280 - وَمُبْهَمُ التَّعْدِيلِ لَيْسَ يَكْتَفِي ... بِهِ الْخَطِيبُ وَالْفَقِيهُ الصَّيْرَفِي
281 - وَقِيلَ يَكْفِي نَحْوُ أَنْ يُقَالَا ... حَدَّثَنِي الثِّقَةُ بَلْ لَوْ قَالَا
282 - جَمِيعُ أَشْيَاخِي ثِقَاتٌ لَوْ لَمْ ... أُسَمِّ لَا يُقْبَلُ مَنْ قَدْ أَبْهَمْ
283 - وَبَعْضُ مَنْ حَقَّقَ لَمْ يَرُدَّهُ ... مِنْ عَالِمٍ فِي حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ
284 - وَلَمْ يَرَوْا فُتْيَاهُ أَوْ عَمَلَهُ ... عَلَى وِفَاقِ الْمَتْنِ تَصْحِيحًا لَهُ
285 - وَلَيْسَ تَعْدِيلًا عَلَى الصَّحِيحِ ... رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَلَى التَّصْرِيحِ
[التَّعْدِيلُ الْمُبْهَمُ]:
السَّادِسُ: فِي التَّعْدِيلِ الْمُبْهَمِ، وَمُجَرَّدِ الرِّوَايَةِ عَنْ الْمُعَيَّنِ بِدُونِ تَعْدِيلٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.(وَمُبْهَمُ التَّعْدِيلِ) أَيْ: تَعْدِيلُ الْمُبْهَمِ (لَيْسَ يَكْتَفِي بِهِ) الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ (الْخَطِيبُ) ، وَعَصْرِيُّهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ (وَ) مِنْ قَبْلِهِمَا (الْفَقِيهُ) أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (الصَّيْرَفِيُّ) شَارِحُ الرِّسَالَةِ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ؛ كَالْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُقَلِّدُ وَغَيْرُهُ.
(وَقِيلَ: يَكْفِي) كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا، نَقَلَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَيْضًا فِي الْعُدَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيِفَةَ، وَهُوَ مَاشٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمُرْسِلَ لَوْ لَمْ يَحْتَجَّ بِالْمَحْذُوفِ لَمَا حَذَفَهُ، فَكَأَنَّهُ عَدَّلَهُ، بَلْ هُوَ فِي مَسْأَلَتِنَا أَوْلَى بِالْقَبُولِ؛ لِتَصْرِيحِهِ فِيهَا بِالتَّعْدِيلِ.
وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْدِيلِهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِهِ كَذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ إِذَا سَمَّاهُ يُعْرَفُ بِخِلَافِهَا، وَرُبَّمَا يَكُونُ قَدِ انْفَرَدَ بِتَوْثِيقِهِ كَمَا وَقَعَ لِلشَّافِعِيِّ فِي إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ لَمْ يُوَثِّقْهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، بَلْ إِضْرَابُ الْمُحَدِّثِينَ عَنْ تَسْمِيَتِهِ
رِيبَةٌ تَقَعُ تَرَدُّدًا فِي الْقَلْبِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدُ فَرْعٍ، فَلَابُدَّ مِنْ تَسْمِيَتِهِ لِلْحَاكِمِ الْمَشْهُودِ عِنْدَهُ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، فَإِذَا قَالَ شَاهِدُ الْفَرْعِ: أَشْهَدَنِي شَاهِدُ أَصْلٍ أَشْهَدُ بِعَدَالَتِهِ وَثِقَتِهِ أَنَّهُ يَشْهَدُ بِكَذَا، لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ وِفَاقًا حَتَّى يُعَيِّنَهُ لِلْحَاكِمِ، ثُمَّ الْحَاكِمُ إِنْ عَلِمَ عَدَالَةَ شَاهِدِ الْأَصْلِ عَمِلَ بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ جَهِلَ حَالَهُ اسْتَزْكَاهُ - انْتَهَى.
وَصُورَتُهُ: (نَحْوُ أَنْ يُقَالَا حَدَّثَنِي الثِّقَةُ) أَوِ الضَّابِطُ أَوِ الْعَدْلُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ (بَلْ) صَرَّحَ الْخَطِيبُ بِأَنَّهُ (لَوْ قَالَا) أَيْضًا: (جَمِيعُ أَشْيَاخِي) الَّذِينَ رَوَيْتُ عَنْهُمْ (ثِقَاتٌ) ، وَ (لَوْ لَمْ أُسَمِّ) ، ثُمَّ رَوَى عَنْ وَاحِدٍ أَبْهَمَ اسْمَهُ (لَا يُقْبَلُ) أَيْضًا (مَنْ قَدْ أَبْهَمْ) لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، هَذَا مَعَ كَوْنِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَعْلَى مِمَّا تَقَدَّمَ ؛ فَإِنَّهُ كَمَا نَقَلَ عَنِ الْمُصَنِّفِ إِذَا قَالَ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ ضَعِيفٍ، يَعْنِي عِنْدَ غَيْرِهِ، وَإِذَا قَالَ: جَمِيعُ أَشْيَاخِي ثِقَاتٌ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، فَهِيَ أَرْفَعُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ إِذِ احْتِمَالُ الضَّعْفِ عِنْدَ غَيْرِهِ قَدْ طَرَقَهُمَا مَعًا.
بَلْ تَمْتَازُ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ بِاحْتِمَالِ الذُّهُولِ عَنْ قَاعِدَتِهِ، أَوْ كَوْنِهِ لَمْ يَسْلُكْ ذَلِكَ إِلَّا فِي آخِرِ أَمْرِهِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَهْدِيٍّ كَانَ يَتَسَاهَلُ أَوَّلًا فِي الرِّوَايَةِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ بِحَيْثُ كَانَ يَرْوِي عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، ثُمَّ شَدَّدَ. نَعَمْ، جَزَمَ الْخَطِيبُ بِأَنَّ الْعَالِمَ إِذَا قَالَ: كُلُّ مَنْ أَرْوِي لَكُمْ عَنْهُ وَأُسَمِّيهِ فَهُوَ عَدْلٌ رَضِيٌّ، كَانَ تَعْدِيلًا مِنْهُ لِكُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ وَسَمَّاهُ، يَعْنِي بِحَيْثُ يَسُوغُ لَنَا إِضَافَةُ تَعْدِيلِهِ لَهُ، قَالَ: وَقَدْ يُوجَدُ فِيهِمُ الضَّعِيفُ؛ لِخَفَاءِ حَالِهِ عَلَى الْقَائِلِ.
قُلْتُ: أَوْ لِكَوْنِ عَمَلِهِ بِقَوْلِهِ هَذَا مِمَّا طَرَأَ كَمَا قَدَّمْتُهُ (وَبَعْضُ مَنْ حَقَّقَ) كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَلَعَلَّهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَصَّلَ حَيْثُ (لَمْ يَرُدَّهُ) أَيِ: التَّعْدِيلَ لِمَنْ أُبْهِمَ إِذَا صَدَرَ (مِنْ عَالِمٍ) كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُقَلِّدِينَ (فِي حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ) فِي مَذْهَبِهِ، فَكَثِيرًا مَا يَقَعُ لِلْأَئِمَّةِ ذَلِكَ، فَحَيْثُ رَوَى مَالِكٌ عَنِ الثِّقَةِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، فَالثِّقَةُ مَخْرَمَةُ وَلَدُهُ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَوِ الزُّهْرِيُّ، أَوِ ابْنُ لَهِيعَةَ، أَوْ عَمَّنْ لَا يُتَّهَمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَهُوَ اللَّيْثُ.
وَجَمِيعُ مَا يَقُولُ: بَلَغَنِي عَنْ عَلِيٍّ، سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيِّ. وَحَيْثُ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، فَهُوَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، فَهُوَ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، فَهُوَ أَبُو أُسَامَةَ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَهُوَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَهُوَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْءَمَةِ، فَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، أَوْ عَنِ الثِّقَةِ وَذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ فَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ الشَّافِعِيِّ " أَنَا الثَّقَةُ " فَهُوَ أَبِي، يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى هَذَا، نَعَمْ، فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ، وَسَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ عَنِ الرَّبِيعِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِذَا قَالَ: " أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ " فَهُوَ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، أَوْ " مَنْ لَا أَتَّهِمُ " فَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، أَوْ " بَعْضُ النَّاسِ " فَيُرِيدُ بِهِ أَهْلَ الْعِرَاقِ، أَوْ " بَعْضَ أَصْحَابِنَا " فَأَهْلُ الْحِجَازِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا: إِنَّهُ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَأْخُذْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ أَدْرَكَ يَحْيَى، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِسَنَدِهِ إِلَى يَحْيَى.
بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُقَلِّدْ كَابْنِ إِسْحَاقَ؛ حَيْثُ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ مِقْسَمٍ، فَذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِغَيْرِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ فُسِّرَ بِالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ الْمَعْرُوفِ بِالضَّعْفِ، وَكَسِيبَوَيْهِ؛ فَإِنَّ أَبَا زَيْدٍ قَالَ: إِذَا قَالَ: سِيبَوَيْهِ حَدَّثَنِي، فَإِنَّمَا يَعْنِينِي.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ كَلَامُ ابْنِ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُورِدْ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِالْخَبَرِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لِأَصْحَابِهِ قِيَامَ الْحُجَّةِ عِنْدَهُ عَلَى الْحَكَمِ، وَقَدْ عَرَفَ هُوَ مَنْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ، لَكِنْ قَدْ تَوَقَّفَ شَيْخُنَا [فِي هَذَا الْقَوْلِ]، وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَبْحَثِ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَتْبَعُ إِمَامَهُ، ذَكَرَ دَلِيلَهُ أَمْ لَا.
تَنْبِيهٌ: أَلْحَقَ ابْنُ السُّبْكِيِّ بِحَدَّثَنِي الثِّقَةُ مِنْ مِثْلِ الشَّافِعِيِّ دُونَ غَيْرِهِ، حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ فِي مُطْلَقِ الْقَبُولِ، لَا فِي الْمَرْتَبَةِ. وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الذَّهَبِيُّ وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ مَنْ أَنْزَلَهُ مِنْ رُتْبَةِ الثِّقَةِ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فَهُوَ لَيِّنٌ عِنْدَهُ، وَضَعِيفٌ عِنْدَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَنَا مَجْهُولٌ، وَلَا حُجَّةَ فِي مَجْهُولٍ.
وَنَفْيُ الشَّافِعِيِّ التُّهَمَةَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الضَّعْفِ؛ فَإِنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ وَوَالِدَ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ الْأَفْرِيقِيَّ وَأَمْثَالَهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ نَتَّهِمُهُمْ عَلَى السُّنَنِ، وَهُمْ ضُعَفَاءُ لَا نَقْبَلُ حَدِيثَهُمْ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ.
قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ: وَهُوَ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ حِينَ احْتِجَاجِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ وَالتَّوْثِيقُ حِينَئِذٍ سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ لَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ.
(وَلَمْ يَرَوْا) أَيِ: الْجُمْهُورُ، كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ (فُتْيَاهُ) أَوْ فَتْوَاهُ كَمَا هِيَ بِخَطِّ النَّاظِمِ؛ أَيِ: الْعَالِمِ مُجْتَهِدًا كَانَ أَوْ مُقَلِّدًا (أَوْ عَمَلَهُ) فِي الْأَقْضِيَةِ وَغَيْرِهَا.
(عَلَى وِفَاقٍ الْمَتْنِ) أَيِ: الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ ذَلِكَ بِمُفْرَدِهِ مُسْتَنَدُهُ (تَصْحِيحًا لَهُ) أَيْ: لِلْمَتْنِ، وَلَا تَعْدِيلًا لِرَاوِيهِ ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ لِدَلِيلٍ آخَرَ وَافَقَ ذَلِكَ الْمَتْنَ مِنْ مَتْنٍ غَيْرِهِ، أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ احْتِيَاطًا، أَوْ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ يَرَى الْعَمَلَ بِالضَّعِيفِ وَتَقْدِيمَهُ عَلَى الْقِيَاسِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ، وَيَكُونُ اقْتِصَارُهُ عَلَى هَذَا
الْمَتْنِ أَنَّ ذِكْرَهُ إِمَّا لِكَوْنِهِ أَوْضَحَ فِي الْمُرَادِ، أَوْ لِأَرْجَحِيَّتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَذَلِكَ مُخَالَفَتُهُ لِلْحَدِيثِ لَيْسَتْ قَدْحًا مِنْهُ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا فِي رَاوِيهِ، قَالَ الْخَطِيبُ: لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَدَلَ عَنْهُ لِمُعَارِضٍ أَرْجَحَ عِنْدَهُ مِنْهُ مِنْ نَسْخٍ وَغَيْرِهِ مَعَ اعْتِقَادِ صِحَّتِهِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ كَثِيرٍ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرٍ انْفَرَدَ بِهِ رَاوٍ لِأَجْلِهِ، يَعْنِي: جَزْمًا، يَكُونُ تَعْدِيلًا لَهُ، الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِخَبَرِهِ إِلَّا وَهُوَ رَضِيٌّ عِنْدَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِتَعْدِيلِهِ.
وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ: إِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُشْتَرِطِ الْعَدَالَةَ بِالشَّهَادَةِ تَعْدِيلٌ بِاتِّفَاقٍ، وَعَمَلَ الْعَالِمِ مِثْلُهُ.
(وَ) كَذَا (لَيْسَ تَعْدِيلًا) مُطْلَقًا (عَلَى) الْقَوْلِ (الصَّحِيحِ) الَّذِي قَالَ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ (رِوَايَةُ الْعَدْلِ) الْحَافِظِ الضَّابِطِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، عَنِ الرَّاوِي (عَلَى) وَجْهِ (التَّصْرِيحِ) بِاسْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ، بَلْ وَعَنْ غَيْرِ عَدْلٍ، فَلَا تَتَضَمَّنُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ تَعْدِيلَهُ وَلَا خَبَرًا عَنْ صِدْقِهِ، كَمَا إِذَا شَهِدَ شَاهِدُ فَرْعٍ عَلَى شَاهِدِ أَصْلٍ لَا يَكُونُ مُجَرَّدُ أَدَائِهِ الشَّهَادَةَ عَلَى شَهَادَتِهِ تَعْدِيلًا مِنْهُ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا إِذَا أَشْهَدَ الْحَاكِمُ عَلَى نَفْسِهِ رَجُلًا بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ تَعْدِيلًا لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَقَدْ تَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: " لَا تَسْتَدِلَّ بِمَعْرِفَةِ صِدْقِ مَنْ حَدَّثَنَا عَلَى صِدْقِ مَنْ فَوْقَهُ "، بَلْ صَرَّحَ الْخَطِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلرَّاوِي حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِمُجَرَّدِ رِوَايَةِ اثْنَيْنِ مَشْهُورَيْنِ عَنْهُ.
[وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعْدِيلٌ مُطْلَقًا؛ إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ؛ إِذْ لَوْ عَلِمَ فِيهِ جَرْحًا لَذَكَرَهُ؛ لِئَلَّا يَكُونَ غَاشًّا فِي الدِّينِ، حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْخَطِيبُ.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْكَفِيلِ: لِلتَّعْدِيلِ قِسْمَانِ: صَرِيحِيٌّ وَغَيْرُ صَرِيحِيٍّ، فَالصَّرِيحِيُّ وَاضِحٌ، وَغَيْرُ الصَّرِيحِيِّ، وَهُوَ الضِّمْنِيُّ، كَرِوَايَةِ الْعَدْلِ وَعَمَلِ الْعَالِمِ.
وَرَدَّهُ الْخَطِيبُ بِأَنَّهُ قَدْ لَا يُعْلَمُ عَدَالَتُهُ وَلَا جَرْحُهُ]، كَيْفَ وَقَدْ وُجِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُدُولِ الثِّقَاتِ رَوَوْا عَنْ قَوْمٍ أَحَادِيثَ أَمْسَكُوا فِي بَعْضِهَا عَنْ ذِكْرِ أَحْوَالِهِمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَرْضِيِّينَ، وَفِي بَعْضِهَا شَهِدُوا عَلَيْهِمْ بِالْكَذِبِ.
وَكَذَا خَطَّأَهُ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَقَالَ: " لِأَنَّ الرِّوَايَةَ تَعْرِيفٌ؛ أَيْ: مُطْلَقُ تَعْرِيفٍ، يَزُولُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ بِهَا بِشَرْطِهِ، وَالْعَدَالَةُ بِالْخِبْرَةِ، وَالرِّوَايَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْخِبْرَةِ ".
وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: إِنِّي لَأَرْوِيَ الْحَدِيثَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، فَلِلْحُجَّةِ مِنْ رَجُلٍ، وَلِلتَّوَقُّفِ فِيهِ مِنْ آخَرَ، وَلِمَحَبَّةِ مَعْرِفَةِ مَذْهَبِ مَنْ لَا أَعْتَدُّ بِحَدِيثِهِ، لَكِنْ قَدْ عَابَ شُعْبَةُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَقِيلَ لِأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ: أَهْلُ الْحَدِيثِ رُبَّمَا رَوَوْا حَدِيثًا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا يَصِحُّ، فَقَالَ: عُلَمَاؤُهُمْ يَعْرِفُونَ الصَّحِيحَ مِنَ السَّقِيمِ، فَرِوَايَتُهُمُ الْحَدِيثَ الْوَاهِيَ لِلْمَعْرِفَةِ؛ لِيَتَبَيَّنَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّهُمْ مَيَّزُوا الْآثَارَ وَحَفِظُوهَا.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَتْ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مِنَ الْأَئِمَّةِ عَنِ الضُّعَفَاءِ.
وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ عَدْلٍ كَانَتْ رِوَايَتُهُ عَنِ الرَّاوِي تَعْدِيلًا لَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ ؛ كَالسَّيْفِ الْآمِدِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِمَا، بَلْ وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمْعٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّيْخَيْنِ وَابْنِ خُزَيْمَةَ فِي صِحَاحِهِمْ، وَالْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا يَتَقَوَّى بِهِ الْمُرْسِلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ إِذَا سَمَّى مَنْ رَوَى عَنْهُ لَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا مَرْغُوبًا عَنِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ - انْتَهَى.
وَأَمَّا رِوَايَةُ غَيْرِ الْعَدْلِ فَلَا يَكُونُ تَعَدْيِلًا بِاتِّفَاقٍ.
تَتِمَّةٌ: مِمَّنْ كَانَ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ إِلَّا فِي النَّادِرِ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَبَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ، وَحُرَيْزُ بْنُ عُثْمَانَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَشُعْبَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، وَمَالِكٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَذَلِكَ فِي شُعْبَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَعَنَّتُ فِي الرِّجَالِ وَلَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثَبْتٍ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ عِصَامُ بْنُ عَلِيٍّ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُولُ: لَوْ لَمْ أُحَدِّثْكُمْ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ لَمْ أُحَدِّثْكُمْ عَنْ ثَلَاثَةٍ. وَفِي نُسْخَةٍ: ثَلَاثِينَ. وَذَلِكَ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ يَرْوِي عَنِ الثِّقَةِ وَغَيْرِهِ، فَيُنْظَرُ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ لَا يَرْوِي عَنْ مَتْرُوكٍ، وَلَا عَمَّنْ أُجْمِعَ عَلَى ضَعْفِهِ.
وَأَمَّا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَكَانَ يَتَرَخَّصُ مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ وَشِدَّةِ وَرَعِهِ وَيَرْوِي عَنِ الضُّعَفَاءِ، حَتَّى قَالَ فِيهِ صَاحِبُهُ شُعْبَةُ: لَا تَحْمِلُوا عَنِ الثَّوْرِيِّ إِلَّا عَمَّنْ تَعْرِفُونَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي عَمَّنْ حَمَلَ.
وَقَالَ الْفَلَّاسُ: قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لَا تَكْتُبْ عَنْ مُعْتَمِرٍ إِلَّا عَمَّنْ تَعْرِفُ؛ فَإِنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ كُلٍّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنَ التَّوَسُّطِ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْهِ بِمُوَافَقَةِ حَدِيثٍ لِمَا أَفْتَى بِهِ الْعَالِمُ أَوْ عَمِلَ بِهِ - ظَاهِرٌ فِي الْمُنَاسَبَةِ مَعَ الْقَوْلِ الثَّالِثِ الْمُفَصَّلِ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنْ خَالَفَ ابْنُ الصَّلَاحِ هَذَا الصَّنِيعَ.
الاكثر قراءة في علوم الحديث عند العامّة (أهل السنّة والجماعة)
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة