الحديث حول مقدّمات الظهور وشروطه، لا سيّما مع لحاظ الآيات القرآنيّة؛ يعدّ من أهمّ مواضيع الأبحاث المهدويّة، والذي يشكّل ضرورة لكلّ منتظري إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه). لكن، وقبل الشروع في البحث، نحتاج إلى ذكر بعض المقدّمات التي سنعتمد عليها في بيان المطالب التي سنتعرّض إليها.
أوّلاً: حتميّة ظهور المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) في القرآن
إنّ مسألة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) وقيامه العالميّ، بالإضافة إلى الآيات القرآنيّة والروايات الكثيرة عند الشيعة؛ جاءت في أغلب كتب الحديث عند العامّة أيضاً، وهي من المسلّمات الاعتقاديّة عند المسلمين. كما نعلم، فإنّ الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) ولد سنة 255 هـ ق، ليغيب بعد ذلك عن أعين الناس لدواعٍ مختلفة، وكانت غيبته (عجل الله تعالى فرجه) على مرحلتين: غيبة صغرى، وغيبة كبرى. خلال الغيبة الصغرى، التي استمرّت ما يقرب من سبعين عاماً؛ كان النوّاب الأربعة الخاصّون صلة الوصل بين الشيعة وإمام زمانهم (عجل الله تعالى فرجه)،
وكانوا يرجعون إليه من خلالهم لمعرفة وظائفهم الدينيّة، وقد استمرّ الحال على ذلك إلى أن أعلم الإمام (عجل الله تعالى فرجه) نائبه الرابع عليّ بن محمّد السمريّ برحيله عن هذه الدنيا بعد أيّام قليلة، وأنّه ما من سفير خاصّ بعده بين الإمام (عجل الله تعالى فرجه) والناس، وكان ذلك إيذاناً ببدء الغيبة الكبرى.
وقد بيّن (عجل الله تعالى فرجه) للشيعة الطريق إلى معرفة وظائفهم وتكاليفهم، وأمرهم بالرجوع إلى العلماء، فقال:
«أَمَّا اَلْحَوَادِثُ اَلْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا، فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ» .
ومذ ذاك، بدأت الغيبة الكبرى للإمام (عجل الله تعالى فرجه)، وما زالت مستمرّة حتّى الآن، بحيث سيظهر بعدها الإمام (عجل الله تعالى فرجه) لإقامة حكومة العدل العالميّة كما جاء في مئات الآيات والأحاديث المعتبرة.
وفي ما يأتي بعض الآيات التي تتحدّث عن حتميّة تشكيل الحكومة المهدويّة:
1. الآية الأولى:
﴿هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ 33﴾
بالإضافة إلى هذه السورة، جاءت هذه الآية نفسها في سورتين أخريين: سورة الفتح، الآية 28، وسورة الصفّ، الآية 9. صحيح أنّ الغلبة دائماً للإسلام من حيث المنطق والاستدلال، إلّا أنّ الآية هنا تتحدّث عن الغلبة الظاهريّة المادّيّة وتعِد بحاكميّة الإسلام على العالم [بأسره]؛ وهذا هو معنى كلمة «ظَهَرَ» التي جاءت في آيات أخرى حيث أتت بمعنى الاستيلاء: قال تعالى: ﴿إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ﴾ .
وفي الحديث عن الكفّار قال تعالى: ﴿إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّا وَلَا ذِمَّةۚ﴾ .
فمن جهة، هذه الآية لم تتحقّق إلى الآن، ومن جهة أخرى، فإنّ الله [تعالى] وعد بحاكميّة الإسلام المطلقة، والله لا يخلف وعده. وعليه، فإنّ هذه الآية– وكما جاء في كثير من الروايات– تشير إلى ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه).في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «إذا قَامَ اَلْقَائِمُ (عليه السلام) لاَ يَبْقَى أَرْضٌ إِلّا نُودِيَ فِيهَا بِشَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلّا اَللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اَللَّهِ» .
وقال (عليه السلام): «إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حَكَمَ بِالْعَدْلِ، وَاِرْتَفَعَ فِي أَيَّامِهِ اَلْجَوْرُ، وَأَمِنَتْ بِهِ اَلسُّبُلُ، وأَخْرَجَتِ اَلْأَرْضُ بَرَكَاتِهَا، ورَدَّ كُلَّ حَقٍّ إِلَى أَهْلِهِ، ولَمْ يَبْقَ أَهْلُ دِينٍ حَتَّى يُظْهِرُوا اَلْإِسْلاَمَ ويَعْتَرِفُوا بِالْإِيمَانِ، أَمَا سَمِعْتَ اَللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَلَهُ أَسلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوعا وَكَرها وَإِلَيهِ يُرجَعُونَ﴾ (آل عمران: 83)، وحَكَمَ فِي اَلنَّاسِ بِحُكْمِ دَاوُدَ وحُكْمِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)، فَحِينَئِذٍ تُظْهِرُ اَلْأَرْضُ كُنُوزَهَا وتُبْدِي بَرَكَاتِهَا، فَلاَ يَجِدُ اَلرَّجُلُ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ مَوْضِعاً لِصَدَقَتِهِ» .
2. الآية الثانية:
﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)
كلمة الزبور في اللغة العربيّة تعني الكتاب: ﴿وَكُلُّ شَيء فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ﴾ (القمر: 52)، لكن وبقرينة آية: ﴿وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورا﴾ (النساء: 63) يظهر أنّ المراد هنا في الآية الكتاب الخاصّ بالنبيّ داوود (عليه السلام) الذي يشتمل على مجموعة من مناجاته وأدعيته ووصاياه، وقد نزل هذا الكتاب بعد نزول التوراة التي عبّرت عنها هذه الآية بالذكر، وهو ما جاء أيضاً في الآية 84 من السورة نفسها، إذ عبّرت عن التوراة بالذكر أيضاً.
وقال بعضهم إنّ المراد بـ «الزبور» في هذه الآية هو جميع الكتب السماويّة، وإنّ المراد بـ «الذكر» القرآن المجيد، ومعنى «من بعد» أي من بعد كتابته في الذكر، وعلى ذلك يكون معنى الآية: كتبنا في الكتب السماويّة بعد ما كتبنا في القرآن أنّ ورثة الأرض هم عبادنا الصالحون. وقد جاء في روايات متعدّدة أنّ العباد الصالحين الذين سيرثون الأرض هم الإمام المهديّ(عجل الله تعالى فرجه) وأصحابه .
في الواقع، إنّ مجيء المخلّص اعتقاد تؤمن به جميع الأديان؛ لذا، جاء في الزيارة المهدويّة: «السَّلَامُ عَلَى مَهْدِيِّ الأُمَم» .
من هنا، كان ظهوره (عجل الله تعالى فرجه) أحد المواضيع المهمّة في الدراسات المهدويّة.
ثانياً: علّة الغيبة وارتباطها بقضيّة الظهور
لقد بيّنت أحاديث كثيرة علّة عدم [التشرّف] بحضور إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)؛ ومن جملة الأسباب التي ذُكرت في هذا السياق، ارتكاب الذنوب، والتي ذكرها الإمام (عجل الله تعالى فرجه) نفسه بحيث قال: «فَمَا يَحْبِسُنَا عَنْهُمْ إِلّا مَا يَتَّصِلُ بِنَا مِمَّا نَكْرَهُهُ» ، فهذا النصّ يذكر صراحة أنّ أعمالنا القبيحة هي التي تحول بيننا وبين التوفيق لإدراك الظهور.
كذلك، جاء في [الرواية] عن الإمام الصادق (عليه السلام) حين سُئل عن علّة غيبة إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه): «وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عُنُقِهِ» ، أي أنّ الإمام إن يظهر يُقتل. وعليه، نخلص من مجموع الروايات إلى أنّ علّة غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام) هي أنّ الناس لم يصبحوا مهيّئين بعد لتقبّل قيادة إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)؛ فقد ادّخر الله تعالى ذلك الإمام للزمان المناسب، يوم يبلغ الناس من الرشد والثقافة ما يمكّنهم من إدراك نوره والتنوّر به.
على سبيل المثال، حينما تقوم إدارة شركة الكهرباء بنصب عمود ومصباح في زقاق ما لإنارته، فيقوم أطفال ذلك الزقاق برمي المصباح بالحجارة وكسره، سيعمد الموظّف المعنيّ إلى استبداله، فإن قام الأطفال بكسره مجدّداً ستقوم إدارة شركة الكهرباء باستبداله مرّة أخرى بمصباح جديد كي لا يعمّ ذلك الزقاق الظلام. أمّا إذا ما قام الأطفال بكسره مرّة أخرى؛ فثمّة احتمال كبير أن تتّجه إدارة الشركة إلى عدم وضع مصباح جديد. نعم، قد تعمد إلى استبداله مجدّداً نزولاً عند رغبة وجهاء الزقاق وطلبهم، وكذلك من أجل راحة المقيمين فيه؛ لكن إلى أيّ مدى ستستمرّ إدارة شركة الكهرباء باستبداله برأيك؟ في ما نحن فيه أيضاً، قام الحكّام الظَلَمة بمواجهة أحد عشر مصباحاً من مصابيح الهداية! فحفظ الله المصباح الثاني عشر إلى زمن تتوفّر فيه لدى الناس اللياقة والاستعداد للاستفادة من مصباح الهداية هذا؛ من هنا، لا بدّ من تهيئة الأرضيّة للظهور وللدولة المهدويّة من خلال تأمين الظروف والأسباب اللازمة لذلك.
ثالثاً: التمهيد للظهور في القرآن
ثمّة آيات في القرآن [الكريم] تتحدّث عن ضرورة وجود الاستعدادات واللياقات الإنسانيّة لنزول الرحمات الإلهيّة وظهورها وتحقّقها؛ يقول تعالى:
﴿وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰت مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾ (الأعراف: 196).
إنّ عصر ظهور الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) من مصاديق هذه الآية البارزة، إذ تقول الروايات إنّ السماء والأرض تبديان بركاتهما. جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام):
«إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حَكَمَ بِالْعَدْلِ، وَاِرْتَفَعَ فِي أَيَّامِهِ اَلْجَوْرُ، وَأَمِنَتْ بِهِ اَلسُّبُلُ، وأَخْرَجَتِ اَلْأَرْضُ بَرَكَاتِهَا، ورَدَّ كُلَّ حَقٍّ إِلَى أَهْلِهِ .
ويقول الإمام الحسن (عليه السلام):
«وتصطلح في ملكه السباع، وتخرج الأرض نبتها، وتنزل السماء بركتها، وتظهر له الكنوز» .
ثمّة نكات في الآية تؤكّد أهمّية سعينا في استجلاب الرحمة الإلهيّة:
1. الإيمان وحده لا يكفي، بل لا بدّ من التقوى: ﴿آمنوا وَاتَّقَواْ﴾.
2. الإغلاق والفتح بيد الله [تعالى] ﴿لَفَتَحنَا﴾، لكنّ ذلك تبع لأعمالنا.
3. إنّ سبب الحرمان والمشكلات التي نواجهها إنّما هو أعمالنا نحن: ﴿بِمَا كَانُواْ يَكسِبُونَ﴾.
من هنا، كان لا بدّ لكي يحكم الإسلام العالم، وتعمّ النعمات الإلهيّة البشريّة؛ من تهيئة ظروف ذلك.
رابعاً: القرآن ومكانة السعي في تحقيق الآمال
إن تطلّعات الإنسان تشكّل الدافع له في حياته، ويحيا على أمل تحقيق أمنياته وآماله متحريّاً السبيل للوصول إليها. وللسعي والجدّ سهم كبير في تحقيق الآمال والمنافع، فقد جاء في القرآن الكريم:
﴿وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ 39 وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ﴾ (النجم: 39-40).
هاتان الآيتان تبيّنان بوضوح:
1. إنّ الحياة هي ميدان السعي والعمل والحصاد: ﴿وَأَن لَّيسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾.
2. نحن مكلّفون بأداء الوظيفة لا بتحقّق النتيجة، وظيفتنا هي السعي والعمل: ﴿إِلَّا مَا سَعَى﴾.
3. إنّ الإيمان ببقاء الأعمال، ومنظومة الثواب والعقاب العادلة؛ يشجّعان الإنسان على العمل من جهة، ويدفعانه إلى الاحتياط والتحلّي بالمسؤوليّة من جهة أخرى: ﴿وَأَنَّ سَعيَهُ سَوفَ يُرَى﴾.
4. ليس هناك انعدام لأيّ عمل من الأعمال: ﴿سَعيَهُ سَوفَ يُرَى﴾.
5. على الصالحين عدم الاستعجال في الحصول على ثواب أعمالهم: ﴿سَوفَ يُرَى﴾.
إنّ أحد الآمال العظيمة والمقدّسة عندنا جميعاً نحن الشيعة؛ هو ظهور إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، وقد يقول بعضنا: نحن لسنا على دراية بكثير ممّا يمهّد لظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه)! لكنّ القرآن يرفض اتخاذ ذلك ذريعة لعدم السعي والعمل. ومن أجل مواجهة هذا الفكر الخاطئ، يرى القرآن الكريم أنّ السعي في سبيل الله يمهّد لنيل اللطف الإلهيّ الخاصّ، ويهدي إلى السبل التي كانت حتّى الآن غائبة عن أنظارنا، ولم نكن على علم بها؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69).
خلاصة القول: لا يمكن بلوغ [الغايات] بالشعارات والآمال، إنّما العمل والجهد والجدّ هي ما يذيق الإنسان حلاوة النجاح. من هنا، لا بدّ للذين يريدون واقعاً أن يدركوا عصر ظهور إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه) وحكومته العادلة وأن ينهلوا من بركاتها؛ من أن يعملوا بكلّ ما أوتوا من قوّة من أجل تحقيق مثل هذه الحكومة.
خامساً: العلاقة بين السعي والدعاء في القرآن
إنّ الدعاء [بتعجيل] الفرج والظهور هو واحد من الأعمال التي على منتظري القدوم المبارك لإمام العصر (عجل الله تعالى فرجه) أن يقوموا بها في عصر الغيبة. وإمام العصر (عجل الله تعالى فرجه) نفسه قد دعانا إلى ذلك: «وَأَكْثِرُوا اَلدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ اَلْفَرَجِ فَإِنَّ ذَلِكَ فَرَجُكُمْ» . وهذا ما دعا بعضهم إلى السؤال عن الحاجة إلى العمل على التمهيد للظهور إذا كان علينا الدعاء لظهور إمام الزمان؟
جواب ذلك أنّ الدعاء إنّما يكون إلى جانب السعي والجدّ وليس بديلاً عنهما. وقد ذكر القرآن الكريم ما كان يدعو به المجاهدون الذين ارتدوا دروعهم وتجهّزوا [للقتال]:
﴿رَبَّنَآ أَفۡرِغۡ عَلَيۡنَا صَبۡرا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ﴾ (البقرة: 250).
وسرّ ذلك أنّه على الرغم من أنّ الإنسان مكلّف بالتحرّك والسعي؛ إلّا أنّ النصر بيد الله [تعالى]، لذا، كانوا يتوجّهون إلى الله أوّلاً ويسألونه النصر: ﴿رَبَّنَآ... وَٱنصُرۡنَا﴾.
إذاً، لا تنجز كلّ الأمور على أيدينا، المسألة ليست على هذا النحو. قد تقوم، مثلاً، بالضغط على جميع مفاتيح تشغيل الكهرباء؛ في حين أنّ التيّار مفصول عن الشبكة من المصدر. فحينما تفصل شركة الكهرباء التيّار عن الشبكة، لن تتمكّن من إنارة المصابيح حتّى لو ضغطت على جميع مفاتيح الكهرباء، بما أنّ التيّار مفصول من المصدر. إن لم يرد الله [تعالى أمراً]، لن تجني فائدة مهما بالغت في السعي نحوه. لذا، حين تشرع قل: «إنْ شاءَ اللَه».
إذا نظرنا في حياة المعصومين (عليهم السلام)، نجد أنّهم وعلى الرغم من كونهم مظهر الدعاء؛ ما فتئوا يقضون ليلهم ونهارهم في السعي والجدّ. ما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) رجل ساحات الجهاد فحسب، بل كان رجل العمل في المجتمع والمنزل أيضاً؛ كان يجمع العلف، ويصلح نعله، ويحمل قربة الماء إلى الأيتام، أي أنّه كان يؤدّي خدمات اجتماعيّة. وكان الإمام الباقر (عليه السلام) يعمل
في أرضه والمعول بيده في حرّ الحجاز الحارق حينما مرّ به رجل متصوّف فنظر إليه وقال: أصلحك الله، شيخٌ من أشياخ قريش في هذه الساعة في طلب الدنيا. كيف لو جاءك الموت وأنت على هذه الحالة؟!
فقال له الإمام (عليه السلام): «لو جاءني –والله– الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس».
لقد ذكرت الروايات أنّ دعاء الداعين بلا عمل ولا سعي غير مجاب. وهذه مسألة لها جذورها القرآنيّة؛ فحينما نرجع إلى هذا الكتاب السماويّ في مسألة شروط استجابة الدعاء؛ نجد أنّه ذكر الإيمان والعمل الصالح كشرطين من شروط الاستجابة، يقول تعالى:
﴿وَيَسۡتَجِيبُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ﴾ (الشورى: 26).
سادساً: مكانة التوكّل في التمهيد للظهور
بالإضافة إلى ما تقدّم ذكره في مسألة التصوّر الخاطئ حول الدعاء [بتعجيل] الفرج، والذي قمنا بتوضيحه ورفع الشبهة عنه؛ فإنّ إحدى المشكلات العقديّة في موضوع التمهيد للظهور هي الفهم الخاطئ لمسألة التوكّل.
صحيح أنّ الإسلام يقدّم الله تعالى على أنّه المتّكل للإنسان، فمن جهة لا حدّ لقدرته [تعالى]، وهو القادر على كلّ شيء، ومنشأ كلّ قدرة، ومن جهة أخرى هو أرحم الراحمين، وجميع الصفات التي لا ينبغي أن يعتريها تزلزل في المتوكّل عليه لا توجد في أحد سواه؛ لكن، لا بدّ من أن نعلم أنّ التوكّل ليس في مقابل الجهد والسعي حتّى يأتي السؤال: أنسعى أم نتوكّل؟ التوكّل يعني أن يمضي الإنسان في طريق الحقّ ويعمل بمقتضاه، متّكلاً على الله في ذلك، فإنّه تعالى الحامي والمدافع عن الذين يدافعون عن الحقّ و[ينصرونه]. التوكّل ضمانة إلهيّة لمن كان دائماً نصيراً وداعماً للحقّ، وقد بنى الله العالم على الدفاع عن الذين يقفون دائماً إلى جانب الحقّ ويدافعون عنه. الحقّ مقرون دائماً بالتأييد المعنويّ.
أساساً، إنّ القعود عن العمل والمسير لا يحتاج إلى ضمانة، والسكون والتوقّف لا يحتاجان إلى تأييد، إنّما يُحتاج إلى التوكّل عند الألم والمشقّات التي تعترض المسير، والتي تضعف الإرادة وتوهن العزيمة. رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوماً لا يزرعون، قال: ما أنتم؟ قالوا: نحن المتوكّلون. قال: «لا، بل أنتم المتّكلون» !
إذاً، ليس معنى التوكّل الخضوع أمام الأحداث، بل أن يستثمر الإنسان كلّ طاقته وقوّته، على أن يعلم في الوقت عينه أنّه ليس لديه شيء من نفسه، وأنّ الذين لا يمتثلون أمر الله ويغفلون عن الأخذ بالأسباب الماديّة والمعنويّة لن يكونوا مشمولين بالمدد الإلهيّ أبداً.
وعليه، ليس ثمّة علاقة بين التوكّل وعدم التمهيد للظهور، بل على العكس، لا بدّ من العمل والسعي من أجل ذلك، غاية الأمر أنّه لا ينبغي لنا أن نغترّ بأعمالنا، كما لا ينبغي لنا أن نتذرّع بالتوكّل للتوقّف عن السعي.
سابعاً: القرآن والإمداد الغيبيّ
المسألة التي يجدر التنبّه لها عند الحديث عن تهيئة مقدّمات الظهور؛ هي مكانة الإمدادات الغيبيّة في ظهور إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، ذلك لأنّ بعضهم فهم من الروايات التي تتحدّث عن أحداث الظهور، ووقوع الكرامات المختلفة أنّ ظهور المهديّ الموعود (عجل الله تعالى فرجه) سيكون إعجازاً إلهيّاً محضاً، الأمر الذي لا يبقى معه حاجة لسعي الناس؛ في حين أنّنا لو رجعنا إلى القرآن الكريم لوجدنا أنّ هذا التصوّر خاطئ، وأنّ منشأه الفهم الخاطئ لمسألة الإمدادات الغيبيّة.
عندما نجلس في محضر القرآن الكريم، نجد أنّ مسألة الإمدادت الغيبيّة والإمدادات الإلهيّة ليست محلّ قبول فحسب، بل إنّ النصرة الحقيقيّة وفقاً للعقائد الإسلاميّة التوحيديّة إنّما هي من عند الله، والإنسان يفتقر إلى المدد الإلهيّ في سائر أحواله، عند ضعفه كما عند قوّته؛ فكما مدّ الله تعالى المسلمين بالنصرة يوم بدر، هو الذي أمدّهم أيضاً بالنصرة يوم حنين:
﴿لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ﴾ (التوبة: 25).
إنّ نصرة المؤمنين من خارج المسارات المعتادة، أو بتعبير آخر من خلال الإمدادات الغيبيّة؛ هي من ضمن بشارات هذا الكتاب السماويّ للمؤمنين، فلهذه البشارات أثر كبير في زيادة الأمل وتعزيز روحيّتهم. لقد نقل لنا القرآن الكريم في الآية الثالثة عشرة من سورة «آل عمران» ما جرى في معركة بدر ونزول الإمدادات السماويّة لتكون عبرة لنا فقال: ﴿قَدۡ كَانَ لَكُمۡ ءَايَة فِي فِئَتَيۡنِ ٱلۡتَقَتَاۖ فِئَة تُقَٰتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخۡرَىٰ كَافِرَة يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ رَأۡيَ ٱلۡعَيۡنِۚ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصۡرِهِۦ مَن يَشَآءُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَة لِّأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ﴾ (سورة آل عمران، الآية 13).
لقد كان عدد المسلمين في معركة بدر 313 رجلاً؛ 77 منهم من المهاجرين و236 من الأنصار. وقد كان الإمام عليّ (عليه السلام) حامل لواء المهاجرين، فيما كان حامل لواء الأنصار سعد بن عبادة. وفي حين كان لدى المسلمين في هذه المعركة 70 جملاً وحصانان وستّة أدرع، وثمانية سيوف؛ كان لدى جيش الكفر أكثر من ألف مقاتل، ومئة فارس، ومع ذلك، انتصر المسلمون على أعدائهم من الكفّار بعد أن قدّموا 22 شهيداً: أربعة عشر من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
نجد في هذه الآية أنّ الكفّار رأوا المسلمين ضعفيهم: ﴿يَرَوۡنَهُم مِّثۡلَيۡهِمۡ﴾، ولم يكونوا كذلك؛ لكن الله تعالى إذا ما أراد قلّب الأبصار والتصوّرات والأفكار. إنّ معركة بدر أظهرت كيف أنّ إرادة الله [تعالى] غالبة على إرادة الخلق، وأنّ الإمكانات الماديّة لا تشكّل العامل الوحيد في تحقيق النصر. إذاً، ما من شكّ في أصل هذه المسألة.
نحن أيضاً نقبل أنّ للمدد الإلهيّ دوراً في مسألة الظهور وتشكيل حكومة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، لكن ووفقاً للآيات القرآنيّة، فإنّ لتحقّق الإمدادات الغيبيّة شروطاً ومقدّمات على الناس أن يوفّروها. وهذا ما سنبحثه مفصّلاً تحت عنوان: مقدّمات الظهور المرتبطة بالناس، لكن لا بأس هنا من باب المثال أن نذكر إحدى الآيات التي تبيّن هذا الأمر –والتي تشكّل إحدى الآيات المهدويّة أيضاً-، بحيث يذكر القرآن الكريم في الآية 125 من سورة آل عمران:
﴿بَلَىٰٓۚ إِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأۡتُوكُم مِّن فَوۡرِهِمۡ هَٰذَا يُمۡدِدۡكُمۡ رَبُّكُم بِخَمۡسَةِ ءَالَٰف مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾.
كما تلاحظون، فإنّ هذه الآية الشريفة عدّت الاستقامة والتقوى سبباً في نزول الملائكة والإمدادات الغيبيّة؛ من هنا، صرّحت الأحاديث المرتبطة بأحداث الظهور بحضور المؤمنين الأكفاء المتّصفين بصفات خاصّة -والتي من جملتها هاتان الصفتان- إلى جانب الإمدادات الإلهيّة. جاء في الرواية أنّ الله يؤيّده بثلاثة أجناد: الملائكة، والمؤمنين، وبثّ الرعب في قلوب الأعداء.
وهذا هو الأصل والقاعدة الحاكمة في حياتنا أيضاً؛ فلا يقولنّ أحد: إنّ الله سيعينني في أموري الشخصيّة بالإمدادات الغيبيّة فأُقبل في امتحان الدخول هذا العام من دون الحاجة إلى الدرس، ولا يرجونّ المزارع أن يجني محصولاً جيّداً من خلال الإمدادات الغيبيّة فحسب، ومن دون حرث أو زراعة!
ليس من المفترض أن يعطّل ربّ العالمين النظام القائم في الكون، حينما يتحدّث القرآن الكريم عن القدرة الإلهيّة، فإنّه يقصد القدرة القائمة على أساس الربوبيّة، والمقرونة بالحكمة. عند ذكر النصرة الغيبيّة الإلهيّة في معركة بدر في سورة الأنفال قال تعالى: ﴿وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ﴾ (الأنفال: 10).
إنّ الله قادر على أن يرزق الأبوين الطفل من دون آلام الولادة؛ لكنّ حكمة الله تعالى تقتضي أن يولد الطفل مصحوباً بآلامها، وأن يجني المزارع ثماره بالزراعة: الحصول على الكنز من غير عمل ليس فيه أمل. مقتضى الحكمة الإلهيّة أن يبلغ الإنسان مناه بالكدّ والسعي والعمل.
ثامناً: شروط نزول الإمدادات الإلهيّة في القرآن
خلاصة ما مرّ أنّ الإمدادات الغيبيّة، وبعد أن نسعى سعينا؛ يمدّ الله بها من يشاء، لكن لذلك المدد شروطه. وفهم هذا الأمر مؤثّر جدّاً في معرفة موقع الإمدادات الغيبيّة من مسألة الظهور وتمكّن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) من تشكيل حكومة العدل العالميّة. وهذه بعض الشروط للنصرة والإمدادات الإلهيّة:
1. الصبر والاستقامة
إنّ الله يحبّ الصابرين، وهم في حصنه، ومحلٌّ لمدده.
يقول القرآن: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 249). ويقول في مكان آخر متحدّثاً عن أولياء الله: ﴿فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰٓ أَتَىٰهُمۡ نَصۡرُنَاۚ﴾ (الأنعام: 34)، وقال أيضاً: ﴿إِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأۡتُوكُم مِّن فَوۡرِهِمۡ هَٰذَا يُمۡدِدۡكُمۡ رَبُّكُم بِخَمۡسَةِ ءَالَٰف مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ (آل عمران: 125).
2. نصرة دين الله
يعدّ القرآن الكريم نصرة دين الله ونصرة وليّ الله من الشروط المهمّة لإنزال المدد الإلهيّ، يقول تعالى: ﴿إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم﴾ (محمد: 7).
3. الجهاد وقتال الأعداء
في الحقيقة، إنّ جبهات القتال أيضاً تعدّ مهداً لنزول المدد الإلهيّ، يقول سبحانه:
﴿قَاتِلُوهُم يُعَذِّبهُمُ الله بِأَيدِيكُم وَيُخزِهِم وَيَنصُركُم عَلَيهِم﴾ (التوبة: 14).
4. تقوى الله
إنّ أحد آثار تقوى الله التي تحظى بمكانة عظيمة في القرآن؛ أنّها – وبالإضافة إلى الآثار الأخرى التي تترتّب عليها– تستجلب رحمة ربّ العالمين وعونه الخاصّ. يقول الربّ الرؤوف في الآية 125 من سورة آل عمران:
﴿بَلَىٰٓۚ إِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأۡتُوكُم مِّن فَوۡرِهِمۡ هَٰذَا يُمۡدِدۡكُمۡ رَبُّكُم بِخَمۡسَةِ ءَالَٰف مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾.
5. الجهاد والسعي
إنّ سعي الإنسان في القرآن [الكريم] علامة إخلاصه، وهذا الإخلاص هو الموجب لنزول المدد الغيبيّ، يقول سبحانه:
﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69).
6. الإيمان بالله
حينما تحدّث القرآن الكريم في سورة الكهف عن أحوال أصحاب الكهف؛ عدّ إيمانهم الأمثل سبباً لشمولهم بالعناية الإلهيّة الخاصّة، بحيث قال:
﴿إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى 13 وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ﴾ (الكهف: 13-14).
7. عدم موالاة الكافرين
ثمّة مسألة لافتة جدّاً يدعونا إليها القرآن مكرّراً، وهي أن لا نوالي الكفّار إذا أردنا أن تعمّنا الإمدادات الغيبيّة: ﴿لَا تَتَّخِذُواْ.. يَأۡتِيَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡر مِّنۡ عِندِهِۦ﴾ (المائدة: 52)، وِإلّا فمن والى الكافرين وكله الله إلى نفسه ومنع عنه الإمدادات الغيبيّة: ﴿وَمَن يَفعَل ذَلِكَ فَلَيسَ مِنَ الله فِي شَيءٍ﴾ (آل عمران: 28).
8. أداء التكليف
إنّ وظيفتنا وفقاً لتعاليم القرآن هي أداء التكليف وبعدها نرتقب المدد، وهذا ما أشارت إليه الآية 93 من سورة «هود» التي تناولت قصّة نبيّ الله شعيب (عليه السلام) في قوله تعالى:
﴿وَيَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَٰمِلۖ سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن يَأۡتِيهِ عَذَاب يُخۡزِيهِ وَمَنۡ هُوَ كَٰذِبۖ وَٱرۡتَقِبُوٓاْ إِنِّي مَعَكُمۡ رَقِيب﴾.
9. الاستغفار والتوبة
عندما نقف مع القرآن [الكريم]، نجد أنّ الاستغفار يجلب الرزق والإمدادات الغيبيّة. [قال تعالى]: ﴿ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارا... لَّكُمۡ أَنۡهَٰرا﴾ (نوح: 10-12).
وسنتعرّض أكثر لهذه المسألة في فصل «مقدّمات الظهور الإنسانيّة» ونذكر لها موارد أخرى.
تاسعاً: حقيقة الانتظار في العمل على التمهيد
من المسائل التي تعيننا أكثر على بيان موضوع شروط الظهور؛ التعرّف عن كثب على مفهوم انتظار الظهور ولوازمه. فقد اهتمّت الروايات عن المعصومين (عليهم السلام)كثيراً بهذه المسألة. روي عن أبي بصير، أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال ذات يوم: «ألا أخبركم بما لا يقبل اللّه عزّ وجلّ من العباد عملاً إلّا به؟ فقلت: بلى، فقال: شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، والإقرار بما أمر اللّه، والولاية لنا، والبراءة من أعدائنا -يعني الأئمّة خاصّة- والتسليم لهم، والورع والاجتهاد والطمأنينة، والانتظار للقائم» .
كما جاء عن الإمام الرضا (عليه السلام):
«ما أحسن الصبر وانتظار الفرج! أما سمعت قول العبد الصالح ﴿فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ﴾» (الأعراف: 71) .
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أفضل العبادة انتظار الفرج» .
كلّ إنسان، حتّى في حياته المادّيّة، إنّما يحيا بالأمل وانتظار تحقّقه، وإذا ما خمد مصباح الأمل قعد عن المسير. المهمّ في البيان هو أن يعلم هذا الإنسان ما الذي يستحقّ الانتظار.
كلّ الناس لديهم أمنيات وآمال، أمّا العاقل الفطن فهو من ينتظر السلام العالميّ ويهتمّ بأمور جميع الخلق. قدر المرء على قدر ما يطلب؛ فأمنية الطفل لعبة؛ وكلّما سمت روحه سمت آماله وأمنياته. وأعظم الناس من كان في انتظار الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)؛ لأنّ انتظاره هو الأمل للعالم، والخير العالميّ، والعدل العالميّ، والأمنية العالميّة. كلّما كان ما يطلبه الإنسان أحقر كان الإنسان أصغر، وكلّما علا قدر ما يطلب علا شأنه، وانتظار الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)؛ يعني انتظار جميع المحاسن والخيرات، والقضاء على جميع القبائح والمساوئ.
لكن لا بدّ في الوقت نفسه من أن نعلم أنّ الانتظار عمل، فقد جاء في الروايات: «أَفْضَلُ الْأعْمالِ» لا «أفضل الحالات». إذاً، الانتظار عمل، لا حالة سكوت وسكون. إنّ الإنسان الذي ينتظر مسافراً غاب عنه مثلاً، والمزارع الذي ينتظر الثمار، لا يهدأ له بال، ونحن المنتظرين لمولانا؛ لا بدّ من أن يسانخ سلوكنا سلوكه (عجل الله تعالى فرجه)؛ فالمنتظر هو الإنسان العامل المجدّ.
إنّ الانتظار يعني رفض الوضع القائم، والرجاء بفتح أبواب الرحمة والمعرفة. الانتظار يعني أنّنا في انتظار عالَم يملؤه العدل.
نقرأ في دعاء «الافتتاح» المنسوب إلى إمام العصر (عجل الله تعالى فرجه): «اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إليك» أي إلهي! أنا أشكو إليك وأعلن رفضي للنظام الطاغوتيّ الحاكم على الأرض. وإن سأل أحدهم ما الحكومة التي ترضونها؟ فالجواب في تتمّة الدعاء: «إنَّا نرْغَبُ إِلَيْكَ فِي دَوْلَة كَرِيْمَة».
إنّ دعاء الندبة أيضاً دعاء الرفض لطواغيت العالم، دعاء الانتظار والأمل بحلول حكومة الحقّ. فحين نجتمع ونقرأ الندبة ونرجو تحقّق حكومة الحقّ؛ علينا أيضاً أن نفكّر ونعمل على التمهيد لتلك الحكومة.
عندما كان الأستاذ الشهيد مطهّري في طهران، وكان يتردّد إلى قمّ للتدريس، كنت ضيفاً عليه في قم مدّة من الزمن، كنت خلالها أطرح عليه أثناء الطريق الكثير من الأسئلة، من جملتها سؤال حول انتظار الظهور، فذكر مثالاً نقله عن المرحوم حجّة الإسلام راشد -الذي كانت كلماته تبثّ عبر الراديو وقد كان رجلاً عالماً- إذ قال: «عندما يحلّ الليل نكون جميعاً في انتظار طلوع الشمس، لكنّ انتظار الشمس لا يعني أن نجلس في الظلمة، فمن جهة ننتظر طلوع الشمس، ومن جهة أخرى لا بدّ من أن ننهض ونعمل ونشعل المصباح».
من كان في انتظار المصلح يجب أن يكون صالحاً. الناس غير المبالين، من لا غيرة لهم، ولا مال ولا قدرة؛ لن يكون بإمكانهم القول للحجّة بن الحسن (عجل الله تعالى فرجه): أقدم إلينا! من لم يكن لهم دور في الثورة والنظام الإسلاميّ ولا دور لهم الآن، عليهم أوّلاً أن يسألوا الله أن يكون لهم دور في ذلك، ثمّ يقرؤوا دعاء الندبة بعد ذلك.
عندما نقول: أقدم يا مهديّ، فعلى ما سيقدم؟ ستقولون حتماً سيأتي للدفاع عن حقوق الناس. حسناً، كم دافعتم عن حقوق الناس خلال مرحلة الحرب المفروضة؟ كم سبحتم في هذه البركة حتّى تتحدّثوا عن قطع المحيط الأطلسيّ! أساساً من لم يكن لهم دور في الثورة، لا يمكن لهم القول: أقدم يا مهديّ!
العديد من الآيات القرآنيّة المهدويّة المرتبطة بمنتظري الظهور، لحظ هذا الاستعداد، يقول القرآن الكريم:
﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ﴾ (الحديد: 19).
يروي الحارث بن المغيرة عن الإمام الباقر (عليه السلام):
«العارف منكم هذا الأمر، المنتظر له، المحتسب فيه الخير، كمن جاهد والله مع قائم آل محمّد بسيفه، ثمّ قال: بل والله كمن جاهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسيفه، ثمّ قال الثالثة: بل والله كمن استشهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فسطاطه، وفيكم آية في كتاب الله. قلت: وأيّ آية جعلت فداك؟ قال: قول الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَۖ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ﴾ (الحديد: 19)، ثمّ قال: صرتم والله صادقين، شهداء عند ربكم» .
إنّ الآية التي تتحدّث عن المنتظرين للظهور؛ تصفهم بالـ، «الصدّيق»، وهذه الصفة تقال لمن كان الصلاح يغشاه من رأسه إلى أخمص قدميه، ومن كان قوله وعمله واحد، ومن كان الصدق خلقاً من أخلاقه قد جبل به. ومن الواضح أنّ اكتساب هذه الخصلة السامية علامة على الاستعداد لظهور إمام الحقّ.
عاشراً: وظيفتنا في أمر الظهور
في مبحث الظهور، لا أهميّة كبيرة لمعرفة الوقت الذي سيظهر فيه إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، أو معرفة المكان الذي يعيش فيه الإمام، إنّما المهمّ أن نعرف ما هي وظيفتنا الآن، وما الذي ينتظره منّا الإمام فنقوم به، لأنّ أداء التكليف هو السبيل الأفضل في التمهيد لظهور وليّ العصر (عجل الله تعالى فرجه). من هنا، كانت معرفة التكليف أهمّ الأمور في زمن غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه)، وهو ما سنشير إلى بعض عناوينه هنا، أمّا توضيحه فيأتي:
1. معرفة إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه) ومعرفة أهدافه، وهو ما جاء في الدعاء: «اللّهم عرّفني حجتك فإن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني» .
2. تعريف الآخرين على الإمام (عجل الله تعالى فرجه) وقيامه العالميّ، والتمهيد للظهور.
3. العمل على جلب رضى إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه) من خلال القيام بالأعمال الصالحة والارتباط الروحيّ به.
4. انتظار الفرج والدعاء بتعجيل ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه).
5. التصدّق عن الإمام (عجل الله تعالى فرجه) والدعاء لحفظه.
6. الصلاة، وقراءة دعاء الفرج والندبة والعهد، والسلام الكامل، كدعاء الاستغاثة بالإمام الحجّة(عجل الله تعالى فرجه).
7. دفع الخمس والسهم الخاصّ بإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه).
8. العمل بالتكليف وأداء الواجبات، والابتعاد عن الذنوب والمحرّمات.
إنّ التاجر الذي يحتال على الناس؛ حتماً لن يكون من المنتظرين لظهور إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه).
أولئك الذين قلّما يعملون ويسعون وراء رزقهم، والذين يسيئون العمل ويقدمون على الخيانة، ليسوا من منتظري إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه).
حادي عشر: لزوم الاهتمام بشروط الظهور لا بعلاماته
إن كان القيام بالتكليف في عصر الغيبة هو محور عملنا؛ فاعلموا أنّ أحد التكاليف التي علينا القيام بها هو التمهيد للظهور. من هنا، يجب علينا الاهتمام بشروط الظهور لا بعلاماته، وهذا ما حصلت الغفلة عنه مع الأسف نتيجة عدم اهتمام الكثير من شيعة الإمام (عجل الله تعالى فرجه) به. وعوضاً عن الاهتمام بمعرفة شروط الظهور وتحقيقه، انصبّ اهتمامهم على علاماته.
إنّ عدم الظهور يدلّ على أنّ الأرض لم تمهّد بعد لذلك؛ فلا بدّ من السعي والعمل على تهيئة الأرضيّة اللازمة. إنّما يظهر وليّ العصر (عجل الله تعالى فرجه) إذا ما وقف الناس على المعارف القرآنيّة والإسلاميّة وأصبحوا مستعدّين لحكومته.
من ينتظر المصلح لا بدّ من أن يكون صالحاً. لا يمكن للمرء أن يكون منتظراً للمصلح ثمّ لا يكون في نفسه صالحاً، ليس من الصحيح أن نجلس وننتظر مجيء إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه) ليقوم بعمليّة الإصلاح. نحن ننتظر طلوع الشمس، لكنّنا نشعل المصباح ليلاً، نحن ننتظر الشمس والوقت ليل، فنشعل المصباح بأنفسنا. نحن منتظرون لإمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، وفي الوقت نفسه علينا العمل والسعي.
الاكثر قراءة في علامات الظهور
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة