بحث كتب التاريخ وعلم الاجتماع في أُسلوب تفكير عموم الناس
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج2/ص102-106
2025-11-15
26
لقد تحدّثت كتب التاريخ وعلم الاجتماع عن طبيعة الأفكار السائدة عند عامّة الناس؛ وقدّمت أكثر تلك الكتب وصفاً يثير العجب لتلك الأفكار. وكمثال على ذلك نذكر شيئاً منها جاء في كتاب «مروج الذهب» للمؤرّخ الشيعي أبي الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ المسعوديّ المتوفّى سنة 364 ه-. فقد قال هذا المؤرّخ: وبلغ من إحكام معاوية للسياسة وإتقانه لها واجتذابه قلوب خواصّه وعوامّه أنّ رجلًا من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفّين، فتعلّق به رجل من دمشق، فقال: هذه ناقتي، اخذت منّي بصفّين، فارتفع أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقيّ خمسين رجلًا بيّنة يشهدون أنّها ناقته. فقضى معاوية على الكوفيّ، وأمره بتسليم البعير إليه. فقال الكوفيّ: أصْلَحَكَ الله! إنّه جمل وليس بناقة، فقال معاوية هذا حكم قد مضى. ودسّ إلى الكوفيّ بعد تفرّقهم. فأحضره، وسأله عن ثمن بعيره. فدفع إليه ضعفه. وبرّه، وأحسن إليه، وقال له: أبلغ عليّاً أنّي اقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرّق بين الناقة والجمل.
وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنّه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفّين الجمعة في يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها.
[ولمّا قُتل عمّار بن ياسر على يد أهل الشام، وكان في أصحاب أمير المؤمنين، (و كان قد بلغ أهل الشام حديث رسول الله فيه من أنّ عمّاراً تقتله الفئة الباغيّة)] ركنوا إلى قول عمرو بن العاص: أنّ عليّاً هو الذي قتل عمّار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، صدّقه جميعهم، ورأوا كلامه حجّة، واعتبروا عليّاً وأعوانه هم الفئة الباغيّة.
ثمّ ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن الإمام عليّ عليه السلام سنّة، ينشأ عليها الصغير، ويهلك عليها الكبير.
ويقول المسعوديّ: [ومن غفلة أهل الشام والعراق] ما ذكره بعض الأخباريّين أنّه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم: مَن أبو تراب (عليّ بن أبي طالب) هذا الذي يلعنه الإمام علي المنبر؟ قال: أراه لصّاً من لصوص الفتن.
وحكى الجاحظ، قال: سمعت رجلًا من العامّة وقد ذُكر له أهل البيت يقول: إذا أتيته مَن يكلّمني منه؟ وإنّه أخبره صديق له أنّه قال له رجل منهم، وقد سمعه يصلّي على محمّد [صلّى الله عليه وآله وسلّم]: ما تقول في محمّد هذا؟ أربّنا هو؟ وذكر ثمامة بن أشرس، قال: كنتُ مارّاً في السوق ببغداد، فإذا أنا برجل عليه الناس مجتمعون، فنزلتُ عن بغلتي، وقلتُ: لِشيء ما هذا الاجتماع؟ ودخلتُ بين الناس، وإذا برجل يصف كحلًا معه إنّه ينجح من كلّ داء يصيب العين. فنظرت إليه، فإذا عينه الواحدة رشاء[1]، والأخرى مأسوكة.
فقلتُ له: يا هذا! لو كان كحلك ما تقول لِمَ لَم ينفع عينيك؟! فقال لي: يا جاهل! أ هاهنا اشتكت عيناي؟! إنّما اشتكتا بمصر، فقال كلّهم: صدق. [واعتراضك هذا ليس في محلّه].
[يقول ثمامة: ولمّا أردتُ أن افهمهم بأنّ هذا الرجل يغالط، وحتى لو اشتكت العين بمصر، فالكحل الآن ببغداد، ولا بدّ أن ينفعها، لكنّهم لم يفهموا أبداً] وذكر أنّه ما انفلت من نعالهم إلّا بعد كَدّ.
يقول المسعوديّ بعد نقل هذه الأخبار عن الجاحظ وثمامة: وذكر لي بعض إخواني: أنّ رجلًا من العامّة بمدينة السلام (بغداد) رفع إلى الولاة الطالبيّين لأصحاب الكلام على جار له أنّه يتزندق، فسأله الواليّ عن مذهب الرجل. فقال: إنّه مُرجِئيّ، قَدَرِيّ، ناصبيّ، رافضيّ. فلمّا قصّه عن ذلك، قال: إنّه يبغض معاوية بن الخطّاب الذي قاتل عليّ بن العاصّ. فقال له الواليّ: ما أدري على أي شيء أحسدك: على علمك بالمقالات، أو على بصرك بالأنساب؟ [ويقول المسعوديّ أيضاً]: وأخبرني رجل من إخواننا من أهل العلم، قال: كنّا نقعد نتناظر في أبي بكر، وعمر، وعليّ، ومعاوية، ونذكر ما يذكره أهل العلم. وكان قوم من العامّة يأتون فيستمعون 01 منّا. فقال لي ذات يوم بعضهم، وكان أعقلهم وأكبرهم لحية! كم تطنبون في عليّ ومعاوية، وفلان، وفلان؟ فقلتُ له: فما تقول أنت في ذلك؟! قال: مَن تريد؟ قلتُ: عليّ، ما تقول فيه؟ قال: أليس هو أبو فاطمة؟ قلتُ: ومن كانت فاطمة؟ قال: امرأة النبيّ عليه السلام بنت عائشة اخت معاوية! قلتُ: فما كانت قصّة عليّ؟ قال: قتل في غزاة حنين مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم.
[ويقول المسعوديّ بعد نقله قصّة اخرى عن بني اميّة والسفّاح]: وقد كان ببغداد رجل في أيّام هارون الرشيد متطبّب يطبّب العامّة بصفاته.
وكان دهريّاً يظهر أنّه من أهل السنّة والجماعة، ويلعن أهل البدع ويعرف بالسنّيّ، تنقاد إليه العامّة. فكان يجتمع إليه في كلّ يوم بقوارير[2] الماء خلق من الناس.
فإذا اجتمعوا، وثب قائماً على قدميه، فقال لهم: معاشر المسلمين! قلتم: لا ضارّ ولا نافع إلّا الله. فلأيّ شيءٍ مصيركم إلى تسألونني عن مضارّكم ومنافعكم؟! إِلْجؤوا إلى ربّكم. وتوكّلوا على بارئكم، حتى يكون فعلكم مثل قولكم.
فيقبل بعضهم على بعض، فيقولون: أي والله قد صدقنا. فكم من مريض لم يعالج حتى مات. ومنهم من كان يتركه حتى يسكن ثمّ يريه قارورة الماء، فيصف له الدواء، فيقول: إيمانك ضعيف، ولو لا ذلك لتوكّلت على الله كما أمرضك فهو يبرئك، فكان يقتل بقوله هذا خلقاً كثيراً لتزهيده إيّاهم في معالجة مرضاهم.
[ويواصل المسعوديّ حديثه بعد هذا الكلام فيقول] ومن أخلاق العامّة أن يُسَيّدوا غير السيّد، ويفضّلوا غير الفاضل، ويقولوا بعلم غير العالم، وهم أتباع من سبق إليهم من غير تمييز بين الفاضل والمفضول والفضل والنقصان ولا معرفة للحقّ من الباطل عندهم.
ثمّ انظر، هل ترى إذا اعتبرتَ ما ذكرنا، ونظرتَ في مجالس العلماء، هل تشاهدها إلّا مشحونة بالخاصّة من أولي التمييز والمروءة والحِجا.
[1]يقول صاحب «شرح القاموس»: البَرَش محرّكة والبرشة بالضمّ في شعر الفرس نكت صغار تخالف سائر لونه. ويقال لها بالفارسيّة (چپار). والفرس أبْرَش على وزن أحمر وبَريش كأمير. والبَرش بياض يظهر على الأظفار. انتهي. فالعين البرشاء- إذَن- هي ما يظهر فيه من النكت أو البياض في سوادها. ويقول في(مأسوكة): إسكتان بكسر الأوّل علي صيغة المثني: شفرا الرحم أو جانباه ممّا يلي شفريه. أو جانبا الفرج وهما قذتاه. وجمعه أسك بفتح الأوّل وكسره، ويأتي على وزن عِنَب. ومأسوكة على وزن معلومة وهي المرأة التي أخطأت خافضتها فأصابت غير موضع الخفض. والعين المأسوكة هي العين التي خربت أجفانها فهي كالمَشرّحة. وجاء هذا المعني في «تاج العروس» و«لسان العرب». وجاء في نسخة بدل من «مروج الذهب» مَوكوسة، من مادّة وَكَسَ يَكِسُ وَكْساً، بمعني الناقصة.
[2]جاء في معجم دهخدا «لغت نامه دهخدا» في مادّة قارورة نقلًا عن قاموس(آنندراج) أنها قنّينة صغيرة مدوّرة، يصنعونها على شكل المثانة. ويملأونها بالبول. وفي ذلك يقول الشاعر مثنوي مولوي: آن زجاجي كوندارد نور جان *** بول قاروره است قنديلشمخوان
«إنّ تلك الزجاجة التي ليس فيها نور--هي قارورة البول، فلا تسمّها قنديلًا ».
علي هذا الأساس، لمّا كانوا في القديم يأخذون إدرارهم في قنّينة للفحص، لذلك استعمل أخذ القارورة بمعني أخذ الإدرار. وهذا مجاز من باب تسمية الحالّ باسم المحلّ. وجاء في «تذكرة الأولياء» لمؤلّفه العطّار: كان للخليفة طبيب نصراني، وكان بارعاً ضليعاً في عمله. أرسله عند سفيان ليعالجه. فلمّا رأي قارورته، قال: هذا رجل أذاب كبده خوف الله وسيخرج من مثانته قطعة قطعة.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة