إشكالات أهل السّنة في انطباق آية أُولي الأمر على الأئمّة المعصومين
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج2/ص170-179
2025-11-22
26
أنّ الإشكالات التي أثارها العامّة حول انطباق الآية على الأئمّة المعصومين هي سبعة إشكالات كلّها واهية لا تصمد أمام الدليل والبرهان. ونحن هنا سنتطرّق إليها جميعها مشفوعة بالأجوبة.
الإشكال الأوّل: قيّدت الآية المباركة لفظ {أُولِي الْأَمْرِ} بكلمة {مِنْكُمْ} أي إنّهم من سنخكم. وهذا يدلّ على أنّ الواحد منهم إنسان عادي مثلنا، وهم مؤمنون من غير مزية عصمة إلهيّة.
الجواب: يتمّ هذا الاستدلال إذا كان متعلّق لفظ منكم ظرفاً لغواً، كما يصطلح عليه النحويّون، ولكنّ ظاهر الآية يفيد أنّ الظرف هنا هو ظرف مستقرّ، أي «أولِي الأمْرِ كائِنين مِنكُمْ». وهذا يدلّ فقط على أنّ أولي الأمر هم من جنس البشر لا من جنس آخر، نظير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ}[1]. وقوله في دعوة إبراهيم: {رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}[2]. وقوله: {رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي}[3]. في ضوء ذلك، فالآية تدلّ فقط على أنّ أولي الأمر هم من الناس أنفسهم. ومن الطبيعيّ، فلا شكّ أنّ الأئمّة المعصومين هم من جنس البشر لا من جنس الملائكة أو غيرهم.
الاشكال الثاني: أنّ لفظ أولي الأمر جمع، والجمع يدلّ على مسمّى له تعدّد، فإذا أردنا أن نحمل الآية على الأئمّة المعصومين، ولمّا كان في كلّ عصر إمام واحد ليس أكثر، فهذا يلزم أن نحمل لفظ الجمع على المفرد، وهو خلاف الظاهر.
الجواب: أنّ الذي هو خلاف الظاهر من حمل الجمع على المفرد هو أن يطلق لفظ الجمع ويراد به واحد من آحاده. ولكنّ الآية الشريفة ليست كذلك. أنّ أولي الأمر هم الأئمّة الاثنا عشر المعصومون، ولا إشكال في إطلاق لفظ الجمع عليهم. ولا يلزم في صحّة استعمال لفظ الجمع وجود جميع أفراده فعلًا، بل إذا وُجِدُوا واحداً بعد الآخر، فإنّ لفظ الجمع المنحلّ إلى الآحاد سوف ينطبق عليهم. فنحن نقول على سبيل المثال: على طالب المدرسة أن يجتاز الصفوف الدراسيّة. فالصفوف هنا جمع ولكنّ اجتيازها لا يتحقّق في زمن واحد، بل يتحقّق تدريجياً. ومثل هذا الاستعمال شائع بين الناس كثيراً. فهم يقولون: أطع رؤساءك، أي: أطع هذا الرئيس؛ لأنّه لا يوجد في كلّ عصر أكثر من رئيس واحد. وقد وردت هذه الجموع في القرآن المجيد كثيراً. منها: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}[4]. {فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ}[5]. {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الْوُسْطى}[6]. {إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا}[7]. {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}[8]. فالواضح من هذه الآيات هو أنّ الإنسان لا يؤدّي صلواته كلّها في زمن واحد، ولا يطيع سادته وكبراءه في وقت واحد، ولا يخفض جناحه للمؤمنين جميعهم في عصر واحد. فهذه الجموع تنحلّ إلى أفراد متعدّدين. ومتى كان أحدهم مصداقاً، فهو الذي يقع عليه عبئ التكليف. وآية أولي الأمر هي كذلك لأنّها منحلّة إلى أفراد، متى تحقّق وجود أحدهم في الخارج، فإنّ وجوب إطاعته سوف يتحقّق لا محالة.
الاشكال الثالث: لو كان القصد من إطاعة أولي الأمر هو إطاعة الأئمّة المعصومين. فهذا مشروط بمعرفتهم. لأنّ الإنسان إذا لم يعرفهم، فوجوب إطاعتهم محال، وهذا تكليف بما لا يطاق. ولمّا فرضت الآية المباركة إطاعتهم بنحو مطلق، فلا تنطبق إذن على الأئمّة المعصومين.
الجواب: أنّ هذا الإشكال نفسه إشكال على المستشكل؛ لأنّنا إذا اعتبرنا أولي الأمر هم المنتخبين من أهل الحلّ والعقد، فإنّ طاعتهم مشروطة بمعرفتهم أيضاً. ولا فرق بين أن نعتبر أولي الأمر هم الأئمّة المعصومين أو غيرهم، فإطاعة التكليف- على أي حال- منوطة بمعرفة موضوعه. والفرق الوحيد هو أنّ تعريف الأئمّة المعصومين يحتاج إلى بيان من الله ورسوله، بينما تعريف أهل الحلّ والعقد يتولّاه الناس. هذا أولًا، وأمّا ثانياً: فإنّ معرفة الموضوع- كما جاء في علم الاصول- ليست شرطاً في أصل التكليف، بل الشرط هو تنجّز التكليف وتحقّق بلوغه. فالتكليف متحقّق من غير معرفة به وبموضوعه، لكن ليس له تنجّز، وعند قصور المكلّف عن العلم، فلا يقع عليه تكليف. ولو أردنا فرضاً أن نجعل العلم بالتكليف أو بموضوعه من شرائط التكليف نفسه كالاستطاعة في الحجّ ووجدان الماء في الوضوء، فلن يوجد تكليف مطلق أبداً. وفي ضوء ما تقدّم فإنّ وجوب إطاعة أولي الأمر مطلق في هذه الآية الشريفة، ومن الطبيعيّ فإنّ العلم بهم شرط لتنجّز التكليف. وعند عدم العلم، فلا تنجّز في التكليف ما لم يكن عن تقصير. وفي أغلب التكاليف فإنّ العلم بالموضوع من شرائط بلوغ التكليف، لا من شرائط أصل التكليف.
الاشكال الرابع: أنّ الله تعالى يقول في هذه الآية بعد وجوب إطاعة أولي الأمر: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ}.
وهذا يعني أنّ فضّ النزاع يقع على الله ورسوله كما تصرّح الآية به. ولو كان اولو الأمر هم الأئمّة المعصومين، لأوجبت الآية الرجوع إليهم لفضّ النزاع؛ لأنّهم يحكمون بين الناس حسب الواقع. ولكن لمّا لم تصرّح الآية بالرجوع إليهم لفضّ النزاع، فهذا يعني عدم اتّصافهم بالعصمة، وعدم حجيّيّة قولهم في النزاع، وإنّما المرجع لفضّ النزاع هو الكتاب والسنّة.
الجواب: كما مرّ بنا في أوائل البحث مفصّلًا فإنّ الآية تخاطب المؤمنين: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، فقد وجبت في هذه الآية إطاعة الله ورسوله وأولي الأمر بنحو مطلق وبلا قيد وشرط. فإطاعة الله في القوانين الكلّيّة واصول الأحكام التي يريدها القرآن المجيد.
أمّا إطاعة رسوله فلها بُعْدَان: الأوّل: ما يرجع إلى القوانين والأحكام، نحو تفصيل الأحكام، وبيان حدود الموضوعات ومواصفاتها وتفريع الفروع المبيّنة اصولها في كتاب الله. فهذا البعد هو بعد التشريع ويختصّ برسول الله. الثاني: ما يرجع إلى أوامره الشخصيّة المتعلّقة بالمصالح الاجتماعيّة نحو تجهيز الجيش، وإرسال السرايا، وتعيين امراء الجيش وأئمّة الجماعة والمؤذّنين، وأمثالها من الشؤون التي لا ترتبط بالتشريع، بل هي منوطة برأيه وحكمه. فإطاعة رسول الله في كلا البعدين واجبة.
وأمّا إطاعة أولي الأمر فهي فقط في البُعد الثاني من بعدي طاعة الرسول؛ لأنّ أولي الأمر، وإن كانوا الأئمّة المعصومين، فهم لم ولن يأتوا بشريعة جديدة بل هم تابعون لشريعة رسول الله. لذلك لا نصيب لهم من التشريع، وإنّما شأنهم بيان الأحكام، وإبلاغ معاني القرآن، وتأويلها وتجهيز الجيوش، والنظر في المصالح الاجتماعيّة من قبيل تعيين الولاة ونصب القضاة وغيرها. فإطاعة أولي الأمر واجبة فقط في الآراء الشخصيّة. ولمّا جعلت الآية الشريفة كتاب الله وسنّة رسوله هما المرجعين لأخذ الأحكام، ولا نصيب لأولي الأمر في ذلك، لذا ينبغي الرجوع إلى الله ورسوله لفضّ النزاع، سواء من خلال الرجوع إلى أولي الأمر أو إلى غيرهم ممّن يعلم بالكتاب والسنّة. ومن الطبيعيّ إذا ما تمّ الرجوع إلى أولي الأمر، وحكموا وفقاً للكتاب والسنّة لعلمهم بهما، فإنّ حكمهم سيكون قاطعاً أيضاً وتجب إطاعته في ضوء الآية المباركة.
فاتّضح لنا إذن أنّ السبب من وراء الإرجاع إلى الكتاب والسنّة وعدم الإرجاع إلى أولي الأمر في التنازع هو من باب تعيين مصادر الأحكام والتشريع المنحصرة في الكتاب والسنّة، لا من باب عدم حجّيّة قول أولي الأمر، فقولهم حجّة ورافع للخصومة من حيث إنّه متّخَذ من كتاب الله وسنّة رسول الله.
وممّا يؤيّد جميع ما ذكرنا، هو الآيات التالية التي تحرّم الرجوع إلى الطواغيت لفضّ النزاع والخصومة، فقد قال جلّ من قائل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً، وإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً، .... وما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}[9].
فهذه الآيات تحرّم الرجوع إلى غير الله ورسوله لفضّ المنازعات والمشاجرات، وتدين الأشخاص الذين يتحاكمون إلى سلاطين الجور الذين يحكمون خلاف حكم الله ورسوله، لحلّ مشاكلهم، ملقيةً اللوم عليهم طاعنة فيهم لأجل ذلك. وتجعل حكم النبيّ هو الفاصل في الخصومة الرافع للمنازعة، فهذه شواهد تدلّ على أنّ الله قد جعل مرجع الأحكام في آية أولي الأمر كتابه وسنّة رسوله، لذلك ينبغي تحكيمهما في المنازعات من هذه الجهة، لا من جهة أنّ قول أولي الأمر، على فرض عصمتهم وعدم تجاوزهم الكتاب والسنّة، ليس حجّة، بل هو حجّة، وحجّيّته في طول حجّيّة الكتاب والسنّة لا في عرضها.
الاشكال الخامس: يقول الشيعة: أنّ فائدة الإمام المعصوم هي هداية الناس إلى الصراط المستقيم وإنقاذهم من المنازعات والمشاجرات والتفرقة. وهذا طبعاً مع فرض عصمتهم، ولكن لو فرض وقوع نزاع بين أولي الأمر أنفسهم، إذ يتنازعون حول أصل الولاية أو غير ذلك، فإنّهم في هذه الحالة غير معصومين، وأنّ تلك النتيجة ستكون غير عائدة ولا مفيدة. ولمّا بيّنت الآية الشريفة تنازع الناس مع وجود أولي الأمر بل تنازع أولي الأمر أنفسهم، واعتبرت المرجع في رفع الخصومة كتاب الله وسنّة رسوله في كافّة الأحوال، فمن المحال فرض العصمة لهم مع وجود فرض التنازع بينهم.
الجواب: كما ذكرنا سابقاً فإنّ الخطاب موجّه في هذه الآية إلى غير أولي الأمر من سائر المؤمنين {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ...}.
من الواضح أنّ المعنيّين بهذا الخطاب هم أفراد آخرون من المؤمنين. وهذا الخطاب الذي يأمر الناس بطاعة أولي الأمر لا يشمل أولي الأمر أنفسهم. وعند ما يقول بعد ذلك: فإذا تنازعتم فارجعوا إلى الله ورسوله، فهو خطاب يتلو ذلك الخطاب الأوّل. ولمّا كان عطفاً فالمخاطَبون به هم نفس المخاطَبين السابقين، أي إنّهم غير أولي الأمر. لذلك فإنّ مجال التنازع هو في الوقائع الحادثة بين الناس، لا المسائل والأحكام الصادرة عن الإمام؛ لأنّه لا معنى للتنازع في أحكامه وأوامره مع وجوب طاعته، ولا يفترض ذلك. كما لا مجال للتنازع بين أولي الأمر في المسائل الواقعة (كذلك لا يفترض نزاعهم فيما بينهم باعتبار أنّ الخطاب موجّه للمؤمنين لا لهم. مضافاً إلى ذلك فإنّهم معصومون لا يتنازعون، فالخطاب لا يشملهم. ومن الواضح- طبعاً- أنّ الناس يجب أن يرجعوا في منازعاتهم إلى الكتاب والسنّة. فيُنهى نزاعهم مَن له علم بهما سواء كانوا أولي الأمر أو غيرهم. مثل الآيات التي توجّه المؤمنين إلى وجوب طاعة رسول الله، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ولمّا كانت تخاطب المؤمنين، فهي لا تشمل رسول الله. بل تخصّ المؤمنين الذين ينبغي أن يسألوه عن حكم الله والرسول أو يسألوا غيره ممّن له علم واطّلاع، ثمّ يطيعوه. وكذلك في آية أولي الأمر فإنّ الخطاب لا يشملهم، بل يشمل غيرهم من المؤمنين الذين ينبغي أن يسألوا أولي الأمر عن الحكم والمسألة أو يسألوا غيرهم، فيعملوا وفقاً لحكم الله ورسوله.
الإشكال السادس: أنّا في زماننا هذا عاجزون عن الوصول إلى الإمام المعصوم وتعلّم الأحكام والمسائل وتأويلات القرآن منه، ولا سبيل لنا إليه، فلا يكون هو الذي فرض الله طاعته علينا، إذ لا سبيل إلى الطاعة. ومن جهة اخرى لمّا كنّا نعلم أنّ الآية الكريمة فرضت طاعة أولي الأمر بنحو مطلق، فلا يكون اولو الأمر هم الأئمّة المعصومين.
الجواب: أنّ الوصول إلى الإمام كان ميسوراً لكافّة الناس في زمن الظهور كما نجد ذلك في عصور الأئمّة الأحد عشر. وأمّا في زمن الغيبة فإنّ عدم إمكان الوصول لجميع الناس مستند إليهم، إذ حرموا من ذلك الفيض بسبب سوء أفعالهم وخياناتهم وجرائمهم، فهذا القصور ليس من جهة الله ورسوله، كما لو قتلت الامّة نبيّها ثمّ اعتذرت أنّها لا تقدر على طاعته ولا تتمكّن من لقائه والإفادة من محضره. كما وقع للُامّة في زمن الحضور مثل هذه المصائب التي يمكن أن نعتبر زمنها زمن غيبة أيضاً.
فقد سُجن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام وفرضت الإقامة الجبريّة على الإمام الرضا وغيره من الأئمّة كالإمام الجواد، والإمام الهاديّ، والإمام العسكريّ عليهم السلام بحيث لم يتيسّر لجميع الناس الوصول إليهم. فمتى أصلحت الامّة نفسها، ووجدت فيها القابليّة على ظهور الإمام فسوف تتشرّف بلقائه، كما نلحظ ذلك في رسالة الإمام المهديّ صلوات الله عليه التي كتبها إلى الشيخ المفيد رضوان الله عليه إذ يذكّر بهذه النقطة فيقول: «وَ لَوْ أنّ أشْيَاعَنَا- وَفَّقَهُمُ اللهُ لِطَاعَتِهِ- عَلَى اجتِمَاعٍ مِنَ القُلُوبِ في الْوَفَاءِ بالْعَهْدِ عَلَيْهِمْ لَمَا تَأخَّرَ عَنْهُمُ اليُمْنُ بِلِقائِنَا، ولَتَعَجَّلَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ بِمُشَاهَدَتِنَا عَلَى حَقِّ المَعْرِفَةِ وصِدقِهَا مِنْهُمْ بِنَا، فَمَا يَحْبِسُنَا عَنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَّصِلُ بِنَا مِمَّا نَكْرَهُهُ ولَا نُؤثِرُهُ مِنْهُمْ»[10].
هذا من ناحية العوامّ، وأمّا من ناحية خواصّ الناس الذين يحاولون جادّين من أجل تزكيّة النفس، ويخطون خطوات ثابتة وطيدة على الصراط المستقيم مجدّين في مجاهدة المشتهيات النفسانيّة، فإنّ الطريق إلى لقاء الإمام والإفادة من فيضه مفتوح أمامهم. فكلّ من أراد أن يتشرّف بحضور الإمام، فعليه أن يخطو خطوات صادقة مخلصة على هذا الطريق.
مضافاً إلى ذلك، فإنّ هذا الإشكال مقلوب على الفخر الرازيّ نفسه لأنّه يرى أنّ أولي الأمر هم إجماع أهل الحلّ والعقد المتّبعة آراؤهم الذين يجب عليهم أن يشكّلوا امّة واحدة في جميع العالم الإسلاميّ. وهذا- بطبيعة الحال- غير ممكن، إذ لا يتيسّر حاليّاً بأيّ وجه من الوجوه تشكيل أمّة إسلاميّة واحدة في كل العالم الإسلاميّ بنظريّة أهل الحلّ والعقد.
الاشكال السابع: إذا كان القصد من أولي الأمر هم الأئمّة المعصومين، فإنّ ذلك يحتاج إلى تعريف صريح من الله ورسوله. ولو كان ذلك، لرجعت الأمّة كلّها إليهم بعد وفاة رسول الله، ولنظروا إليهم على أنّهم الأولياء وأصحاب الاختيار، ولما اختلف في أمرهم اثنان[11].
الجواب: أنّ سبب مخالفة بعض الامّة ليس فقدان النصّ من الله ورسوله؛ لأنّ كثيراً من الامور قد ورد فيها نصّ صريح من الكتاب والسنّة لكنّها خولفت أيضاً. فالعلم بالحكم وفهم الواقع في جانب، وتسليم القلب لأمر الله ورسوله في جانب آخر.
فما أكثر ما يكون الإنسان قد عرف جيّداً موضوعاً ما، وأدرك من الناحية الفكريّة والعقليّة حقيقة الأمر بدون أي شبهة وشكّ، بَيدَ أنّه أعرض عن ذلك الأمر المعلوم ولم يطبّقه عمليّاً بسبب حبّ الرئاسة، وغلبة النفس الأمّارة، والانغماس في اللذّات والشهوات، وعدم خضوع القلب أمام الحقائق والواقعيّات. فحبّ الجاه وهوى الرئاسة عند الإنسان أقوى من حبّ المال وبعض الشهوات الغذائيّة والجنسيّة آلاف المرّات. وربّما أعرض الإنسان ظاهريّاً عن الشهوات الجنسيّة والغذائيّة والماليّة، لكنّ حبّ الجاه والرئاسة، وهو خفيّ للغاية، يعشعش في منافذ القلب الدقيقة. ويظلّ ملازماً للإنسان حتى موته، وهو آخر ما يخرج من قلوب الصدّيقين. وكيف يخرج من القلب بهذه السرعة وهذه السهولة؟ إنّه كالصيّاد ينصب كميناً في زاوية الضمير حتّى إذا ما وجد الفرصة سانحة للهجوم فإنّه يبادر إلى ذلك، فيدعو الناس إلى اتّباعه متنازلًا عن كلّ شيءٍ لأجل ذلك حتى عن المال والولد. غير أنّ الذين اخترقوا هذه الحواجز ونزلت فيهم آية «المباهلة» وآية «التطهير»، وكذلك الذين يرون أنفسهم تابعين لأولئك المطهّرين، محاولين بلوغ الهدف بمجاهدة النفس غير متخطّين نصوص الكتاب والسنّة، وغير مرتابين في ولاية الأئمّة المعصومين. فهؤلاء جميعاً مستثنون ممّا ذكرنا.
[1] الآية 2، من السورة 62: الجمعة.
[2] الآية 129، من السورة 2: البقرة.
[3] الآية 35، من السورة 7: الأعراف.
[4] الآية 8، من السورة 68: القلم.
[5] الآية 52، من السورة 25: الفرقان.
[6] الآية 238، من السورة 2: البقرة.
[7] الآية 67، من السورة 33: الأحزاب.
[8] الآية 88، من السورة 155، الحجر.
[9] الآيات 60و 61 و64، من السورة 4: النساء.
[10] «الاحتجاج» للشيخ الطبرسي، طبع النجف، ج 2، ص 325.
[11] ذكر الفخر الرازي في تفسيره، ج 10، ص 146 الإشكال الثاني والثالث والرابع والإشكال السادس في ص 144 وذكر العلّامة الطباطبائي في تفسير «الميزان» ج 4، ص 417 و425 و426 بقيّة الإشكالات مع إشكالات الفخر نفسه، وأجاب عليها جميعها.
الاكثر قراءة في شبهات وردود
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة