ألا تسمع ما بعده:

وكم أب قد علا بابن ذرى شرف … كما علت برسول الله عدنان

فقال: أنا بشيبان، وليست شيبان بي، وملأه الغيظ والغضب على ابن الرومي، فقيل له: ألم تسمعه يقول:

ولم أقصّر بشيبان التي بلغت … بها المبالغ أعراق وأغصان

لله شيبان قوم لا يشوبهم … روع إذا الرّوع شابت منه ولدان

فاستمر في غيّه وسوء فهمه، وقال: والله لا أثيبه على هذا الشعر (25). وواضح أن أبا الصقر لم يفهم معاني القصيدة ولا مراد ابن الرومي في البيت الأول وغيره من

ص307

الأبيات، فكان طبيعيّا أن يحرمه الجائزة، وكأنه أيضا لم يفهم قوله في القصيدة مادحا له:

فرد جميع يراه كلّ ذي بصر … كأنه الناس طرّا وهو إنسان

ولم يكن هذا وبالا على ابن الرومي بقدر ما كان حربا على ابن بلبل فقد أخذ يهجوه ابن الرومي هجاء مرّا ساخرا من ادعائه أنه شيباني حقيقة، مثبتا عليه أنه دعي في شيبان لصيق بها، يقول ساخرا هازئا به (26):

تشيبن حين همّ بأن يشيبا … لقد غلط الفتى غلطا عجيبا؟

وقد مضى يذكر أن شيبان ستشيب من هذا الخطب الجسيم، إذ يدعى النسب فيها أعجمي نبطي، وينعى كيمياء الحظوظ التي أتاحت له مجد الوزارة. ويظل يهجوه حتى يزج به المعتضد في السجن لعام 279 وما يلبث أن يموت في سجنه، وابن الرومي في أثناء هذه النكبة التي حلّت به يهجوه أهاجي كثيرة من مثل قوله (27):

فلئن نكبت لطالما نكبت … بك همة لجأت إلى سندك

يا نعمة ولّت غضارتها … ما كان أقبح حسنها بيدك

وكان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد عزل عن حكمه لبغداد سنة 262 ثم عاد إلى حكمها-كما مرّ بنا-في سنة 266 فكان يكتفى بالمعيشة في ظلاله.

وكانت العلاقة بينهما-كما أسلفنا مرارا-وثيقة، ووظّف له أخوه محمد في بعض فترات حكمه لبغداد، ومات وهو في خدمته وماتت قبله بمدة أمه، وله فيهما مرثيتان.

وكان طبيعيّا أن يكثر مديحه لبعض ذوي البيوتات في بغداد وفيما حولها من المدن والضواحي، وممن نراهم ماثلين في ديوانه بنو فياض وهم يرجعون إلى أصول فارسية، وكانت لهم إقطاعات وضياع واسعة في دير العاقول بالقرب من بغداد، وتمثل في ديوانه أسرة بني نوبخت الفارسية الأصل، وهي تشتهر من قديم بثقافة

ص308

أبنائها وكثرة ما ترجموا من الفارسية إلى العربية، وأهمّ شخص يكثر من مدحه بينهم أبو سهل إسماعيل بن علي، وكان من رءوس الشيعة، ويقال إنه مؤسس الفرقة الإثنى عشرية، وفي صلته به ما يؤكد تشيعه وأن من الممكن أن يكون على مثاله إماميّا يعتنق مذهب الاثنى عشرية. ومن الأسر التي أكثر من مدحها أسرة بني حماد قضاة بغداد، خاصة منهم القاضي إسماعيل بن حماد المتوفى سنة 282 ونراه يمدحه في قصيدة بائية محاولا أن يبرئ نفسه من تهمته بالزندقة التي نقلت إليه، ويستشهد على صحة براءته بابنين عدلين للقاضي يعرفان حقيقة أمره، ويستحثه على التنكيل بوشاة السوء الذين دبّروا اتهامه بهذه التهمة النكراء، ويقول إنهم هم الذين دبّروا الثورة عليك وجعلوا العامة ترمي دارك بالحصى والحجارة، يقول (30):

حملوا حملة على الدين تحكي … حملة الروم رافعين الصّليبا

وأرادوا بك العظيمة لكن … أوسع الله سعيهم تخييبا

وكأن الغوغاء لما تغاووا … فرموا داركم قضوا تحصيبا (31)

زعموا أن ذاك غزو وحجّ … تبّب الله أمرهم تتبيبا

ولم ترو كتب التاريخ هذه الفتنة أو الثورة ضد القاضي، ولعل في ذلك ما يدل على أن الشعر في هذا العصر يقدم إلى المؤرخين وثائق تاريخية قد لا يجدونها في كتب التاريخ المعروفة، على نحو ما مرّ بنا عند البحتري وتسجيله لمعركة ابن دينار البحرية ضد الأسطول البيزنطي وحرقه، فإن كتب التاريخ لم تشر إلى ذلك بحرف.

وتتردد في الديوان أسماء أصدقاء كثيرين في مقدمتهم أبو عثمان الناجم راويته، وقد حضر موته، وابن المسيب الكاتب وأحمد بن عبيد الله وأحمد بن بشر المرثدي وكان كاتبا في ديوان الموفق وابن عمار (32)، وكان شاعرا ومن نقدة الشعر في عصره.

وأكثر قصائده التي وجه بها إلى المرثدي يطلب إليه فيها بعض السمك، ويقال إنه كان قد وعده أن يبعث إليه كل يوم بوظيفة منه لا يقطعها، فبعث إليه يوم سبت

ص309

هدية منه، ولم يرسل السبت التالي. فكتب إليه قصيدة يقول فيها (33):

ما لحيتاننا جفتنا وأنّى … أخلف الزائرون منتظريهم

قد سبتنا وما أتتنا وكانوا … يوم لا يسبتون لا تأتيهم

ومن الشخصيات التي ظل يمدحها طويلا علي بن يحيى المنجم، وهو من كبار المثقفين في عصره، وسبق أن تحدثنا عن مكتبته العظيمة، وكان شاعرا ونديما رفيعا للخلفاء من المتوكل إلى المعتمد، ولا يعرف بالضبط بدء اتصال ابن الرومي به وله فيه قصائد ومقطوعات كثيرة، وله يعاتبه (34):

لتهنأ رجال لا تزال تجودهم … سحائب من كلتا يديك مواطر

عنيت بهم حتى كأنك والد … لهم وهم-دوني-بنوك الأصاغر

وممن تدور أسماؤهم في ديوانه جحظة، وكان شاعرا ويحسن الضرب على الطبل، وكان ينادم المعتمد، وهو نديم من نوع آخر غير نوع علي بن يحيى المنجم، نديم مضحك، يتّخذ للهزؤ به والفكاهة. وكان يصطدم بكثير من الشعراء في عصره فيكويهم بأهاجيه، وفي مقدمتهم مثقال وهو محمد بن يعقوب الواسطي، وإبراهيم البيهقي شاعر عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وأبو حفص الوراق، وابن أبي طاهر وابن الخبازة وخالد القحطبي، فقد كان يشبّ مع كل شاعر منهم معركة حامية الوطيس، وكان دائما هو المنتصر لخصب ملكاته وخياله. وتعرض بالهجاء للمبرد لأنه كان يقف في صف البحتري ضده، وتبعه تلميذه الأخفش في هذا التعصب ولم يكتف بإعلان رأيه في شعره ونقده فقد كان يأتيه من قبل تطيره كما أسلفنا، وممن كان يعيب شعره نفطويه النحوي، ولذلك لم يسلم من أهاجيه.

ويظلّه عصر المعتضد منذ سنة 279، وكانت قد عادت الخلافة إلى بغداد حاضرتها السابقة منذ سنة 276، ويحس كأن الحياة أقبلت عليه وعلى مسقط رأسه كليهما. ويكثر من ذكر المعتضد في قصائد ومقطوعات مختلفة، ويبدو أنه لم ينشد أمامه واحدة منها، فقد كان تشيعه لا يزال يبعده عن القصر، وفي رأينا أنه

ص310

هو السبب الأهم في أن الوزراء كانوا يقبلون عليه ثم يزوّرون عنه اضطرارا لما ذاع من تشيعه. ونرى ابن الرومي يتعرض في أشعاره له لبسالته في حروب الزنج، ولتأخيره النيروز مفتتح الخراج إلى الحادي عشر من حزيران وسماه النيروز المعتضدي قاصدا بذلك إلى الرفق بالرعية-كما مرّ بنا في غير هذا الموضع-وكان عملا جليلا. ويذكر بسالته في صيد الأسد، ويهنئه بالأعياد وبزواجه من قطر الندى الأميرة المصرية بنت خمارويه لسنة 281 وله يقول في هذه المناسبة (35):

يا سيد العرب الذي زفّت له … باليمن والبركات سيدة العجم

اسعد بها كسعودها بك إنها … ظفرت بما فوق المطالب والهمم

ظفرت بملء ناظريها بهجة … وضميرها نبلا وكفّيها كرم

شمس الضحى زفّت إلى بدر الدّجى … فتكشّفت بهما عن الدنيا الظّلم

وكانت الوزارة قد تحولت منذ سنة 278 إلى آل وهب، ويبدو أن صلة الشاعر بهم ترجع إلى أمد أبعد من ذلك، وبمجرد وصولهم إلى الوزارة نراه يقدم مدائحه لعبيد الله بن سليمان بن وهب، وكان كاتبا مجيدا، ومدبرا لشئون الدولة حصيفا، وكان له أخ يسمى وهبا مدحه ابن الرومي في غير قصيدة كما مدح ابنيه الحسن والقاسم، وهو يهلل طويلا لمجئ دولتهم، وتارة يمدحهم مجتمعين باسم آل وهب، وتارة يفرد لكل منهم القصائد الطويلة، ومن قوله في مديح عبيد الله (36):

إذا أبو قاسم جادت يداه لنا … لم يحمد الأجودان: البحر والمطر

وإن مضى رأيه أو حدّ عزمته … تأخر الماضيان: السيف والقدر

وإن أضاءت لنا أضواء غرّته … تضاءل النيرّان: الشمس والقمر

ينال بالظن ما يعيى العيان به … والشاهدان عليه: العين والأثر

وكان القاسم الابن الأصغر لعبيد الله إلا أنه كان مقدما عنده لذكائه، ولذلك

ص311

أخذ يولّيه بعض المناصب وهو صغير، وكان إذا غاب أنابه عنه. وكان يعطف على ابن الرومي قبل تولى أبيه الوزارة، ويقال إنه كان يجرى عليه راتبا، حتى إذا دانت الدنيا لأبيه أخذ يجزل له في العطاء، مما جعل ابن الرومي يصفيه مديحا رائعا. ولا نكاد نقبل على سنة 282 حتى تعاود ابن الرومي طبيعته، وكأنما ضاق القاسم وأبوه بكثرة شكواه والحاحه المتكرر على العطاء، ويبدو أن بعض الوشاة الحساد أخذوا يدسون عليه عندهما، فحاولا إبعاده، وشعر بضيق شديد فأخذ يعاتبهما، وازداد الأمر-فيما يبدو-سوءا إذ منعا عنه الجائزة أحيانا، فأخذ يستعطفهما، غير أنهما لم يصيخا له، على الرغم من استصراخهما لبؤسه، وعبثا يناديهم ألا يضنوا عليه بالقوت وأن يعرفوا له حق الأديب (37) حينئذ يفزع إلى قوسه القديم، قوس الهجاء المرير، ويريش لهما سهاما مصمية من مثل قوله (38):

تسميتم فينا ملوكا وأنتم … عبيد لما تحوى بطون المزاود

لكم نعمة أضحت بضيق صدوركم … مبرّأة من كلّ مثن وحامد

فإن هي زالت عنكم فزوالها … يجدّد إنعاما على كل ماجد

ويفسد ما بينه وبين آل وهب فسادا لا يمكن رأبه.

وتتردد في الديوان بأخرة من حياة ابن الرومي شخصيات من آل الفرات الذين سيسطع نجمهم في عهد المقتدر، كما تتردّد أسماء شخصيات كثيرة مثل أحمد بن محمد الطائي والى الكوفة لعهد المعتمد، ويبدو أنه ظل متصلا به حتى أواخر حياته.

ويلقانا محمد بن داود بن الجراح الكاتب وأحمد بن محمد الواثقي صاحب شرطة بغداد وعيسى بن موسى المتوكل الذى نعى عليه بخله بمقطوعات ساخرة، وكاتب مسيحي للقاسم يسمى عمرا، وله فيه أهاج تقطر سمّا زعافا، وابن فراس وكان فيما يبدو لغويّا.

ص312

ويغصّ الديوان بأسماء كثير من الجواري القيان المطربات مثل بستان وجلنار وبدعة وشاجي ودريرة وغنّاء ووحيد ومظلومة وظلوم، وأكثرهن كن لوزراء أو لأمراء مثل عبيد الله بن عبد الله بن طاهر والقاسم بن عبيد الله، وكان بجوارهن قينات وجوار لا يعجب بأصواتهن ولا بسماعهن، مثل شنطف، وفيها يقول (39):

وإن سكوتها عندي لبشرى … وإن غناءها عندي لمنعى

فقرّطها بعقرب شهر زور … إذا غنّت وطوّقها بأفعى

ومن أهم جوانب الضعف فيه أنه كان نهما في الأكل نهما شديدا، ولذلك يكثر في أشعاره وصف الأطعمة من كل لون حلو وحامض، كما يكثر وصف الأشربة» ومن عجب أن القدماء وصلوا بين هذا النهم وموته لسنة 283 أو 284 فقالوا إن القاسم بن عبيد الله دسّ إليه السم في خشكنانجة، فلما ازدردها أحسّ بالسم في بطنه فقام مسرعا؛ فقال له القاسم إلى أين؟ فأجابه إلى حيث أرسلتني.

فقال له: سلّم على والدي عبيد الله، فأجابه: ما طريقي على النار. والصحيح أنه توفى عن نحو ستين عاما نتيجة لعلله وأمراضه، وهي على كل حال سن عالية.

ولابن الرومي ديوان ضخم لم ينشر حتى الآن، إنما نشر منه الشيخ محمد شريف سليم جزأين، ونشر منه كامل كيلاني مختارات باسم ديوان ابن الرومي، وهو الذي نرجع إليه غالبا. ومن يتصفح ما نشر منه يلاحظ توّا أنه يختلف عن دواوين الشعر العربي التي عاصرته وسبقته، ففيه موضوعات متنوعة عن الحياة وشرورها وعن الناس وحرفهم وملابسهم وعن الموت وعن الأطعمة والأشربة ومتع الحياة، وعن طبائع الناس وعن النساء وأخلاقهن وعن الطّرد والقنص وعن المسرات والآلام، بحيث يصبح من الصعب تشكيل موضوعاته بأعداد رقمية. ومع ذلك سنعرض شعره على الموضوعات الأساسية للشعر العربي، مع ملاحظة ما يمتاز به من صفات خاصة به وبشخصيته الشعرية الخصبة. ومرّ بنا في الفصل الماضي تصوير من بعض الوجوه لذخائره العقلية، وكيف أدّاه اعتزاله مبكرا إلى أن

  1.  

يتمثل جميع الثقافات في عصره فلسفية وغير فلسفية. وإذا هو يستقصي المعاني استقصاء نادرا حتى لا يكاد يترك في معنى شعبة دون عرضها والإلمام بها، وإذا هو يوغل في الأفكار ويستنبط منها مستوراتها الخفية، وإذا هو يسلط عليها أشعة المنطق بكل أقيستها وعللها، فتبدو في أضواء واضحة وضوحا مطلقا، وليس ذلك فحسب فإنه استطاع أن يغير في سمات كل موضوع قديم بفضل ما ألقاه عليه من الأضواء والظلال العقلية. وهو بحق يمثل النزعة التجديدية في العصر، على حين كان البحتري يمثل النزعة التقليدية على نحو ما مرّ بنا في غير هذا الموضع.

وأول ما نقف عنده المديح، وبعض قصائده فيه يطول طولا مسرفا حتى لتبلغ القصيدة نحو ثلثمائة بيت، وعادة يقدم لمدائحه بما تعارف عليه الشعراء من قبله من مقدمات، ولكنه ينوّع فيها، فقد يختار النسيب مثلا، ولكنه يتحوّل به كما في قصيدته النونية (40) التي مدح بها أبا الصقر إسماعيل بن بلبل إلى تجسيد فواكه البستان في المرأة، حتى سمّى بعض معاصريه-كما أسلفنا-القصيدة باسم دار البطيخ وكانوا يطلقونها على دكان الفاكهة. وقد يختار وصف (41) الطبيعة والربيع ويبدع في وصفه، إذ كان مفتونا بها فتنة العاشقين الوالهين، مما يميزه بحق عن شعراء العربية. وقد يدمج في القصيدة وصف مجلس سماع، فيصور آلات للطرب ومن يحملنها من القيان في صور بديعة على نحو ما يلقانا في نونيته التي مدح بها عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، والتي يفتتحها بقوله (42):

وقيان كأنها أمهات … عاطفات على بنيها حوان

وقد أنشدنا منها قطعة في الفصل الماضي. ويضيف إلى وصف مثل هذا المجلس ذكر الخمر. وقد يختار بكاء الشباب الذي طالما تغنّى به الشاعر العربي، ولكنه يعرضه عرضا جديدا على نحو ما نرى في مقدمة قصيدته البائية (43) التي مدح بها علي بن يحيى المنجم، فقد تحدث فيها عن الشيب والخضاب ودعاه حدادا كئيبا

ص314

على الشباب من شأنه أن يبكى صاحبه بدموع غزار، ثم أخذ يصوّر سخرية الفتيات بخضابه باكيا الشباب بكاء لاذعا. ويحذف المقدمة أحيانا طلبا للاختصار والوقوف عند عشرات الأبيات لا عند المئات-وتبلغ بعض المقدمات عنده أحيانا نحو مائة بيت-ويتفنن بعد ذلك في المديح، ومن الطريف أنه كان يلاحظ أن الشعراء فيه يبالغون ويفرطون في مبالغاتهم فينسبون إلى الممدوحين ما لا يفعلون، مسّة لا تمحى وعار ما بعده عار، حتى ليصدق عليهم قوله تعالى: {(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ)} ويستوحى ابن الرومي الآيات قائلا (44):

يقولون مالا يفعلون مسبّة … من الله مسبوب بها الشعراء

وما ذاك فيهم وحده بل زيادة … يقولون مالا يفعل الأمراء

فهم يقولون ما لا يفعلون، وليس ذلك فحسب، بل يقولون أيضا ما لا يفعل الأمراء. كذبا وبهتانا. وكأن ابن الرومي أحسّ في قوة ما كان يحمله المديح لعصره من كذب صراح. وإذا كنا لاحظنا أنه حاول التنويع في مقدمات المديح فإننا نلاحظ أنه حاول التنويع في المديح نفسه، فإنه لم يقصره على المعاني المطروقة، ويوضح ذلك مديحه لعلي بن يحيى المنجم في بائيته التي أشرنا إليها، آنفا، فإنه مضى فيها يمدحه على هذه الشاكلة:

لوذعي له فؤاد ذكىّ … ماله في ذكائه من ضريب

ألمعي يرى بأول ظنّ … آخر الأمر من وراء المغيب

لا يروّى ولا يقلّب كفّا … وأكفّ الرجال في تقليب

حازم الرأي ليس عن طول تجري‍ … ب لبيب وليس عن تلبيب

يتغابى لهم وليس لموق … بل للبّ يفوق لبّ اللبيب

ليّن عطفه فإن ريم منه … مكسر العود كان جدّ صليب

وواضح أن هذا مديح من نوع غير مألوف، مديح بالطباع والشمائل والملكات؛

 

  • 315

فهو يمدحه بالذكاء وحسن البديهة والنظر الثاقب، دون إبطاء في الرأي أو ندم يلحقه، وهو حازم لبيب بالفطرة، يتغابى قصدا وسيد القوم المتغابي، ويبدو ليّن الملمس وهو صلب العود صلابة شديدة. ومصدر هذا الجانب في مديحه بدون ريب قدرته الخارقة على تحليل المعاني واستقصائها، وكانت له قدرة خارقة أيضا على النفوذ إلى كثير من الأخيلة المبتكرة من مثل قوله في حسّاد صاعد مصورا مجده الوطيد (45):

وضد لكم لا زال يسفل جدّه … ولا برحت أنفاسه تتصعّد

ولو قاس باستحقاقكم ما منحتم … لأطفأ نارا في الحشا تتوقّد

وآنق من عقد العقيلة جيدها … وأحسن من سربالها المتجرّد

وكانت لديه قدرة بارعة على عرض أخيلته في مثل هذه الأقيسة، فصاعد يستحق مجدا عظيما فوق ما منح من مجد الوزارة الذى أسبغ عليه بفضل خزمه وحسن تدبيره، وما مثل الوزارة بالقياس إليه إلا مثل العقد في الجيد الجميل جمالا يفوقه، بل مثل الثوب يضفى على الجسد الفاتن. ويجمع بين جمال الخلقة والأخلاق في بعض ممدوحيه وينفذ إلى هذه الصورة البديعة (46):

كلّ الخصال التي فيكم محاسنكم … تشابهت منكم الأخلاق والخلق

كأنكم شجر الأترجّ طاب معا … حملا ونورا وطاب العود والورق

فهم مثل شجر الأترج يطيب عوده وورقه وزهره وثمره، طيب على طيب، وكثيرا ما تلقانا مثل هذه الأخيلة الدقيقة في مديحه كقوله في بعض ممدوحيه:

أوفى بأعلى رتبة وتواضعت … آلاؤه فأحطن بالأعناق

كالشمس في كبد السماء محلّها … وشعاعها في سائر الآفاق

والهجاء فنّه الذي لا يبارى فيه، وهو يتخذ عنده لونين: لونا قاتما كله إقذاع وسبّ وهتك للأعراض وقد يطيل فيه إلى مئات من الأبيات، ولونا زاهيا ينحو

ص316

فيه منحى السخرية والإضحاك، وهو اللون الأهم في هجائه، لأن اللون السابق كثيرا ما نجده عند سابقيه ومعاصريه، أما الهجاء الساخر فقد نمّاه إلى أبعد حد تسعفه في ذلك قدرة بارعة على استغلال العيوب الجسدية في مهجويّه، حتى ليصبح شبيها أدق الشبه بأصحاب الصور الكاريكاتورية، فهم يستغلون العيوب الخلقية ويبرزونها بالطول أو بالعرض أو بالتضخيم أو بالتصغير إبرازا مضحكا في كل صوره، وكذلك كان ابن الرومي هجّاء ساخرا يعرف كيف يصور العيوب الجسدية والمعنوية تصويرا مضحكا، ومرّ بنا في الفصل الماضي تصويره لشحّ عيسى بن موسى بن المتوكل وأنه لو استطاع لتنفس من منخر واحد أو فتحة واحدة من فتحتي أنفه بخلا وحرصا، وكذلك تصويره لبعض مهجويه بحيوانات مجترة، ولم يعجبه بعض المغنين فصوّره في تحرك فكّيه بالغناء بالبغل حين يحرك فكيه لأكل طعامه. ومرّ بنا أنه كانت تؤذيه إيذاء شديدا رؤية جار له أحدب، وانتقم لنفسه منه بقوله فيه (47):

قصرت أخادعه وغاب قذاله … فكأنّه متربّص أن يصفعا

وكأنما صفعت قفاه مرّة … وأحسّ ثانية لها فتجمّعا

فجعله الدهر مصفوعا يحاول أن يتقى صفعه بتجميع قفاه إلى ظهره، وكانت تؤذيه اللخى حين تخرج عن مقدارها الطبيعي فيهجوها ويهجو أصحابها هجاء ساخرا مضحكا، وله فيها مقطوعات هزلية قصيرة وطويلة، ومن أطرفها وأجمعها للهزؤ والسخرية قوله في لحية بعض مهجويّه (48):

إن تطل لحية عليك وتعرض … فالمخالي معروفة للحمير

علّق الله في عذاريك مخلا … ة ولكنها بغير شعير

أرع منها الموسى فإنك منها … يشهد الله في أثام كبير

ما تلقّاك كوسج قطّ إلا … جرّر الله أيما تجوير

لحية أهملت فطالت وفاضت … فإليها تشير كفّ المشير

 

ص317

ما رأتها عين امرئ ما رأتها … قطّ إلا أهلّ بالتكبير

روعة تستخفّه لم يرعها … من رأى وجه منكر ونكير

فاتّق الله ذا الجلال وغيّر … منكرا فيك ممكن التغيير

أو فقصّر منها فحسبك منها … نصف شبر علامة التذكير

لو رأى مثلها النبي لأجرى … في لحى الناس سنّة التقصير

واستحبّ الإحفاء فيهنّ والحل‍ … ق مكان الإعفاء والتوفير

وقد استهل ابن الرومي المقطوعة بتشبيه تلك اللحية بمخلاة حمار ولكن بدون شعير، ونصح صاحبها أن يجعل الموسى يرعاها ويأخذها من جميع أطرافها، وجعل محافظته عليها إثما كبيرا فإن الكوسج خفيف اللحية إذا رآها نسب إلى الله الجور والظلم في قسمة الأرزاق، وقد طالت حتى غدت فرجة للرائحين والغادين يشيرون إليها بأكفهم وأصابعهم متعجبين، بل إنهم ليصيحون الله أكبر، للروعة الشديدة التي تأخذهم، وإنها لأكثر هولا من وجه ملكي القبر: منكر ونكير، ويدعوه أن يتقى الله ويغير هذا المنكر الذي يحمله على وجهه في ذهابه وإيابه، أو ليقصّرها، فنصف شبر منها كاف على التذكير والرجولة، ويقول إن الرسول عليه السلام لو رآها لأبدل السنّة فلم يجعلها تطويل اللحى بل جعلها تقصيرها، بل لعله كان يجعل السنّة قصّيا ومحوها محوا. وهو يشير في البيت الأخير إلى الحديث النبوي: «احفوا الشوارب واعفوا اللّحى». وكان كاتب مسيحي للقاسم بن عبيد الله يسمى عمرا كثيرا ما كان يحجبه، فأصلاه نارا حامية من أهاجيه (49).

وكان لا يزل يلمح العيوب الجسدية في مهجوية، عابثا بهم عبثا كله سخرية وفكاهة وتندير.

وكان ابن الرومي يجيد فن الرثاء، بحكم قدرته على التعبير عن الأحاسيس والمشاعر، وأيضا فإنه كان يستشعر في أعماقه حزنا ممضّا، لأنه لا يأخذ حقوقه في عصره بالقياس إلى غيره من الشعراء الذين يتفوق عليهم تفوقا واضحا، فكان شعوره

ص318

بالبؤس والحرمان يضاعف حزنه، وكأنما الحياة كلها أمامه كانت أحزانا ومآتم، وتصادف أن مات له ثلاثة أبناء، فبكاهم بكاء حارّا، ومرّ بنا في الفصل الماضي بكاؤه على ابنه الأوسط الذى مات منزوفا وهو لا يزال في المهد طفلا صبيّا، وقد نصب بقصيدته له مأتما كبيرا صوّر فيه موته ونزيفه تصويرا محزنا، ثم بكاه بكاء مرّا.

ومن قوله في رثاء ابنه الثالث (50):

أبنىّ إنك والعزاء معا … بالأمس لفّ عليكما كفن

ما في النهار-وقد فقدتك-من … أنس ولا في الليل لي سكن

ما أصبحت دنياي لي وطنا … بل حيث دارك عندي الوطن

وله مرثية في أمه وأخرى في أخيه محمد، وبجانب ذلك نجد له عزاء من حين إلى حين، وأسلفنا في الفصل الماضي عزاءه في ابنة على بن يحيى المنجم، وله عزاء مشابه للمسيّبي الكاتب صديقه يعزيه عن ابنته بأن أحدا لن يخلد في الدنيا، وأن تلك إرادة الله ولا راد لمشيئته، يقول (51):

أصبت وما للعبد عن حكم ربه … محيص وأمر الله أعلى وأقهر

تعزّيت عمن أثمرتك حياته … ووشك التعزي عن ثمارك أجدر

فلا تهلكن حزنا على ابنة جنّة … غدت وهي عند الله تحيا وتحبر

وكان ما ينى ينفذ إلى أخيلة ومعان طريفة حتى في الموت، ولعله أول من حبّب الموت إلى غيره، وكأنما كان يراه خلاصا من حياته ومن الناس والأصدقاء الذين لا ينصفونه، مما جعله يقول (52):

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأكثروا … للموت ألف فضيلة لا تعرف

فيه أمان لقائه بلقائه … وفراق كل معاشر لا ينصف

وتعبيره عن أن الموت أمان للإنسان من خوفه المروّع بلقائه من أدق ما يمكن، وهو لا يباري في النفوذ إلى كثير من المعاني والأحاسيس الدقيقة. وقد عرضنا في

 

ص319

الفصل الماضي مرثيته الملتهبة للبصرة حين حرقها الزنج ودمروها.

ويكثر العتاب في ديوان ابن الرومي، وقصيدته في عتاب أبى القاسم التوّزى الشطرنجي مشهورة، ومرّ بنا في الفصل السالف قطعة بديعة منها في وصف لعب أبى القاسم بالشطرنج، وكان أمهر معاصريه في لعبه، غير أنا نقف الآن عند عتابه، وقد عرضه عرضا طويلا طريفا، إذ أخذ يذكره بما كان بينهما من صفاء، ثم نشأت بعد ذلك هنوات لا يرضاها الصديق، يقول:

كشفت منك حاجتي هنوات … غطّيت برهة بحسن اللقاء

تركتني ولم أكن سيّئ الظّ … نّ أسئ الظنون بالأصدقاء

قلت لما بدت لعيني شنعا … ربّ شوهاء في حشا حسناء

ومضى في حوار طويل بينه وبين تلك الهنوات الصغيرة، يقول لها ليتني لم أهتك ستركنّ وهن يقلن له بل لقد صنعت حسنا، إذ لو لم تفعل ذلك لظللت في ظلم الشك من صاحبك ضالا حائرا، وإن من الخير أن ننكشف لك حتى تعرف أمكنة الداء منه وتطبّ لها طبّا يداويها دواء يشفي الصديق، ويعتب على أبي القاسم أنه لم ينله نوالا ولا ردّا كريما، ويظل يستعطفه طويلا. وقد أسلفنا في الفصل الماضي قطعة بديعة له في عتاب آل وهب.

ولابن الرومي غزل كثير يأتي به مستقلا تارة، وتارة في مقدمات قصائده، وقلما يصوغه بصيغة المذكر مما يدل على أنه لم يكن صاحب غلمان مثل أبي نواس أو حتى مثل البحتري، ومرت في الفصل الماضي قطع مختلفة له في وصف العناق وجمال العيون ومن بديع ماله في وصف الشعر المسترسل حتى مواطئ القدم قوله (53):

وفاحم وارد يقبّل مم‍ … شاك إذا اختال مسبلا غدره (54)

أقبل كالليل من مفارقه … منحدرا لا يذمّ منحدره

حتى تناهى إلى مواطئه … يلثم من كل موطئ عفره (55)

كأنه عاشق دنا شغفا … حتى قضى من حبيبه وطره

ص320

وهي صورة فريدة أسعفته بها قدرته على الاستقصاء في وصف المحسوسات، وكثيرا ما يفجأ قارئه بمثل هذه الصور النفيسة في غزله، وكأنما تحول عقله إلى ما يشبه كنزا سائلا بالدرر، فهو لا يني يطرف قارئه بمعنى مستحدث أو خيال مبتكر من مثل قوله (56):

لا شيء إلا وفيه أحسنه … فالعين منه إليه تنتقل

فوائد العين منه طارفة … كأنما أخرياتها الأول

فكل شيء وكل عضو في صاحبته فتنة من الفتن حسنا وجمالا، فالعين ما تزال تنتقل، وكلما تركت عضوا عادت إليه مفتونة، حتى لكأنما انمحت فكرة الأول وأعقابها، فكل شيء من الأول، وكل شيء لا يكاد النظر يفرغ منه حتى يعود إلى التملىّ به. وله قافية نظمها في جارية سوداء لممدوح له من البيت العباسي هو عبد الملك بن صالح، وفيها يقول معللا علة حسنة لسوادها:

أكسبها الحب أنها صبغت … صبغة حبّ القلوب والحدق

ويبدو أن بعض الجواري عبثن به وغدرنه في حبه ومكرن مكرا خبيثا، ولذلك نراه في نونيته المسماة بدار البطيخ يصدر أحكاما قاسية على النساء عامة، من مثل قوله (57):

ومن عجائب ما يمنى الرجال به … مستضعفات لهم منهن أقران

مناضلات بنبل لا تقوم له … كتائب التّرك يزجيهنّ خاقان

ولا يدمن على عهد لمعتقد … أنّى وهن-كما شبّهن-بستان

يميل طورا بحمل ثم يعدمه … ويكتسى ثم يلفى وهو عريان

يغدرن والغدر مقبوح يزيّنه … للغاويات وللغاوين شيطان

وقد يكون دافع ابن الرومي إلى مثل هذه الأحكام القاسية على المرأة في عصره شيوع دور القيان ببغداد وأن كثيرات من الجواري لم تكن سيرتهن حسنة.

ص321

وكانت الطبيعة تستأثر بكل مشاعره وعواطفه، مما جعله يكلف بها كلفا شديدا، بل لقد تحوّل عاشقا لها عشقا لا نألفه عند شعراء العربية من قبله، فهو يعيش فيها مع كل حركة وكل همسة وكل وسوسة معيشة قوية حارة، معيشة محب واله، يرى الطبيعة من حوله، وقد تحولت وجوها فاتنة ناطقة، وكل شيء فيها يغريه بالنظر واللمس والشم، حتى لنحس كأنما يفنى في الطبيعة فناء أصحاب المنزع الرومانسي الغربي، وكأنما الحجب ترفع بينه وبينها في كل يوم فيزداد بها ولها ويزداد سرورا وغبطة، وقد عرضنا في الفصل الماضي منظر الغروب وتجسيده لوداع الشمس للطبيعة وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة. ونكتفى هنا بأن نسوق مثلا لتصويره الربيع، يقول (58):

ورياض تخايل الأرض فيها … خيلاء الفتاة في الأبراد

ذات وشى تناسجته سوار … لبقات بحوكه وغوادي (59)

فهي تثنى على السماء ثناء … طيّب النّشر شائعا في البلاد

من نسيم كأن مسراه في الأر … واح مسرى الأرواح في الأجساد

منظر معجب تحيّة أنف … ريحها ريح طيّب الأولاد

تتداعى بها حمائم شتّى … كالبواكي وكالقيان الشوادي

تتغنّى القران منهن في الأي‍ … ك وتبكى الفراد شجو الفراد

فالأرض تتراءى له كأنها فتاة حسناء تختال في برود الربيع البهيجة، ووشيها الذي نسجته السحب نسجا بديعا، وهي تثنى على السماء ثناء عاطرا، والنسيم يسرى في الأرواح سريان الأرواح في الأجساد، وما أجمله من منظر وما أروعه من عطر للطبيعة يملأ النفس حنانا وعطفا كرائحة الأولاد النجباء، والحمائم تتناغى بين باكيات وشاديات، أما الشاديات فيتغنين لرفقائهن، وأما الباكيات فمنفردات ليس لهن قرين، وكأنهن يبكين الانفراد. والقطعة تعجّ بالحياة، بل قل إنها تعج بالحب حب شاعر أغرم بالطبيعة وملأت قلبه برّا وحنانا ومودة. ولفت هذا الجانب

ص322

عند ابن الرومي العقاد، فقال إنه أثر من آثار وراثته اليونانية، ولكن اليونان لم يعرف عندهم شعر الطبيعة، هم ملأوها بالآلهة، ولكنهم لم يفصحوا عن مشاعرهم إزاءها على نحو ما نجد عند ابن الرومي، وأوربا نفسها في عصرها الكلاسيكي في أثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر، حين كانت تحاكي الآثار اليونانية، لم يعرف عندها هذا النوع من الشعر، إنما عرف في العصر الرومانسي في أثناء القرن التاسع عشر، حين انفكّت من محاكاة الآثار اليونانية (60). على كل حال كان ابن الرومي يشغف بالطبيعة ويكلف بها كلفا لم يعرف لشاعر قديم.

وجعلته قدرته على نقل المشاهد الحسية يبرع في وصف مجالس الأنس وما يجرى فيها من خمر وسماع. وهو لا يتورط في المجون والإثم تورط أبي نواس وأمثاله، وليس معنى ذلك أنه لم يكن يحتسي الخمر، فقد كان شربها شائعا في عصره، ومرّت بنا في غير هذا الموضع الأبيات المشهورة التي يقول فيها إن أبا حنيفة أحلّ النبيذ. ودعا الخمر في بعض شعره ريق الدنيا، يقول:

فتى هجر الدنيا وحرّم ريقها … وهل ريقها إلا الرّحيق المبرّد

وقد أكثر من وصف مجالس السماع، وجعله ذلك يكثر من وصف المغنين والمغنيات، وكانت أذنه مرهفة وشعوره حادّا، فإذا لم يقع المغنى أو المغنية من أذنه موقعا حسنا صبّ عليهما شواظا من هجائه، على نحو ما مرّ بنا في هجائه لشنطف، ولعل أروع تصوير لمغنية محسنة تصويره لغناء وحيد، وكانت فتنة صوتا وحسنا، وفيها يقول (61):

تتغنىّ كأنها لا تغنّى … من سكون الأوصال وهي تجيد

لا تراها هناك تجحظ عين … لك منها ولا يدرّ وريد (62)

من هدوّ وليس فيه انقطاع … وسجوّ وما به تبليد (63)

مدّ في شأو صوتها نفس كا … ف كأنفاس عاشقيها مديد

 

ص323

واشتهر بإكثاره من وصف ألوان الطعام والفاكهة، وقد ذكرنا له في الفصل الماضي قطعا مختلفة في وصف دجاج مشوي ومرققات وقطائف وعنب رازقي، وديوانه زاخر بأمثالها، وهي أثر من آثار نهمه في الطعام، وأيضا من آثار براعته في وصف كل ما يشاهده ويقع عليه حسه، وله قطعة معروفة في وصف الرّقاق وأخرى في وصف قالي الزلابية يقول فيها (64):

كأنما زيته المقلّى حين بدا … كالكيمياء التي قالوا ولم تصب

يلقى العجين لجينا من أنامله … فيستحيل شبابيكا من الذهب (65)

وهذا الجانب عنده جعله قريبا من ذوق العامة، وأدنى إلى أن يصبح شاعرا شعبيّا، ومن تتمة هذه الشعبية فيه أن نراه يصف الحمّالين والشوّائين، كما يصف الثياب البالية، وكان قد تعلق بوصفها الشاعر المعروف باسم الحمدوني، فنزع منزعه في هذا الجانب بمثل قوله (66):

معمّر قال نوح حين أبصره … إنا محيوك فاسلم أيّها الطّلل

أميل في الطّرق خوفا من مزاحمة … تهدّه فكأني شارب ثمل

وأكبر الظن أن هذا الجانب الشعبي هو الذي جعله يهتم بالزهاد والوعاظ، وليس في حياته ما يصله بالوعظ والزهد، وقد ذكرنا له موعظة في الفصل الماضي، وكأنما كان يتغنى مشاعر الشعب في وعظه وتصويره للزهاد. وحقّا أن ديوانه يجرى فيه تشاؤم واسع، ولكن التشاؤم شيء والزهد شيء آخر، فالزهد انصراف عن الدنيا ومتاعها الزائل، والتشاؤم-وخاصة عند ابن الرومي-نقمة على فقدان المتاع بالحياة، وهى نقمة صبّت على شاعر نابه امتاز بقلب ذكى وحس مرهف وشعور دقيق، فمضى في كثير من جوانب شعره يصور الحياة سوداء حالكة، ويتخذها هي والناس وشرورهم وطباعهم موضوعا لدرسه وشعره. وعلى نحو ما كانت لديه قدرة على وصف كل ما يقع عليه حسه بجميع جزئياته كانت لديه قدرة على النظرات الكلية الجامعة، فإذا

ص324

هو يضع لبعض الأخلاق الذميمة صورا مجسمة كصورة المتكبر (67) والأكول (68) والثقيل (69)، وبالمثل الأخلاق المحمودة كالصبر والتجلد، وقد مثلنا في الفصل الماضي لهما بقطعة من شعره.

وكان ابن الرومي لا يعود إلى أشعاره بتنقيح ولا تهذيب، وكان إذا نظم أكثر وامتد نفسه امتدادا بعيدا. فكان طبيعيّا أن يكون في أشعاره ما يهبط درجات عما حوله، ففيها المصقول وغير المصقول، وفيها ما يرتفع إلى الأفق الأعلى وما يدنو إلى الآفاق الدنيا، بحكم أنه لا يعاود عمله، ويؤكد ذلك ما يروى عن تلميذه أبى عثمان الناجم من أنه رآه ذات مرة قد غضب، فصنع قصيدة طويلة لساعته كلها هجاء، فسأله أين مسوّدتها؟ . فأجابه: هي هذه، فقال له الناجم: ما فيها حرف مصلح، فقال:

قد استوت بديهتي وفكرتي فما أعمل شيئا فأكاد أصلحه. وليس معنى ذلك أنه يوجد في أشعاره غثّ كثير، فقد تلافى ذلك عنده ما امتاز به من أفكار وأخيلة نادرة، وما كان يحرص عليه من بث الفنون الجديدة في أشعاره وخاصة الجناس، وكانت له أذن موسيقية رائعة. وكل ذلك حمى الصياغة عنده من الهبوط عن المستوى الرفيع إلا ما كان يريد أن يقترب فيه من الذوق الشعبي، لشعبية كانت متأصلة في ذات نفسه.

والحق أنه كان شاعرا بارعا، بل لا شك في أنه أبرع شعراء العصر لما يحفل به ديوانه من الموضوعات والمعاني والأخيلة المبتكرة مما يملأ النفس إعجابا متصلا به وبأشعاره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر ترجمته وأشعاره في مروج الذهب 4/ 182، 194، وتاريخ بغداد 12/ 23 والموشح للمرزباني ص 357، وابن خلكان والنجوم الزاهرة 3/ 96 وشذرات الذهب لابن العماد الحنبل 2/ 188، ومرآة الجنان ليافعي 2/ 198 وابن داود في كتابه الزهرة ديوان المعاني للعسكري في مواضع متفرقة انظر الفهرس) وابن الرومي (حياته من شعره) للعقاد وحصاد الهشيم للمازني، ومن حديث الشعر والنثر لطه حسين، والفن ومذاهبه في الشعر العربي ص 200. واختيارات كامل كيلاني من ديوانه الضخم وقد نشرها باسم ديوان ابن الرومي ولا يزال الديوان مخطوطا لم ينشر. وانظر اختيارات روفون جيست منه مع دراسة عن حياة ابن الرومي وشعره ترجمة حسين نصار.

(2) الديوان (مختارات الكيلاني) ص 1.

(3) أشار أبو العلاء في رسالة الغفران: إلى تفلسف ابن الرومي قائلا إنه كان يتعاطى الفلسفة. انظر طبعة كيلاني 2/ 74.

(4) زهر الآداب للحصري 2/ 172.

(5) زهر الآداب 2/ 177.

(6) انظر في هذه الأخبار زهر الآداب وذيله ص 242 والعمدة لابن رشيق 1/ 40 ومعاهد التنصيص 1/ 143.

(7) انظر القصيدة في الديوان ص 2.

(8) ذيل زهر الآداب ص 243 ومعاهد التنصيص 1/ 43.

(9) الديوان ص 438.

(10) الديوان ص 396.

(11) الديوان ص 224.

(12) الطبري 9/ 284.

(13) الديوان ص 50.

(14) انظر مدحته له في الديوان ص 61.

(15) الديوان ص 217.

(16) الديوان ص 341.

(17) الديوان ص 28.

(18) الديوان ص 451.

(19) انظر زهر الآداب 3/ 99.

(20) الديوان ص 390.

(21) الديوان ص 34.

(22) الديوان ص 51.

(23) الديوان ص 66.

(24) الديوان ص 20.

(25) زهر الآداب 1/ 244 وما بعدها.

(28) الديوان ص 48.

(29) زهر الآداب 1/ 244 وما بعدها.

(30) الديوان ص 309.

(31) التحصيب هنا: رمى الجمار بمنى.

(32) انظر توصيته لأبى سهل بن نوبخت به في الديوان ص 123.

(33) ذيل زهر الآداب ص 239.

(34) الديوان ص 342.

(35) مروج الذهب للمسعودي 4/ 182.

(36) ابن الرومي للعقاد (نشر المكتبة التجارية) ص 265.

(37) الديوان ص 212.

(38) الديوان ص 396 - 397 وانظر مقطوعة في كتاب ابن الرومى لروفون جيست ص 178 يدعى فيها أن آل وهب أحيوا دين الصليب وعنوا بتشييد الكنائس وهدم المساجد.

(39)الديوان ص 105.

(40) الديوان ص 20.

(41) الديوان ص 299، وقد دون كامل كيلاني المقدمة وحدها دون المديح.

(42) الديوان ص 84.

(43) الديوان ص 177.

  1. الديوان ص 376.

(45) زهر الآداب 1/ 183 وانظر المختار من شعر بشار للتجيبي (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص 70.

(46) زهر الآداب 4/ 146.

(47) الديوان ص 146

(48) ديوان المعاني للعسكري 1/ 210.

  1. الديوان ص 240.

(50) الديوان ص 31.

(51) الديوان ص 104.

(52) ديوان المعاني 3/ 172.

(53) زهر الآداب 3/ 16.

(54) الغدر: ذوائب الشعر وقطعه.

(55) العفر: ظاهر التراب.

(56) ديوان المعاني للعسكري 1/ 232.

(57) الديوان ص 20 وما بعدها.

(58) الديوان ص 75.

(59) تناسجته: اشتركت في نسجه. السوارى والغوادى: نسحب.

(60) انظر في مناقشة هذه المسألة كتابنا الفن ومذاهبه في الشعر العربي (طبع دار المعارف) ص 208 وما بعدها.

(61) الديوان ص 98

(62) يدر: ينتفخ ويتوتر. الوريد: عرق في العنق.

(63) الهدو: انخفاض الصوت. السجو: مده. التبليد: التقطع.

(64) الديوان ص 371.

(65) اللجين: الفضة.

(66) انظر مقطوعات أخرى في الديوان ص 318.

(67) الديوان ص 95.

(68) الديوان ص 175.

(69) الديوان ص 73.

 

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.