التاريخ والحضارة
التاريخ
الحضارة
ابرز المؤرخين
اقوام وادي الرافدين
السومريون
الساميون
اقوام مجهولة
العصور الحجرية
عصر ماقبل التاريخ
العصور الحجرية في العراق
العصور القديمة في مصر
العصور القديمة في الشام
العصور القديمة في العالم
العصر الشبيه بالكتابي
العصر الحجري المعدني
العصر البابلي القديم
عصر فجر السلالات
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
الاراميون
الاشوريون
الاكديون
بابل
لكش
سلالة اور
العهود الاجنبية القديمة في العراق
الاخمينيون
المقدونيون
السلوقيون
الفرثيون
الساسانيون
احوال العرب قبل الاسلام
عرب قبل الاسلام
ايام العرب قبل الاسلام
مدن عربية قديمة
الحضر
الحميريون
الغساسنة
المعينيون
المناذرة
اليمن
بطرا والانباط
تدمر
حضرموت
سبأ
قتبان
كندة
مكة
التاريخ الاسلامي
السيرة النبوية
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام
الخلفاء الاربعة
ابو بكر بن ابي قحافة
عمربن الخطاب
عثمان بن عفان
علي ابن ابي طالب (عليه السلام)
الامام علي (عليه السلام)
اصحاب الامام علي (عليه السلام)
الدولة الاموية
الدولة الاموية *
الدولة الاموية في الشام
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد بن ابي سفيان
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز
يزيد بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك
مروان بن محمد
الدولة الاموية في الاندلس
احوال الاندلس في الدولة الاموية
امراء الاندلس في الدولة الاموية
الدولة العباسية
الدولة العباسية *
خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى
ابو العباس السفاح
ابو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الامين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
خلفاء بني العباس المرحلة الثانية
عصر سيطرة العسكريين الترك
المنتصر بالله
المستعين بالله
المعتزبالله
المهتدي بالله
المعتمد بالله
المعتضد بالله
المكتفي بالله
المقتدر بالله
القاهر بالله
الراضي بالله
المتقي بالله
المستكفي بالله
عصر السيطرة البويهية العسكرية
المطيع لله
الطائع لله
القادر بالله
القائم بامرالله
عصر سيطرة السلاجقة
المقتدي بالله
المستظهر بالله
المسترشد بالله
الراشد بالله
المقتفي لامر الله
المستنجد بالله
المستضيء بامر الله
الناصر لدين الله
الظاهر لدين الله
المستنصر بامر الله
المستعصم بالله
تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام
شخصيات تاريخية مهمة
تاريخ الأندلس
طرف ونوادر تاريخية
التاريخ الحديث والمعاصر
التاريخ الحديث والمعاصر للعراق
تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي
تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني
تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق
تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى
العهد الملكي للعراق
الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق
قيام الجهورية العراقية
الاحتلال المغولي للبلاد العربية
الاحتلال العثماني للوطن العربي
الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية
الثورة الصناعية في اوربا
تاريخ الحضارة الأوربية
التاريخ الأوربي القديم و الوسيط
التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
التاريخ ومنهجية كتابته
المؤلف: طـه بـاقـر
المصدر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة
الجزء والصفحة: ص111-121
10-9-2016
2595
التاريخ ومنهجه:
يحسب بنا ونحن نبحث في تأريخ حضارة وادي الرافدين أن نعرف إلى أي صنف من أصناف المعرفة يرجع موضوع التاريخ. وقد كان هذا الأمر فيما سبق قضية خلاف بين العلماء. ولكن الذي عله ثقات الباحثين الآن، أن التاريخ، استناداً إلى مفهوم العلم (1)، علم من العلوم. بيد أنه ليس من صنف العلوم التي تعتمد على الملاحظة المباشرة كالفلك او على التجربة والمختبر مثل اكثر العلوم الطبيعية ، وإنما هو علم بحث ونقد ونظر. فهو أقرب ما يكون إلى "الجيولوجيا". فكما أن الجيولوجي يبحث في احوال الأرض فيعرف تاريخها وكيف وصلت إلى ما هي عليه الآن، كذلك يبحث المؤرخ في بقايا الماضي وآثاره ليستعين بها على معرفة الحاضر. والتاريخ مثل العلوم الأخرى لعه غرض وموضوع. وموضوعه البحث في أعمال البشر التي وقعت في الماضي. او هو درس المجتمعات البشرية في المكان والزمان.
وإذا كان التأريخ علماً فينبغي أن يكون له مثل العلوم الأخرى منهج أو طريقة للبحث Method))(2) يستطيع بها الوصول إلى مادته وحقائقه. ولكي نعرف شيئاً عن منهج التأريخ بصفته بها الوصول إلى مادته وحقائقه. ولكي نعرف شيئاً عن منهج التأريخ بصفته علماً تؤكد ما أشرنا إليه من اختلافه عن بعض العلوم الأخرى ولا سيما العلوم الطبيعية أو العلوم المضبوطة من حيث أنه لا يعتمد على التجربة لأنها مستحيلة في التأريخ، ولا يستفيد من الملاحظة المباشرة ولا من الدليل العقلي المجرد كما في الرياضيات بل إنه يبحث فيما خلفه الإنسان لمعرفة حاضر الإنسان. وإن مصادره ومادته الاولى يوجه العموم جميع ما خلقه البشر مما يمكن الاستفادة منها كالوثائق والسجلات والآثار المادية مما يعيننا على فهم حضارات الأمم وتقاليدها وأديانها ولغاتها وتفكيرها وغير ذلك من مقومات تلك الحضارات ، وبعبارة موجزة معرفة البشرية والنفس البشرية، ولكن ليس النفس الفردية او الشخصية التي هي موضوع علم النفس بل الطبيعة البشرية وإمكانياتها وحدودها، وماذا استطاع الإنسان ان يفعل وبالنتيجة ما هو الإنسان.
وإذا كان منهج البحث العلمي الذي أوجده الباحثون في العصور الحديثة قد أكسب التأريخ أهلية ليكون علماً إلا أنه لا يزال امام المعترضين على كون التأريخ علماً، مجال للاعتراض بأن التاريخ لا يستطيع أن يجاري العلوم المضبوطة (Exact Sciences) في قدرتها على استنباط القوانين والنواميس من درس العلاقات بين الأشياء ومقارنتها؟، بحيث تستطيع أن تتنبأ بها عن المستقبل تحت شروط وأحوال معينة. أما مسألة التنبؤ (Prediction) فلا تقتصر على كونها غير ممكنة في التاريخ بل إنها خارج اختصاص بحثه، لأن دائرة البحث الخاصة بالمؤرخ كما قلنا حوادث البشر وتجاربهم في الماضي. وقد يحاول المؤرخ استناداً إلى خبرته التاريخية أن يقيس عليها فيحدس ما يقع في المستقبل ولكنه جنة لو صدق في حدسه فإن محاولته هذه ينبغي أن لا تكون بصفته مؤرخاً بحسب مفهوم موضوع التاريخ. اما عن وجود القوانين في التاريخ فيجيب عنه الباحثون المحدثون بأن التاريخ بصفته علماً من العلوم الاجتماعية يجاول جاهداً ان يكتشف القوانين والقواعد الكلية لتفسير حوادث التاريخ، ولكن لما تبلغ هذه القواعد مرتبة قوانين العلوم الطبيعية من الدقة والإطراد، ذلك لأن قانون العلية أو السببية Law of Causality)) في حوادث التاريخ متناهية في التعقيد. فإن الحادثة الاجتماعية مهما بلغت من البساطة إنما تقع بفعل سلسلة متشابكة من العلل بخلاف الوقائع الطبيعية التي يبحث فيها علماء الطبيعة حيث يكون واجبهم في درسها والعلاقات فيما بينها أمراً يسيراً لو قيس بواجب المؤرخ الذي يكون موضوعه ليس أشياء جامدة بل أفعالاً صادرة من فاعلين يتصفون بالفكر والقصد والحوافز المعقدة. ولكن مع ذلك فمعظم حوادث التاريخ وأسالبها ليست فوضى او حوادث فردية لا ضابط لها، وإنما تنشأ من معيشة الإنسان في مجتمعات أو انظمة اجتماعية تسيطر على أفعالها قواعد الضرورة الاجتماعية والنواميس الاجتماعية العامة، وإلا لما أمكن وجود ما نسميه بعلم الاجتماع او العمران الذي يدرس المؤسسات والأنظمة الاجتماعية دراسة مقارنة، ويستخرج لها القواعد الكلية التي يستفيد منها المؤرخ, ثم إننا لعلى امل وطيد في أن هذا النوع البشري الذي يمسى "بالإنسان العاقل" سيبرر أهليته لهذا اللقب فيجد في البحث عن نفسه والكشف عن أسرار المجتمعات البشرية بالدرس العلمي المقارن. وعندئذ فستتوطد قوانين التأريخ والعمران البشري على وجع ليس كما يتطرف البعض في تفسير حوادث التأريخ وليس كما يرتئي البعض الآخر من إنكار لإمكان استخراج القوانين فيه.
وبحسب المصادر التي يعتمد عليها التأريخ في جمع مادته أولى خطوة منطقية في منهج التأريخي جمع المصادر والأصول المتعلقة ببحثه. ويصبح أن نطلق على هذه الخطوة اسم " جمع الأصول" (3). ومع أن هذه خطوة من خطوات المؤرخ غير أنها المرحلة الأساسية إذ، كما قيل، " لا تأريخ بلا وثائق". فإذا جمع المؤرخ ما يستطيع جمعه من مصادر بحثه وأصول مادته وكان على معرفة تامة بمادته وخبيراً بمصادره كخطوط الوثائق واللغات المكتوبة بها او اطرزتها وأوصافها إن كانت من الآثار الفنية وبالاستعانة بالعلوم الموصلة (4)، فإنه يبدأ بخطوة ثانية من بحثه وهي مرحلة النقد (Die KritikاوCriticim) أي نقد ما جمعه في الخطوة الأولى وتمحيص المصادر والوثائق التي جمعها وتحقيقها لمعرفة أصالتها وصحتها من خطتها وتزويدها ومعرفة مؤلفاها وزمان كتابتها ومكانها، ثم تجري ما جاء فيها من معلومات ومدى مطابقتها إلى الحقيقة والواقع، فإن كانت من الوثائق المدونة، كالكتب، فيلزم معرفة تأريخها ومؤلفها ومبلغ أمانته وأوهامه. وقد يلزم تصحيح متن الوثائق التأريخية بإصلاح خطتها اللغوي وتكميل ما نقص منعها، وذلك بمضاهاة الأصول المختلفة لهذه الوثائق. ويلي ذلك تمحيص مادة الوثائق بتحليل الحقائق الواردة فيها وترتيب موضوعاتها وتصنيف حوادثها. وبالإجمال لا تعدو المصادر المكتوبة أن تكون مثل شهادة الغير. ولذلك وجب على المؤرخ الباحث تمحيص هذه الشهادة وعدم قبولها على علاتها . وبما ان الحوادث التأريخية وقائق حقيقية والحقيقة واحدة لا تتعدد فلا بد أن يصل الباحث، هو بنفسه أو من يستدرك عليه، إلى تل الحقيقة او ما يقاربها على الأفل. وجل اعتماده في ذلك سبيل التحليل وتقصي الحوادث وموازنتها ومضاهاتها، وبوجه الإجمال يمكننا تحليل عملية النقد، التي هي عماد البحث التأريخي، إلى مرحلتين كثيراً ما تكونان متداخلتين، وهما مرحلة النقد الخارجي (External criticism) وتدور على البحث في المصادر للتأكد من أصالتها وصحتها ومعرفة مؤلفها وزمانه ومكانه، فليس كل الوثائق التأريخية صحيحة بل كثيراً ما يتطرق الشك إلى صحتها وأصالتها ومنشأ ذلك قد يكون التزوير المتعمد او الأخطاء والأوهام الناشئة من النقلة والنساخ وكذلك من انعدام الخبرة والممارسة التأريخية ومن التسرع والسطحية، كما أن كثيراً من الوثائق تكون مخرومة غير معلوم مؤلفها او زمان تأليفها فتستعين بطرق النقد الخارجي لتعيين المؤلف وزمانه ومكانه (5).
أما المرحلة الثانية من النقد فتسمى النقد الباطني او الداخلي (Internal criticism) ومدار هذا النقد على وزن علاقة الوثيقة أو الدلالة التأريخية التي جمعناها بالحقيقة وواقع الحال، وقد تقسم هذه المرحلة ايضاً إلى شطرين يسمى أحدهما وأولهما بالنقد الباطني الإيجابي والثاني النقد الباطني السالب، الأول يتعلق بفهم نصوص الوثائق أي فهم لغتها وأساليبها وإدراك أغراض المؤلف وآرائه ثم ننتقل إلى الشطر الثاني من النقد وهو إثبات صحة المعلومات الواردة في تلك الوثائق أي تجريح المؤلف أو تعديله (الجرح والتعديل) من حيث صدقه وكذبه او انخداعه وأوهامه وتحليل الظروف والاحوال التي كتبت فيها الوثيقة. والنقد الباطني بكلا نوعية يسمى بالمصطلح اليوناني (Herneneutic) ومعناه النقد التفسيري أي التفسير والتحليل.
فإذا ما تم تحقيق الوثائق ونقدها إيجاباً وسلباً (الجرج والتعديل) فإن الباحث يخطو الخطوة الثالثة من خطوات البحث التأريخي ومدار هذه المرحلة على التأليف بين الحقائق وتركيبها (Historical Construction)، وتكون طرق التركيب والتأليف شطرا مهماً من منهج البحث التأريخي ، فإن عمليات النقد التي اوجزناها لا تنتج لنا إلا حقائق منعزلة منفصلة بعضها عن بعض، فلكي نؤلف من هذه الحقائق المنفصلة المنعزلة مجموعة كاملة مفهومة من العلم والمعرفة فيلزم على المؤرخ أن يقوم بجهود أخرى لتركيب هذه الحقائق المنفصلة والتأليف فيما بينها بتصنيف الحقائق والمعلومات الواردة في الوثائق إلى أصناف وموضوعات متجانسة.
والذي يمكن قوله بوجه عام بصدد قواعد التأليف التأريخي إنه لا يمكن وضع خطة مثلى (ideal) على غرار مناهج العلوم المضبوطة التي نأمل أن يكون التأريخ مقلها، بل إن خطة عملنا تتوقف إلى حد كبير على المادة التأريخية التي تتوفر لدينا بعد جمع المصادر ونقدها. ولكي نفهم حدود خطة التأليف التأريخي يلزم علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الحقائق التأريخية المستخرجة من الوثائق، وطريقة استخراجها. فيحسب منهج البحث الذي أوجزناه تستخرج الحقائق التأريخية بتحليل الوثائق تحليلاً نقدياً (Critical analysis of documents) فتخرج لنا هذه الحقائق بعد عملية النقد وهي مغربلة منتقاة ولكنها بهيئة معلومات مجزأة فردية لا يجمعها نظام أو تأليف ما. فقد تؤدينا طرق النقد التأريخي إلى تجزئة الجملة الواحدة من الوثيقة إلى اجزاء نرفض بعضها ونقبل البعض الآخر. كما ان الوثيقة الواحدة، ولو كانت صغيرة، او أن نصاً تاريخياً واحداً، قد يزودنا بمعلومات متنوعة مختلفة. فتكون الحقائق التأريخية المستخرجة من الوثائق خليطة مزيجة، وهذا أحد الأمور الذي يميز التأريخ من العلوم الأخرى، فمثلاً إن العلوم التي تعتمد على الملاحظة المباشرة (direct observation) تنتخب الحقائق التي ندرسها وتحصر همها في البحث المنظم في حقائق متجانسة. اما العلوم المعتمدة على النصوص والوثائق (documentary sciences) والتأريخ واحد منها، فإنها تأخذ حقائقها وقد سبقت مشاهدتها وملاحظتها عن طريق آخر غير طريقها، أي عن طريق مؤلفي الوثائق. فمن الضروري تصفية هذه الحقائق وتصنيفها تحت أصناف وأنواع مختلفة بحسب المواضيع التي يعالجها المؤرخ وبحسب القضايا والمسائل التي يبحث عن حلولها.
ولعل أقرب العلوم التي يمكن للتأريخ أن يسير على منهجها من ناحية جمع الحقائق وتصنيفها علم الحيوان الوصفي (Desnriptive Zoology) الذي يبدأ بحثه بملاحظة الحيوان بكامله بالمشاهدة ثم يشرح هذا الحيوان إلى أجزائه المختلفة. والتشريح هنا يقابل التحليل في طريقة التأريخ ( أي Analysis) ) ثم يعمد إلى جمع الأجزاء المشرحة وتركيبها بحيث تكون الكل الأصلي وهذا هو التركيب الحقيقي (Synthesis)، وبوسع علم الحيوان ايضاً في مرحلة ثالثة أن يقارن هذا الشكل الذي كونه بعد التشريح مع أفراد اخرى من نوعه فيدرس أوجه الشبه والاختلاف فيما بينها ويصنفها. فتكون خطوات علم الحيوان في استخراجه للحقائق:
(1) الملاحظة والتحليل.
(2) التركيب.
(3) المقارنة والتصنيف.
وبوسع التأريخ أن يسير على هذا المنهج إلى حد ما على الوجه الآتي:
يمكننا ان نوجز تصميم التأليف او التركيب التأريخي بجملة مراحل تركيبية (Synthetic):
أ ـ تحليل الحقائق وتصورها في العقل : ـ يجهزها تحليل الوثائق النقدي بالمادة اللازمة للبناء التأريخي. وهذه المادة عبارة عن حقائق تأريخية مضت وهي متفرقة ومنعزلة بعضها عن بعض. وبما أن المؤرخ، بخلاف عالم الحيوان، لا يرى شيئاً ملموساً سوى "الورق المكتوب"، وفي بعض الأحايين الآثار القائمة ونتاج الفنون والصناعة، فيعمد المؤرخ لإدراك هذه الحوادث التي مضى إلى تخيلها مفترضاً أنها تشبه حقائق الحاضر بوجه عام، محاولاً تكوين صورة عقلية تشبه بقدر الإمكان الحوادث المضية التي استخرجها من الوثائق.
ب ـ جمع الحقائق وتنظيمها : وبعد ان نتخيل الحقائق ونكوّن عنها في أذهاننا صوراً عقلية نجمع فيما بينها ونضعها بموجب خطة نضعها بحسب موضوع بحثنا. ونعمد أيضاً في هذه المرحلة من التأليف التأريخي إلى تقسيم الحقائق إلى مجاميع واجزاء متشابهة بحسب مواضيعها.
جـ ـ الاجتهاد (Reasoning): أو الاستنتاج التأريخي بطريق الاجتهاد، فإن الباحث كثيراً ما يجد انه بالرغم مما جمعه من الحقائق فإنه لا يزال يجد امامه فجوات عن وقائق الماضي لم تستطع الحقائق فإنه لا يزال يجد أمامه فجوات عن وقائع الماضي لم تستطع الحقائق التي جمعها ان تزوده بها بصورة مباشرة، فعليه في مثل هذه الحالة أن يحاول ملء بعض هذه الفجوات عن طريق الاجتهاد العقلي او المنطقي بالاستناد إلى الحقائق التأريخية المعروفة لديه.
د ـ مرحلة الاستنتاج واستخراج القواعد العامة:
تساعدنا المراحل الثلاث السابقة على استخراج مجموعة من الحقائق او المعرفة المصنفة بموجب خطة منظمة من التصنيف. فيبقى على الباحث أن يركز هذه الحقائق المصنفة ويعبّر عنها بقواعد او دساتير (formulae) لاستنتاج خصائصها ومزاتها العامة وعلاقاتها بعضها ببعض، وخلاصة هذه المرحلة أنها تؤدينا إلى الاستنتاجات النهائية، وتجعل من بحثنا التأريخي بحثاً علمياً. وتدخل في هذه المرحلة من مراحل التركيب التأريخي او يأتي بعدها تفسير الحوادث التأريخية أي تعليلها والبحث عن أسباب وقوعها. ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن منشأ الاختلاف وجهات النظر بين الباحثين في هذه المرحلة من منهج البحث التأريخي.
وبعد أن يتم الباحث جميع المراحل التي لخصناها فيما سبق يبدأ في المرحلة النهائية من مراحل بحثه وهي مرحلة التأليف والتدوين أي تبويب مادته وعرضها عرضاً فنياً صحيحاً مستساغاً (6). ولأن هذه المرحلة الأخيرة تعتمد الأدب والفن كثيراً عدّ الناس التأريخ فناً أو فرعاً من فروع الأدب ولسنا بحاجة إلى التأكيد على خطل هذا الرأي لأن الأدب في الواقع إنما اتخذ وسيلة للعرض والتدوين التأريخي وأنه حتى في هذه المرحلة التي يدخل فيها الادب يجب على المؤلف التأريخ أن يستعين بالأسلوب المنطقي في طريقة عرض مادته. ولعل خير ما يقال بهذا الصدد " إن أحسن تأريخ يكتب للناس هو ذلك التأريخ الذي اعتمد على الطرق العلمية من البحث التأريخي في جمع مادته وعلى الادب والفن وفي عرض تلك المادة".
ومن الملاحظات المهمة التي يجدر ان نعرفها عن التأريخ ومنهجه، وقد سبق التنويه بها، أن التاريخ يشارك العلوم الاخرى بوجه عام. فالعلوم كلها تقريباً لا تقتصر في بحثها على جمع المعلومات التي تصل إليها بالبحث والتحري وجمعها وتنظيمها بموجب طراز او شكل خاص وإنما تتعدى ذلك إلى الكشف عن الشيء المجهول، أي الأشياء التي نجهلها. وإذا كان التأريخ يشارك العلوم الاخرى في هذا الأمر فإنه يفترق عنها ولا سيما عن العلوم الطبيعية في مسألة مهمة. فوظيفة العالم الطبيعي درس حوادث الطبيعة ومظاهرها، وهذه ليست أعمالاً صادرة من فاعلين كالحوادث التأريخية، يحاول العالم الطبيعي فهم قصدهم وفكرهم على نحو ما يفعل المؤرخ الذي بجهد في الكشف عن الفكر والقصد من وراء أعمال البشر التي حدثت فيما مضى. وهذا فرق جوهري بين المؤرخ وبين العالم الطبيعي، بين التأريخ وبين العلم الطبيعي. وثمة فرق آخر هو أن العالم الطبيعي مع عدم محاولته لفهم القصد والفكر وراء الظواهر الطبيعية التي يدرسها إلا أنه يدرس علاقات هذه الظواهر بعضها ببعض ويستطيع من بجثه المقارن أن يضع الأشياء التي يبحث فيها في قانون أو دستور هو القانون العلمي، أي وجود القوانين والدساتير في العلم وكلن التاريخ لم يستطع بعد أن يضع لأعمال البشر قوانين ودساتير مضبوطة مطردة عام تسير بموجبها. وكل ما استطاع ان يفعل هو محاولات لوضع قواعد عامة لما تبلغ درجة الضبط والدقة والإطراد مما تمتاز به دساتير العلوم المضبوطة كما ذكرنا ذلك من قبل.
ما جدوى درس التأريخ القديم:
والتأريخ القديم بوجه عام (ما قبل التأريخ والعهد التأريخي منه) قصة تطور الإنسان منذ أقدم عهوده. فهو يحدثنا كيف كانت حياة الإنسان الأولى عندما كان في عهده الفطرة والتوحش، ثم كيف استطاع بعد ألوف كثيرة من السنين ان ينتقل من ذلك الحال فينشئ أولى الحضارات الناضجة ولا سيما في وادي الرافدين ووادي النيل، ويحدثنا كذلك عن الحضارات الأخرى المتأثرة بهاتين الحضارتين، ويدلنا على تراث هذه الحضارات في حضارة الإنسان الراهنة.
وخلاصة القول يعيننا التأريخ القديم على فهم حاضر الإنسان وكيف وصل إلى ما هو عليه ويكشف لنا عن الأصول الأساسية لتراث البشرية منذ أقدم العصور وبذلك تكون دراسة التأريخ القديم ضرورة لازمة لفهم التأريخ الحديث وفهم حاضر الإنسان.
وبوسعنا أن نقرب إلى مداركنا الفوائد التي تجنيها البشرية من معرفة ماضيها (أي تأريخها) بقولنا إن التاريخ بمثابة الذاكرة للجنس البشري. أو كما قال "درويسن" التأريخ (اعرف نفسك) مضافاً إلى البشرية وهو ذاكرتها وشعورها" (7) فكما أن ماضي الفرد منا تؤثر تجاربه وخبراته الماضية في سيره في حاضره، كذلك يؤثر ماضي البشرية في حاضرها. وإذا لم يكن للبشرية ذاكرة كما للفرد فإن التأريخ هو "ذاكرتها وضميرها".
وعندما كثرت معلومات الباحثين ومعرفتهم بحضارات البشر الغابرة بعد أن كشفت التنقيبات الأثرية عن عدد كبير منها، تمكن الباحثون في العمران البشري بفضل هذه المادة المتكاثرة من البحث في سنن نشوء الحضارات وعلل نموها وأسباب توقفها عن النمو وركودها ثم عوامل انحلالها وزوالها. فنشأ غرف من فروع المعرفة على قدر عظيم من الأهمية، هو فلسفة التأريخ، وعلم الحضارات والعمران يدرس الحضارات درساً مقارناً. وقد تكونت من الباحثين مدارس فكرية مختلفة اختصت كل منها بفلسفة خاصة او بنظرية وآراء لتعليل نشوء الحضارات والعمران البشري. ومن البديهي أن يكون التأريخ القديم المصدر الأساسي، الذري تستمد منه هذه البحوث والدراسات مادته الأولية.
وبوسعنا ان نؤكد القول إن المادة المتكاثرة عن الحضارات البشرية المندرسة قد مكنت فلاسفة التأريخ والباحثين في العمران من أن يصلوا إلى نتائج خطيرة، بما أمدتهم هذه المادة الجديدة من كثرة الامثلة للموازنة والمقارنة، مما جعل هذا الفرع من المعرفة يقوم على أساس جديد من الدقة والشمول ومقاربة الصواب في الاستنتاج. ومما فيه أن الفارق بين الأوائل من فلاسفة التأريخ وأولهم المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون، والمتأخرين منهم ينحصر، بغض النظر عن التفاوت في القابليات والمدارك، في كثيرة المادة التي صارت في متناول أيدي المتأخرين منهم وقلتا عند الاوائل منهم. فعندما بحث المؤرخ العربي ابن خلدون في سنن العمران لم يكن في متناول يده غير مادة قليلة، لأن الحضارات التي استعملها مادة لبحثه كانت مقتصرة على الحضارة العربية الإسلامية وحضارات أمم اخلى قليلة لم يكن على معرفة تامة بها. ولكن عندما بحث المتأخرون من أمثال "شبنكلر" و "توينبي" في الموضوع نفسه كان لديهم قدر كبير من المادة التأريخية لا يصح مقارنتها مع ما كان متوفراً لابن خلدون. فقد استعمل "توينبي" مثلاً في مادة بحثه تواريخ أمم وشعوب كثيرة صنفها إلى حضارات أو مجتمعات عدد منها ستاً وعشرين حضارة من حضارات البشر وكان الفضل في معرفة القسم الأعظم من هذه الحضارات يرجع إلى التنقيبات الآثارية التي بدأها العلماء منذ القرن الماضي أي يرجع الفضل بتعيير آخر إلى التأريخ القديم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ من التعاريف المتفق عليها للعلم أنه " معرفة منظمة او مجموعة من الحقائق أمكن الوصول إليها بالبحث والتحري والنقد والتحقيق" والواقع من الأمر أن كلمة التأريخ في اللغات الإفرنجية (History) تعني في أصل ما وضعت له باليونانية كما استعملها هيرودوتس لأول مرة (القرن الخامس ق.م) " بحث وتحقيق أو معرفة ما يحصل عليها بالحث والتحري" ولكن استعملت هذه الكلمة كذلك في معان أخرى منها سير الحوادث الماضية وتستعمل أحياناً بمعنى طريقة تدوين تلك الحوادث. وتستعمل كلمة تأريخ كذلك بمعنى زمن وقوع الحوادث. ومن الجدير ذكره بهذا الصدد أن ابن خلدون أول باحث أشار إلى أن التأريخ بحث ونظر ونقد (انظر المقدمة لمقدمته).
إن هذا القسم من الفصل مأخوذ بالدرجة الأولى من كتاب المؤلف:
"مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة"، الجزء الأول (1955) ص 3 فيما بعد.
2ـ ويسمى منهج التاريخ بألمانية (Die Historik) والإنجليزية (Historical Method) أو (Methodlogy).
3ـ وتدعى بالألمانية (Die Heuristik).
4- العلوم الموصلة او المساعدة وتسمى (Auxiliary Sciences) مجموعة من الطرق العلمية الفنية (Techiqeus) يستعين بها الباحث التأريخي في فهم مصادره وتقديره قيمتها تمهيدياً لنقدها، وأشهر هذه الطرق علم الخطوط القديمة على الورق وما شابهه (Palaeography) كأشكال الخطوط المختلفة قبل اختراع الطباعة وأنواع الورق والحبر. والكتابة على الحجر والطين وما شاكل ذلك (Epigraphy) ومعرفة اللغات والتقويم (Chronology). من العلوم الموصلة علم النقود أو النميات (Nuthropology) وعلم الاختام والطمغات (Sphragistics). وهناك علوم علم الآثار (Archaeology) وعلم الإنسان (Anthropoligy) وعلم الاقتصاد والجغرافية والاجتماع، والواقع من الأمر يصح أن نقول إن معظم العلوم والمعارف يمكن أن تكون علوماً مساعدة للتأريخ وسيمر بنا في القسم الثالث من هذا الفصل كيف أفاد الآثاريون والمؤرخون من معطيات بعض العلوم الطبيعية في ضبط أزمان الأدوار التأريخية.
Langlois and Seignbos, Introduction to the Study of History. (English Trans 1912), Vincent, Historical Research (1929).
5ـ وتذكر من طرق تعيين زمن الوثيقة على سبيل المثال طريقة تعيين الحدين الادنى والأعلى في زمن الوثيقة بالنظر في الحوادث المذكورة فيها. فالحد الأعلى هو الزمن الذي لا يمكن أن تكون الوثيقة قد كتبت قبله (Terminus post Quem) والحد الثاني ( Terminus ante quem) أي الزمن الذي لا يمكن أن تكون الوثيقة قد كتبت بعده. ومن ذلك نحصل بين هذين الحدين على تأريخ تقريبي للوثيقة المجهول زمن تأليفها.
6ـ يسمى فن التدوين التأريخي بـ (Historiography). وطرق التدوين الشائعة عند المؤرخين محصورة في ثلاثة أساليب: ــ أولها نظام الحوليات (annals) وهي أشبه ما تكون عند البابليين والمصريين القدماء. واستعمالها مؤرخو العصور الوسطى في أوروبا وهي ذكر الحوادث المعاصرة عاماً بعد عام وكانت في أول أمرها تافهة لا تعدو مجرد مذكرات لتقييد الحوادث المعاصرة تدون بهيئة تعليقات على التقاويم الدينية الخاصة بالأعياد. وأغلب هذه الحوادث لا تعدو الحوادث الدينية كالخوارق، وحدوث الزلازل إلى غير ذلك، ولكن ترفت الحوليات في أواخر العصور الوسطى وأصبحت سجلات سنوية مهمة. ومما لا شك فيه ان التحسن الذي طرأ على هذه الطريقة من التدوين كان بتأثير مؤرخي العرب. والطريقة الثانية هي التأريخ التي يصطلح عليها اسم (Chronicles) وهي أرقى من سابقتها إذ إنها تدور على عرض الحوادث عرضاً أتم وأوفى مما في الحوليات بيد انها احتفظت بالترتيب المتبع في الحوليات أي ترتيب الحوادث وعرضها على السنين ويبدأ بها عادة منذ الخليفة حتى وقت الكتابة وقد تأثرت أوروبا بمؤرخي العرب المسلمين فترقى عندها هذا الفن من التأليف التأريخي. ويظن أن اول من بدأ هذا النمط في عرض مادة التأريخ الهيثم بن عدي المتوفي عام 207 للهجرة ثم جرى عليها الطبري وابن مسكويه وابن الأثير. اما الطرقة الثالثة وهي التي عليها معظم المؤرخين الآن فهي عرض الحوادث وسوقها مساق القصة المرتبة على العهود التأريخية دون السنين. وقد جرى على هذه الطريقة من مؤرخي العرب اليعقوبي والدينوري والمسعودي وابن خلدون وغيرهم وانتخي أمر التأريخ عند العرب بأن أوصله المؤرخ الفيلسوف أبن خلدون إلى مرتبة العلم وإلى مفهومه في الوقت الحاضر فهم بذلك كما لقبه العلماء "يعد واضع علم التأريخ" انظر:
R. Flint, History of the philosophy of history (1893) pp. 157-171.
7ـ An Outline of Modern Kniwledge (1932); 807.