أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-6-2019
3810
التاريخ: 6-5-2019
5308
التاريخ: 30-4-2019
2968
التاريخ: 7-5-2019
26554
|
قال تعالى : {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف : 80 - 84] .
عطف سبحانه على ما تقدم ، فقال : {ولوطا} أي : وأرسلنا لوطا . وقيل : إن تقديره واذكر لوطا . قال الأخفش : يحتمل المعنيين جميعا ههنا ، ولم يحتمل في قصة عاد وثمود إلا أرسلنا لأن فيها ذكر إلى وهو لوط بن هاران بن تارخ بن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام ، وقيل : إنه كان ابن خالة إبراهيم ، وكانت سارة امرأة إبراهيم أخت لوط {إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة} أي : السيئة العظيمة القبح ، يعني إتيان الرجال في أدبارهم {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} قيل : ما نزا ذكر على ذكر قبل قوم لوط ، عن عمرو بن دينار . قال الحسن : وكانوا يفعلون ذلك بالغرباء ، ثم بين تلك الفاحشة ، فقال {إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء} معناه : أتأتون الرجال في أدبارهم اشتهاء منكم ، أي : تشتهونهم فتأتونهم ، وتتركون إتيان النساء اللاتي أباحها الله لكم {بل أنتم قوم مسرفون} أي :
متجاوزون عن الحد في الظلم والفساد ، ومستوفون جميع المعايب ، إتيان الذكران ، وغيره {وما كان جواب قومه} أي : لم يجيبوه عما قال {إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم} قابلوا النصح والوعظ بالسفاهة ، فقالوا : أخرجوا لوطا ومن آمن به من بلدتكم ، والمراد بالقرية : البلدة ، كما قال أبو عمرو بن العلاء : ما رأيت قرويين أفصح من الحسن البصري ، والحجاج ، يريد بالقروي : من يسكن المدن .
{إنهم أناس يتطهرون} أي : يتحرجون عن أدبار الرجال ، فعابوهم بما يجب أن يمدحوا به ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وقيل ، معناه : يتنزهون عن أفعالكم ، وطرائقكم {فأنجيناه} أي : فخلصنا لوطا من الهلاك {وأهله} المختصين به ، وأهل الرجل : من يختص به اختصاص القرابة {إلا امرأته كانت من الغابرين} أي : من الباقين في قومه ، المتخلفين عن لوط ، حتى هلكت لأنها كانت على دينهم ، فلم تؤمن به . وقيل : معناه كانت من الباقين في عذاب الله ، عن الحسن ، وقتادة .
{وأمطرنا عليهم مطرا} أي : أرسلنا عليهم الحجارة كالمطر ، كما قال في آية أخرى {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} {فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} معناه : تفكر وانظر بعين العقل ، كيف كان مآل أمر المقترفين للسيئات ، والمنقطعين إليها ، وعاقبة فعلهم ، من عذاب الدنيا بالاستئصال قبل عذاب الآخرة بالخلود في النار .
قصة لوط مع قومه : وجملة أمرهم فيما روي ، عن أبي حمزة الثمالي ، وأبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام أن لوطا لبث في قومه ثلاثين سنة ، وكان نازلا فيهم ، ولم يكن منهم ، يدعوهم إلى الله ، وينهاهم عن الفواحش ، ويحثهم على الطاعة ، فلم يجيبوه ، ولم يطيعوه ، وكانوا لا يتطهرون من الجنابة ، بخلاء أشحاء على الطعام ، فأعقبهم البخل الداء الذي لا دواء له في فروجهم ، وذلك أنهم كانوا على طريق السيارة إلى الشام ومصر ، وكان ينزل بهم الضيفان ، فدعاهم البخل إلى أن كانوا إذا نزل بهم الضيف فضحوه ، وإنما فعلوا ذلك لتنكل النازلة عليهم من غير شهوة بهم إلى ذلك ، فأوردهم البخل هذا الداء حتى صاروا يطلبونه من الرجال ، ويعطون عليه الجعل .
وكان لوط سخيا كريما ، يقري الضيف إذا نزل به ، فنهوه عن ذلك ، وقالوا :
لا تقرين ضيفا جاء ينزل بك ، فإنك إن فعلت ، فضحنا ضيفك . فكان لوط إذا نزل به الضيف ، كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه .
ولما أراد الله سبحانه عذابهم ، بعث إليهم رسلا مبشرين ومنذرين ، فلما عتوا عن أمره ، بعث الله إليهم جبرائيل عليه السلام في نفر من الملائكة ، فأقبلوا إلى إبراهيم قبل لوط ، فلما رآهم إبراهيم ذبح عجلا سمينا ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ، نكرهم وأوجس منهم خيفة . قالوا : يا إبراهيم! إنا رسل ربك ، ونحن لا نأكل الطعام ، إنا أرسلنا إلى قوم لوط .
وخرجوا من عند إبراهيم ، فوقفوا على لوط وهو يسقي الزرع ، فقال : من أنتم ؟ قالوا : نحن أبناء السبيل أضفنا الليلة . فقال لوط : إن أهل هذه القرية قوم سوء ينكحون الرجال في أدبارهم ، ويأخذون أموالهم . قالوا : قد أبطأنا فأضفنا .
فجاء لوط إلى أهله ، وكانت امرأته كافرة ، فقال : قد أتاني أضياف في هذه الليلة ، فاكتمي أمرهم ، قالت : أفعل . وكانت العلامة بينها وبين قومها ، أنه إذا كان عند لوط أضياف بالنهار ، تدخن من فوق السطح ، وإذا كان بالليل ، توقد النار .
فلما دخل جبرائيل عليه السلام والملائكة معه بيت لوط ، وثبت امرأته على السطح ، فأوقدت نارا ، فأقبل القوم من كل ناحية ، يهرعون إليه ، أي : يسرعون ، ودار بينهم ما قصه الله تعالى في مواضع من كتابه ، فضرب جبرائيل عليه السلام بجناحه على عيونهم ، فطمسها .
فلما رأوا ذلك ، علموا أنهم قد أتاهم العذاب ، فقال جبرائيل عليه السلام : يا لوط!
أخرج من بينهم أنت وأهلك ، إلا امرأتك . فقال : كيف أخرج وقد اجتمعوا حول داري؟ فوضع بين يديه عمودا من نور ، وقال اتبع هذا العمود ، ولا يلتفت منكم أحد فخرجوا من القرية .
فلما طلع الفجر ، ضرب جبرائيل بجناحه في طرف القرية ، فقلعها من تخوم الأرضين السابعة ، ثم رفعها في الهواء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ، وصراخ ديوكهم ، ثم قلبها عليها ، وهو قول الله عز وجل {فجعلنا عاليها سافلها} وذلك بعد أن أمطر الله عليهم حجارة من سجيل ، وهلكت امرأته بأن أرسل الله عليها صخرة فقتلها . وقيل : قلبت المدينة على الحاضرين منهم ، فجعل عاليها سافلها ، وأمطرت الحجارة على الغائبين ، فأهلكوا بها .
وقال الكلبي : أول من عمل عمل قوم لوط إبليس الخبيث ، لأن بلادهم أخصبت فانتجعها (2) أهل البلدان ، فتمثل لهم إبليس في صورة شاب ، ثم دعاهم إلى دبره فنكح في دبره ، ثم عبثوا بذلك العمل . فلما كثر ذلك فيهم عجت الأرض إلى ربها ، فسمعت السماء ، فعجت إلى ربها ، فسمع العرش ، فعج إلى ربه ، فأمر الله السماء أن تحصبهم ، وأمر الأرض أن تخسف بهم .
________________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 299-301 .
2 . انتجع فلانا . أتاه طالبا معروفه .
{ولُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ} . نقل صاحب تفسير المنار عن كتب الأنساب العربية وسفر التكوين ان لوطا ابن أخي إبراهيم الخليل (صلى الله عليه وآله) وانه ولد في أور الكلدانيين وهي في طرف الجانب الشرقي من جنوب العراق الغربي من ولاية البصرة ، وكانت تلك البقعة تسمى أرض بابل ، ثم سافر لوط مع عمه إبراهيم إلى ما بين النهرين ، وهو مكان تحيط به دجلة ، حيث كانت مملكة أشور ، ثم أسكنه إبراهيم في شرقي الأردن .
{ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ} . يدل على ان قوم لوط أول من ابتدع هذا النوع من الفساد {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ} . هذا تفسير للفاحشة ، وان المراد بها هنا اللواط المعبر عنه اليوم بالشذوذ الجنسي ، والفعل الشنيع {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . قد تجاوزتم الحد في كل شيء ، حتى بلغتم إلى هذا الانحراف الذي يمجه الطبع ، وتأباه الفطرة ، ويخالف سنن الحياة .
{وما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} . أجل ، ان الطهر والعفاف ذنب عند العاهر الفاجر ، والأمانة جريمة عند العميل الخائن . . أخرجوهم لأنهم يتطهرون . . وهكذا المجتمع القذر يرفض الأطهار والأبرار ، لا لشيء إلا لأنهم يتطهرون ، والعكس صحيح أيضا .
{فَأَنْجَيْناهُ وأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} . المراد بأهله من آمن معه ، سواء أكان من أرحامه ، أو من غيرهم ، وغبر تأتي بمعنى مضى ، وبمعنى بقي ، وهذا المعنى هو المراد هنا ، أي ان امرأة لوط بقيت مع الهالكين ، ولم يصحبها معه حين سرى بأهله بقطع من الليل فرارا من العذاب ، لأنها كانت منافقة تتآمر على زوجها مع المشركين ، وقيل : ان اسمها واهلة . . وقال تعالى : {مِنَ الْغابِرِينَ} ، ولم يقل من الغابرات تغليبا للرجال على النساء ، لأن الذين أهلكهم اللَّه كانوا من الفئتين .
وهكذا أصاب امرأة لوط من العذاب ما أصاب المشركين لأنها منهم ، ولم يجدها القرب من نبي اللَّه والتصاقها به شيئا . وفي الحديث : المرء مع من أحب .
{وأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً} . بيّن سبحانه العذاب الذي أنزله بهم بأنه نوع من المطر ، ولكنه بالحجارة ، لا بالماء كما جاء في الآية 81 من سورة هود : {وأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} ويأتي التفصيل في محله ان شاء اللَّه {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} ؟
انها العذاب الأليم ، والعاقل من اتعظ بغيره .
وتسأل : ان كلا من نوح وهود وصالح دعا قومه إلى عبادة اللَّه وحده فيما تقدم من الآيات ، أما لوط فقد دعا قومه في هذه الآيات إلى الامتناع عن الفاحشة ، فهل معنى هذا ان قوم لوط كانوا موحدين ، ولكنهم فسقوا بهذا الفعل الشنيع ؟ .
الجواب : ان قوم لوط كانوا كفارا ، وقد دعاهم إلى التوحيد ، ونهاهم عن الكفر والشرك كما نهاهم عن اللواط بدليل قوله تعالى : {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} ، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ ، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهً وأَطِيعُونِ} [الشعراء - 163] . وانما اهتم بهذه الرذيلة لأنها كانت فاشية فيهم ، وأدت بهم إلى غيرها من القبائح والرذائل ، وحملتهم على التمرد والعناد للحق ، وجرأتهم على تكذيب أنبياء اللَّه ورسله .
وقد أجمعت المذاهب الإسلامية قولا واحدا على تحريم اللواط ، وانه من الكبائر ، واختلفوا في عقوبته ، قال الحنفية : انها التعزير بما يراه الحاكم ، وقالت بقية المذاهب : انها القتل لحديث : من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به .
وأباحت الحكومة الانكليزية اللواط ، وأقره مجلس العموم البريطاني سنة 1967 ونقلت جريدة الأهرام تاريخ 6 - 9 - 1967 عن التايمز اللندنية ان جماعة من كبار الشخصيات في انكلترا أقاموا احتفالا عاما ابتهاجا بإباحة اللواط ، وتعاطوا فيه هذه العملية أمام المئات من المتفرجين . . وليس من شك ان وجود السيدات والآنسات في هذا الحفل يزيد من بهجته وروعته .
__________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 353-354 .
قوله تعالى : {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف : 80] إلى آخر الآية .
ظاهره أنه من عطف القصة على القصة أي عطف قوله : ﴿وَلُوطًا﴾ على ﴿نوحا﴾ في قوله في القصة الأولى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} [هود : 25] فيكون التقدير ولقد أرسلنا لوطا إذ قال لقومه إلخ ، لكن المعهود من نظائر هذا النظم في القرآن أن يكون بتقدير ﴿اذكر﴾ بدلالة السياق ، وعلى ذلك فالتقدير : واذكر لوطا الذي أرسلناه إذ قال لقومه إلخ والظاهر أن تغيير السياق من جهة أن لوطا من الأنبياء التابعين لشريعة إبراهيم (عليه السلام) لا لشريعة نوح (عليه السلام) ، ولذلك غير السياق في بدء قصته عن السياق السابق في قصص نوح وهود وصالح فغير السياق في بدء قصته ثم رجع إلى السياق في قصة شعيب (عليه السلام) .
و قد كان لوط - على ما سيأتي إن شاء الله من تفصيل قصته في سورة هود - مرسلا إلى أهل سدوم وغيره يدعوهم إلى دين التوحيد وكانوا مشركين عبدة أصنام .
وقوله : ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ يريد بالفاحشة اللواط بدليل قوله : {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً} [الأعراف : 81] وفي قوله : {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف : 80] أي أحد من الأمم والجماعات دلالة على أن تاريخ ظهور هذه الفاحشة الشنيعة تنتهي إلى قوم لوط ، وسيأتي جل ما يتعلق به من الكلام في تفصيل قصته في سورة هود .
قوله تعالى : {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف : 81] الآية ، إتيان الرجال كناية عن العمل بهم بذلك ، وقوله ﴿ شَهْوَةً﴾ قرينة عليه ، وقوله ﴿ مِنْ دُونِ النِّسَاءِ﴾ قرينة أخرى على ذلك ، ويفيد مضافا إلى ذلك أنهم كانوا قد تركوا سبيل النساء واكتفوا بالرجال ، ولتعديهم سبيل الفطرة والخلقة إلى غيره عدهم متجاوزين مسرفين فقال : ﴿ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ .
ولكون عملهم فاحشة مبتدعة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين استفهم عن ذلك مقارنا ب ﴿أن﴾ المفيدة للتحقيق فأفاد التعجب والاستغراب ، والتقدير : ﴿إنكم لتأتون﴾ الآية .
قوله تعالى : {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [الأعراف : 82] إلى آخر الآية .
أي لم يكن عندهم جواب فهددوه بالإخراج من البلد فإن قولهم : {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [الأعراف : 82] الآية .
ليس جوابا عن قول لوط لهم : {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ} [الأعراف : 80] الآية .
فجواب الكلام في ظرف المناظرة إما إمضاؤه والاعتراف بحقيته وإما بيان وجه فساده ، وليس في قولهم : ﴿أخرجوهم﴾ إلى آخره شيء من ذلك فوضع ما ليس بجواب في موضع الجواب كناية عن عدم الجواب ودلالة على سفههم .
وقد استهانوا أمر لوط إذ قالوا : ﴿أخرجوهم من قريتكم﴾ الآية أي إن القرية أي البلدة لكم وهم نزلاء ليسوا منها وهم يتنزهون عما تأتونه ويتطهرون ، ولا يهمنكم أمرهم فليسوا إلا أناسا لا عدة لهم ولا شدة .
قوله تعالى : {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف : 83] فيه دلالة على أنه لم يكن آمن به إلا أهله ، وقد قال تعالى في موضع آخر : ﴿ {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات : 36] .
وقوله : ﴿كانت من الغابرين﴾ أي الماضين من القوم ، وهو استعارة بالكناية عن الهلاك والباقي ظاهر .
قوله تعالى : {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف : 84] ذكر الأمطار في مورد ترقب ذكر العذاب يدل على أن العذاب كان به وقد نكر المطر للدلالة على غرابة أمره وغزارة أثره ، وقد فسره الله تعالى في موضع آخر بقوله : {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود : 82 ، 83] . وقوله : {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف : 84] توجيه خطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعتبر به هو وأمته .
___________________________
1 . تفسير الميزان ، ج8 ، ص 187-189 .
مصير قوم لوط المؤلم :
في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلا آخر غنيا بالعبر من قصص الأنبياء ، وبذلك يواصل هدف الآيات السابقة ويكمله ، والقصة هذه المرّة هي قصة النّبي الإلهي العظيم «لوط».
ولقد ذكرت هذه القصة في عدّة سور من القرآن الكريم ، منها سورة «هود» و «الحجر» و «الشعراء» و «الأنبياء» و «النمل» و «العنكبوت».
وهنا يشير القرآن الكريم ـ ضمن آيات خمس ـ إلى خلاصة سريعة عن الحوار الذي دار بين لوط ، وقومه.
ويظهر أنّ الهدف الوحيد في هذه السورة (الأعراف) هو تقديم عصارات وخلاصات من مواجهات الأنبياء وحواراتهم مع الجماعات المتمردة من أقوامهم ، ولكن الشرح الكامل لقصصهم موكول إلى السور القرآنية الأخرى (وسوف نأتي بقصّة هذه الجماعة بصورة مفصلة في سورة هود والحجر إن شاء الله) .
الآية الأولى تقول في البدء : اذكروا وإذ قال لوط لقومه : أترتكبون فعلا قبيحا لم يفعله أحد قبلكم من الناس ؟ {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ} ؟!
فهذه المعصية مضافا إلى كونها عملا قبيحا جدّا ـ لم يفعلها أحد قبلكم من الأقوام ـ وبذلك يكون قبح هذا العمل الشنيع مضاعفا ، لأنّه أصبح أساسا لسنّة سيئة ، وسببا لوقوع الآخرين في المعصية عاجلا أو آجلا .
ويستفاد من الآية الحاضرة أنّ هذا العمل القبيح ينتهي ـ من الناحية التأريخية ـ إلى قوم لوط ، وكانوا قوما أثرياء مترفين شهوانيين ، سنذكر أحوالهم بالتفصيل في السور التي أشرنا إليها إن شاء الله تعالى.
وفي الآية اللاحقة يشرح المعصية التي ذكرت في الآية السابقة ويقول : {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ}.
وأي انحراف أسوأ وأقبح من أن يترك الإنسان وسيلة توليد النسل وإنجاب الأولاد ، وهو مقاربة الرجل للمرأة ، والذي أودعه الله في كيان كل إنسان بصورة غريزية طبيعية ، ويعمد إلى «الجنس الموافق» ، ويفعل بالتالي ما يخالف ـ أساسا ـ الفطرة ، والتركيب الطبيعي للجسم والروح الإنسانيين ، والغريزة السوية الصحيحة ، وتكون نتيجة عقم الهدف المتوخى من المقاربة الجنسية .
وبعبارة أخرى : يكون أثره الوحيد ، هو الإشباع الكاذب والمنحرف للحاجة الجنسية ، والقضاء على الهدف الأصلي ، وهو استمرار النسل البشري.
ثمّ يقول تعالى في نهاية الآية : {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي تجاوزتم حدود الله ، ووقعتم في متاهة الانحراف والتجاوز عن حدود الفطرة.
ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى أنّهم لم يسلكوا سبيل الإسراف في مجال الغريزة الجنسية فحسب ، بل تورطوا في مثل هذا الانحراف والإسراف في كل شي ، وفي كل عمل.
والجدير بالذكر أنّ الآية الأولى ذكرت الموضوع بصورة مجملة ، ولكن الآية الثّانية ذكرته بصورة مبيّنة وواضحة ، وهذا هو أحد فنون البلاغة عند بيان القضايا الهامة ، فإذا فعل أحد عملا شيئا قال له مرشده ووليه الواعي الحكيم ، لبيان أهمية الموضوع : أنت ارتكبت ذنبا عظيما ، فإذا قال له الشخص ، ماذا فعلت؟ يقول له مرّة أخرى : أنت ارتكبت ذنبا عظيما ، وفي المآل يكشف القناع عن فعله ويشرحه.
إنّ هذا النوع من البيان يهيئ فكر الطرف الآخر ونفسه للوقوف تدريجا على شناعة عمله القبيح وخطورته ، وهو أبلغ في التأثير .
وفي الآية اللاحقة أشار القرآن الكريم إلى الجواب المتعنت وغير المنطقي لقوم لوط ، وقال : إنّهم لم يكن لديهم أي جواب في مقابل دعوة هذا النّبي الناصح المصلح ، إلّا أن قالوا : أخرجوا لوطا وأتباعه من مدينتكم . ولكن ما كان ذنبهم؟ إنّ ذنبهم هو أنّهم كانوا جماعة طاهرين لم يلوثوا أنفسهم بأدران المعصية {وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} .
وهذا ليس موضع تعجب واستغراب أن يطرد جماعة من العصاة الفسقة أشخاصا طاهرين لا لشيء إلّا لأنّهم أنقياء الجيب ، يجتنبون المنكرات ، وذلك لأنّ هؤلاء القوم يعتبرون هؤلاء مزاحمين لشهواتهم ، فكانت نقاط القوة لدى أولئك الأطهار نقاط ضعف وعيب في نظرهم .
ويحتمل أيضا في تفسير جملة {إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أنّ قوم لوط كانوا يريدون بهذه العبارة أن يتهموا ذلك النّبي العظيم وأتباعه الأتقياء بالرياء والتظاهر بالتطهر ، كما سمعنا وقرأنا في الأشعار كثيرا حيث يتهم الخمارون الأشخاص الطيبين النزيهين بالرياء والتظاهر ، ويعتبرون (خرفتهم الملوثة بالخمر) أفضل من (سجادة الزاهد) وهذا نوع من التزكية الكاذبة للنفس التي يتذرع بها هؤلاء العصاة الأشقياء .
مع ملاحظة كل ما قيل في الآيات الثلاثة أعلاه ، يستطيع كل قاض منصف أن يصدر حكمه بحق مثل هذه الجماعات والأقوام الذين يتوسلون ـ في مقابل إصلاح المصلحين ونصيحة الناصحين ، ودعوة نبي إلهيّ عظيم ـ بالتهديد والاتهام ، ولا يعرفون إلّا لغة القوة والقهر ، ولهذا قال الله تعالى في الآية اللاحقة : {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} (2) أي لما بلغ الأمر إلى هذا الحد أنجينا لوطا وأتباعه الواقعين وأهله الطيبين ، إلّا زوجته التي كانت على عقيدة قومه المنحرفين فتركناها .
قال البعض : إنّ كلمة «أهل» وإن كان المتعارف إطلاقها على العائلة ، ولكن في الآية الحاضرة استعملت في الأتباع الصادقين ـ أيضا ـ يعني أنّهم كانوا معدودين جزءا من أهله وعائلته أيضا ، ولكن يستفاد من الآية (36) من سورة الذاريات أنّه لم يؤمن بلوط ودعوته أحد من قومه قط إلّا عائلته وأقرباؤه ، وعلى هذا الأساس يكون لفظ الأهل هنا مستعملا في معناه الأصلي ، أي أقرباؤه .
من الآية (10) من سورة التحريم إجمالا أنّ زوجة لوط كانت في البداية امرأة صالحة ، ولكنّها سلكت سبيل الخيانة فيما بعد ، وجرأت أعداء لوط عليه .
وفي آخر آية من الآيات إشارة قصيرة جدا ـ ولكن ذات مغزى ومعنى عميق ـ إلى العقوبة الشديدة والرهيبة التي حلّت بهؤلاء القوم ، إذ قال تعالى : {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً} أيّ مطر ... إنّه كان مطرا عجيبا حيث انهالت عليهم الشهب والنيازك كالمطر وأبادتهم عن آخرهم!! إنّ هذه الآية وإن لم تبيّن نوع المطر الذي نزل على القوم ، ولكن من ذكر لفظة «المطر» بصورة مجملة اتضح أنّ ذلك المطر لم يكن مطرا عاديا ، بل كان مطرا من الحجارة ، كما سيأتي في سورة هود الآية (83) .
{فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} .
إنّ هذا الخطاب وإن كان موجها إلى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنّه من الواضح أنّ الهدف هو اعتبار جميع المؤمنين به .
هذا وسيأتي تفصيل قصّة هذه الجماعة ، وكذا مضار اللواط المتعددة ، وحكمه في الشريعة الإسلامية ، عند تفسير آيات سورة «هود» و «الحجر».
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص418-422 .
2. يقال «الغابر» لمن ذهب أهله وفنوا وبقي وحده ، كما ذهبت عائلة لوط معه ، وبقيت زوجته وحدها معه ، وأصيبت بما أصيب به العصاة .
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|