التاريخ والحضارة
التاريخ
الحضارة
ابرز المؤرخين
اقوام وادي الرافدين
السومريون
الساميون
اقوام مجهولة
العصور الحجرية
عصر ماقبل التاريخ
العصور الحجرية في العراق
العصور القديمة في مصر
العصور القديمة في الشام
العصور القديمة في العالم
العصر الشبيه بالكتابي
العصر الحجري المعدني
العصر البابلي القديم
عصر فجر السلالات
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
الاراميون
الاشوريون
الاكديون
بابل
لكش
سلالة اور
العهود الاجنبية القديمة في العراق
الاخمينيون
المقدونيون
السلوقيون
الفرثيون
الساسانيون
احوال العرب قبل الاسلام
عرب قبل الاسلام
ايام العرب قبل الاسلام
مدن عربية قديمة
الحضر
الحميريون
الغساسنة
المعينيون
المناذرة
اليمن
بطرا والانباط
تدمر
حضرموت
سبأ
قتبان
كندة
مكة
التاريخ الاسلامي
السيرة النبوية
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام
الخلفاء الاربعة
ابو بكر بن ابي قحافة
عمربن الخطاب
عثمان بن عفان
علي ابن ابي طالب (عليه السلام)
الامام علي (عليه السلام)
اصحاب الامام علي (عليه السلام)
الدولة الاموية
الدولة الاموية *
الدولة الاموية في الشام
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد بن ابي سفيان
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز
يزيد بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك
مروان بن محمد
الدولة الاموية في الاندلس
احوال الاندلس في الدولة الاموية
امراء الاندلس في الدولة الاموية
الدولة العباسية
الدولة العباسية *
خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى
ابو العباس السفاح
ابو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الامين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
خلفاء بني العباس المرحلة الثانية
عصر سيطرة العسكريين الترك
المنتصر بالله
المستعين بالله
المعتزبالله
المهتدي بالله
المعتمد بالله
المعتضد بالله
المكتفي بالله
المقتدر بالله
القاهر بالله
الراضي بالله
المتقي بالله
المستكفي بالله
عصر السيطرة البويهية العسكرية
المطيع لله
الطائع لله
القادر بالله
القائم بامرالله
عصر سيطرة السلاجقة
المقتدي بالله
المستظهر بالله
المسترشد بالله
الراشد بالله
المقتفي لامر الله
المستنجد بالله
المستضيء بامر الله
الناصر لدين الله
الظاهر لدين الله
المستنصر بامر الله
المستعصم بالله
تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام
شخصيات تاريخية مهمة
تاريخ الأندلس
طرف ونوادر تاريخية
التاريخ الحديث والمعاصر
التاريخ الحديث والمعاصر للعراق
تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي
تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني
تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق
تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى
العهد الملكي للعراق
الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق
قيام الجهورية العراقية
الاحتلال المغولي للبلاد العربية
الاحتلال العثماني للوطن العربي
الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية
الثورة الصناعية في اوربا
تاريخ الحضارة الأوربية
التاريخ الأوربي القديم و الوسيط
التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
احوال مصر العمرانية والفكرية في عصر الاسر المصرية القديمة
المؤلف: عبد العزيز صالح
المصدر: الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق
الجزء والصفحة: ص83-88
3-10-2016
1537
في العمران والفكر:
تركزت وجوه النشاط السياسي والديني في عصر بداية الأسرات، في ثلاث مدن كبيرة، وهي نخن وثني وإنب حج(1). وسوف نكتفي هنا بالحديث عن "إنب حج" التي اشتهرت فيما بعد باسم "منف"، وسوف نستخدم هذا الاسم الأخير للتعبير عنها فيما يلي نظرًا لشيوعه.
كانت إنب حج أو "منف" ثالثة المدن الكبرى في عصر بداية الأسرات من حيث الزمن، ولكنها ظلت أوفرها مجدًا وأبقاها شهرة. وتعددت الاحتمالات حول ترجمة اسمها الأول إنب حج، فهو قد يعني الجدار الأبيض، أو الحصن الأبيض، أو السور الأبيض، أو الأسوار البيضاء، ويمكن التعبير به عنها كمدينة بألفاظ شعرية، مثل الحوراء(2)، والحصن الأبلق، ... إلخ. أما اسم منف فكان تحريفًا لاسم "مننفر" الذي جد على المدينة بعد هذا العصر بعدة قرون خلال عصر الأسرة السادسة، وكان يخص هرم الملك ببي الأول القريب منها ويصفه بأنه الأثر الجميل أو الاستقرار الأخير، ثم أطلق فيما بعد على المدينة كلها.
نشأت المدينة قرب منطقة ذات تاريخ حضاري قديم، قامت فيها في فجر التاريخ حضارات حلوان وطرة والمعادي إلى جنوب القاهرة الحالية. ووقعت غربي النيل وكانت تصلها مياه فيضانه، وقامت لها ميناء نهرية لعلها كانت قرب محطة البدرشين وإن بعدت عنها أطلالها المتأخرة في قرية ميت رهينة الحالية بنحو ثلاثة كيلومترات. ودل على تحول أغلب النشاط الإداري إلى منف منذ أوائل عصر بداية الأسرات، ثلاث قرائن، وهي: احتفال ملوك العصر ببعض أعيادهم الرسمية وأعياد أربابهم فيها، وتأكيد نصوص المذهب المنفي في خلق الوجود "انظر ص88" أنها كانت مركزًا رئيسيًّا للفصل في منازعات العرش والفصل في قضايا الأرباب منذ الأزل القديم، ثم وجود عدد كبير من المقابر الضخمة لكبار موظفي عصر بداية الأسرات في جبانتها سقارة، وقد أنشئوها بطبيعة الحال قرب مقر أعمالهم، وامتازت عن هذه المقابر خمس أخرى تحتمل نسبتها إلى ثلاثة ملوك من الأسرة الأولى وملكين من الأسرة الثانية.
وليس من شك في أن العامل الرئيسي في اختيار موقع منف مركزًا للنشاط الحكومي في عصر بداية الأسرات هو توسطها بين النهاية الشمالية للصعيد وبين النهاية الجنوبية للدلتا. وسهولة الإشراف منها على شئون الوجه البحري بخاصة. واستنتج الأستاذ كورت زيته مما ذكرته النصوص الدينية عنها، ومما رواه المؤرخان هيرودوت وديودور بشأنها وسمعاه من المصريين الذين عاصروهما (3)، أن أحد فروع النيل كان يطغى على منطقتها فيجعلها كالمستنقع الكبير ويجعلها أرضها أشبه بالجزيرة الطافية أو الأرض الناهضة التي سميت "تاثنن" في النصوص المصرية القديمة. فعمد أول ملوك العصر، أو عمد مهندسوه وعماله بمعنى أصح، إلى تحويل فرع النيل عنها ناحية الغرب، ثم شقوا قناة أخرى عن قرب منها ناحية الشمال، وبذلك جفت منطقتها، وتوفرت لها حماية طبيعية مناسبة، فأصبح النيل يحميها من الشرق وفرعه يحميها من الغرب والقناة الجديدة تحميها من الشمال, ولم يكتف منشئ المدينة لها بالحماية الطبيعية وحدها، وإنما سورت بسور أو أسوار كبيرة أحاطتها من كل جانب فيما خلا ناحية الجنوب التي واجهت الصعيد، فقد ظلت مفتوحة. ويمكن تعليل تحصينها حينذاك بأحد غرضين، فهو قد يكون مجرد إجراء عادي لتعيين حدودها وتمييزها ويختلف هذا التصوير عما تذكره بعض المؤلفات من أن منى أول ملوك الأسرة الأولى قد حول مجرى النيل عن منف. إذ إن تحويل مجرى النيل ليس بالأمر اليسير ويصعب تخيله لأهل ذلك العصر البعيد.
عن المجتمع الريفي المحيط بها، شأنها في ذلك شأن غيرها من المدن الرئيسية في عصرها، أو يكون تحصينًا مقصودًا لذاته، جعله أوائل ملوك الأسرة الأولى ضمانًا لأمن العاصمة من الانتقاضات المحتملة من الوجه البحري الذي كان قد أدمج لتوه في الوحدة السياسية الجديدة تحت زعامة ملوك من الصعيد.
ونسب المصريون الألوهية الكبرى في منف إلى بتاح، وكان من أوائل المعبودات التي صورت بصورة بشرية منذ ما قبل عصر بداية الأسرات، وظل محتفظًا بها حتى نهاية عصور التاريخ المصري القديم. وكان يشاركه شهرته في مدينته معبود آخر وهو "سكر" الذي اعتبره أتباعه من رعاة الحرث والزراعة وتوهموه يسكن تحت الأرض فأصبح من ثم راعيًا كذلك لمن يسكنون تحتها في منطقته وهم الموتى، وكان له مزاره في جبانة سقارة التي سميت باسمه.
وضرب فقهاء المدينة بسهم وافر في رقي الفكر والعقيدة، وصور هذا الرقي نص لوحة حجرية عرفت اصطلاحًا باسم لوحة شاباكا، وهي لوحة نقش نصها خلال عصر الأسرة الخامسة والعشرين في نهاية القرن الثامن ق. م. وجدد كاتبها بإذن ملكه شاباكا نصًّا قديمًا كتبه أصحابه على الجلد أو البردي وأوشكت الأرضة أن تأتي عليه، وكان نصًّا تضمن مذهب مفكري منف في نشأة الوجود، وعرف اصطلاحًا تبعًا لذلك باسم المذهب المنفي. وربما تجدد كتابته عدة مرات منذ بداية الأسرات حتى ما قبل عهد شاباكا، وإن لم يعثر بعد للأسف على أي من نسخه القديمة.
وود زعماء منف أن يكفلوا لمدينتهم زعامة الفكر والدين والأدب إلى جانب ما توافر لها من زعامة الإدارة والسياسة، وابتغوا أن يقنعوا الناس بأنه كان لإله مدينتهم الأثر الأصيل القديم في نشأة الوجود والموجودات، وهو الإله بتاح الذي قد يعني اسمه معنى الصانع أو الخلاق، ولقبوه بلقب "تاثنن" بمعنى "رب" الأرض العالية أو الناهضة. فأدلوا برأيهم في منافسة وتعديل مذهب الخلق القديم الذي نادت به مدينة أونو المجاورة لمدينتهم، والذي تحدث علماؤها فيه عن ماض بعيد لم تكن فيه أرض ولا سماء ولا بشر، وما من دودة أو علقة، وما من حس أو حسيس، وما من موت أو حياة، وما من نزاع أو خصام، وإنما خضم مائي أزلي واسع حوى بين طياته عنصر الحياة لكل شيء، وهو "نون" الذي خرج منه الإله الخالق أتوم ثم تعاقب بعده بقية التاسوع المقدس .
وتدبر مفكرو منف عقائد أخرى تتصل بديانة عصرهم وسياسته، ثم خرجوا على الناس بمذهب جديد يصطبغ بالمعنوية أكثر مما يصطبغ بالمادية، وجعلوا صلبه الدين وأكسبوه إهاب التاريخ. وردوا فيه خلق الوجود وما احتواه إلى قدرة عاقلة مدبرة آمرة، وتمثلوا هذه القدرة العاقلة الآمرة في إلههم بتاح، وأكدوا أنه أوجد نفسه بنفسه، وأبدع الكون ومعبوداته وناسه وحيواناته وديدانه عن قصد منه ورغبة، وأن سبيله إلى الخلق كله كان هو سبيل القلب واللسان. أي الفكر والكلمة، فكرة تدبرها قلبه أو عقله وأصدرها لسانه فكان من أمر الخلق ما كان. وكان لفظ القلب يعني عندهم ما يشمله مثله في اللغة العربية من معاني العقل والفكر والإرادة والضمير، كما عنى لفظ اللسان معنى أداة النطق والأمر والكلام. وأكدوا أنه عن سبيل القلب واللسان، أو الفكر والكلمة، بدأ سعي الأرجل وحركات الأذرع وخلجات الأعضاء، وصدرت الشرائع وتهيأت الموارد وتعينت العبادات، وحق الأمان لأهل السلام وحق العقاب على أهل الآثام (4). وهكذا اتجهوا بفكرة الخالق والخلق في مذهبهم إلى التجريد والمعنوية وعدلوا بها عن مادية التجسيد في مذهب عين شمس، وأوشكوا أن يرهصوا ببعض ما أكدته الكتب السماوية، حين ردوا الخلق إلى القلب واللسان بمعنى الإرادة والأمر، واقتربوا بذلك من قول التنزيل الحكيم { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران: 47] ولم يعتبروا ربهم خالقًا فحسب وإنما اعتبروه مشرعًا وعادلًا أيضًا. ولم يفسد عليهم سمو تفكيرهم إلا أنهم اعترفوا بوجود أرباب كثيرين إلى جانبه وبرروا ذلك بأنه خلقهم من نفسه وتعهدهم وأمر بعبادتهم والاهتمام بمعابدهم باعتبارهم صورًا منه أو أقانيم له. وإن كان الحقيقة أنهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا مما ألفه أسلافهم وورثوه عنهم من عبادتهم.
حفلت مدن عصر بداية الأسرات بعمرانها، وتمثلت قرائن هذا العمران فيما ذكرناه عن أطلال أسوارها وحصونها ومعابدها، كما تمثلت في رسول ونقوش مختصرة صورها أهل العصر على آثارهم الصغيرة، ورمزوا ببعضها إلى واجهات قصور ملوكهم وواجهات أسوارها. وكانت قصورًا كبيرة فخمة، شيدت من اللبن، واستخدم الحجر فيها على نطاق ضيق لإقامة أعتاب الأبواب وأكتافها وللأعمدة. وتعاقبت في أسوارها دخلات عميقة "تسمى اصطلاحًا باسم المشكاوات" تمتد رأسيًّا بارتفاع جدرانها وتتعاقب على جوانب الأبواب، وتبعد كل دخلة منها عن الدخلة التي تليها بمسافة متساوية. وكان الهدف منها أن تقلل حدة الاستقامة في واجهات الأسوار المتسعة، وإذا لونت جوانبها وسطوحها الداخلية وزخرفت برسوم النباتات والزهور احتفظت بألوانها أطول مدة ممكنة وخلعت على مبناها صورة بهيجة مستحبة. ومن المحتمل أن الحراس كانوا يستظلون فيها من الشمس ويحتمون فيها من برد الليل حين الضرورة. وتوسط واجهة كل قصر من هذه القصور مدخلان يرمز أحدهما إلى الصعيد ويرمز الآخر إلى الدلتا؛ أو ثلاثة مداخل: مدخل ملكي رئيسي واسع ومدخلان صغيران على جانبيه(5).
ويغلب على الظن أن مباني قصور الأمراء وكبار الموظفين، كانت على شيء قريب من فخامة قصور الفراعنة، أو على الأقل لم تكن تقل فخامة وضخامة عن مباني قبور أصحابها التي لا تزال أطلالها باقية. ويبدو أن جدران حجراتها الرئيسية كانت تكسى من الداخل بالحصير الملون الفاخر الذي يقوم مقام الستائر أو الطنافس الحالية، وأنها كانت ذات حدائق وأحواض ماء داخلية، وتطل على شوارع متقاطعة ممهدة عبرت عن تناسقها رموز المدن المصورة على آثار عصرها. ولم تبق من أمثال هذه المساكن باقية، ولا تقتصر هذه الظاهرة على مساكن عصر بداية الأسرات وحده، وإنما تنطبق كذلك على أغلب المباني الدنيوية في عصور مصر القديمة، وفيما يعاصرها من مباني الحضارات الأخرى أيضًا؛ نتيجة لعدة أسباب، كان من أهمها: بناء غالبية هذه المباني من اللبن سريع التهدم، وكثرة استعمالها مما كان يؤدي إلى استهلاكها، ثم بناء مساكن العصور المتتالية على أنقاض مساكن العصور السابقة لها. وهكذا لم يتبق شيء منها إلا حيث أدت الظروف على هجران بلدة ما لأسباب قاهرة ثم تغطية الرمال والرديم عليها بعد هجرها أو نسيانها. وكان لاستخدام اللبن في بناء المساكن ما يبرره في دنيا الفقراء ودنيا الأغنياء على السواء، فيبرره للفقراء توافره وقلة الكلفة في البناء به، ويبرره للأغنياء ملاءمته لبيئة الشرق الحارة قليلة الأمطار، واللبن عازل جيد لا تتسرب الحرارة الداخلية منه بسهولة ولا يمتص الحرارة الخارجية بسهولة. ثم هي العادة أخيرًا اعتادها الناس في بناء مساكنهم أغنياء وفقراء. غير أنه لم يكن من الطبيعي بناء المسكن كله من اللبن، وإنما كانت أعتابه وأكتافه أبوابه وأعتاب نوافذه تصنع من الحجر كما أسلفنا، وأعمدته الداخلية كانت تنحت من الحجر كذلك إذا حملت فوقها ثقلًا كبيرًا. أو تصنع من الخشب إذا حملت ثقلًا خفيفًا، أو تبنى من اللبن المكسو بالملاط إذا كان الثقل فوقها بين بين.
أما عن بيوت الآخرة وهي المقابر التي كانت تستخدم للدفن لمرة واحدة أو لمرات معدودات، وتشيد في مناطق الحواف الصحراوية الجافة وتنحت أجزاؤها السفلى على أقل تقدير في باطن الصخر، ثم تكتسب بعد ذلك شيئًا من الحرمة أو القداسة، فلا زال الباقي منها أكثر من غيرها. وانتشرت بقاياها الحالية من عصر بداية الأسرات في مناطق كثيرة من الصعيد وأطراف الوجه البحري (6). واختلف طرازها بعض الشيء في كل من الوجهين عن الآخر. وظلت أكثرها احتفاظًا بأجزائها العلوية هي مقابر سقارة التي سوق نكتفي فيما يلي بعرض خصائصها العامة.
امتازت مقابر سقارة بضخامتها واتساعها وبقاء أغلب أجزائها العلوية المبنية باللبن، وتضمنت حجرات قليلة منحوتة في الصخر حول حجرة الدفن تحت سطح الأرض وحجرات أخرى كثيرة داخل بناء المصطبة فوق سطح الأرض. وتعاقبت في واجهاتها الأربع دخلات "أو مشكاوات" رأسية تفاوتت في اتساعها وفي مدى إتقان بنائها وزخارفها من مصطبة إلى أخرى. ويستنتج من أطلال المصاطب الكبيرة منها أنه كان يحيط بكل واحدة منها سوران، وأن ما بين السورين كان يستخدم لأداء الشعائر الدينية للموتى وتقديم القرابين واجتماع الأهل في المواسم الدينية والتقليدية. وأن بعض هذه المصاطب كانت تحفر بجانبه حفرة على هيئة مركب تليس بالطين أو تكسى بقوالب اللبن. وربما وضعت فيها مركب خشبية حقيقية، وفي هذه الحالة قد تكون المركب الخشبية هي المركب التي نقل أهل المتوفى جثته فيها على النيل ثم آثروه بها وحرموا ركوبها على غيره، أو تكون مركبًا صنعت ليوم وفاته ليستخدمها في عالمه الآخر استخدامًا يناسبه، كأن يتنقل بها في أنهار الجنة أو يحج بها إلى مدن الحج العتيقة. ومن الاستثناءات اللطيفة في هذه المصاطب أن البعض منها غرست في الأرض أمام واجهاتها رؤوس ثيران ضخمة شكلت من الطمي وزودت بقرون حقيقية، فبدت كما لو كانت تخرج من عالم آخر بعيد أو من محيط مائي عميق. ويبدو أن أمثال هذه الرؤوس كانت تعلو أسوار بعض المصاطب أيضًا، وأنها كانت ترمز إلى المعبود حاب أحد أرباب منف وسقارة. وثمة استثناء آخر نفذه أحد المعماريين في مصطبة ثرى يدعى "نبت كا" حيث بنى جزأها العلوي على هيئة مسطح أفقي متسع تؤدي إليه درجات متعاقبة ضيقة من جهاته الأربع بحيث جعلت المقبرة على هيئة المصطبة المدرجة. ثم اهتدى غيره من المعماريين في عهده أو بعده بقليل إلى مرحلتين أخريين من التطور في بناء المصطبة، وتعمدوا في المرحلتين أن يدعموا جوانبها ويعملوا على حماية المدخل المؤدي إلى جزئها الأسفل. ونفذوا المرحلة الأولى ببناء إضافة من اللبن أحاطت بالمصطبة من كل جهاتها ولكنها قلت ارتفاعًا عنها وازادت سمك أسافل جدرانها. ثم أتموا المرحلة الثانية ببناء إضافة جديدة تشبه الإضافة الأولى وتعتمد عليها وتقل ارتفاعًا عنها. ولما أدت الإضافتان غرضهما العملي، وهو تقوية جوانب المصطبة وحماية مدخلها، ظهر لهما في مخيلة المعماريين غرض آخر فني، وهو إظهار المصطبة ذات السطح الواحد بمظهر المصطبة المدرجة ذات السطوح الثلاثة أو ذات الدرجات الثلاث، وذلك مما سيصبح أساسًا فيما بعد لفكرة الهرم المدرج.
ونسب الأثري ولتر إمري خمس مقابر من مقابر سقارة، إلى خمسة ملوك من ملوك بداية الأسرات، كما أسلفنا، على الرغم من أن منهم من شادوا لأنفسهم مقابر أخرى في جبانة أبيدوس المجاورة لمدينة ثني بالصعيد. وبرر إمري ذلك بأنه كان لكل ملك مصري قبران، قبر باعتباره ملكًا للوجه البحري وقبر باعتباره ملكًا للوجه القبلي، وأن كل قبر منهما كان يبنى بأسلوب العمارة وتقاليد الدفن الشائعة في أحد الوجهين. ولما لم يكن من المعقول دفن الملك في قبرين، كان لا بد أن يكون أحدهم قبرًا فعليًّا والآخر ضريحًا رمزيًّا. ودهب عدد من الباحثين، في شيء من التردد، إلى أن مقابر سقارة كانت هي المقابر الفعلية؛ لاتصالها بمدينة منف عاصمة الحكم الرئيسية، وأن مقابر أبيدوس كانت مقابر رمزية تشبه المزارات والأضرحة، أقامها ملوك عصر بداية الأسرات قرب مدينة ثني عاصمة الحكم القديمة وفاء لها وتأكيدًا لاعتزازهم بالانتساب إليها (7).
وللرأي السابق منطقيته؛ نظرًا لضخامة مقابر سقارة وفخامتها عن مقابر أبيدوس، ولكثرة الأتباع المدفونين حولها عن مقابر أبيدوس، وإن أمكن أن يعترض عليه في الوقت نفسه بعدة قرائن ومنها:
أ- أن مقابر سقارة نفذت بطراز معماري متشابه في مجموعها، فيما خلا تعديلات فردية قليلة، ولو صح أن بعضها كانت مقابر ملكية فعلًا لتميزت هذه المقابر الملكية عما سواها باتساعها وبأسلوب بنائها.
ب- أن المقابر الأبيدية تضمنت نصبًا حجرية نقشت عليها أسماء أصحابها، وامتازت الملكية منها بضخامتها وصلابة أحجارها ووضوح نقوشها، ودل بعضها على ذروة عالية في براعة النقش ومهارة الصناعة (8)، ولم تتضمن مقابر سقارة أمثالها.
ج- عثر داخل المقبرة المنسوبة إلى الملك جر ثاني ملوك الأسرة الأولى في أبيدوس، على ذراع آدمية كفنت بالكتان وتحلت بأربع أساور، ومن المرجح أنها كانت ذراع زوجة جر وأنها هي كل ما تبقى من جسدها، كما أن بعض أختام المقبرة حملت اسمها وألقابها (9). وإذا صح هذا الترجيح، كان معناه أن المقبرة الأبيدية خصصت للدفن فعلًا، ولم تكن مجرد ضريح رمزي، وربما دفن جر نفسه فيها أو بقربها، حيث لم يكن من المقبول أن تدفن زوجته في أقاصي الصعيد، ويدفن هو قرب رأس الدلتا.
واحتفظت بعض المقابر السابقة بما عبرت به عن الشوط الواسع الذي قطعته المهارات الفنية في عصرها. فاحتفظت مقبرة حماكا في سقارة بعدد من أقراص كبيرة وصغيرة من الألباستر والشست تعتبر بصناعتها ورقتها وزخارفها آية لرقي الصناعة في عصرها، وصناديق صغيرة مطعمة، وسهام وحراب، وأوان للمشروبات والزيوت التي اعتقد صاحبها أنه سوف ينتفع بها في أخراه. واحتفظت مقابر أخرى في حلوان من نهاية العصر نفسه بكؤوس وطاسات من الصخر البللوري تكاد تكشف سطوحها الخارجية عن دواخلها، وانثنت أطرافها إلى الداخل والخارج كما تنثني أوراق الرسم المقواة الحالية، وبلغت حدًّا من الرقة والروعة قل أن فاقته صناعة أمثالها في العصور الأخرى، واحتفظت أيضًا بكأس صغيرة مصمتة قلدت هيئة زهرة اللوتس الملونة، وصحاف من الشست قلدت هيئة أوراق التين، وأخرى قلدت هيئة صحاف الخوص المحدولة، وكل ذلك مما ينم عن حذف صناعتها وسلامة أذواقها كما ينم عن ترف أصحابها.
وقطعت صناعة الحلي نفس الشوط، وأمتع ما يستشهد به من روائعها هي الأربع الأساور التي وجدت في أبيدوس ونسبت إلى زوجة الملك جر، وقد صيغت حباتها ووحداتها من الذهب والفيروزج والجمشت على هيئة زهيرات رقيقة وحبيبات كرية وحبيبات قلدت قطرات الماء، ووحدات قلدت هيئة واجهات القصور الملكية. ثم حليات أخرى ذهبية رقيقة وجدت في نجع الدير وقدت هيئات وعول وعجول مدللة أحاط أصحابها أعناقها بتمائم لطيفة.
والخلاصة أن وسائل أهل عصر بداية الأسرات في النشاط الداخلي كانت وسائل عدة، اتجهوا فيها إلى استغلال موارد البلاد الطبيعية استغلالًا يفوق ما كانت تستغل به قبلهم, وحولوا توحيد طابع الحضارة الفنية والمعمارية لمصر كلها وصبغها بصبغة واحدة متجانسة، وعملوا على تجميع الكفايات الإدارية والفنية في عاصمتهم، والارتقاء بالكتابة وتوسيع استخدامها في شئون الإدارة والعقائد، وإرساء أسس مشاريع الري والزراعة وتنظيمات الضرائب وحكم الأقاليم.
وكان من صور استغلال الموارد الطبيعية في عصرهم استغلال المحاجر والمناجم، فاستخدموا الديوريت والجرانيت والأحجار الجيرية لرصف أرضيت المقابر الملكية وتسقيفها وعمل نصبها، واستخدموها في بناء بوابات بعض المعابد الكبيرة، وربما واجهاتها أيضًا، وإذا استشهدنا باستخدام الحجر في المقابر والمعابد دون غيرها، فمرجع ذلك إلى ما أسلفناه من أن المقابر والمعابد هي التي بقيت حتى الآن دون المساكن ومن المحتمل أن أنواع الأحجار نفسها استخدمت في بناء أكتاف أبواب القصور وأساطينها وأرضياتها كما أشرنا من قبل.
ونجح أهل العصر فيما أرادوه من صبغ الحضارة المادية المصرية بصبغة متجانسة، فتشابهت آثارهم التي تركوها عند رأس الدلتا، مع آثارهم التي تركوها في مصر الوسطى، وآثارهم التي تركوها في الصعيد، في خصائصها الرئيسية وإن تنوعت في أذواقها وتفاصيلها المحلية. وكان فنانو البلاط الملكي وتلاميذهم هم أدوات التجانس في هذه الآثار، فعملوا بأسماء ملوكهم في أنحاء الوادي كله، وعملوا بإذن ملوكهم في خدمة رجال بلاطهم حيثما استقر مقامهم وأقيمت مقابرهم.
__________
(1) راجع المؤلف عن هذه المدن الثلاثة: حضارة مصر القديمة وآثارها - ج1 ص279 - 287.
(2) Papyrus Sallier, Iv, Vs., I, 1 F.
(3) Herodotus, Ii, 4, 99; Diodorus, I, 50; Sethe, Unters, Iii, 125.
(4) See, A. Erman, Ein Denkmal Memphitischer Theologie, 1911; K. Sethe, Dromatische Texte, 1928; H. Breasted, The Dawn Of Concience, 1933, 29 F. ; H. Junker, Die Gotter;Ehre Von Memphls, 1940.
وراجع: عبد العزيز صالح: "فلسفات نشأة الوجود في مصر القديمة" - المجلة - فبراير 1959، ص39 - 41.
(5) Ajex. Badawy, Le Dessin Architectural Chez Les Anciens Egyptiens, Le Cairo, 1948, 76 F.; Jequier, L'archiecture, 1924; H. Baicz, Die Altogyptische Wandgiederung, 54 F.; W. Wolf, Zaes, Lvii, 129 F.
(6) See G.A. Reisner, The Development Of The Egyptian Tomb Down To The Accession Of Cheops, 1936; W. B. Emary, Excavations At Saqqara, 1938, 1939, 1949, 1952; J. Vandier, Manual D'archologie Egyptienne, I, 1952.
(7) W. Emery, Hor-Aha, I, Great Tombs, Ii, 1954; Vanier, Op. Cit., Ii, 142 F.
وراجع: دريوتون - فاندييه: مصر - ص153.
(8) Petrie, Royal Tombe, I, Frontispiece, Ii, XXXI; Abydos, I, Pls. V, XIII.
(9) Petrie, R. T. Ii, Frontispiece, Pp. 16-17, Pl. IV, 7.