المدن البورجوازية
المؤلف:
أ. د. عبد العظيم رمضان
المصدر:
تاريخ أوربا والعالم الحديث من ظهور البرجوازية الأوربية الى الحرب الباردة
الجزء والصفحة:
ج1 ص 20 ــ 29
2025-12-03
25
وقد كان من الطبيعي أن يصحب انتشار ونمو النشاط التجاري في أوروبا منذ القرن الحادي عشر انتشار ونمو مماثل في المدن الأوروبية، التي أصبحت المراكز الأساسية للحركة التجارية الجديدة.
ففي ذلك الحين كانت كل تجارة تتطلب لها مراكز معينة تتمركز فيها، وقد حددت الطبيعة بعض هذه الأماكن، وجعلتها صالحة للوقوف عندها كمحطات مثل مصاب الأنهار ونهاية الخلجان، والأماكن التي لا يصلح النهر عندها للملاحة. غير أن التجار كانوا في حاجة أكثر إلى مراكز يتوافر فيها قسط من الاستقرار والأمن، ولذلك فقد لجئوا إلى المدن الرومانية القديمة والى القلاع التي بقيت في عهد متأخر، والتي كانت تقع على طرق المواصلات الطبيعية للتجارة.
وهذا يثير سؤالا مهما عما إذا كانت قد وجدت مدن في القرن التاسع الميلادي؟ وما الفرق بينها وبين المدن الجديدة للطبقة البورجوازية؟ على أن الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على معرفة ما هو المقصود بلفظ مدينة City؟ فإن كان المقصود مجتمعا محليا يعتمد أهله في معيشتهم على النشاط التجاري بدلا من زراعة الأرض، فإن الجواب يكون النفي ويكون النفي أيضا هو الجواب إذا فهمنا أنه كان مجتمعا له شخصية قانونية، وله قواعده وقوانينه الخاصة به، لأن هذا المجتمع الذي كان سائداً في القرن التاسع لم يكن يتميز عن المحيط الذي يحيط به من ناحية خضوعه لنفس القوانين. أما إذا كان المقصود بالمدينة مركزا للإدارة وقلعة للحماية، فان العصر الكارولنجي قد شهد مثل هذه المدن.
وفي الحقيقة أن المدن القديمة كانت تفتقر إلى سمتين أساسيتين تميزت بهما المدينة الجديدة. وهما طبقة وسطى، وتنظيم اجتماعي Communal Organization بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي والقانوني لهذه الكلمة، وإنما كانت المدن القديمة عبارة عن مراكز حصينة تعرف باسم Bourg بها مقرات للإدارة، ولم يتمتع سكانها بأية قوانين أو نظم خاصة بهم، ولا بأسلوب للمعيشة يميزهم عن بقية المجتمع. وكان النشاط التجاري والصناعي غريبا عنهم تماما، كما كانت جماعاتهم قليلة الأهمية، إذ كل الدلائل تشير إلى أن سكان المدن التي كانت تسمى Bourg لم يتجاوز عددهم ألفين أو ثلاثة الاف.
فإلى أي حد يمكن القول إن المدن البورجوازية قد نشأت من هذه المدن الرومانية، وإلى أي حد يمكن القول إنها نشأت كأثر من آثار التطور الاقتصادي الذي ظل يجرى في مجراه زمنا طويلا؟
في الواقع أن كثيرا من المدن الرومانية قد حافظت على وجودها المستمر ونظامها الروماني طوال قرون الفوضى والاضمحلال، خصوصا في إيطاليا وفرنسا الجنوبية الشرقية. ولذلك نجد أن المدن البورجوازية التي قامت في إيطاليا وجنوب فرنسا وأراضي الراين، قد قامت في نفس أماكن المدن القديمة وفي داخل نفس حوائطها التي كانت للبلديات القديمة Municipia.
أما في شمال الألب، فإن قوانين القبائل الهمجية كانت قد طغت على التراث الروماني، وتسربت بعض العادات السياسية
السائدة في القبيلة والقرية الألمانية إلى البلديات القديمة، ولذلك نشأت المدن البورجوازية شمال الألب من تطور المراكز التجارية.
ومع ذلك فحتى في إيطاليا نفسها نجد أن المدن البورجوازية لا تدين للبلديات القديمة Municipia بأكثر من الآثار القديمة والحوائط المتآكلة والكنائس. فقد قامت المدن الجديدة على نظم جديدة مستوحاة من النشاط التجاري وما تبعه من قيام طبقة التجار.
وقد مر استقرار التجار في تلك المدن وفي الـ Bourg بعدة مراحل وأطوار. فقد استقر التجار فى بادئ الأمر داخل الحوائط ثم فيما بعد خارج الحوائط عندما زاد عددهم. ونتيجة لذلك نشأت خارج الـ Bourg مدينة أخرى هي الـ Faubourg.
وهكذا أصبحت المدن البورجوازية تتكون من عنصرين وطبقتين مختلفتين أيضا: الأولى هي الـ Bourg وهي الأقدم، وهي مكان معين يرجع إنشاؤها إما إلى الرومان أو إلى العصر الإقطاعي، ويقطنها سكان من رجال الدين والفرسان والأقنان ويعتمدون في معيشتهم على الزراعة والثانية وهي الـ Faubourg التي كانت ثمرة نمو الطبقة التجارية.
وما لبثت الـ Bourg أن أصبحت تابعة للـ Faubourg نظرا لتوقف نموها. لقد بقيت في الحقيقة الواجبات التي تؤديها، ولكن لم تكن ثمة حاجة لازدياد عدد الفرسان أو رجال الدين، كما لم تكن هناك حاجة أيضا لتطور النظم المتعلقة بإدارة مثل ذلك المجتمع الزراعي البحت.
أما الـ Faubourg فقد أخذت تنمو حثيثا مع ازدياد النشاط التجاري الذي جلب إليها أعدادا لا تنقطع من سكان الأقاليم المجاورة، حتى أصبحت الـ bourg عبارة عن مجرد حى ن مركزي من أحياء المدينة.
من ناحية أخرى إذا نظرنا إلى المركز القانوني لسكان الـ bourg، تجد أنهم كانوا ينقسمون إلى قسمين: السكان الأحرار من رجال الدين والفرسان، والقسم الثاني يتكون من الأقنان. وهذا الأمر لا نجده في الـ Faubourg، لأن سكانها من التجار من المفروض أنهم احرار. صحيح أنهم انحدروا من أصول قنية، ولكن من يستطيع أن يثبت ذلك، وهم الذين كانوا جميعا غرباء مهاجرين؟ ولقد أطلق على هؤلاء التجار اسم Burgenses نسبة إلى bourg، وظل هذا الاسم طويلا مرادفا لكلمة تجار قبل أن يأخذ معنى Bourgeoisie.
على كل حال فإذا كان هؤلاء البورجوازيون أحرارا كما ذكرنا، فإن هذه الحرية كانت قاصرة على أشخاصهم فقط، بمعنى أنهم لم يكونوا يملكون الحق في حكم أنفسهم أو التمتع بأية سلطة قضائية أو قوانين خاصة بهم. لقد كان هناك تباين كبير بينهم وبين المجتمع الذي وجدوا أنفسهم يعيشون فيه، والذي كان قائما على حيازة الأرض والتملك عليها، وليس فيه أي اعتبار للملكية الشخصية التي كانوا يملكونها. ومن هنا أهمية التمتع بالحقوق المدنية، أو الحرية المدنية - أي التمتع بحقوق يكفلها المجتمع.
وهكذا قام الخلاف بين الماضي والحاضر، ولم يكن في وسع البورجوازيين الوقوف مكتوفي الأيدي أمام العقبات والقوانين الإقطاعية التي لا تعد ولا تحصى، والتي كانت تقف حائلا بينهم وبين ممارسة نشاطهم على الوجه المطلوب. وهكذا أخذوا يطالبون برفع جميع القيود التي تثقل الحياة الاقتصادية. ولما كانوا لا يملكون إلا الزواج من عائلات قنية، فلذلك أخذوا يطالبون بالحرية لزوجاتهم ولأطفالهم، ويطالبون بتغيير الأحوال القانونية للمجتمع للتلاؤم مع أحوالهم الاقتصادية، وأخذت نقاباتهم تطالب بالإذن لها بتشريع ما يلزم لها من قوانين محلية لتنظيم المعاملات والإعفاء من السخرة، وتطالب بالاعتراف لها بحق النظر في القضايا غير الجنائية، فضلا عن الحق في اختيار الموظفين الإداريين.
وبمعنى آخر أنه بعد أن تغيرت العلاقات الإنتاجية التي تشكل البناء التحتي، أخذت البورجوازية في تغيير البناء الفوقي السياسي والقانوني.
على أنه لما كانت المدن قد نشأت بطبيعة الحال في ممتلكات أحد النبلاء أو رجال الكنيسة، فقد كان على البورجوازية لتحقيق أغراضها أن تتجه إلى هؤلاء. وقد اتبعت في ذلك وسيلتين:
- الأولى: شراء الامتيازات وبراءات الاستقلال Charters.
- الثانية: انتزاع هذه الامتيازات والبراءات انتزاعا.
وقد حصلت البورجوازية في مدن شمال إيطاليا على أول قسط من حريتها على فترات متقطعة في القرن الحادي عشر، تارة بالمساومة، وتارة بالاغتصاب. ففي بيزا، على سبيل المثال، نسمع عن اتفاقية بين الأسقف والبورجوازيين (1080 - 1085م)، تولوا بمقتضاها الحق في تشكيل اتحاد، وعقد اجتماعات عامة وانتخاب قناصل أو نواب يتعاونون مع الأسقف في الحكم. وحدث ذلك أيضا في جنوه سنة 1122م. وقد ساهم الأباطرة في إنجاح الحركة الجديدة أملا في تأييد البورجوازية لهم في صراعهم المرير ضد البابوية وضد الإقطاعيين.
أما في إنجلترا فقد حصلت البورجوازية على مطالبها بالطريقة الثانية، وهي الاغتصاب، فبهذه الطريقة نالت بورجوازيات كثير من المدن الإنجليزية الحكم الذاتي، من ريتشارد الأول ومن سادة الإقطاع.
ويمكن القول بأنه حين تكون المدينة تحت سيادة، أو في أرض سيد واحد، سواء أكان ملكا أم إقطاعيا، فإن الحصول على البراءة التي يخولها الحكم الذاتي كان يتم بسهولة، وبالعكس إذا كان جزء من المدينة ينتمي إلى سيد، والجزء الآخر ينتمي لسيد آخر، فإن الأمر كان يتطلب مزيدا من الجهد والوقت أيضا!
ويلاحظ أن رؤساء الأديرة والأساقفة هم الذين قاوموا هذه النزعة الاستقلالية أكثر من غيرهم، لأن اليمين التي أقسموها كانت تحتم عليهم ألا ينقصوا من موارد أديرتهم أو كراسيهم الأسقفية. ومن أجل ذلك كان كفاح البورجوازيين ضد رجال الكنيسة شاقا ومريرا إلى أقصى حد.
وفي منتصف القرن الثالث عشر بلغ عدد المدن التي تمكن البورجوازيون فيها من الحصول على البراءات حوالي 200 مدينة يبلغ عدد سكان كل منها من 1500 إلى 4000 نسمة، وكانت لندن تبلغ غالبا 25 ألف نسمة، في حين كان عدد سكان بريستول ويورك، وهما من أكبر المدن الإقليمية عشرة آلاف تقريباً.
وقد تطلب تحرير المدن في فرنسا كفاحا عنيفاً من البورجوازية في أغلب الأحيان، وقد تمكن الأساقفة بما كانوا يصدرونه من أحكام الحرمان تارة، والعنف تارة أخرى من القضاء على الحكومات المحلية التي أقامها البورجوازيون.
أما في شمال إيطاليا وفى الفلاندرز، فقد كان الحال يختلف إذ كانت بورجوازيتها على درجة من القوة وضعتها موضع المساواة مع السادة الإقطاعيين، وفي شمال إيطاليا بالذات بلغت البورجوازية من السلطان السياسي مالا يعرف له نظير في ذلك الوقت، وإن ظلت المدن في القرن الخامس عشر تعترف بسيادة الإمبراطورية الرسمية، وتصدر أوراقها الحكومية باسمها، ولكنها كانت من جميع الوجوه حرة مستقلة. وقد نجحت في نهاية الأمر في تكوين جمهوريات حرة منفصلة عن الدولة الإقطاعية التي ظهرت في وسطها، كان يطلق عليها كومونات Communes.
أما في أسبانيا فقد بسط مملوكها رعايتهم على الحكومات المحلية ليتخذوها معولاً لتقويض سلطان الإقطاعين المشاغبين ولهذا كانت البراءات التي منحت للمدن البورجوازية بعيدة المرمى في الحرية، وعلى هذا الأساس نالت Leon (وهي غير ليون الفرنسية) براءتها من ملك قشتاله سنة 1120م، ونالت طليطلة براءتها سنة 1087م، وكذا برشلونة وغيرها.
أما في ألمانيا فقد تطلب تحرير مدنها زمنا طويلا. وقد تم ذلك غالبا بطريق السلم. وقد منح الأساقفة، الذين ظلوا عدة قرون يحكمون حكما إقطاعيا من قبل الأباطرة المدن حق اختيار حكامها وسن قوانينها.
ولم ينقض القرن الثالث عشر حتى كانت الثورة البورجوازية في سبيل الحكم قد تم لها النصر في أوروبا الغربية، فقد خلعت المدن عن عاتقها السيادة الإقطاعية، وتخلصت من الضرائب والمكوس الإقطاعية، وحصرت حقوق رجال الدين في أضيق نطاق وإن كانت كثرتها الغالبة لم تنل حريتها كاملة. وكان البورجوازيون هم المسيطرون على الحياة المدنية والاقتصادية.
وقد اعترفت كل الحكومات المحلية تقريبا بنقابات التجار الطائفية، باعتبارها هيئات ذات حكم ذاتي. وكانت الحكومات
المحلية ونقابات التجار الطائفية في بعض الأحيان هيئة واحدة! ولكنها كانت في العادة منفصلة إحداهما عن الأخرى، غير أن الحكومة المحلية قلما كانت تعارض مصالح النقابات الطائفية.
الاكثر قراءة في التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة