المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17607 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
2024-11-01
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
2024-11-01
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01

حموضة ايضية Metabolic Acidosis
27-1-2019
Round Number
20-1-2021
التوافق بين الأصل والطعم في الموالح (الحمضيات)
19-8-2022
الكاكاو CACAO
2023-03-10
سيـاسات الإستثمار في رأس المال العامـل
17-5-2018
DEDUCTIVE REASONING
2024-09-12


رسم الشخصيات في القصة القرآنية  
  
4304   02:29 صباحاً   التاريخ: 25-02-2015
المؤلف : سيد قطب
الكتاب أو المصدر : التصوير الفني في القران
الجزء والصفحة : ص199-216.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / مواضيع عامة في القصص القرآنية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-03-28 1288
التاريخ: 2-06-2015 3222
التاريخ: 9-10-2014 2230
التاريخ: 2023-03-27 1655

لقد عرضنا من قبل قصة صاحب الجنتين وصاحبه ، وقصة موسى وأستاذه. وفي كل منهما نموذجان بارزان. والأمثلة على هذا اللون من التصوير هي القصص القرآني كله، فتلك سمة بارزة في هذا القصص، وهي سمة فنية محضة- وهي بذاتها غرض للقصص الفني الطليق- وها هو ذا القصص القرآني، ووجهته الأولى هي الدعوة الدينية، يلم في الطريق بهذه السمة أيضا، فتبرز في قصصه جميعا، ويرسم بضع «نماذج إنسانية» من هذه الشخصيات، تتجاوز حدود الشخصية المعنية إلى الشخصية النموذجية. فلنستعرض بعض القصص على وجه الإجمال، ولنعرض بعضها على وجه التفصيل.

*** 1- لنأخذ موسى. إنه نموذج للزعيم المندفع العصبي المزاج.

فها هو ذا قد ربي في قصر فرعون، وتحت سمعه وبصره، وأصبح فتى قويا.

{حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص : 15] .

وهنا يبدو التعصب القومي، كما يبدو الانفعال العصبي.

وسرعان ما تذهب هذه الدفعة العصبية، فيثوب إلى نفسه شأن العصبيين :

{مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص : 15 - 17] .

{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص : 18] وهو تعبير مصوّر لهيئة معروفة : هيئة المتفزع المتلفت المتوقع للشر في كل حركة. وتلك سمة العصبيين أيضا.

ومع هذا ، ومع أنه قد وعد بأنه لن يكون ظهيرا للمجرمين.

فلننظر ما يصنع. إنه ينظر {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص : 18] مرة أخرى على رجل آخر، {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص : 18] ولكنه يهم بالرجل الآخر كما همّ بالأمس ، وينسيه التعصب والاندفاع استغفاره وندمه وخوفه وترقبه، لو لا أن يذكره من يهم به بفعلته، فيتذكر ويخشى :

{يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص : 19]

وحينئذ ينصح له بالرحيل رجل جاء من أقصى المدينة يسعى، فيرحل عنها كما علمنا.

فلندعه هنا لنلتقي به في فترة ثانية من حياته بعد عشر سنوات، فلعله قد هدأ وصار رجلا هادئ الطبع حليم النفس.

كلا! فها هو ذا ينادى من جانب الطور الأيمن : أن ألق عصاك، فألقاها فإذا هي حيّة تسعى. وما يكاد يراها حتى يثب جريا، لا يعقّب ولا يلوي. إنه الفتى العصبي نفسه ولو أنه قد صار رجلا؛ فغيره كان يخاف نعم، ولكن لعله كان يبتعد منها، ويقف ليتأمل هذه العجيبة الكبرى.

ثم لندعه فترة أخرى، لنرى ما ذا يصنع الزمن في أعصابه.

لقد انتصر على السحرة، وقد استخلص بني إسرائيل، وعبر بهم البحر، ثم ذهب إلى ميعاد ربه على الطور. وإنه لنبي. ولكن ها هو ذا يسأل ربه سؤالا عجيبا { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف : 143] {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}[الأعراف : 143] ثم حدث ما لا تحتمله أيّة أعصاب إنسانية- بله أعصاب موسى-

{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف : 143] عودة العصبي في سرعة واندفاع!

ثم ها هو ذا يعود، فيجد قومه قد اتخذوا لهم عجلا إلها، وفي يديه الألواح التي أوحاها اللّه إليه، فما يتريث وما يني‏ {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف : 150] وإنه ليمضي منفعلا يشد رأس أخيه ولحيته ولا يسمع له قولا :

{ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي }[طه : 94] وحين يعلم أن «السامريّ» هو الذي فعل الفعلة، يلتفت إليه مغضبا، ويسأله مستنكرا. حتى إذا علم سر العجل :

{ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفً} [طه : 97]

هكذا في حنق ظاهر وحركة متوترة. فلندعه سنوات أخرى.

لقد ذهب قومه في التيه ونحسبه قد صار كهلا حينما افترق عنهم، ولقي الرجل الذي طلب إليه أن يصحبه ليعلمه مما آتاه اللّه علما.

ونحن نعلم أنه لم يستطع أن يصبر حتى ينبئه بسرّ ما يصنع مرة ومرة ومرة ، فافترقا ...!

تلك شخصية موحدة بارزة، ونموذج إنساني واضح في كل مرحلة من مراحل القصة جميعا.

2- تقابل شخصية موسى شخصية إبراهيم. إنه نموذج الهدوء، والتسامح والحلم : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود : 75]

فها هو ذا في صباه يخلو إلى تأملاته، يبحث عن إلهه :

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ  (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام : 76 - 80]

وما يكاد يصل إلى هذا اليقين، حتى يحاول في برّ وودّ أن يهدي إليه أباه، في أحب لفظ وأحياه.

{ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم : 42 - 45]

ولكن أباه ينكر قوله ويغلظ له في القول، ويهدده تهديدا :

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } [مريم : 46]

فلا يخرجه هذا العنف عن أدبه الجمّ، ولا عن طبيعته الودود، ولا يجعله ينفض يديه من أبيه :

{ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم : 47، 48]

ثم ها هو ذا يحطّم أصنامهم- ولعله العمل الوحيد العنيف الذي يقوم به- ولكنه إنما تدفعه إلى هذا رحمة أكبر. عسى أن يؤمن قومه إذا رأوا آلهتهم جذاذا، وعلموا أنها لا تدفع عن نفسها الأذى. ولقد كادوا يؤمنون فعلا. {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء : 64] ولكنهم عادوا فهمّوا بإحراقه، وحينئذ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء : 69] ولقد اعتزلهم عهدا طويلا مع النفر الذي آمن معه، ومنهم ابن أخيه لوط.

وفي كبرته وهرمه يرزقه اللّه بإسماعيل؛ ولكن يقع له ما يحتم عليه أن يبعد ابنه وأمه عنه (والقرآن لا يتعرض لهذا الذي وقع) فيغلبه الطبع الرضيّ على الحنوّ الأبويّ؛ ويدركه إيمانه بربه، فيدعهما بجوار بيته. وهناك ينادي ذلك النداء الخاشع المنيب :

{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم : 37]

ثم ما يكاد هذا الطفل يشب، ويصبح فتى، حتى يرى في المنام أنه يذبحه؛ فيغلبه الإيمان الديني العميق، على الحب الأبوي العميق؛ ويهم بإطاعة الإشارة ، لو لا أن يرفق به ربه، فيفديه بذبح عظيم.

وهكذا تتكشف الوقائع في القصة والمحاورات عن شخصية مميزة الملامح واضحة السمات : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود : 75]

3- ويوسف : إنه نموذج الرجل الواعي الحصيف.

فها هو ذا يلقى العنت من مراودة امرأة العزيز له فيأبى.

إنه في بيت رجل يؤويه، فليحذر مواضع الحرج جميعا. ومع ذلك يكاد يضعف : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف : 24] «1».

وهنا تبرز «المرأة» في حالة من أنكر حالاتها، وفي دفعة من دفعات غريزتها : {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف : 25]. وتقع المفاجأة التي يحذرها : {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف : 25] وهنا تدرك المرأة غريزتها أيضا، فتجد الجواب حاضرا، إنها تتهم الفتى :

{مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا } [يوسف : 25] ولكنها امرأة تعشق، فهي تخشى عليه الردى، فتشير بالعقاب المأمون : {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف : 25]!

وغير يوسف كانت تناله «اللخمة» ولكن يوسف الواعي يجيب صادقا : {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}[يوسف : 26] ويستشهد بقميصه المقدود من الخلف. ويجد من يؤيده في استشهاده من أهل المرأة ذاتها :

{ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [يوسف : 26، 27]

... فيوسف إذن بري‏ء.

ويلغط نساء المدينة بالقصة- كعادة النساء في كل مكان وزمان- وإنها لقصة تجد لديهن اهتماما ورواجا؛ فتبرز «المرأة» في زوج العزيز مرة أخرى. إنها تدعوهن إلى حفلة، وبينما هنّ منهمكات في تناول الطعام والسكاكين في أيديهن- فقد كانت مصر متحضرة يأكل أهلها في الصحاف ويستخدمون السكاكين- تخرج عليهن يوسف ، فيبهتن ويؤخذن، ويجرحن أيديهن تجريحا شديدا {رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف : 31] ... إنهن لنساء، وإنها لامرأة، وإنها لتعرف كيف تفحم النساء!

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف : 35] فلن يسكت اللغط وفي المدينة نسوة.

وها هو ذا يفسّر الرؤيا لصاحبي الملك في السجن ، فإذا عرف أن أحدهما سينجو وأنه سيعود إلى خدمة سيده، لم ينس يوسف الواعي أن يطلب إليه ذكره عند ربه :

{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف : 42]

ولكن الساقي ينسى. {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف : 42] حتى يرى الملك رؤياه، ويعجز عن تفسيرها المفسرون، فيذكر الساقي يوسف، ويأتي إليه ليفسّر الرؤيا، فيجد لها تفسيرا، فيطلبه الملك ليراه.

وهنا يظهر الرجل الحصيف. لقد دخل السجن ظلما، وإن حوله للغطا، وإنه لن يأمن إذا خرج أن يرد إلى السجن كما دخل إليه أول مرة؛ فهو ينتهز الفرصة المناسبة للحصول على الضمان والبراءة : {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف : 50] .و يسألهن الملك، فيجبن بالحقيقة، وترى امرأة العزيز أن تبرئه أيضا، فالظاهر أنها كانت قد أسنت. إذ نحن نرجح أنها فعلت فعلتها وهي في الأربعين أو فوقها ، فهي فعلة امرأة مكتملة في نهاية المرحلة؛ فإذا أضفنا إلى سنها «بضع سنين» كانت في الخمسين أو قرب الخمسين. فلا ضير حينئذ من كشف الماضي الدفين : {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف : 51] .

وفي تعقيب يوسف على هذا يبدو الرجل الحصيف المقتصد في التعبير، الذي لا يبالغ في شي‏ء ، إنما يضع الاحتمالات والاحتياطات لكل حالة :

{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ  (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [يوسف : 52-53] «2».

فإذا رأى أنس الملك به وارتياحه لتأويله؛ وسمع منه قوله :

«إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» لم يدع الفرصة تذهب بل {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف : 55] فيجاب إلى طلبه في أنسب الظروف.

و يدل تصرف يوسف في سنيّ الخصب والجدب على مهارة واضحة في الإدارة والاقتصاد، فقد أشرف على المالية والتموين أربع عشرة سنة، لا على تموين مصر وحدها، بل على تموين البلاد القريبة المجاورة، التي أجدبت كذلك، وجاءت مصر تستجدي الخبز والحياة سبع سنين.

ثم إذا جاء إخوته فعرفهم وهم له منكرون، جعل حصوله منهم على أخيه، ثمنا لحصولهم على القوت. فإذا جاءوه بأخيه وأراد احتجازه‏ {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ }[يوسف : 70] فإذا أنكروا السرقة ، وطلبوا تفتيشهم، وأخذ من تظهر الكأس في أمتعته ثمنا للكأس، تبدت الحصافة {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } [يوسف : 76]» وتركهم يعودون بدونه؛ ثم يرتدون بأوعيتهم إليه، فيكشف لهم في هذه المرة عن نفسه، بعد أن يلقي عليهم هذا الدرس، وبعد أن يحملهم تلك المشقة!

وهذه كلها تصرفات الرجل الواعي الحصيف.

4- وكنا نودّ أن نعرض شخصية آدم وشخصية إبليس هذا العرض المفصّل ، ولكننا نكتفي بالإجمال فيهما لأن لدينا قصة أخرى سنعرضها تفصيلا.

إن شخصية آدم في قصص القرآن لنموذج «للإنسان» بكل مقوماته وخصائصه. ومن أظهر تلك المقومات والخصائص ذلك الضعف البشري الأكبر الذي يجمع كل نواحي الضعف الأخرى.

فيها الضعف أمام الرغبة في الخلود. وقد لمس إبليس موضع الضعف هذا فاستجاب له آدم واستجابت له حواء : «قال : هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى». فالإنسان الفاني حريص على الخلود أبدا، فلما لم ينله كما مناه الشيطان، ظل وسيظل يحاوله بمختلف الطرق. بالنسل وبالذكر وبالخيال. فإن لم ينفعه هذا كله نفعه الدين الذي يضمن له البعث مرة أخرى، ويضمن له نوعا من الخلود أيضا!

أما شخصية إبليس فهي شخصية الشيطان وكفى ...!

5- والآن نعرض أشد القصص إبرازا للسمات الشخصية فيما نرى، وأدخلها في الفن الخالص كذلك، مع وفائها التام بالغرض الديني.

إنها قصة سليمان مع بلقيس. وكلاهما شخصية واضحة فيها :

شخصية «الرجل» وشخصية «المرأة». ثم شخصية «الملك النبي» وشخصية «الملكة». فلننظر كيف يبرز أولئك جميعا.

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } [النمل : 20، 21]

فهذا هو المشهد الأول. فيه «الملك الحازم» و«النبي العادل» و«الرجل الحكيم». إنه الملك يتفقد رعيته، وإنه ليغضب لمخالفة النظام، والتغيب بلا إذن. ولكنه ليس سلطانا جائرا، فقد يكون للغائب عذره، فإن كان فبها، وإلا فالفرصة لم تفت، وليعذّبنّه عذابا شديدا أو ليذبحنّه.

{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ «3» فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل : 22 - 26]

فهذا هو المشهد الثاني- عودة الغائب- وهو يعلم حزم الملك وشدة بطشه فهو يبدأ حديثه بمفاجأة يعدها للملك تبرر غيبته، وافتتاحها يضمن إصغاء الملك إليه : {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} . فأي ملك لا يستمع، وأحد رعيته الصغار يقول له : {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} ثم ها هو ذا الغائب يعرض النبأ مفصّلا؛ وإنه ليحس إصغاء الملك له، واهتمامه بنبئه؛ فهو يطنب فيه، وهو يتفلسف، فينكر على القوم : {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ‏ءَ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ}. وإنه حتى هذه اللحظة لفي موقف المذنب، فالملك لم يرد عليه بعد. فهو يلمّح بأن هناك إلها {هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ليطامن الملك من عظمته الإنسانية، أمام هذه العظمة الإلهية!

{ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل : 27 ، 28] .

فهذا هو المشهد الثاني في شطره الأخير. فيه الملك الحازم العادل. فالنبأ العظيم لم يستخف «الملك» وهذا العذر لم ينه قضية الجندي المخالف للنظام ، والفرصة مهيّأة للتحقيق، كما يصنع «النبيّ» العادل، والرجل «الحكيم».

ثم ها نحن أولاء- النظارة- لا نعلم شيئا مما في الكتاب، إن شيئا منه لم يذع قبل وصوله إلى الملكة! فإذا وصل فهي التي تذيعه. ويبدأ المشهد الثالث :

{ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل : 29 - 31]

وها هي ذي «الملكة» تطوي الكتاب، وتوجه إلى مستشاريها الحديث :

{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل : 32]

وكعادة العسكريين في كل زمان ومكان، لا بد أن يظهروا استعدادهم العسكري في كل لحظة. وإلّا أبطلوا وظيفتهم. مع تفويض الأمر للرئاسة العليا كما يقتضي النظام والطاعة :

{ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل : 33]

وهنا تظهر «المرأة» من خلف «الملكة»، المرأة التي تكره الحرب والتدمير، والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل سلاح القوّة والمخاشنة، والتي تتهيّأ في صميمها لمواجهة «الرجل» بغير العداء والخصام!

{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل : 34 ، 35] .

ويسدل الستار هنا، ليرفع هناك عند سليمان :

{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ  (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل : 36 ، 37] .

والآن لقد ردّ الرسل بهديتهم، فلندعهم في الطريق قافلين.

إن سليمان النبي لملك، وإنه كذلك لرجل. وإن «الملك» ليدرك من تجاربه أن هذا الرد العنيف سينهي الأمر مع ملكة لا تريد العداء - كما يبدو من هديتها له - وأنها ستجيب دعوته على وجه الترجيح، بل التحقيق ، وهنا يستيقظ «الرجل» الذي يريد أن يبهر «المرأة» بقوته وبسلطانه (وسليمان هو ابن داود صاحب التسع والتسعين نعجة الذي فتن في نعجة واحدة) «4».

فها هو ذا يريد أن يأتي بعرش الملكة قبل أن تجي‏ء. وأن يمهد لها الصرح من قوارير (وإن كانت القصة تبقي الصرح سرّا- حتى عنا نحن النظارة- لتفاجئنا به مع بلقيس في المشهد الأخير) :

{ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل : 38، 39]

ولكن الأهداف الدينية لا تريد أن يكون للجن قوّة، ولو كانوا من جن سليمان. فها هو ذا رجل من المؤمنين- عنده علم من الكتاب- تفوق قوته قوة ذلك العفريت! {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [النمل : 40]

وهنا فجوة كما تغمض العين، ثم تفتح :

{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل : 40]

لقد استيقظ «النبي» في نفس سليمان، أمام نعمة اللّه التي تتحقق على يديّ عبد من عباد اللّه؛ وهنا يستطرد سليمان في الشكر على النعمة بما يحقق الغرض الديني للقصة.

ثم ها هو ذا «الرجل» يستيقظ في سليمان مرة أخرى :

{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل : 41]

و هنا يتهيّأ المسرح لاستقبال الملكة؛ ونمسك نحن أنفاسنا في ارتقاب مقدمها :

{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ..} [النمل : 42]

ثم ماذا ؟ إن الملكة لم تسلم بعد من هذه المفاجأة - فيما يبدو- :

{وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ } [النمل : 43]

و هنا تتم المفاجأة الثانية للملكة ولنا معها :

{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [النمل : 44]

وهكذا كانت بلقيس «امرأة» كاملة : تتقي الحرب والتدمير؛ وتستخدم الحيلة والملاطفة، بدل المجاهرة والمخاشنة؛ ثم لا تسلّم لأول وهلة. فالمفاجأة الأولى تمر فلا تسلم؛ فإذا بهرتها المفاجأة الثانية، وأحست بغريزتها أن إعداد المفاجأة لها دليل على عناية «الرجل» بها، ألقت السلاح، وألقت بنفسها إلى الرجل الذي بهرها، وأبدى اهتمامه بها، بعد الحذر الأصيل في طبيعة المرأة، والتردد الخالد في نفس حواء!

وهنا يسدل الستار. فما في القصة من الوجهة الدينية، ولا من الوجهة الفنية زيادة لمستزيد، إلا أن يحاول عقدا أخرى فنية بحتة، لا تتصل بالغرض الديني ولا تساوقه. وإنه لحسب قصة دينية وجهتها الدين وحده، أن تبرز هذه الانفعالات النفسية، وأن ترسم هذه «النماذج الإنسانية» وأن تعرضها هذا العرض، وتنسقها ذلك التنسيق.

وبهذا البيان تختم فصل القصة في القرآن، وفيها وراء ذلك متسع لمن شاء البيان.

__________________________

(1) أنا أرى أن الهم هنا كان متبادلا في اللحظة الأولى، ثم رأى برهان ربه فئاب إلى نفسه ولست أرى ان الهم ثم الترك مما يتعارض مع عصمة الأنبياء. فيكفيه عصمة ان لم يفعل.

و متعلق (لو لا) ليس هو «وهم بها» حتى يكون ممتنعا. إنما هو محذوف مفهوم مما بعده وهو فراره منه وقدّ قميصه من دبر. ولا داعي لأي تأويل آخر.

(2) في قول يوسف ذاته هنا ما يؤيد تفسيرنا الذي أسلفنا فالنفس أمارة بالسوء ولقد أمرته، فما يبرئ نفسه من الأمر، ولكنه استعصم، ورأى برهان ربه فأمسك. وهي عصمة لا شك فيها بعد الفتنة التي تعرض لشبيهة لها نبي اللّه داود كذلك في قصة النعجة الواحدة والتسع والتسعين نعجة.

(3) المخبوء.

(4) في قصة داود في القرآن إشارة إلى فتنته بامرأة - مع كثرة نسائه - فأرسل اللّه إليه ملكين يتخاصمان عنده‏ {إِذْ دَخَلُوا عَلى‏ داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا : لا تَخَفْ. خَصْمانِ بَغى‏ بَعْضُنا عَلى‏ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى‏ سَواءِ الصِّراطِ. إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ : أَكْفِلْنِيها وعَزَّنِي فِي الْخِطابِ. قالَ :

لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى‏ نِعاجِهِ ...!} ... وعرف داود أنها الفتنة {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ راكِعاً وأَنابَ}.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .